معاينة ai boom costs

التكاليف الخفيّة لطفرة الذكاء الاصطناعي

نحن ندخل حقبة جديدة للتكنولوجيا يغلب عليها الذكاء الاصطناعي. وفي حين كان الذكاء الاصطناعي قبل سنوات في أيدي الباحثين في الغالب، نتفاعل اليوم مع الذكاء الاصطناعي على أساس يومي، سواء من خلال نتائج البحث في غوغل، أو ما يزكّيه لنا إنستغرام، أو خدمة عملاء الدردشة الآلية، أو المساعد الرقمي سيري. تستثمر شركات التكنولوجيا مليارات الدولارات للارتقاء بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي(link is external)، ويطلق الرؤساء التنفيذيون وعوداً خيالية بشأن تطوير الذكاء الاصطناعي العام الذي يتجاوز القدرات البشرية وسوف يعالج كثيراً من مشاكل العالم.

صحيح أن للذكاء الاصطناعي قدرة هائلة على إحداث تأثير إيجابي، بدءاً من مساعدة العمال في أداء المهام الشاقة أو الروتينية، إلى التطبيقات في التصوير الطبي التي يمكن أن تحسّن الكشف المبكر عن الأمراض وتشخيصها. لكن واقع الحال هو أنّه مع التوسّع الضاري لشركات التكنولوجيا لتعظيم الأرباح والحصص السوقية، ترتّب طفرة الذكاء الاصطناعي تكاليف خفيّة خطيرة على العمال، وعلى كوكبنا، والمجتمعات التي نعيش فيها.

نلقي، في هذه المقالة، نظرة عامة على التكنولوجيا التي يقوم عليها الذكاء الاصطناعي، ونحلّل بعض تكاليفه الخفيّة وآثاره: من التأثير البيئي الناجم عن حاجات الذكاء الاصطناعي الهائلة للطاقة والمياه، إلى تأثيره في العمل، لاسيّما الاستغلال في الجنوب العالمي، إلى صلاته الوثيقة بالعسكرة والإمبريالية.

إطلالة على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي

مع سهولة الوصول إلى أدوات الذكاء الاصطناعي مثل ChatGPT(link is external)، أصبح بإمكان الكثيرين التفاعل مع الذكاء الاصطناعي للمرّة الأولى. بدءاً من الإجابة عن أسئلة بشأن الواجبات المنزلية في الرياضيات وصولاً إلى المساعدة في كتابة بريد إلكتروني، قد تبدو الدردشة مع GPT أحياناً مشابهة بشكل مخيف للتحدّث إلى إنسان. لكن ما الذي يقف وراء أداة مثل ChatGPT؟

أفضت التطوّرات الأخيرة في نماذج الذكاء الاصطناعي وأجهزة الحوسبة إلى زيادة هائلة في كمية البيانات والقدرة الحوسبية التي تُدرّب هذه النماذج عليها

تتكوّن نماذج الذكاء الاصطناعي من عدد كبير من المعاملات، تُحسَّن قيمها على أساس كثير من الأمثلة المعروفة لمدخلاتٍ وما يتسّق معها من مخرجات مرغوبة. وتسمّى هذه العملية الإحصائية «تدريب» النموذج، وتعتمد على تقنيات التعلّم الآلي.

على سبيل المثال، جرى تحسين نموذج ذكاء اصطناعي لغوي مثل ChatGPT للتنبؤ بالكلمة التالية المحتملة في جملة بوصف هذه الكلمة مُخْرَجَاً، عند إعطائه جملة جزئية بوصفها مُدْخَلاً. وتُدرّب نماذج ذكاء اصطناعي أخرى على تحديد هوية كائنات من بياناتٍ صُوَريّة. كذلك طُوّرت نماذج ذكاء اصطناعي قادرة خاصّة بكثير من التطبيقات، من بينها طي البروتين(link is external) وتوليد الصور(link is external) وكتابة التعليمات البرمجية(link is external). وتُستَخدَم في كل حالة من هذه الحالات، أمثلة معروفة لنصّ، أو بنى بروتينية، أو صور أو تعليمات برمجية حاسوبية لتدريب نموذج الذكاء الاصطناعي. لكن الأفكار العلمية الأساسية وراء نماذج الذكاء الاصطناعي لطالما كانت موجودة منذ سنوات كثيرة. فما الذي تغيّر؟ ما تغيّر هو البيانات والحوسبة.

لقد أفضت التطوّرات الأخيرة في نماذج الذكاء الاصطناعي وأجهزة الحوسبة إلى زيادة هائلة في كمية البيانات والقدرة الحوسبية التي تُدرّب هذه النماذج عليها. إذ يُدرّب ChatGPT4 على 10 تريليون كلمة(link is external) أي أكثر من سابقه بنحو 3 أضعاف، ولديه 1.8 تريليون مُعامِل(link is external) أي أكبر من سابقه بحوالي 10 أضعاف، ويُكلّف أكثر من 100 مليون دولار أميركي للتدريب(link is external) أي أكثر بنحو 20 ضعفاً من سابقه. وبترقية هذه النماذج، تصبح أكثر دقة وذات تطبيقات قابلة للتسويق يمكن للجمهور استخدامها. ولكن ما الذي يعنيه هذا التوسّع وهذه الترقية فعلياً؟

الطاقة

الشاغل الأول هو الطاقة المطلوبة لإمداد أجهزة الكمبيوتر التي تشغّل نماذج الذكاء الاصطناعي. ففي حين يتفاعل معظم الناس مع الذكاء الاصطناعي على الإنترنت من خلال السحابة عبر أجهزة الكمبيوتر والأجهزة الشخصية، هنالك مراكز بيانات ضخمة ممتلئة بأعداد هائلة من أجهزة الكمبيوتر التي تعالج بالفعل كل استعلام أو طلب يُستَعلَم أو يُطلَب من الذكاء الاصطناعي. وفي العام 2023، استهلكت مراكز البيانات الخاصة بكلّ من غوغل ومايكروسوفت من الكهرباء ما يزيد على ما يستهلكه أكثر من 100 بلد(link is external). وتمتلئ مراكز البيانات بآلاف وحدات المعالجة الرسومية(link is external)، التي تصمّم لتشغيل حسابات متوازية، وهي فعالة للغاية في إجراء عمليات الحوسبة اللازمة لتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي. وليس من المستغرب أن تصبح الآن شركة إنفيديا، الشركة التي تسيطر على سوق وحدات المعالجة الرسومية، واحدة من الشركات الأعلى قيمة في العالم. ولا توجد أي دلالة على تباطؤ في استهلاك الطاقة. وتقدّر إنفيديا أنها ستبيع 3.5 مليون وحدة من أحدث وحدات المعالجة الرسومية لديها، التي ستستهلك من الكهرباء ما يعادل استهلاك مليون أسرة أميركية(link is external).

زادت انبعاثات غوغل من الغازات المسبّبة للانحباس الحراري العالمي بنسبة 48% منذ العام 2019

لقد زادت انبعاثات غوغل من الغازات المسبّبة للانحباس الحراري العالمي بنسبة 48%(link is external) منذ العام 2019. كما تضطر شبكات الكهرباء إلى اللجوء إلى الغاز الطبيعي(link is external) بهدف تلبية متطلبات مراكز البيانات. ومكّن الدافع الرأسمالي باتجاه تعظيم الأرباح من توليد الذكاء الاصطناعي إلى توسّع منفلت في الطاقة المطلوبة لمراكز البيانات وشركات الذكاء الاصطناعي، الأمر الذي تفاقم وأدّى إلى تراجع أهداف إزالة الكربون.

لقد بدأ هذا بالفعل يؤثّر بشكل مباشر في العمّال، إذ ترفع شركات الطاقة أسعار الكهرباء(link is external) لتمويل بناء مزيد من البنى التحتية للطاقة لدعم مراكز البيانات. وعلاوة على ذلك، شكّلت مراكز البيانات ضغطاً هائلاً على الشبكة(link is external)، ما زاد من احتمالات انقطاع الكهرباء في خلال أوقات الذروة. وهذا الخطر شديد، لا سيما في كاليفورنيا وتكساس، حيث سبق أن رأينا كيف أثرت هذه الانقطاعات في البنية التحتية الحيوية مثل المستشفيات.(link is external)

الماء

لكن بالإضافة إلى استهلاك الكهرباء، تستهلك مراكز البيانات أيضاً كميات كبيرة من المياه لتبريد أجهزة الكمبيوتر التي تشغِّل الذكاء الاصطناعي. وقدّر باحثون في جامعة كاليفورنيا في ريفرسايد العام الماضي أن الطلب العالمي على الذكاء الاصطناعي قد يستهلك ما بين 1.1 تريليون إلى 1.7 تريليون غالون من المياه العذبة بحلول العام 2027(link is external). وغالباً ما تتركّز مراكز البيانات، فضلاً عن مرافق تصنيع الرقائق شبه الموصلة اللازمة للحوسبة القائمة على الذكاء الاصطناعي، في مناطق لا تتوفر فيها المياه بكثرة. على سبيل المثال، يُبنى الكثير من مراكز البيانات الجديدة في كاليفورنيا التي تواجه حالات جفاف منتظمة، وفي أريزونا حيث يجف نهر كولورادو.

لا يقتصر توسُّع مراكز البيانات على الولايات المتّحدة وحدها. إذ تتطلّع غوغل إلى التوسّع دولياً أيضاً، بما في ذلك بناء مراكز بيانات في الأوروغواي. لكن تواجه الأوروغواي بالفعل أسوأ جفاف لها منذ 74 عاماً. وكانت هناك احتجاجات واسعة النطاق ضد (link is external)بناء مراكز إضافية للبيانات من شأنها أن تزيد العبء على إمدادات المياه وتهدّد وصول البشر إلى مياه الشرب العذبة. وكانت عبارة «هذا ليس جفافاً بل نهباً» أحد شعارات حركتهم المعارضة لهذه التوسّعات، ويمكنك أن تجدها مكتوبة على الجدران في جميع أنحاء مونتيفيديو.

تدرك الشركات جيداً أيضاً ذلك التأثير الضار الذي يخلفه استهلاك المياه في المجتمعات، لذلك ليس من المستغرب أنها لم تكن شفافة بشأن استهلاكها. وفي إحدى الحالات، في ولاية أوريغون حيث تدير غوغل ثلاثة مراكز بيانات وتخطّط لإنشاء مركزين آخرين، رفعت غوغل دعوى قضائية، بمساعدة حكومة المدينة، لإبقاء استهلاكها للمياه بالسرّ(link is external) عن المزارعين وأنصار البيئة وقبائل الأميركيين الأصليين. وبعد أن واجهت ضغوطاً للإفصاح عن البيانات، استسلمت ونُشِرت السجلات للعموم. وأظهرت أن مراكز البيانات الثلاثة التابعة لغوغل تستخدم أكثر من ربع إمدادات المياه في المدينة.

يُدرّب «لافندر» على بيانات مقاتلين معروفين، ثم يحلّل بيانات المراقبة الخاصة بكل شخص تقريباً في غزة، من الصور إلى جهات الاتصال الهاتفية، لتقييم احتمال أن يكون هذا الشخص مقاتلاً

العسكرة 

في حين تميل صناعة التكنولوجيا إلى تسليط الضوء على التأثيرات الإيجابية، أو على الأقل غير الضارة، للذكاء الاصطناعي، تطوّر هذه الشركات في الوقت نفسه التطبيقات الخطيرة والعنيفة لهذا الذكاء. وقد طلب البنتاغون مؤخراً 1.8 مليار دولار أميركي(link is external) للسنة المالية لدعم إيصال القدرات التي يمكّنها الذكاء الاصطناعي وتبنّيها. وغالباً ما تتدفّق هذه الأموال إلى شركات مثل Google وMicrosoft وPalantir، وجامعات مثل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة ستانفورد في شكل عقود لتطوير منتجات حربية. وتدفع المنافسة على التكنولوجيا الحربية، لاسيما السيطرة على شرائح أشباه الموصلات التي تسند الذكاء الاصطناعي، جبهة جديدة من العدوان الأميركي على الصين.

لقد سبق أن رأينا استخدام الذكاء الاصطناعي في الحرب. مشروع مافن(link is external) هو برنامج عسكري تديره الولايات المتحدة، ويستخدم الذكاء الاصطناعي للتمييز بين الأشخاص والأشياء في ساحة المعركة. وعمل هذا البرنامج في السابق بالتعاون مع غوغل، لكنهم استبعدوه(link is external) بعد أن واجهوا ضغوطاً من الموظفين، ويعمل الجيش الأميركي الآن مع  بالانتير. أما غوسبل ولافندر(link is external) فهما نظامان للذكاء الاصطناعي يستخدمهما جيش الاحتلال الإسرائيلي. «غوسبل» هو نظام لوضع علامات على المباني التي يُزعم أنّ مسلحي حماس يستخدمونها تمهيداً لقصفها. ويُدرّب «لافندر» على بيانات مقاتلين معروفين، ثم يحلّل بيانات المراقبة الخاصة بكل شخص تقريباً في غزة، من الصور إلى جهات الاتصال الهاتفية، لتقييم احتمال أن يكون هذا الشخص مقاتلاً. وفي حين يزعم جيش الاحتلال الإسرائيلي أن القرار النهائي لا يزال قراراً بشرياً، أخبر جنود إسرائيليون مجلة +972(link is external) أنهم تعاملوا بشكل أساسي مع مخرجات الذكاء الاصطناعي «كما لو كانت قراراً بشرياً»، ولم يصرفوا في بعض الأحيان «سوى 20 ثانية» للنظر في الهدف قبل قصفه، وأن قيادة الجيش شجّعتهم للموافقة تلقائياً على قوائم القتل التي يقدّمها لافندر بعد أسبوعين من الحرب.

استغلال العمل

في حين تصف الرواية السائدة عن الذكاء الاصطناعي نماذج هذا الذكاء بأنها أنظمة يمكن أن تعمل بشكل مستقل تماماً وتحرّر العمّال من خلال بناء آلات يمكنها القيام بالمهام المملْة والمتكرّرة، لكن واقع الأمر بعيد كل البعد من الحقيقة. تبني شركات الذكاء الاصطناعي، بدلاً من ذلك، نماذج الذكاء الاصطناعي الخاصة بها من خلال التعامل مع كثير من العمال كالآلات(link is external). يتطلّب تدريب هذه النماذج كميات هائلة من البيانات، كثير منها يدقّقه بشر ويشرحونه. وتستغل شركات التكنولوجيا التفاوتات الاقتصادية بين المناطق، وغالباً ما يُلَزّم لعمّال في الجنوب العالمي، بما في ذلك سوريا والأرجنتين وكينيا، حيث يتقاضى العمّال أقل من 1.50 دولاراً في الساعة، مع أمان وظيفي ضحل وغياب أي سبيل واضح للصعود الاجتماعي، وأي حماية لحقوق العمال.

يتطلّب تدريب هذه النماذج كميات هائلة من البيانات، كثير منها يدقّقه بشر ويشرحونه. وتستغل شركات التكنولوجيا التفاوتات الاقتصادية بين المناطق، وغالباً ما يُلَزّم لعمّال في الجنوب العالمي، بما في ذلك سوريا والأرجنتين وكينيا

هذا عدا عن أنّ العمل نفسه ذو طبيعة تكرارية للغاية وأن هؤلاء العمّال يخضعون لرقابة دقيقة ويعاقبون(link is external) إذا حادوا عن مهامهم التكرارية الموصوفة. وقد تتضمّن بعض أنواع المهام مشاهدة المحتوى وتقييم ما إذا كان يجب الإبلاغ عنه. وهذا يعني أنّ على العمّال أن يشاهدوا مقاطع فيديو تحتوي أحياناً على انتحار وقتل وإساءة معاملة لأطفال واعتداء جنسي،(link is external) ويبلغ عمّال كُثر عن إصابتهم باضطرابات التوتر والقلق بسبب تعرضهم المستمر لهذا المحتوى.

وبطبيعة الحال، يُضاف هذا الشكل من استغلال العمل إلى احتمال أن تستخدم الشركات الذكاء الاصطناعي لخفض المهارات أو إلغاء أعداد هائلة من الوظائف(link is external) على مستوى العالم بحثاً عن أرباح أكبر.

خاتمة

يغيّر الذكاء الاصطناعي حياة العمّال وكيفية عمل المجتمع في جميع أنحاء العالم. لكن التكاليف الخفيّة لهذا التقدّم التكنولوجي، ما دام في أيدي الشركات التي تتمثّل مصالحها في تحقيق الربح والمنافسة، سيواصل العمال في جميع أنحاء العالم دفعها. ولا يمكن تطبيق/استخدام/تبني الذكاء الاصطناعي من دون التضحية بكوكبنا ومجتمعاتنا وسبل عيشنا إلا بتركيز المصالح على الغالبية ورفاهيتها.

نُشِر هذا المقال(link is external) في Peoples Dispatch في 13 أيلول/سبتمبر 2024 بموجب رخصة المشاع الإبداعي.