Preview مزارعو ومزارعات أوروبا

مزارعو ومزارعات أوروبا
عقد الاحتجاجات الأوروبية

لا ينطفئ الاحتجاج في أوروبا حتى يشتعل مرّة أخرى. ويبدو أن كادحي وكادحات القارة العجوز يصرّون على تجديد شبابها وإعادتها إلى صدارة النضال ضدّ النيوليبرالية (الصيغة الحديثة للرأسمالية). ويبدو أن عقد الاحتجاج، الذي تحدّث عنه فنسنت بيفينز في حوار مع موقع «جاكوبين»، يأبى إلا أن يكون أوروبياً بامتياز.

تنطلق هذه الاحتجاجات تحقيقاً لمطلب مباشر، ولكن سرعان ما تطرح موضع تساؤل الحقبة النيوليبرالية التي ترسّخت في أوروبا منذ «معاهدة ماسترخت» في العام 1992، وتعمّقت منذ أزمة 2008 بكلّ أبعادها: التقشّف، وبيروقراطية المؤسّسات، والتبادل الحرّ، وتعديل قوانين العمل والمعاشات، والبيئة… بدأت حركة «الساخطون والساخطات» في أسبانيا في العام 2011 ضدّ البطالة ورفع في خلالها شعار «أوروبا لكل مواطنيها» احتجاجاً ضدّ التقشّف و«الاتفاقية الأوروبية الجديدة التي تريد جعل أوروبا ملكاً للمصرفيين وليس للشعب». وانطلقت حركة «السترات الصفر» في فرنسا في العام 2018 ضدّ «ضريبة المحروقات الجديدة» ولكنّها طالت مجمل النظام الضريبي غير العادل والسياسة البيئية الأوروبية. أمّا احتجاجات مزارعي أوروبا التي انطلقت في أواخر العام 2023 ومستمرّة لليوم، فتركّز على مسألة الدخل المضمون لتشمل مسائل أعمق مثل اتفاقيات الاتحاد الأوروبية والسياسة الفلاحية المشتركة والبيئة. في 10 شباط/ فبراير 2024 في لوكسمبورغ، قدّم العشرات من المزارعين الشباب من جنسيات أوروبية مختلفة خمسة مطالب وهي: تطبيق القواعد نفسها لجميع المزارعين الأوروبيين؛ وفرض نظام رقابة صارم على المنتجات المستوردة من خارج الاتحاد الأوروبي؛ وتحقيق الأمن في التخطيط طويل الأجل؛ وتأمين دخل عادل وسياسة بيئية لا تأتي على حساب دخل الأعمال الزراعية. 

مزارعو ومزارعات أوروبا

أسباب الاحتجاج: تضافر الكوارث

يبدو أن «مدار الفوضى» الذي تحدّث عنه كريستيان بارينتي قد انزاح شمالاً  ليشمل أوروبا، التي أصبحت بفعل الأزمة الاقتصادية والبيئية وتداعيات كوفيد- 19، وحرب روسيا على أوكرانيا، تحت رحمة ما أطلق عليه كريستيان «التجمّع الكارثي» شارحاً إياه كالتالي: «أدعو هذا التلاقح بين الكوارث السياسية والاقتصادية والبيئية بالتجمّع الكارثي. لا أعني بالتجمع الكارثي مجرد حدوث كوارث عدة في الوقت نفسه، واحدة فوق الأخرى. بل أحاجج بأن المشاكل تتشابك وتضخّم بعضها بعضاً، بحيث تعبّر كل واحدة عن نفسها من خلال حادثة أخرى».1  

تختلف الأسباب المباشرة للاحتجاج من بلد لآخر، إلا أن تشابه أوضاع المزارعين والمزارعات في أوروبا، من غربها إلى شرقها، تتيح لنا فهم توسّعه السريع وشموله لكل بلدان القارة.

1. انخفاض دخل المزارعين: تقع مسألة انخفاض الدخل في قلب احتجاجات مزارعي ومزارعات أوروبا، على الرغم من اختلاف محفِّزات الاحتجاج في كلّ بلد. يشتكي المزارعون والمزارعات من الأسعار المدفوعة لهم؛ وقد وضع أحد أعضاء اتحاد الفلّاحين بمدينة Châteauroux لافتة كتب عليها: «عملنا لا يساوي الكثير»؛ وفي فيينا رفع متظاهرون شعار: «نحن نعمل مجاناً تقريباً طوال العام»؛ وفي إسبانيا صرّح أندوني غارسيا، من لجنة التنسيق لمنظّمات المزارعين ومربِّي الماشية: «مسألة الدخل ضرورية».

في فرنسا مثلاً، يشتكي المنتجون والمنتجات من أن السعر المدفوع لهم هو المتغيّر الدائم، في الوقت الذي تحقّق فيه صناعة الأغذية الزراعية هوامش أرباح قياسية: «بين نهاية العام 2021 وبداية العام 2023، ارتفع هامش الربح في الصناعات الغذائية الزراعية من 28 إلى 48%!». ويعزو المحتجون الأمر إلى ارتفاع أكلاف الإنتاج بسبب «أسعار الشراء التي يفرضها تجار الجملة». لكن هناك أسباب أخرى ضمنها التضخّم بفعل حرب روسيا على أوكرانيا و«المعايير البيئية» والمنافسة.

تنطلق هذه الاحتجاجات تحقيقاً لمطلب مباشر، ولكن سرعان ما تطرح موضع تساؤل الحقبة النيوليبرالية التي ترسّخت في أوروبا منذ «معاهدة ماسترخت» في العام 1992

2. حرب روسيا على أوكرانيا: عزّزت الحرب الروسية الاتجاه التصاعدي لغلاء مدخلات الإنتاج الزراعي وما تسبّبت فيه من زعزعة لاستقرار الأسعار؛ «ارتفعت أسعار الطاقة والحبوب والبذور الزيتية، وفيما يعد ذلك نعمة لمزارعي الحبوب، فإنه يمثّل تكلفة إضافية للمربّين الذين يشترون العلف لحيواناتهم»، ويحتج مزارعو بولندا على أن التعامل الإيجابي مع الواردات من أوكرانيا هو أحد أسباب انخفاض دخلهم.

3. الجفاف/ الأزمة البيئية: ليس انطلاق الاحتجاج من الجنوب الغربي لأوروبا أمراً مستغرباً، فقد شهدت هذه المنطقة موجات حارّة وجفاف تاريخي، ما أثّر على فرنسا وكاتالونيا. في إسبانيا، انضاف إلى ارتفاع أكلاف الإنتاج، جفاف العامين الماضيين، وفي البرتغال عانى المزارعون من عواقب الجفاف الذي كان شديداً بشكل خاص في جنوب البلاد. وفي فرنسا احتج مزارعو النبيذ الذين دمّرتهم التقلّبات المناخية لعام 2023.

مسألة الأزمة البيئية بكل أوجهها حاضرة في قلب احتجاجات مزارعي أوروبا بقوّة، وقد لخص جاك باسكييه علاقة النموذج الإنتاجوي بعناصر البيئة كما يلي: «صمِّم النظام الإنتاجي ليعمل عندما يسير كلّ شيء وفقاً لصيغة «كل الأشياء متساوية»، لكن اتضح أن الزراعة هي نشاط خارجي، معرَّض أكثر من أي نشاط آخر للمخاطر المناخية، ولتطوّر الأرضيّات. ولمدة 15 عاماً، لم يعد متوسط ​​إنتاجية القمح يرتفع لأن التربة «تعبت» من التخصّص، أو المدخلات الكيميائية المُفرطة، أو آثار تغيّر المناخ؛ ولم تعد وراثة البذور قادرة على التعويض. وفي تربية الماشية أيضاً، تتناقص إنتاجية الهكتار الواحد بسبب تغير المناخ».

كما أثرت الأوبئة - المرتبطة أساساً بالنموذج الإنتاجوي الرأسمالي - في أوضاع المزارعين والمزارعات؛ في فرنسا أدّت نوبات أنفلونزا الطيور إلى عمليّات إعدام واسعة النطاق للدواجن؛ ويضاف إلى ذلك مرض MHE - المرض النزفي الوبائي - الذي يؤثّر بشكل رئيسي على الحيوانات المجترة ويسهّل انتشاره بسبب الانحباس الحراري العالمي.

4. السياسة الأوروبية المشتركة: المساعدات المالية لحفز كبار المستثمرين: صرّح فيتور رودريغز، رئيس الاتحاد الوطني للزراعة في البرتغال: «نعتقد أن السياسة الزراعية المشتركة لن تتمكّن من ضمان تمكين المزارعين من تحقيق مستوى معيشي لائق من عملهم».

وتشكّل مسألة المساعدات المالية إحدى أكبر أسباب استياء المزارعين والمزارعات بشأن هذه السياسة المشتركة، إذ يشتكون من كون كبار المزارعين والشركات متعدّدة الجنسيات المستفيد الأكبر منها. ففي فرنسا يرى المزارعون والمزارعات أن الحكومة تستمر «من خلال إعاناتها، في تغذية النظام الاقتصادي والمالي، ولا تقدّم أي ردّ على محنة الفلّاحين الذين يعانون ولا يرون مستقبلاً»، وتموِّل «توريد الوقود الزراعي للسيّارات ولكن ليس الخضروات للبشر».

5. المنافسة الأجنبية: تظاهر المزارعون والمزارعات في فرنسا وبلجيكا والبرتغال واليونان وإسبانيا وألمانيا، ضدّ معايير المجموعة الأوروبية التي اعتبروها مقيّدة للغاية، خصوصاً لناحية المنافسة التي تعتبر غير عادلة من دول خارج الاتحاد الأوروبي.

ففي إسبانيا. عرقل المزارعون مرور شاحنات تحمل الطماطم الآتية من المغرب وإتلافها. وفي بولونيا، أدان المزارعون تأثير الواردات الغذائية الرخيصة من أوكرانيا المجاورة التي لا تخضع للوائح أوروبية صارمة، واحتجوا على ما يعتبرونه منافسة غير عادلة. وفي لاتفيا، تظاهر آلاف المزارعين للمطالبة بفرض حظر على واردات الحبوب والمواد الغذائية الروسية إلى الاتحاد الأوروبي. 

يعزِّز هذا الخطاب اليمين واليمين المتطرّف. لكن بعيداً من حصر المنافسة في الأجنبي، يشير جاك باسكيه إلى أن المنافسة الأشدّ قائمة داخل الاتحاد الأوروبي نفسه: «تعتمد القدرة التنافسية بشكل أساسي على السعر. لكي تكون قادراً على المنافسة، عليك أن تبيع بسعر أرخص. ونحن نرى بوضوح المأزق الذي تمثّله هذه الإنتاجية التي تنتج من خلال الاستثمار الكثير، عندما يكون لدى المنافسين طرق إنتاج مختلفة ورواتب مختلفة، وأحياناً يستخدمون أيضاً مبيدات مختلفة». وفي بيان لأربع نقابات عمّالية، يظهر وعي بأن الاتحاد الأوروبي نفسه يفرض تلك المنافسة على بلدان أخرى خارج الاتحاد، متحدثاً عن «إرغام المزارعين الفرنسيين على إنتاج المزيد والمزيد من المنتجات لإغراق البلدان الناشئة بالدجاج والحليب المجفف».

6. اتفاقيات التجارة الحرّة: صرَّح توماس موسكوس، رئيس اتحاد مزارعي كاستوريا وممثل التنسيق الأوروبي فيا كامبيسينا: «نحن نعارض أيضاً اتفاقية التجارة الحرّة مع ميركوسور (التي تجمع العديد من دول أميركا اللاتينية) ونريد مغادرة سيتا (اتفاقية التجارة الحرّة بين الاتحاد الأوروبي وكندا التي تم اعتمادها في العام 2017)». وفي فرنسا، طالب اتحاد الفلّاحين بـ« بوقف جميع المفاوضات الرامية إلى التوقيع على اتفاقيات التجارة الحرّة الجديدة»، وهو ما دعت إليه أيضاً منظّمات مزارعي إسبانيا.

تدمِّر اتفاقيات التجارة الحرّة قدرة المزارعين على الصمود، وبدلاً من معاييرها الليبرالية طالب مورغان أودي، رئيس التنسيق الأوروبي للمزارعين فيا كامبيسينا، بحلول للحصول على أسعار مضمونة لمنتوجات المزارعين، من ضمنها: «الحد الأدنى للأسعار، تنظيم الأسواق، المخازن العامّة، تنظيم العرض لتحقيق الاستقرار في الأسواق»، مؤكداً أنها «هي الأدوات التي تخلّى عنها الاتحاد الأوروبي بالكامل لمدة ثلاثين عاماً بسبب العقيدة النيوليبرالية والتجارة الحرّة». 

نضال عابر للحدود

انطلق احتجاج المزارعين مثل نار في هشيم، ليشمل كلّ بلدان أوروبا من غربها إلى شرقها. يقدِّم تقرير حديث لوحة تفصيلية لمدى توسّع احتجاج المزارعين. شملت الاحتجاجات بلدان فرنسا واليونان وبلجيكا وإسبانيا وإيطاليا وبولونيا وأوكرانيا ولوكسمبورغ وبلغاريا وليتوانيا وهولندا وألمانيا وسويسرا ورومانيا والبرتغال والمملكة المّتحدة. 

أشكال احتجاج متنوّعة

اختلفت أشكال الاحتجاج حسب كلّ بلد، ولكن أيضاً حسب المنظّمات والاتحادات الفلّاحية. ففي فرنسا، حاصر الاتحاد الوطني لنقابات المشغّلين الزراعيين والأعمال التجارية الزراعية (FNSEA) والمزارعون الشباب (JA) العاصمة، وفضّل المزارعون الآخرون استهداف الشركات متعدّدة الجنسيات العاملة في مجال الأغذية الزراعية والتوزيع.

تتميز حركة المزارعين والمزارعات الحالية بانعدام انسجامها. سبق بماركس أن شبه الأمة الفرنسية الفلّاحية بكيس بطاطس، وهو ما يمكن أن نلحظه بشكل بارز في الاحتجاجات الأخيرة في أوروبا

في إسبانيا، عرقل المزارعون مرور شاحنات قادمة من المغرب. وفي بولونيا ورومانيا والبرتغال أغلقوا المعابر والطرق، وفي بلجيكا أغلق المحتجون مراكز التوزيع والمتاجر الكبرى. وفي هولندا، أغلقت الطرق وأشعلت الحرائق. وفي بريطانيا، تظاهر منتجو الفواكه والخضروات أمام البرلمان حاملين الفزّاعات.

لكن الشكل الأبرز هو التظاهرات بالجرّارات. في بلجيكا، اتّجهت مئات الجرّارات إلى ميناء أنتويرب قصد إغلاقه. وفي إسبانيا، سيطرت طوابير عدّة من الجرّارات مرّة أخرى على الطرق، لا سيما في قشتالة وليون، وقشتالة لامانشا، ومنطقة فالنسيا، وأستورياس. وفي إيطاليا، احتشدت مئات الجرّارات الأسبوع الماضي على مشارف روما. وفي لوكسومبورغ، احتل العشرات من المزارعين الشباب الألمان والبلجيكيين والفرنسيين والوكسمبورغين جسراً يربط بين ألمانيا ولوكسمبورغ بجرّاراتهم. وفي ألمانيا، عطّل مئات عدّة من المزارعين على الجرّارات، الوصول إلى مطار فرانكفورت، أكبر مطار في البلاد.

كيس بطاطس؟

تتميز حركة المزارعين والمزارعات الحالية بانعدام انسجامها. سبق بماركس أن شبه الأمة الفرنسية الفلّاحية بكيس بطاطس، وهو ما يمكن أن نلحظه بشكل بارز في الاحتجاجات الأخيرة في أوروبا. في فرنسا، تبيّن أن رئيس FNSEA، أرنو روسو، هو أيضاً رئيس Sofiproteol وAvril، الكيانين اللذين يصنعان معظم مادة الديستر الفرنسي، ويدافع القادة الإقليميون لـ FNSEA عن المزارع المتوسّطة والكبيرة على حساب المزارع الصغيرة.

في سويسرا، يُظهر تطوّر الحيازات الزراعية بين العامين 2000 و2022 اتجاهات مهمّة: تركّز العقارات وانخفاض إجمالي عدد الحيازات بنسبة 31%. ويوضح هذا الاستقطاب الانخفاض الملحوظ في عدد المزارع الصغيرة جدًا التي تتراوح مساحتها من 3 إلى 5 هكتارات (-55%) والزيادة الواضحة جداً في عدد المزارع الكبيرة (> 100 هكتار، +170%).

تساءل ألكسندر حبيقة مستغرباً: «كيف يمكن أن تقود الحركة التي بدأها مربّي الحبوب الضعفاء مالياً، في نهاية المطاف، كبار مزارعي الحبوب الذين يكسبون مستوى عيش أفضل من 90% من العمّال في فرنسا؟». وفي ألمانيا، يبدو أن غضب المزارعين محشور بين المطالبة بتحسين ظروف العمل التي عبّرت عنها القاعدة، ومؤسّسات الدفاع الزراعية المهنية المرتبطة بالاقتصاد الليبرالي.

ينعكس هذا الاستقطاب الاجتماعي بين المزارعين على مواقف منظّماتهم من الاحتجاجات، وتعامل الحكومات مع مطالبها. ففي فرنسا، مثلاً هناك اتفاق بين قيادة المزراعين وبرونو لومير بشأن قانون المالية، الذي يقتصر على تخفيض الإعفاء الضريبي على الوقود الزراعي. وهذا ما يشكّك في تمثيلية هذه المنظّمة، خصوصاً بالنسبة للمزارع الصغيرة والمتوسّطة الحجم. بالنسبة للمزارعين الذين لا دخل لهم، إمّا لأسباب بنيوية أو لأسباب تتعلّق بالأزمات المناخية والصحية، بدا أن الصفقة بين برونو لومير وأرنو روسو تم عقدها على ظهورهم.

أدان بيان صادر عن أربع نقابات عمّالية (la Confédération paysanne وCGT وSolidaires وModef) «اختيار الحكومة للتعامل مع التعبئة والمنظمات النقابية بشكل مختلف. حصل قادة FNSEA على إجابات من الحكومة مرتبطة بمصالحهم الشخصية كمديرين زراعيين مضاربين».  

وتشكّل نقطة المعايير البيئية محل خلاف كبير بين منظّمات المزارعين. في فرنسا، كما هو الحال في ألمانيا، وبدرجة أقل في سويسرا، تتّخذ نقابات الغالبية التدابير البيئية ككبش فداء لمحنة الفلّاحين. لكن اتحاد الفلّاحين في فرنسا، وكذلك الاتحاد في سويسرا – وكلاهما عضوان في حركة لا فيا كامبيسينا – يأخذان قراءات أخرى للوضع، وقبل كل شيء يكشفان عن القضايا الاقتصادية والمنظومية: إن التضحية بالزراعة على مذبح التجارة الحرّة والمنافسة غير العادلة الناتجة عنها، تجعل المزارعين في جميع أنحاء العالم يركعون، من دون استثناء، لصالح المجمع الصناعي الزراعي.

دعا FNSEA إلى «وقف الحظر» على المبيدات الحشرية و«رفض Ecophyto»، وهي الخطة التي من المفترض أن تخطّط للحد من انتشار المنتجات السامّة والمسرطنة في الريف. المزارعون هم من بين أول ضحايا المبيدات الحشرية، كما يتضح من الأرقام الواردة من شركة Mutualité Sociale Agricole. ومن المؤكّد أن الاعتراف بالأمراض المرتبطة بالمبيدات الحشرية باعتبارها أمراضاً مهنية هو أمر حديث العهد، كما أن الإجراء معقّد، خصوصاً بالنسبة للمزارعات، لكن عددهم مستمر في الزيادة. ولمواجهة الاحتجاجات، دفنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين يوم الثلاثاء 6 شباط/فبراير مشروعاً تشريعياً يهدف إلى الحد من استخدام المبيدات الحشرية

لكن منظّمة اتحاد الفلّاحين لها رأي مغاير تماماً، إذ صرّح دو لا لوار المتحدّث باسم الاتحاد قائلاً: «المعايير موجودة لحماية صحة المستهلك وحماية البيئة وحماية العمّال. بالنسبة لنا، من غير المتصور أن تؤدّي هذه الأزمة إلى انتكاسة في أحد هذه المجالات، سواء كان ذلك في مجال الصحة أو البيئة أو حماية العمال».

أفق الحركة

يتعلّق مستقبل الحركة بتطوير اتجاه منظّمات صغار ومتوسطي المزارعين. فسيطرة منظّمات كبار المزارعين عليها سيؤدّي إلى اندراجها في المنظور النيوليبرالي نفسه لمؤسّسات الاتحاد الأوروبي، وهو المنظور الذي تناضل ضده حركة الاحتجاج القائمة حالياً.

يرى العديد من المزارعين الأوروبيين في الزراعة العضوية حلاً لحياة أفضل، مع مخاطر صحّية أقل بطبيعة الحال، ولكن أيضاً ضغوط أقل مرتبطة بعدم الاستقرار الناجم عن الإنتاجية. لكن قطاعات الصناعة الغذاية وكبريات شركات التوزيع ترى في هذه الزراعة تحدّياً لأرباحها، لذلك تقوم بتشويهها. 

انهار جزء مهم من هذه الزراعة العضوية في أوروبا بسبب التضخّم والمنافسة، ولكن أيضاً بسبب غياب دعم شعبي. ولن يتأتى هذا الدعم الشعبي من دون انخراط النقابات العمّالية في هذا الاحتجاج. وقد جرى قطع الخطوة الأولى في هذا الاتجاه؛ إذ نادت النقابات الأربع (la Confédération paysanne وCGT وSolidaires وModef) بوقف «الاندفاع المتهور نحو سياسة المياه»، وطالبت بـ«الاعتراف بالمنتجين المشاركين في التحوّل الزراعي الإيكولوجي والزراعة العضوية». وطالب الحزب الجديد المناهض للرأسمالية (NPA) في فرنسا بـ«تغيير السياسات الزراعية العامة بشكل جذري: وتحديد الأسعار الدنيا (يعاني المزارعون من أسعار الشراء غير المجزية التي تفرضها مجموعات التوزيع الكبيرة)؛ وفرض وقف على الديون المستحقة على المصارف؛ وتعزيز نماذج الزراعة العضوية؛ وتطوير ودعم القطاع العضوي. ومن شأن إنشاء الأمن الغذائي الاجتماعي أن يضمن جودة الغذاء للجميع، ويسهّل إنشاء المنشآت الجديدة، ويسمح بمكافآت عادلة للمزارعين».

  • 1نيسان/أبريل 2014، كريستيان بارينتي، «مدار الفوضى، تغير المناخ والجغرافيا الجديدة للعنف»، ترجمة سعد الدين خرفان، عالم المعرفة، العدد 411، الكويت، ص 22.