Preview اقتصاد العالم الحقيقي

لماذا اقتصاديات العالم الحقيقي مهمَّة؟

  • يتعيّن على اقتصاد العالم الحقيقي التركيز على فهم أحداث العالم من حولنا: ما الذي يسبّب التضخّم والبطالة والفقر وعدم المساواة وتغيّر المناخ وما إلى ذلك؟ وعلى أي نحو تستجيب السياسة الاقتصادية؟ والمشكلة هنا في أن ما نسميه الاقتصاد السائد لا يناقش أو يعالج قضايا العالم الحقيقي كما ينبغي. 
  • لا ينبغي للاقتصاديين وخبراء الاقتصاد أن يتحوّلوا إلى مجرد أطباء يقومون بإصلاح الأسنان، وإنّما يتعيّن عليهم استخدام المهارات والأساليب العلمية في فهم الصورة الكبيرة ومن ثم المساهمة في خلق عالم أفضل للجميع. عندئذ ربما أمكننا تجنّب زيارة الملك تشارلز في وقت ما في المستقبل أو دفعه إلى تكرار ما قالته الملكة إليزابيث: «لماذا لم يتوقع أحد ذلك؟».

ألقيتُ في نهاية الأسبوع الماضي محاضرة على طلّاب الاقتصاد في الجامعة البريطانية المفتوحة في يومها المخصّص للاقتصاد. والسطور التالية هي نَصّ مداخلتي. 

طُلب مني اليوم التحدّث عن سبب أهمّية «اقتصاد العالم الحقيقي». ويثير هذا العنوان عدداً من الأسئلة: ما هو اقتصاد العالم الحقيقي؟ وهذا السؤال بحدّ ذاته يشير إلى وجود اقتصاد لا يمسّ العالم الحقيقي. وإذا كان ثمة اقتصاد عالمي حقيقي، فما هي المساهمة المطلوبة لخلق عالم أفضل للجميع؟ 

يتعيّن على اقتصاد العالم الحقيقي التركيز على فهم أحداث العالم من حولنا: ما الذي يسبّب التضخّم والبطالة والفقر وعدم المساواة وتغيّر المناخ وما إلى ذلك؟ وعلى أي نحو تستجيب السياسة الاقتصادية. والمشكلة هنا تنحصر في أن ما أسمّيه الاقتصاد السائد لا يناقش أو يعالج قضايا العالم الحقيقي كما ينبغي. 

لماذا لم يتنبأ أحد بالانهيار؟

تتبادر فوراً إلى الذهنِ أحد الأمثلة الدّالة على ذلك. بالعودة إلى عمق ما بات يسمّى بالركود الكبير في الفترة 2008-2009، حين كانت جميع الاقتصادات الكبرى تعاني من انخفاضٍ حادّ وعميق في الناتج القومي والتوظيف ومتوسط الدخل، على إثر الانهيار الهائل في النظامين المصرفي والمالي. في حينه، زارت الملكة إليزابيث كلّية لندن للاقتصاد. وفي رحاب هذا المبنى نفسه، طرحت على زمرةٍ من الاقتصاديين البارزين الذين التقوا بها سؤالاً: «لماذا لم يستشرف أحداً قدومه؟». بعبارة أخرى، تساءلت لماذا لم يتنبأ أحد بالانهيار المالي والركود الذي تلاه، وهو الركود الأسوأ منذ كساد ثلاثينيات القرن الماضي. صُعِق الاقتصاديون البارزون من سؤال الملكَة عن العالم الحقيقي. واستغرق الأمر ثلاثة أشهر قبل أن يجيبوا عن سؤالها في رسالةٍ من ثلاث صفحات وجّهت إليها. 

إذا عجز اقتصاد السوق السائد عن تفسير العالم الحقيقي تفسيراً صحيحاً، فإننا في حاجةٍ إلى نظريات جديدة توجّه القرارات السياسية

وأقتبس من الرسالة: «يبدو أن الكل يؤدّي عمله بكفاءةٍ بالقياس إلى جدارته. ووفق معايير النجاح القياسية، فإنهم غالباً ما كانوا يقومون بهذا على نحو جيد. أمّا الإخفاق فينحَصِر في معرفة كيف أدّى هذا، بصورةٍ جماعية، إلى سلسلة من الاختلالات المترابطة التي لا تُسأل عنها سلطة بعينها». وأظن أن الاقتصاديين يقولون إن نظرياتهم كانت تبدو جيّدة، ولكن بعد ذلك تضافرت جملة من العوامل المختلفة - التي كانوا يعرفون عنها بصورة أو بأخرى - في عاصفة تسبّبت في الانهيار، ولم يكن باستطاعتهم التنبؤ بذلك.

وبعد ستة أشهر، زارت الملكة بنك إنكلترا، حيث أوقف أحد كبار خبراء السياسة المالية في البنك الملكة ليقول إنه يودّ الإجابة على السؤال الذي طرحته على هؤلاء الاقتصاديين في كلية لندن للاقتصاد. وأخبر الملكة أن الأزمات المالية تُماثل الزلازل وأوبئة الأنفلونزا من حيث ندرة وقوعها وصعوبة التنبؤ بها، وطمأنَها بوجود موظّفي البنك للمساهمة في الحيلولة دون اندلاع أزمة أخرى. ولم يفوت الأمير فيليب الفرصة ليسأل: «وهل هناك أزمة أخرى مقبلة؟»، ولكنه لم يلق جواباً!

وإليكم وجهة نظري. 

إن الأمر لا يكمن في عجز الاقتصاديين عن ملاحظة وقوع الأمر «بغتة» على غرار اصطدام كويكب بالأرض، أيْ صدمة تعرض لها نظام اقتصادي يعمل على نحوٍ مثالي. فإن نظرياتهم قد تضمّنت هذا الاحتمال بالكامل.

ففي العام 2003، قبل نحو خمس سنوات من الانهيار المالي العالمي، أعلن روبرت لوكاس، الخبير الاقتصادي البارز والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد: «لقد تمكّن الاقتصاد الكلّي من تحقيق النجاح: حيث تمّ إيجاد الحل لمشكلته المركزية المتمثلة في تجنّب الركود على الصعيد العملي، والحق أنه قد تم حلها لعقودٍ عدة».

ولدينا يوجين فاما، وهو حائز بالمثل على جائزة نوبل في الاقتصاد. وقد كوفئ بالجائزة لكشفه عن عمل الأسواق الفعّال، فما دامت تتوفر لدينا أنا وأنت وكل شخص ما يكفي من المعلومات عما يجري، فسوف تضمن السوق التشغيل الكامل للعمالة، والنمو المطرد، وارتفاع الدخل للجميع. وهذا ما يسمّى «بفرضية الأسواق الفعّالة». بعد الركود الكبير، سُئل فاماَ عن الخطأ الذي حدث. فأجاب: «لا علم لنا بأسباب الركود. إننا لم نعرف ذلك قطَّ. ما زالت المناقشات مستمرة حتى يومنا هذا حول أسباب الكساد الكبير. يفتقر علم الاقتصاد إلى القدرة على تفسير تقلّبات النشاط الاقتصادي».

لقد تحدثت حتى الآن عن حدثٍ اقتصادي واحد وفرع واحد فحسب من التفسيرات: وهو ما أسميته الاقتصاد السائد وفشله في التنبؤ بهذا الحدث أو التعامل معه، أعني الانهيار المالي العالمي للبنوك والانكماش العميق في التوظيف والدخل على مستوى العالم. وهي مشكلة حقيقية لم تحظ بإجابةٍ من التيار الرئيس. بيد أن ذلك يثير سؤالاً مفاده أنه إذا عجز اقتصاد السوق السائد عن تفسير العالم الحقيقي تفسيراً صحيحاً، فإننا في حاجةٍ إلى نظريات جديدة توجّه القرارات السياسية.

تصنيف الاقتصاد إلى مدارس مختلفة

ثمّة نظريات أخرى. والحق أنه بالمستطاع تصنيف الاقتصاد إلى مدارس مختلفة، مع التقسيم الأساسي بين «التيار السائد» و«التيار المنشقّ». وينقسم الاتجاه السائد إلى قسمين فرعيين: يطلق على القسم الأول اسم المدرسة الكلاسيكية الجديدة. تنطلق هذه المدرسة من افتراض أساسي مفاده أن «السوق الحرة» من دون تدخل أو المثالب الناجمة عن الاحتكارات أو النقابات العمالية أو الحكومة، سوف تحقّق تحسّناً اقتصادياً متناغماً فيما يطلق عليه وصف «التوازن العام». وكما قال أحد الاقتصاديين الكلاسيكيين الجدد ذات مرة: «إن اقتصاد السوق يشبه بحيرة هادئة أو بركة سباحة. يمكن أن تلقي فيها بصخرةٍ أو حجر، مما يتسبّب في صدمةٍ للوسطِ الهادئ، ولكن في النهاية إذا توقفت تلك التدخلات، فسوف تخفت التموجات في البركة وتعود هادئةً مرة أخرى».

يجادل الكينزيون بأن اقتصادات السوق تدخل أحياناً في حالةٍ من «اختلال التوازن» مما يؤدي إلى ركود وبطالة لا تخرج منهما الاقتصادات من دون تدخلات حكومية تشمل طباعة المزيد من النقود أو زيادة الإنفاق الحكومي

كما يشتمل الاتجاه السائد على المدرسة الكينزية، التي سميت على اسم نظريات جون ماينارد كينز، الاقتصادي البريطاني العظيم في القرن العشرين. ترفض النظرية الكينزية فكرة التوازن المتمثلة في البركة الهادئة التي تقول بها المدرسة الكلاسيكية الجديدة. يعتقد الكينزيون أن النموذج الكلاسيكي الجديد لا يعبِّر عن اقتصاد «العالم الحقيقي». يجادل الكينزيون بأن اقتصادات السوق تدخل أحياناً في حالةٍ من «اختلال التوازن» مما يؤدي إلى الركود والبطالة، لا تخرج منها الاقتصادات من دون تدخل التدابير الحكومية التي  تشمل طباعة المزيد من النقود أو زيادة الإنفاق الحكومي من أجل استعادة التوازن.

غير أن المدارس الكلاسيكية الجديدة والمدارس الكينزية تتفق على شيءٍ واحد: ألا وهو أن النظام القائم على السوق يمثل الشكل الأصلح للاقتصاد. وكل ما في الأمر أن إحدى المدرستين تعتقد أن النمو «المتوازن» يمكن تحقيقه عن طريق السوق الحرة من دون تدخل، بينما تعتقد المدرسة الأخرى أنه يتعين على الحكومة والبنوك المركزية التدخل لتصحيح أي خلل يطرأ على التوازن.

بيد أن الاقتصاد السائد يبدأ من افتراض لم يثبت بعد، وهو أن اقتصاد السوق الذي توظّف الشركات في ظله أشخاصاً مثلنا في إنتاج السلع والخدمات لبيعها في السوق مقابل النقود، ويجني فيه أصحاب تلك الشركات والمساهمين الأرباح، يمثل الشكل الوحيد لتنظيم إنتاج وتوزيع الأشياء التي نحتاجها نحن البشر. بيد أن اقتصاد السوق لم يكن موجوداً دائماً، والحق أنه لم يظهر إلاّ منذ ما يقرب من 250 سنة لا غير. قبل ذلك، كانت هناك اقتصادات إقطاعية، حيث كان الفلاحون أو الأقنان يعملون في الأرض لصالح أسيادهم الذين يستهلكون المنتجات. وقد وُجِد هذا النظام منذ أكثر من 1000 عام. وقبله كان هناك اقتصاد العبيد، الذي يُجبر فيه أسرى الحروب على العمل لصالح مالكي العبيد، وقد دام ذلك النظام لآلاف السنين.

إنني أثير هذه النقطة لأنه يتعين علينا أن ندرك أن الأسلوب الذي يدار به الاقتصاد الآن لم يكن هو نفسه على الدوام، وقد يكف عن كونه الأسلوب الملائم لتلبية احتياجات البشرية. وأحسب أن اقتصاد السوق يُظهِر علامات جلية تشير إلى فشله في تحقيق هذه الغاية. ومن ثم، فقد تكون هناك ثمة أساليب مغايرة للتنظيم الاقتصادي.

مدارس الاقتصاد المنشقّ

وعلى هذا النحو، يحمل عدداً من الاقتصاديين  نقداً جاداً لاقتصاد السوق الشائع. هناك ما يمكن أن نطلق عليه مدارس الاقتصاد المنشقّ، والمصطلح يعني ما ينص عليه، أي المدارس الخارجة على التيار السائد. وضمن هذا الإطار الواسع، يسلط هؤلاء الاقتصاديون الضوء على السلوك غير العقلاني للأسواق وعدم الاستقرار المتأصل في اقتصاد السوق. وهي تشمل المدرسة الماركسية التي تذهب إلى أن اقتصاد السوق سيواجه دائماً أزمات لا سبيل إلى حلّها عن طريق السوق، ولا بد بالتالي من استبدال اقتصاد السوق (الذي يطلق عليه الماركسيون اسم الرأسمالية) باقتصادٍ مخطّط يعتمد على الملكية المشتركة لجميع المنتجين.

الأسلوب الذي يدار به الاقتصاد الآن لم يكن هو نفسه على الدوام، وقد يكف عن كونه الأسلوب الملائم لتلبية احتياجات البشرية. وأحسب أن اقتصاد السوق يُظهِر علامات جلية تشير إلى فشله في تحقيق هذه الغاية

وتنتقد المدرسة المنشقة الاتجاه السائد نقداً شديداً. والحق أنه منذ ما يقرب من ست سنوات عقد كبار الاقتصاديين المنشقين ندوة هنا في كلية لندن للاقتصاد حول وضع العلم الاقتصادي السائد على نحو ما يجري تدريسه في الجامعات.

بدأت الفاعلية بتثبيت ملصق يحتوي على 33 أطروحة تنتقد الاقتصاد السائد على باب هذا المبنى. بالإمكان البحث عنه في غوغل. كان ذلك في الذكرى السنوية الخمسمئة لقيام مارتن لوثر بتثبيت أطروحاته الـ 95 في كنيسة القلعة في فيتنبرغ، والتي شكلت بداية الإصلاح البروتستانتي ضد الكاثوليكية بوصفها «الدين الحقيقي الوحيد». وبهذا كان الاقتصاديون المنشقون يرمزون إلى تماثل الاقتصاد السائد مع الكاثوليكية وضرورة الخروج عليه مثلما فعل لوثر في العام 1517. وعلى حد تعبيرهم فإن «الاقتصاد لا يعمل، فمن تغير المناخ إلى عدم المساواة، لم يقدم العلم الاقتصادي السائد (الكلاسيكي الجديد) الحلول اللازمة للمشاكل التي نواجهها، بيد أنه لا يزال مهيمناً في الحكومة والأوساط الأكاديمية والمؤسسات الاقتصادية الأخرى على الرغم من ذلك. لقد حان الوقت لاقتصادٍ جديد». 

الاقتصاد علم، وإن كان علماً اجتماعياً

ماذا عساه يكون هذا الاقتصاد الجديد؟ في الآونة الأخيرة، وعلى نحو ما أفعل الآن، قام بينوا كوري، وهو عضو فرنسي بارز في المجلس التنفيذي للبنك المركزي الأوروبي، بإلقاء خطاب أمام طلاب الاقتصاد في كلية باريس للاقتصاد، الجامعة الشقيقة لكلية لندن للاقتصاد إذا شئتم. وقد أخبر كوريه جمهوره من الطلاب أن «الاقتصاد هو علم اجتماعي. ولن تخفف النماذج من عبء ومسؤولية إصدار الأحكام. يتضمن علم الاقتصاد الكثير من التجربة والخطأ، حيث يتعين عليك القيام باتخاذ قرارات في الضباب وأنت عاجزٌ حتى عن رؤية يديك. ويضفي هذا نوعاً من الإثارة على تخصصنا!».

اقتصاد السوق سيواجه دائماً أزمات لا سبيل إلى حلّها عن طريق السوق، ولا بد بالتالي من استبدال اقتصاد السوق باقتصادٍ مخطّط يعتمد على الملكية المشتركة لجميع المنتجين

بالنسبة لي، الاقتصاد علم، وإن كان علماً اجتماعياً يتعامل مع البشر، وليس علماً فيزيائياً. وبوصفه علماً فهو يستلزم المنهج العلمي. وهذا يعني بالقياس إليِّ أنك تبدأ بفرضية تنطوي على فرضياتٍ واقعية «مستخلصة» من الواقع، ومن ثم القيام ببناء نموذج أو مجموعة من القوانين القابلة للاختبار قياساً إلى الشواهد.

يمكن للنموذج أن يُحسّن من دقته عبر اللجوء إلى الاستعانة بالرياضيات، بيد أن الشواهد هي التي تقرّر ذلك في النهاية. من وجهة نظري، يتعيّن على الاقتصاديين، شأنهم في ذلك شأن الفيزيائيين والفلكيين، أن يتملّكوا القدرة على تطوير النظريات المرتبطة باقتصاد العالم الحقيقي واختبارها تجريبياً حتى نتمكن من صَوْغِ التنبؤات والتطلع إلى تفادي الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها الاقتصادات الحديثة دوريّاً. 

لقد ناقشتُ حتى الآن الوقائع الكبرى، كالركودِ الكبير ومساهمة أو فشل الاقتصاد السائد في التنبؤ به أو تفسيره أو صوغ السياسات الاقتصادية الفعالة لمعالجته وتجنب المزيد من الأزمات مستقبلاً. والحق أن قسماً كبيراً من الاقتصاد السائد لا يتطرق إلى تلك الأحداث الكبرى. رفض بينوا كوريه في محاضرته التي ألقاها في باريس الانتقادات الموجهة إلى فشل الاقتصاديين في التنبؤ باندلاع الأزمة المالية.  «هذا النقد هو محض هراء. فهل نحن ننتظر مثلاً من الأطباء التنبؤ بالأمراض؟ كلا بالطبع. وإنما نحن نتوقع منهم أن يساعدونا في علاج الأمراض. يتعين على الاقتصاديين القيام بالشيء نفسه». وعلى ذلك، تنحصر مهمة الاقتصاد لا في التنبؤ أو التوقع، وإنما في وضع السياسات اللازمة لعلاج أي فوضى قد تظهر. 

اقتصاديون أم سبّاكون؟

وهذه نغمة شائعة بين الاقتصاديين. وترى إستر دوفلو، الحائزة على جائزة نوبل مؤخرا، أنه يجدر بالاقتصاديين التخلي عن الأفكار الكبرى، وأن يهتموا في المقابل بحل المشكلات على غرار السباكين الذين يعملون على «مد الأنابيب وإصلاح التسريب». إن خبراء الاقتصاد أقرب إلى المهندسين منهم إلى الفيزيائيين. وقد طرح كينز نقطة مماثلة مفادها: أن خبراء الاقتصاد لابد وأن يكونوا مثل أطباء الأسنان، يعملون على حل المشكلات الملحة المزعجة لكي يتسنى للرأسمالية أن تعمل بسلاسة. 

طرح كينز نقطة مماثلة مفادها: أن خبراء الاقتصاد لابد وأن يكونوا مثل أطباء الأسنان، يعملون على حل المشكلات الملحة المزعجة لكي يتسنى للرأسمالية أن تعمل بسلاسة

وفي اعتقاد دوفلو، يشير مجاز السباكين إلى أن الطريقة العلمية المجردة الرامية إلى تحليل السبب والنتيجة تقل أهمية عن الحلول العملية. وعلى ذلك، لابد أن يكون خبراء الاقتصاد أقرب إلى الأطباء منهم إلى البحاثة في الطب. إنهم أقرب إلى السباكين وأطباء أسنان والمهندسين والأطبّاء منهم إلى علماء اجتماع على ما يبدو.

ولكن هل تقتصر صحة الإنسان على الدور المنوط بالأطباء فحسب؟ الحقيقة أن مهارات الطبيب في علاج المرضى تتطور بالاستناد إلى الاكتشافات العلمية المتصلة بالأمراض وعلم الأحياء والبيئة. والأدوية والممارسات الطبية الفعالة هي نتيجة التعمق في معرفة أسباب المرض. 

في العصور الوسطى، استخدم الأطباء جميع أنواع العلاجات الخطيرة والضارة (العلَق وما إلى ذلك)، وذلك بسبب افتقارِهم إلى المعرفة الكافية  بالجراثيم، مثل البكتيريا أو الفيروسات. لقد قُضي على الكوليرا في النهاية بفضل دراسةٍ جغرافيةٍ في لندن أظهرت أنها تنتشر على مقربةٍ من آبار الشرب الملوثة. وعولجت الملاريا والجدري عبر اكتشاف حاملات البكتيريا الكامنة في الحيوانات المختلفة. ثم تبع ذلك قيام الأطباء بإجراء العلاج.  

ولا يعني هذا بالطبع أن العلم الاقتصادي لا يعبأ بفهم الاقتصاد في مستواهِ الجزئي أو الصغير والتوصل إلى السياسات المناسبة لتغيير الأمور نحو الأفضل: الضرائب الملائمة لجمع الأموال اللازمة للبرامج الحكومية وتحسين المساواة؛ ووضع الحدود القصوى المناسبة لأسعار الطاقة؛ رسوم الازدحام المناسبة للحد من استهلاك الوقود الأحفوري، التحليل الواضح للكلفة والفوائد لتحديد ما إذا كان ينبغي بناء «خط السكك الحديدية فائق السرعة 2» أم لا. كل ذلك يندرج تحت طائلة الاقتصاد. 

والحق أنه يشكل نوع الاقتصاد وصنع السياسات الذي يضطلع به معظم الاقتصاديين، وربما كان يمثل الطريقة التي ستكسب من خلالها عيشك إذا ما تخرجتْ وبقيت في مجال الاقتصاد. وسوف تكسب من ذلك جيداً. لقد بيّن كوري لطلابه في باريس أنْ يغدو المرء خبيراً اقتصادياً هو أمرٌ عظيم، ويحصل من خلاله على أجرٍ معتبر. «بالنسبة للكثيرين، تعد درجة الماجستير خطوة طبيعية نحو الدكتوراه. والدكتوراه هي في الأساس وعد بالتوظيف. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، يبلغ معدل البطالة بين الاقتصاديين الحاصلين على درجة الدكتوراه حوالي 0.8%، وهو الأدنى بين جميع العلوم. إنه ليس مكاناً سيئاً للانطلاق منه». غير أن كوري أردف قائلاً أن المال يعد ثانوي الأهمية، «لأن شغفك وحبك للبحث، وليس التطلع إلى جني المزيد من المال هو الذي يعزز شهادة  الدكتوراه التي تحصل عليها». 

وإني لعلى يقينٍ من أن هذا هو الحال بالنسبة لكم جميعاً. ومع ذلك، لا بد من أن أتوخى الصراحة هنا. قد تكون تجربة كوري في القطاع العام مغايرة لتجربة أولئك الذين عملوا في القطاع الخاص. بعد أن عملتُ في القطاع الخاص والبنوك وغيرها من المؤسسات المالية أثناء «حياتي المهنية»، باستطاعتي القول إن الهدف لا ينحصر في تقديم المشورة بشأن السياسة الاقتصادية والنهوض بأوضاعِ الجميع، وإنما يتمثل في «كيفية كسب المال». الاقتصاد هناك موجّٕه إما إلى استراتيجية الشركات الهادفة إلى تحقيق الأرباح من الإنتاج والتجارة أو إلى استراتيجية الاستثمار الرامية إلى تحقيق الأرباح من المضاربة المالية. 

إدراك الصورة الكبيرة

يتعين على اقتصاد العالم الحقيقي بنظري أن يعي «الصورة الكبيرة». ولا ينبغي للاقتصاديين أن يكونوا مجرد أطباء، بل علماء اجتماع، أو بتعبير أكثر دقة، يتعين عليهم العمل على تطوير اقتصاد يعترف بالقوى الاجتماعية الواسعة التي توجِّه النماذج الاقتصادية. وهذا ما يسمى بالاقتصاد السياسي، وفي الغالب لا يتم تدريسه في الجامعات. اسمحوا لي أن أستعرض عدداً من القضايا الاقتصادية التي تنتمي إلى الصورة الكبيرة التي تؤثر علينا جميعاً أكثر من أي شيء آخر من قبيل تدشين «خط السكك الحديدية فائق السرعة 2»، أو زيادة ضرائب الدخل وتخفيضها. 

الاحتباس الحراري: أولاً، هناك ظاهرة الاحتباس الحراري وتغير المناخ. ينعقد مؤتمر Cop 28 الدولي في دبي الآن لمناقشة كيفية الحد من انبعاثات الغازات الدفيئة، والمطلوب الآن هو خفض الانبعاثات بنسبة 43% بحلول نهاية هذا العقد، إذا أراد العالم أن يتجنب ارتفاع متوسط درجات الحرارة العالمية بما يتجاوز درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل الصناعة. 

لا ينبغي للاقتصاديين أن يكونوا مجرد أطباء، بل علماء اجتماع، أو بتعبير أكثر دقة، يتعين عليهم العمل على تطوير اقتصاد يعترف بالقوى الاجتماعية الواسعة التي توجِّه النماذج الاقتصادية

ما هي النظريات والسياسات الاقتصادية التي يتسنى لها الاضطلاع بهذا التخفيض؟ من المثير للقلق أن نعرف، كما أشار نيكولاس ستيرن، خبير الاقتصاد المناخي الرائد في العالم، من كلية لندن للاقتصاد، أن «الاقتصاد لم يساهم سوى بالقليل في المناقشات المتعلقة بتغير المناخ. على سبيل المثال، لم تنشر «المجلة الاقتصادية الفصلية» المرموقة، التي تعد حالياً المجلة الأكثر اقتباساً في مجال الاقتصاد، مقالاً واحداً عن تغير المناخ!» 

الفقر: ثم هناك قضية الفقر العالمي واتساع فجوة التفاوت في الثروة والدخل بين دول العالم وفي داخلها. ووفقاً للبنك الدولي، هناك ما يقرب من 3.65 مليار شخص يعيشون على أقل من 6.85 دولار في اليوم. وهناك أكثر من 700 مليون شخص يواجهون الجوع يومياً. وهناك أكثر من 3 مليارات إنسان يفتقرون إلى النظام الغذائي الصحي، وبالتالي فهُم يصابون بالمرض أو السمنة أو حتى الهزال. فهل من الصواب من الناحية الأخلاقية، أو حتى من الناحية الاقتصادية، أن يمتلك 1% من البالغين في العالم ما يقرب من 50% من إجمالي الثروات الشخصية في العالم، في حين يمتلك الـ50% الأدنى 1% لا غير؟ ما الذي يتوجب القيام به حيال هذا؟ 

في كتابٍ صدر مؤخراً، قال أنغوس ديتون، وهو بريطاني حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد وخبير في اقتصاديات الفقر، ويعمل في الولايات المتحدة: «يتجاهل تيار الاقتصاديين السائد عمداً مستويات التفاوت المتفاقمة بين الناس والتأثير المروع الذي يخلفه الفقر، زاعمين أن ذلك لا يندرج ضمن اختصاص الاقتصاد (...) هناك اعتقاد ليبرالي قوي للغاية يفيد بأن عدم المساواة لا يعد مجالاً مناسباً للدراسة بالنسبة للاقتصاديين. حتى وإن كان التفاوت يثير القلق، فمن الأفضل أن تظل هادئاً وتتعايش معه». 

هناك اعتقاد ليبرالي قوي للغاية يفيد بأن عدم المساواة لا يعد مجالاً مناسباً للدراسة بالنسبة للاقتصاديين. حتى وإن كان التفاوت يثير القلق، فمن الأفضل أن تظل هادئاً وتتعايش معه

التكنولوجيا: ثم هناك تكنولوجيا القرن الحادي والعشرين: الروبوتات، والأتمتة، والذكاء الاصطناعي، ولاسيما ظهور نماذج تعلم اللغة فائقة الذكاء. هل استخدمتَ نماذج تعلم اللغة مثل ChatGPT حتى الآن من باب الترفيه؟ أملي أنك لم تستخدمها في كتابة أطروحات آلية من أجل أساتذتك؟ من الواضح أن أربعة من كل خمسة مراهقين بريطانيين يستخدمون تلك النماذج في إنجاز الواجبات المدرسية، وذلك بحسب ما ذكرته هيئة تنظيم التكنولوجيا «أوفكوم». ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة لوظائفك المستقبلية عندما تتخرج؟ هل سيحل الذكاء الاصطناعي محلك قبل التخرج؟ يقدر بعض الاقتصاديين أن 300 مليون وظيفة ستختفي على مستوى العالم. وهذا يشكل مجالاً حيوياً آخر لاقتصاد العالم الحقيقي. 

وأود اختتام كلمتي بأن أقول لكم: تذكروا أن هناك عالماً يقوم وراء منحنيات العرض والطلب والصيغ الرياضية. 

ولا ينبغي للاقتصاديين وخبراء الاقتصاد أن يتحوّلوا إلى مجرد أطباء يقومون بإصلاح الأسنان، وإنما يتعين عليهم استخدام المهارات والأساليب العلمية في فهم الصورة الكبيرة ومن ثم المساهمة في خلق عالم أفضل للجميع. عندئذ ربما أمكننا تجنب زيارة الملك تشارلز في وقت ما في المستقبل أو دفعه إلى تكرار ما قالته الملكة إليزابيث: «لماذا لم يتوقع أحد ذلك؟».

نشر هذا المقال في مدوّنة مايكل روبرتس في 3 كانون الأول/ديسمبر 2023.