السياسات التقشّفية وإقصاء المرأة من سوق العمل
اعتادت المؤسّسات المالية الدولية، بينها صندوق النقد الدولي، أن تدير أذناً طرشاء للأصوات المندّدة بسياساتها التي عمّقت أوجه اللامساواة بين الجنسين. ولا تزال هذه المؤسّسات ترفض التطرّق للانتشار المتزايد لعمل المرأة غير المأجور بحكم السياسات التقشّفية، وغالباً ما تتجاهل عجز المرأة عن الوصول إلى الخدمات المُخصّصة لها. وعلى الرغم من تعهّدها باتّباع نهج مُعاكس، لم تعمد هذه المؤسّسات حتى الآن إلى جمع البيانات المصنّفة حسب الجندر وتحليلها.1
لكنّ صندوق النقد يولي اهتماماً بالتوظيف بوصفه أحد جوانب اللامساواة بين الجنسين، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بما في ذلك بلدان مثل المغرب ومصر والأردن، حيث يوصي بسياسات تشجّع العمل «المرن» وتقديم الحوافز مقابل توظيف المرأة، إضافة إلى تأمين مراكز الرعاية النهارية في الأماكن التي يعمل فيها عدد معيّن من النساء.
مع ذلك، تفاقمت مشكلة إقصاء المرأة من أسواق العمل نتيجة توصيات صندوق النقد.
كيف ظلّت المرأة خارج سوق العمل؟
لطالما كان حضور المرأة في سوق العمل خجولاً. وتشهد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نسبة تفاوت ملحوظة من حيث المشاركة في القوى العاملة تفوق المتوسّطات العالمية بكثير. فعلى الصعيد الدولي، تصل نسبة المشاركة في القوى العاملة إلى حوالى 78% للذكور و53% للإناث (2022). أمّا في منطقتنا، فتتّسع هذه الفجوة إلى 72% للذكور و17% فقط للإناث (2022). تُعزى هذه المشاركة الضعيفة، بجزءٍ منها، إلى تزايد الحاجة إلى العمل غير المأجور، وهو عبءٌ يقع على عاتق النساء في معظم الأحيان.
في ظلّ السياسات التقشّفية والخصخصة المتزايدة للخدمات الأساسية كالتعليم والرعاية الصحية، يتعذّر على الأسر ذات الدخل المحدود والمتوسط الوصول إلى العديد من هذه الخدمات. بالتالي، أرخت الضغوطات المعيشية بثقلها على المرأة، بحيث أصبح لزاماً عليها البقاء في المنزل للاعتناء بالمرضى والمسنّين والأطفال نظراً إلى تضاؤل خيارات الرعاية ميسورة التكلفة، مثل مراكز الرعاية الصحية ودور المسنّين والحضانات.
بالإضافة إلى إقصائها من سوق العمل، غالباً ما تتعرّض المرأة للتمييز من جانب أرباب العمل عند البحث عن وظيفة. ويتجلّى ذلك في الفجوة الكبيرة بين الذكور والإناث في نسب البطالة. ففي حين تتساوى هذه النسب عالمياً للذكور والإناث بواقع 5.8% (2022)، تصل نسبة بطالة الإناث في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى 19.3%، أي ما يعادل ضعف نسبة الذكور (9.4%).
وفي أوقات الأزمة، تجد المرأة نفسها معرّضة أكثر من الرجل لفقدان وظيفتها، وترك سوق العمل، والتوقّف لفترات أطول عن العمل. ففي المغرب مثلاً، تجاوز عدد النساء اللواتي غادرن سوق العمل عدد الرجال في ذروة جائحة كورونا بين عامَي 2020 و2021. أما في تونس، وخلال ثورة 2011، امتدّت بطالة 11.3% من النساء لأكثر من ثلاث سنوات، أي ضعف نسبة الرجال (5.2%) العاطلين عن العمل للمدّة نفسها.
كيف حرم المجتمع والمؤسّسات المالية الدولية المرأة من العمل؟
قليلةٌ هي فرص العمل المتاحة أمام النساء، وهذا ليس بالأمر المفاجئ نظراً إلى أنّ المؤسسات الخاصة في منطقتنا تفضّل توظيف الرجال عموماً. ففي تونس، يُفضّل أكثر من 45% من أرباب العمل في القطاعات الأساسية تعيين الرجال في الوظائف الإنتاجية وغيرها من المهن الأولية (التي تستحوذ على الغالبية الساحقة من الوظائف الشاغرة).
ولكنّ تفضيل الرجال لا يقتصر على أرباب العمل وحسب، فالمجتمع بأكمله يؤيّد ذلك. فعند الردّ على بيان «شحّ الوظائف: يحقّ للرجال في التوظيف أكثر من النساء»، أيّد ما متوسطه 70% من المجيبين هذه الفكرة في مصر وتونس ولبنان والأردن والمغرب. وفي حين صرّح أكثر من 45% بأنهم يوافقون بشدّة، و18% فقط لم يوافقوا.
أسفر ذلك، بالإضافة إلى عدم قدرة النساء على التنقّل، عن فجوة واسعة في نسب البطالة بين الرجال والنساء. ومن نتائجه الأخرى أن أصبح القطاع العام وجهة التوظيف الأولى للمرأة نظراً إلى كونه أقلّ تمييزاً بحقّها.
بالتالي، تزداد فرص توظيف النساء في القطاع العام، وخصوصاً في وظائف الرعاية كالرعاية الصحية والتعليم. وتؤكّد منظمة «أوكسفام» ذلك في أحد تقاريرها الصادرة مؤخراً، إذ وجدت أنّ «النساء يشغلنَ الجزء الأكبر من وظائف الرعاية في القطاع العام: 67% في مصر، و72% في الأردن، و52% في تونس».
لذلك، عندما تتدخّل الحكومات والمؤسّسات، كصندوق النقد الدولي، لفرض سقوف على أجور القطاع العام أو تخفيض عدد العاملين أو تجميد التوظيف فيه، فهي فعلياً تستهدف وظائف النساء وتحرمهنّ من العمل في القطاع الأقل تمييزاً بحقّهنّ. وفي تعويلها على حسن نوايا القطاع الخاص، تعمّق الجهات السياسية، كالمؤسّسات المالية الدولية، مشكلة هيكلية وتضع مزيداً من العوائق أمام المرأة في رحلة بحثها عن عمل.
وعلى الرغم من تعظيم شأن ريادة الأعمال، فهي تواجه العوائق نفسها في ظلّ تبنّي المورّدين والعملاء النظرة المجتمعية ذاتها وتفضيلهم الرجال وتوظيفهم بدلاً من دعم المشاريع المملوكة لنساء.
كيف أقصت البطالة المرأة من برامج الحماية الاجتماعية؟
لا شكّ في أنّ التمييز في سوق العمل له عواقب مهما اختلفت أشكاله. فالمنطقة تسجّل أدنى حصّة للإناث العاملات في الدخل على مستوى العالم، حيث لا تزيد مساهمتهنّ عن 12%. كما لا تتقاضى النساء، بالمتوسط، سوى 60% تقريباً ممّا يتقاضاه الرجال، الأمر الذي يجعلهنّ أشدّ فقراً من أقرانهنّ الذكور.
وحتى عندما تجني المرأة دخلاً، فهو لا يضمن لها الاستقلال المالي التامّ. ففي الأردن مثلاً، 12.1% فقط من النساء أحرار في إدارة أموالهنّ. وغياب الاستقلال المالي يُبقي المرأة في براثن الفقر. وغالباً ما لا يُلحظ هذا الفقر نظراً إلى أنّه يُقاس من خلال مسوح الأسر المعيشية وليس مسوح الأفراد في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ويؤدّي ذلك أيضاً إلى إبقاء النساء في أوضاع قد تعرضهنّ للإساءة والاستغلال نظراً لانعدام الموارد المتاحة لهنّ للتحرّر منها.
وبالإضافة إلى حرمان المرأة من مصدرٍ للدخل بإقصائها من سوق العمل، فإنّ المؤسسات المالية الدولية والحكومات تحرم المرأة كذلك من برامج الحماية الاجتماعية الأساسية. فعلى سبيل المثال، «17% فقط من النساء اللواتي بلغن سن التقاعد في تونس، و17% في الأردن يستفدن من تغطية نظام المعاشات التقاعدية، مقارنةً بـ 86% و83% للرجال على التوالي».
هذا الواقع المرير يزيد المرأة فقراً بلا أي غطاء يحميها من الأخطار التي قد تواجهها في مختلف مراحل حياتها. والحقيقة أنّنا متّجهون إلى مزيد من التدهور في ظلّ الضغط الذي يمارسه صندوق النقد لإلغاء أنظمة الحماية الاجتماعية الشاملة واستبدالها بتدابير موجّهة للتخفيف من الفقر.
في الخلاصة، يمكن القول إنّ إملاءات صندوق النقد الدولي تزيد فعلياً من هشاشة المرأة، وتحرمها فرصة العمل في القطاع الأكثر توظيفاً لها، وتتركها من دون أيّ دخل أو شبكة أمان.