مساكن شاغرة وغرف فندقية
البدائل المتاحة لإدارة أزمة النزوح في لبنان
ما سمّتها الحكومة اللبنانية «خطّة طوارئ» لمواجهة الحرب وإدارتها، خلقت في الواقع أزمة مُتعدّدة الطبقات. إن استخدام المدارس الرسمية وكلّيات الجامعة اللبنانية كمراكز إيواء فيما عشرات آلاف الشقق السكنية والغرف الفندقية الجاهزة للإيواء فارغة، لم يُظهر عن سوء في إدارة أزمة النزوح فحسب، بل جرّد النازحين والنازحات من كرامتهم وحرم أكثر من نصف طلاب لبنان من إمكانية العودة إلى التعليم في وقت قريب، حتى لو حصل وقف لإطلاق النار الآن.
كثافة نزوح غير مسبوقة
هذه ليست أزمة النزوح الأولى التي يختبرها اللبنانيون، ولكنّها بلا شك الأكثر كثافة، وهي مُستمرّة بالتفاقم منذ أكثر من سنة. يُعتبر لبنان حالياً من البلدان الأكثر استضافة للاجئين ونازحين كنسبة لكلّ فرد مقيم، وأيضاً لأكبر عدد من اللاجئين والنازحين لكلّ كيلومتر مربّع في العالم، بحسب المفوضيّة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فأكثر من نصف سكّانه باتوا اليوم إمّا لاجئين من سوريا وفلسطين أو نازحين داخليين بسبب الحرب الإسرائيلية على لبنان، ونحو ربعهم نزحوا في خلال الشهر الأخير فقط من هذه الحرب.
أسفر العدوان الإسرائيلي المستمرّ منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وتصعيده منذ 23 أيلول/ سبتمبر الماضي، عن نزوح نحو 779,613 شخصاً داخل الأراضي اللبنانية حتى 16 تشرين الأول/أكتوبر الحالي بحسب منظّمة الهجرة الدولية. ويشكّل هؤلاء نحو 59% من مجمل عدد النازحين الذي قدرّته وحدة إدارة الكوارث في الحكومة اللبنانية بأكثر من 1,3 مليون، على اعتبار أن النسبة الباقية منهم، أي نحو 577 ألف شخص، عبروا إلى سوريا برّاً (465,967 حتى 17 تشرين الأول/أكتوبر 2024) أو غادروا جواً (110 آلاف حتى 11 تشرين الأول/أكتوبر 2024) وبحراً (1,134 حتى 4 تشرين الأول/أكتوبر).
تظهر البيانات التفصيلية لحركة النزوح التي تنشرها منظّمة الهجرة الدولية أن الجزء الأكبر من الناس لم ينتظر شيئاً من «الدولة»، ويحاول تدبّر أموره بنفسه. وبحسب هذه البيانات، انتقل 47% من النازحين الداخليين للعيش لدى أقارب وأصدقاء، واضطر 24% منهم لاستئجار مساكن بأكلاف باهظة، في حين أن 1% منهم انتقلوا إلى بيوت ثانوية يملكونها في مناطق بعيدة من المناطق الأكثر استهدافاً بالعدوان الإسرائيلي. وفي المقابل، لجأ نحو 25% منهم إلى مراكز الإيواء التي خصّصتها الحكومة، وقد استقبلت هذه المراكز حتى 16 تشرين الأول/أكتوبر الحالي نحو 191,518 نازحاً بمتوسّط 214 شخصاً في كلّ مركز. في حين لم يكن أمام 22,389 نازحاً ونازحة، أي 3% من مجمل النازحين الداخليين، من خيار سوى السكن في مباني قيد الإنشاء أو مهجورة وغير صالحة للسكن أو البقاء على الطرقات ونصب خيام في العراء.
الاكتظاظ السكاني: قنبلة صحّية واجتماعية
تدلّل اتجاهات النزوح الراهنة على الكثير من المؤشّرات. أولاً، تعيش الغالبية العظمى من النازحين في ظروف اكتظاظ غير صحّية سواء في مراكز الإيواء التي يلجأون إليها أو في المساكن التي يتشاركونها مع أقارب وأصدقاء وعائلات أخرى بحسب المشاهدات التي نقلتها منظّمة الهجرة الدولية. وتترافق هذه الأزمة مع تدمير مُمنهج تمارسه إسرائيل ضدّ البنية التحتية والمرافق الصحّية، ما يرفع بدوره خطر تفشّي الأمراض المُعدية نظراً لنقص المياه اللازمة لخدمة الناس بالتوازي مع تراجع القدرة الطبّية على احتواء هذه الأمراض.
ثانياً، تستقبل محافظتا بيروت وجبل لبنان، وهما الأكثر كثافة سكانية في لبنان، نحو 64% من النازحين، ما يزيد الضغوط على البنية التحتية المُهترئة بالأساس في هذه المناطق. علماً أن 78% من النازحين إلى هاتين المحافظتين يتوزّعون في بيروت والشوف وعاليه تحديداً، فيما يتوزّع الآخرون على 4 أقضية في جبل لبنان وهي بالترتيب المتن وجبيل وبعبدا وكسروان. ويأتي هذا التركّز كنتيجة لرفض الكثير من سكان المناطق التي تُعتبر «آمنة» استقبال نازحين بحجّة الخوف من استهدافهم بغارات إسرائيلية.
وثالثاً، نزح 23% من الأشخاص إلى مناطق ضمن المُحافظات الأكثر تضرّراً بالقصف الإسرائيلي، أي الجنوب والنبطية والبقاع وبعلبك-الهرمل. وهذا يعني أن 20% من النازحين الداخليين ما زالوا مُعرضين لخطر الاعتداءات الإسرائيلية الهمجية المتزايدة، لأنهم لا يملكون أو لا يجدون أو لا يستطيعون تحمّل تكاليف الانتقال إلى مكان آخر للاحتماء به.
اجترار حلول مُجرّبة ثبت فشلها
على الرغم من المحاولات الدائمة لنفي إمكانيات القيام بأي شيء بحجّة العجزين المالي والسياسي، واللجوء إلى التسوّل من المنظّمات الدولية والدول الأجنبية، لا بدّ من التأكيد مُجدّداً أن الدولة اللبنانية تمتلك الموارد ولديها الآليّات لإدارة أزمة النزوح بطريقة تحفظ كرامة الناس فيما لو أرادت تحمّل مسؤولياتها، سواء عبر إعلان التعبئة العامّة التي تتيح لها التصرّف بالأملاك العمومية والخاصّة في حالات الضرورة لتأمين المصلحة العامّة، أو استخدام إيراداتها المالية المُتراكمة في المصرف المركزي.
في كلّ أزمة سابقة كانت تتطلّب دوراً حاسماً من الدولة لتنفيذ سياسات تبدّي المصلحة العامة، كانت الدولة اللبنانية تنسحب إلى الوراء وتضع المُتضرّرين في مواجهة ظروفهم وفي مواجهة بعضهم ضد بعض، أو تزعم إعداد خطط غالباً ما تكون مُنفصلة عن الواقع كما خطّة الطوارئ الراهنة أو خطّتها الجديدة باستيراد مساكن جاهزة من تركيا، التي يقدّر نقيب المقاولين، مارون الحلو، كلفة كلّ مسكن منها بنحو 5,000 دولار، أو تضعهم أمام خيارات سيّئة، كما في إدارتها لأزمة النازحين الداخليين المُستجدّة، إذ اقتصرت مقاربتها على تخصيص المدارس الحكومية ومباني الجامعة اللبنانية لإيواء النازحين، على الرغم من عدم جهوزية هذه المراكز للسكن والإيواء والأضرار البالغة التي تتركها على مستقبل تعليم نصف تلامذة لبنان تقريباً.
تشير بيانات وزارة التربية والتعليم العالي إلى أن 77% من المدارس الحكومية في لبنان و27% من مباني الجامعة اللبنانية مُستخدمة حالياً كمراكز إيواء للنازحين أو موجودة في المناطق المُستهدفة بالقصف والغارات، وبالتالي لن تكون جاهزة لمباشرة العام الدراسي المتأخّر حتى لو توقّفت الحرب الآن. علماً أن العام الدراسي في المدارس الحكومية لم يُفتتح أصلاً، في حين أن معظم المدارس الخاصة في المناطق غير المُستهدفة أعادت فتح صفوفها حضورياً أو عن بعد.
شقق شاغرة وغرف فندقية
تتصرف الحكومة اللبنانية كما لو أنها لا تمتلك أي خيارات أخرى، في حين أن الشقق الشاغرة المنتشرة في جميع المناطق اللبنانية تمثّل خياراً مناسباً لتأمين السكن اللائق لمن هم في حاجة إليه، وخصوصاً في أوقات الحروب، إذ أن القوانين المرعية الإجراء تنظّم مثل هذه الأمور وتسمح باستخدام الأملاك الخاصة في مقابل تعويضات لأصحابها تقرّرها الدولة.
لا توجد إحصاءات شاملة للمخزون السكني المُتاح للاستخدام في لبنان، لكن الكثير من الدراسات المتفرقة تتحدّث عن نسبة شغور عالية في المساكن، وآخرها دراسة لصندوق النقد الدولي تحدّد نسبة شغور المساكن في لبنان بنحو 23%. وهذا يعني أن جميع سكان لبنان قبل الحرب كانوا يعيشون في 77% من المساكن الموجودة، وبالتالي يمكن لنحو 23% من المخزون السكني الشاغر أن يستقبل ربع السكّان الذين نزحوا جراء الحرب.
لا يقتصر المخزون السكني القائم على الشقق الفارغة التي يتطلّب استخدامها إعلان التعبئة العامّة، إذ يفيد رئيس اتحاد النقابات السياحية ونقيب أصحاب الفنادق بيار الأشقر في اتصال مع «صفر» بوجود نحو «70 ألف غرفة فندقية وشاليه وغرف مفروشة معروضة على Airbnb في لبنان». ويعتبر نائبه جان بيروتي أن «فتح هذه الغرف يتطلّب من الدولة ضمانات بالتعويض أو تحمّل الكلفة. فبدلاً من الكلفة التي ستترتّب عليها لشراء منازل جاهزة من تركيا من غير المعروف أين سوف تركبها، وبأي بنى تحتية وشبكات صرف صحي سوف توصلها، يمكنها استئجار الغرف الفندقية والشقق المفروشة المُصنّفة 4 نجوم وأقل، وتشكّل 90% من مجمل المعروض الفندقي والسكني، والتي لا تتجاوز كلفتها اليوم 40 دولاراً في اليوم. ففي ظل ركود النشاط السياحي تتمنّى هذه المؤسّسات أن يتمّ تشغيلها. فلو كان هناك من نيّة يمكن للإدارة التنفيذية أن تفتح المجال لأصحاب الفنادق والشقق الشاغرة الراغبين بتشغيل منشآتهم لاستقبال بالتسجيل، على أن يتم توزيع النازحين فيها وفقاً لبدلات تضمنها أو تؤمنها الدولة».
لا شكّ أن أي دولة في العالم سوف ترتبك بداية في إدارة تدفّق هذا الكمّ من النازحين بسرعة، ولكن ما يحصل في لبنان يتجاوز هذه الفرضية. تتعامل الدولة اللبنانية مع هذه الأزمة كما لو أنها مركز اتصالات أو مجرّد وسيط بين مواطنيها وبين منظّمات المجتمع المدني المحلّي والمنظّمات الدولية وما يُسمّى بـ«المجتمع الدولي»، فترتّب ما يصلها من بيانات وتنسّق بالحدّ الأدنى عمليّات توزيع المساعدات، في تسليم واستسلام مُطلقين لواقع تزعم فيه ضعفها السياسي وعجزها المالي. تعيش الدولة في لبنان مرحلة انفراط شبيهة ربّما بتلك التي خبرها اللبنانيون في فترة الحرب الأهلية.