Preview لماذا تنتفض الشعوب

رصد الحركات الاحتجاجية في القرن الواحد والعشرين
لماذا تنتفض الشعوب؟

​​2,809 احتجاجات عمَّت 101 بلداً يضمّ 93% من سكّان العالم بين عامَي 2006 و2020، 53% من تلك الاحتجاجات كانت موجّهة ضدّ النظام الاقتصادي وعقود من السياسات النيوليبرالية والتقشّف والخصخصة واحتكار القلّة للموارد الطبيعية والمالية والاقتصادية. 

هذه النتائج تعرضها دراسة بعنوان «احتجاجات العالم: دراسة لأبرز القضايا الاحتجاجية في القرن الواحد والعشرين»، وتعتبر أن الأزمة المالية العالمية التي تفجّرت في العام 2008 شكّلت منعطفاً تصاعدياً في حركة الاحتجاجات في كلّ أنحاء العالم، كتعبير مباشر أو غير مباشر، عن تنامي التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية ووصول معدلات اللامساواة إلى أعلى مستوياتها تاريخياً. تكفي الإشارة إلى أن فئة الـ1%، التي تضمّ قلّة قليلة من أثرياء العالم، تستحوذ اليوم على ضعف ما يملكه 6.9 مليار إنسان في العالم. ويضاف إلى ذلك، بحسب الدراسة، تراجع حقوق العمّال المكتسبة في خلال «السنوات الثلاثين الذهبية» التي امتدّت بين أربعينيات وسبعينيات القرن الماضي، وتراجع الأجور والخدمات العامة وتنامي الديون، فضلاً عن انتهاكات شتّى لحقوق الإنسان والنساء والعمّال والشعوب الأصلية، وتراجع الديمقراطية وتفشّي القمع والفاشية واليمين المتطرّف. أمام هذا الواقع كيف للناس أن لا تنتفض؟ 

لماذا تنتفض الشعوب؟

أين عمّت الاحتجاجات؟ 

لم تخلُ منطقة من الحركات الاحتجاجية في خلال العقد ونصف العقد الماضي، إلا أن النصيب الأكبر كان لأوروبا وآسيا الوسطى التي ضمّت نحو 28.7% من مجمل الاحتجاجات العالمية، أي ما يشكّل 806 احتجاجاً. تلتها أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي بـنحو 427 احتجاجاً (15.2% من مجمل الاحتجاجات). ومن ثمّ شرق آسيا والمحيط الهادئ بنحو 378 احتجاجاً. أيضاً شهدت أفريقيا جنوب الصحراء نحو 369 احتجاجاً، تليه أميركا الشمالية (281 احتجاجاً) والشرق الأوسط وشمال أفريقيا (208)، فيما تحلّ منطقة جنوب آسيا أخيراً بنحو 101 احتجاجاً.  وتجدر الإشارة إلى تنظيم نحو  239 احتجاجاً في خلال هذه الفترة طغى عليها الطابع العالمي بحسب توصيف الدراسة، وهي احتجاجات نظّمت ضد التجارة الحرّة والمؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد والبنك الدوليين) وضد الإمبريالية واللاعدالة المناخية ودفاعاً عن المشاعات الرقمية.

وبحسب الدراسة، كان لافتاً ارتفاع عدد الاحتجاجات بين عامَي 2009 و2015، والتي تركّزت بشكل أساسي للمطالبة بالعدالة الاقتصادية وضدّ التقشّف، وقد أدّى عدم استجابة الحكومات لهذه المطالب، إلى تزايدها في الفترة التي امتدّت بين عامِي 2016 و2020، التي بدأ فيها التباطؤ الاقتصادي عالمياً.

بعيداً من التقسيم الجغرافي للمناطق، تبيّن الدراسة أن 39.6% من هذه الاحتجاجات عمّت في الدول الغنية، وبلغ عددها نحو 1112 احتاجاً بين عامَي 2006 و2020. فيما سجّل نحو 737 في الشريحة العليا من الدول المتوسّطة الدخل، ونحو 590 احتجاجاً في الشريحة الدنيا من الدول المتوسّطة الدخل. بالإضافة إلى 121 احتجاجاً في الدول الفقيرة أو المنخفضة الدخل.

من قاد الاحتجاجات؟

برزت مجموعات منظّمات المجتمع المدني والمنظّمات غير الحكومة في طليعة قيادة الاحتجاجات التي عمّت بلدان العالم في فترة الدراسة، إذ قادت 1,090 احتجاجاً (نحو 38.8% من مجمل الاحتجاجات). تليها الاحتجاجات التي تقودها حركات شعبية محلّية والتي بلغ عددها نحو 960 احتجاجاً (34.2%). هذه التشكيلات السياسية والاجتماعية استحوذت على تنظيم وقيادة 73% من هذه الاحتجاجات.

في المقابل، تراجع دور الأحزاب والتنظيمات السياسية في قيادة المطالبات الشعبية، وبلغ عدد الاحتجاجات التي قادتها نحو 836 احتجاجاً (29.7%). أما الاتحادات العمّالية فقد قادت 677 احتجاجاً، أما حركات الطلاب والشباب والنساء والشعوب الأصلية فقد قادت مجتمعة نحو 750 احتجاجاً. وبحسب الدراسة تدلّ هذه التمثيلات على «انفكاك التحالف بين الطبقة الوسطى والنخبة الحاكمة وعلى غياب الثقة الشعبية بالأحزاب السياسية وبالتالي تقلّص دورها في التغيير الاجتماعي». 

وبحسب المنهجية التي اعتمدتها الدراسة تتداخل قيادة الاحتجاجات فيما بينها بحيث يمكن لأطراف عدة أن تنظم احتجاجاً واحداً. 

لماذا يحتجّ الناس وبماذا يطالبون؟ 

قسّمت الدراسة المطالب والاعتراضات الشعبية إلى أربع فئات أساسية. تعبّر الفئة الأولى عن الاعتراض على فشل الأنظمة والتمثيلات السياسية، ويتفرّع عنها المطالبة بالديمقراطية والعدالة القانونية والمساءلة ومناهضة تحكّم الأوليغارشية بالدولة والموارد وقد بلغ عددها 1503 احتجاجات. أمّا الفئة الثانية فتضمّ الاحتجاجات المُطالبة بالعدالة الاقتصادية ومناهضة التقشّف ويتفرّع منها العديد من المطالب الثانوية وقد بلغ عددها نحو 1484 احتجاجاً.

أما بالنسبة للفئة الثالثة فتضمّ الاحتجاجات التي تطالب بالحقوق المدنية، من حقوق السكّان الأصليين وحقوق الإثنيات والنساء والحقّ بالمشاعات العامة وحريّة التجمّع والرأي والصحافة، وتبرز ضمنها بعض الاحتجاجات ذات النزعة اليمنية والمحافظة المناهضة لحقوق المثليين والأشخاص الملوّنين والمهاجرين. أما الفئة الرابعة والأخيرة فتضم الاحتجاجات المطالبة بالعدالة العالمية، مثل العدالة المناخية والبيئية، والاحتجاجات ضدّ المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، وضد الاتحاد الأوروبي والمصرف المركزي الأوروبي، فضلاً عن مناهضة الإمبريالية والتجارة الحرة ومجموعة العشرين.

الأسباب الاقتصادية للاحتجاجات

53% من الاحتجاجات التي عمّت العالم كانت لأسباب مرتبطة بالقضايا المعيشية والاقتصادية للناس، والتي تراجعت بحسب الدراسة بسبب عقود من السياسات النيوليبرالية والتقشّف والخصخصة وتحكم القلّة بالموارد وحجبها عن الناس. 

تزايدت الاحتجاجات ضمن هذه الفئة منذ العام 2010، وفق ما يرد في الدراسة، أي بعد الأزمة المالية العالمية لعام 2008، وما نتج عنها من «تقلّص في فرص العمل اللائقة وتوسّع السياسات التقشّفية، التي أثّرت على ما يقارب 4 مليارات إنسان في العام 2017، أي نحو نصف سكان الأرض». وتعدّ بلدان أوروبا وآسيا الوسطى وأميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي وجنوب الصحراء الأفريقية الكبرى وأميركا الشمالية الأكثر انخراطاً في هذه الاحتجاجات ذات المطالب الاقتصادية. 

تأتي المطالبة بتحسين الوظائف والأجور وشروط العمل التي تراجعت بعد الأزمة المالية العالمية وتفشّي الجائحة في مقدّمة المطالب الاقتصادية المُعبّر عنها. بلغ عددها 517 احتاجاً وشكّلت نحو 35% من مجمل الاحتجاجات الاقتصادية، و18.4% من مجمل الاحتجاجات. تليها الاحتجاجات ضدّ استئثار القطاع الخاص بالخدمات العامة ولا سيما التعليم والطبابة والنقل المشترك، والتقشّف في الميزانيات العامة، وبلغ عددها 478 احتجاجاً (17% من مجمل الاحتجاجات العالمية)، علماً أنها تصاعدت في العام 2010 مع تبنّي سياسات التقشف في أوروبا ومعظم الدول النامية.

حلّت مناهضة الخصخصة ومكافحة تدخّل الشركات الخاصة في السياسات العامة في مراتب متقدّمة أيضاً، وبلغ عدد الاحتجاجات التي تحمل هذه المطالب نحو 418 احتجاجاً (15% من المجمل) بين عامي 2006و2020،. في التشيلي مثلاً، خرجت احتجاجات بين عامي 2010 و2020 اعتراضاً على قرارات تحرير التجارة تنفيذاً لشروط صندوق النقد الدولي، والأمر نفسه في البرازيل وفرنسا واليونان وآيسلندا. أمّا في أستراليا، فإنّ الاعتراض على خصخصة قطاع الكهرباء كان كافياً لجر الآلاف إلى الشوارع في العام 2008، وفي العام 2013 خرج نحو 100,000 مزارع وناشط في الهند ضدّ قرارات الاستحواذ على الأراضي الزراعية من قبل القطاع الخاص. 

في هذا السياق، شهدت السنوات الأخيرة للمطالبة بتنظيم العمل في منصّات خدمات التوصيل مثل أوبر، لضمان حقوق العمّال وتحديد ساعات العمل وتحسين الأجور. وفي هذا السياق، خرجت العديد من الاحتجاجات في كولومبيا وإسبانيا والولايات المتحدة الأميركية. 

شهد العالم في تلك الفترة أيضاً نحو 347 احتجاجاً ضدّ تنامي اللامساواة وتشكّل 12.4% من مجمل التظاهرات. تعدّ حركة Occupy نموذجاً عن التحرّكات الشعبية المندّدة بطبقة الـ 1%، وتندرج ضمن هذه الشريحة أيضاً، احتجاجات الطبقة الوسطى ضد سياسات الحكومات وقراراتها المحابية للنخب على حساب الشعب، كما تبرز احتجاجات الربيع العربي وربيع أميركا اللاتينية أيضاً كنماذج حضرت فيها قضايا اللا مساواة من ضمن مجموع المطالب. 

برزت أيضاً قضايا العدالة الضريبية والمالية في نحو 339 احتجاجاً في العالم في فترة الدراسة (12% من مجمل الاحتجاجات). وبحسب الدراسة، فقد تركّزت الاعتراضات الشعبية على فرض ضرائب غير متناسبة على الشرائح الدنيا ولا سيما ضرائب الاستهلاك، في مقابل غياب السياسات الضريبية على الشركات العالمية، وهو ما من شأنه أن يقلّص الضرائب على الثروات ويشجّع على التهرّب الضريبي وبالتالي تراكم ثروات الطبقات الغنية على حساب الأكثرية الشعبية. ففي الأرجنتين والبرازيل وكينيا، عمّت الاحتجاجات التي تطالب برفع الضرائب على الثروات، وفي تشيكيا وألمانيا وإسبانيا وبريطانيا والولايات المتحدة برزت تحركّات لمكافحة التهرّب الضريبي والتدفّقات المالية غير المشروعة. وفي إيران والبرتغال وأوغندا تركّزت المطالب حول تخفيض ضريبة القيمة المضافة على السلع الاستهلاكية الأساسية. في إندونيسيا وماليزيا وإسبانيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، خرجت احتجاجات تطالب بوقف التحويلات لشركات الأموال والقطاع المالي الخاص، فضلاً عن بعض التحرّكات المطالبة بسيادة الدولة على الديون ورفض تأميم ديون القطاع الخاص. 

ومن بين المطالب البارزة في الاحتجاجات، نذكر انخفاض المستوى المعيشي الذي شكّل مطلباً أساسياً في أغلب الاحتجاجات حول العالم التي رفضت إلغاء أنظمة الحماية الاجتماعية وبرامج التقاعد والضمان الاجتماعي، وقد بلغ عددها 283 احتجاجاً أي 10% مجمل الاحتجاجات في العالم. 

كما شهدت فترة الدراسة، نحو 181 احتجاجاً ضدّ قوانين الزراعة المستحدثة التي تقضي على مقوّمات وسبل عيش المزارعين. كما نظّم 136 احتجاجاً ضد رفع الدعم عن المحروقات والطاقة تفادياً لتحمّل أعباء إضافية لناحية أسعار النقل وما ينتج عنه من ارتفاع لأسعار الغذاء وغيره من الاحتياجات الأساسية، لا سيّما في الدول النامية. كما شكّل الغذاء، الذي شهد ارتفاعاً تاريخياً في أسعاره ابتداءً من 2008، محرّكاً لنحو 73 احتجاجاً في فترة الدراسة حول العالم. لاحظت الدراسة علاقة أسعار الغذاء مع مستوى الدخل في البلاد، حيث تغيب الاحتجاجات على مواضيع الغذاء في الدول ذات الدخل المرتفع وتحضر في الدول النامية. واحتلّ الحق في الحصول على سكن لائق مساحة في مطالب الاحتجاجات حول العالم، خصوصاً بعد أزمة العام 2008 التي سبّبت إخلاء العائلات لمنازلها وارتفاع هائل في أسعار العقارات.