لبنان في الحرب: لا حالة طوارئ ولا تعبئة عامّة
أعلنت الحكومة الإسرائيلية المُصغّرة، مساء أمس الإثنين، حالة «الوضع الخاص» في فلسطين المحتلّة كافة حتى 30 أيلول/سبتمبر الحالي، وذلك بعد يومٍ من القتال الأكثر كثافة بين إسرائيل وحزب الله منذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي، والتخوّف الإسرائيلي من «وقوع هجمات واسعة في أنحاء البلاد كافة» على ما أوردت الصحف الإسرائيلية.
وتسمح حالة «الوضع الخاص» لقيادة الجبهة الداخلية في دولة الاحتلال بـ«ممارسة صلاحيّاتها بشكل مُستمرّ وتكييف سلوك إسرائيل مع الوضع الطارئ والخطير المُستجد»، وذلك من خلال توسيع صلاحيّات الجيش الإسرائيلي في تحديد الإجراءات والتعليمات التي يفترض بالإسرائيليين اتباعها تحوّطاً من أي خطر، وحظر التجمّعات العامّة ووقف التعليم والنشاطات كافة والبقاء في الملاجئ، فضلاً عن إصدار أي تعليمات إضافية من شأنها إنقاذ الأرواح.
شنّت إسرائيل أمس أكثر من 1,100 غارة على خمس دفعات، وقتلت على أثرها أكثر من 558 إنساناً وأوقعت 1,835 جريحاً ما جعل يوم أمس أكثر الأيام دموية في لبنان منذ بداية الحرب
أيضاً، يوسِّع قرار «الوضع الخاص» الصادر صلاحيّات الوزراء وكبار المسؤولين، إذ يسمح لوزير العمل بزيادة ساعات العمل اليومية، وفرض العمل في عطلات نهاية الأسبوع، واجبار أي شخص في سنّ العمل على الحضور الإلزامي إلى المؤسّسات الحيوية والأساسية التي تقدّم خدمات وجودية مثل المياه والغذاء والكهرباء والصحّة والصرف الصحّي والاتصالات والبريد. وينصّ القرار أيضاً على منع مزوّدي الكهرباء من القطاع الخاصّ قطع الكهرباء عن أي شخص عاجز عن دفع فواتيره، ويخوّل المصرف المركزي الإسرائيلي صلاحية منع المصارف التجارية من تقييد الحسابات المصرفية لأي شخص بسبب الشيكات المرفوضة، ويسمح لوزير الاتصالات الحدّ من خدمات الاتصالات في مناطق مُعيّنة ووضع أنظمة الاتصالات تحت سيطرة القوى الأمنية.
وفي الشهر الماضي، بدأت السلطات الإسرائيلية في الشمال بإقامة منظومة طوارئ هدفها الرئيس التحوّط والاستعداد لأي توسّع في الحرب على الجبهة الشمالية، وقضت بنقل آلاف السلال من المواد الغذائية إلى مستودعات الطوارئ ووضعتها بأمرة السلطات هناك ليتم استخدامها وفقاً للحاجات الفعلية في حال توسّع الحرب، وبالتالي منع احتكارها أو حرمان فئات من الناس منها. أيضاً، طوّرت قيادة الجبهة الداخلية تقنية جديدة تسمح للمستوطنين بتلقّي رسائل على هواتفهم المحمولة في خلال الأحداث الطارئة، مثل إطلاق القذائف باتجاه إسرائيل. وإلى ذلك، بيّنت الكثير من المشاهد المنقولة عن وسائل الإعلام الإسرائيلية الاستعدادات التي تقام تحوّطاً لتوسّع الحرب وبيّنت عن وجود ملاجئ مُجهّزة بالكامل وقادرة على الصمود في حال استمرّت الحرب طويلاً، فضلاً عن مستشفيات ضخمة تحت الأرض.
من الواضح أن إسرائيل، بوصفها دولة استعمار استيطاني واحتلال، قرّرت منذ نشأتها بناء اقتصاد يحميها وتجهيز مجتمعها للصمود في مواجهة أي خطر مُحتمل يهدّد وجودها. وهذا يغيب بالكامل عن الدولة اللبنانية التي تواجه خطراً دائماً من العدوانية الإسرائيلية.
عموماً، تثير استعدادات الحرب على الجانب الإسرائيلي الكثير من الأسئلة عن تمنّع الحكومة اللبنانية، التي انعقدت أمس فيما كانت إسرائيل تغير على مئات المناطق اللبنانية في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت، عن إعلان حالة الطوارئ والتعبئة العامّة بالحدّ الأدنى.
لقد شنّت إسرائيل، أمس، في أقل من 24 ساعة، أكثر من 1,100 غارة على خمس دفعات، وقتلت على أثرها أكثر من 558 إنساناً، بينهم 50 طفلاً و94 امرأة و4 مسعفين، وأوقعت 1,835 جريحاً، ما جعل يوم أمس أكثر الأيام دموية في لبنان منذ بداية الحرب على الجبهة اللبنانية في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، لا بل الأشدّ عنفاً منذ عدوان العام 2006 على لبنان. كما تسبّبت الغارات الوحشية بموجة نزوح كثيفة، أسفرت عن زحمة خانقة مستمرّة لليوم على طرق الهروب من القصف، وهي موجة تذكّر بالنمط العدواني المباغت والوحشي والعنيف الذي استخدمته إسرائيل منذ بدء الحرب على غزّة، كما يعيد إلى ذاكرة اللبنانيين مآسي النزوح والذل في الحروب السابقة التي عاشوها.
منذ تشرين الثاني/الماضي، ما انفكّت الحكومة اللبنانية تفاخر بإطلاقها «أول خطّة طوارئ استباقية» لأي حرب موسّعة في لبنان. لكن يفيد عاملون في إغاثة النازحين في المدارس التي خصّصتها الحكومة اللبنانية لإيوائهم، أن «هذه المواقع لم تكن مُجهزّة حتّى بالبطانيات أو مواد النظافة أو الحُصص الغذائية، ما دفع اللبنانيين في المناطق التي استقبلت النازحين إلى تأمين الأكل من الأفران المحيطة أو توفير بعض المُستلزمات الموجودة لديهم».
تمتلك الدولة اللبنانية بعض الأدوات التي تتيح لها إدارة أحوال الناس في ظروف خطيرة مثل الحروب. بالإضافة إلى تكدّس 5.7 مليار دولار في حساباتها لدى مصرف لبنان، ترعى عملها وتنظّمه وتسهّله مجموعة من النصوص القانونية
تشير المعلومات العسكرية والدبلوماسية المتداولة إلى احتمال توسّع الحرب أكثر، وأن تطول أكثر، وأن تصبح أكثر وحشية ودموية، بالتالي توجد احتمالات واسعة لانقطاع الإمدادات الأساسية بسبب إمكانية تقطع أوصال البلاد نتيجة القصف والدمار والحصار، فضلاً عن احتكار التجّار للسلع الأساسية والحيوية في ظل تمنّع الدولة عن اتخاذ التدابير اللازمة لتخزين القمح والوقود والدواء وتأمين المواد الأساسية للصمود في الحرب.
لا تزال الحكومة اللبنانية تنأى بنفسها عن الحرب القائمة، وتتقاعس عن تحمّل مسؤولياتها وتأدية واجباتها بحجّة عدم توافر التمويل وضعف القدرة على العمل. لكن الوقائع تشير إلى العكس تماماً. إذ تمتلك الدولة اللبنانية بعض الأدوات التي تتيح لها إدارة أحوال الناس في ظروف استثنائية وخطيرة مثل الحروب، إذ بالإضافة إلى تكدّس 5.7 مليار دولار في حساباتها لدى مصرف لبنان، ترعى عملها وتنظّمه وتسهّله مجموعة من النصوص القانونية المُشرّعة منذ عقود. يقول القانوني نزار صاغية إن «لا جديد فيما يتعلّق بدور الدولة، فكما أنها غير موجودة في الأوضاع العادية، تغيب أيضاً عن الوجود في الأوضاع غير العادية، على عكس العدو الذي يملك دولة قويّة وحاضرة. وهذا بذاته دليل على الدور المتصوّر للدولة والنهج السائد والذي تبرز آثاره في وقت الحروب والأزمات. لقد مرّت شهور على صدور خطّة الطوارئ الحكومية ولكن تبيّن في الأمس أنها كارثية، إذ لم تكن هناك طرق آمنة أو منظّمة لهروب المواطنين من القصف. والواقع أنه بدلاً من تطبيق القوانين أو السماح للمؤسسات الرسمية بالقيام بدورها يتمّ تقويض هذا الدور من خلال إنشاء اللجان المؤقتة التي تحافظ على نفوذ قوى الأمر الواقع بدلاً من تقوية دور الدولة».
تنصّ المادة الأولى من المرسوم الاشتراعي رقم 52 الصادر في العام 1967، والخاص بإعلان حالة الطوارئ أو المنطقة العسكرية، على إمكانية إصدار مرسوم عن مجلس الوزراء يعلن «حالة الطوارئ أو المنطقة العسكرية في جميع الأراضي اللبنانية أو في جزء منها عند تعرّض البلاد لخطر داهم ناتج عن حرب خارجية أو ثورة مُسلّحة أو أعمال أو اضطرابات تهدّد النظام العام والأمن أو عند وقوع أحداث تأخذ طابع الكارثة».
وبموجب حالة الطوارئ، تتولّى السلطة العسكرية العليا صلاحية المحافظة على الأمن وتوضع تحت تصرّفها جميع القوى المسلّحة لتمكينها من القيام بمهامها. وعلى الرغم من الإشكاليات الكثيرة التي يثيرها إعلان حالة الطوارئ على الحرّيات العامّة ومخاطر عسكرة الحياة المدنية، لكنها قد تكون من الآليّات التي تخوّل الدولة ممارسة صلاحيات غير اعتيادية تستلزمها حالة الكارثة أو الحرب لتنظيم عملية إنقاذ الضحايا وإسعاف المنكوبين وإجلاءهم.
فبموجب المادة الرابعة من المرسوم الاشتراعي 52 يحقّ للسلطة العسكرية العليا «(...) مصادرة الأشخاص والحيوانات والأشياء والممتلكات (...)، وفرض الإقامة الجبرية على الأشخاص الذين يقومون بنشاط يشكّل خطراً على الأمن واتخاذ التدابير اللازمة لتأمين المعيشة لهؤلاء الأشخاص ولعائلاتهم، وإعطاء الأوامر في إقفال قاعات السينما والمسارح والملاهي ومختلف أماكن التجمّع بصورة مؤقتة، ومنع تجوّل الأشخاص والسيّارات». كما تنصّ المادة الثانية من المرسوم الاشتراعي رقم 102 الصادر في العام 1983، أو قانون الدفاع الوطني، على التدابير اللازمة عند «تعرّض الوطن أو جزء من أراضيه أو قطاع من قطاعاته العامّة أو مجموعة من السكان للخطر» من خلال إعلان «حالة التعبئة العامّة للحدّ من تعرّض السكّان والمنشآت الحيوية للخطر، وتأمين عمليّات التعبئة واستخدام القوى المسلّحة». وبحسب البند الثالث من المادة نفسها يمكن أن تتضمّن هذه المراسيم أحكاماً خاصّة تهدف إلى «فرض الرقابة على مصادر الطاقة وتنظيم توزيعها، وفرض الرقابة على المواد الأوّلية والإنتاج الصناعي والمواد التموينية وتنظيم استيرادها وخزنها وتصديرها وتوزيعها، وتنظيم ومراقبة النقل والانتقال والمواصلات والاتصالات، ومصادرة الأشخاص والأموال وفرض الخدمات على الأشخاص المعنويين والحقيقيين». كما تسمح المادة الثامنة من المرسوم نفسه للمجلس الأعلى للدفاع أن يتّخذ إجراءات لازمة تتناول قضايا أساسية مثل «الخدمة العسكرية والتجنيد الإجباري، والتعبئة التربوية، وتعبئة النشاط الاقتصادي بفروعه الزراعية والصناعية والمالية والتجارية، وتعبئة النشاط الصحّي والطبّي، وتعبئة عامّة للدولة والمواطنين خصوصاً الدفاع المدني».
من شأن هذه الصلاحيات أن تسمح لو استخدمت بفعالية أن تنقذ الأرواح في خلال الكوارث والحروب، لكن من يتحكّمون بالدولة اللبنانية وأجهزتها يتنصّلون كما الحال دائماً من مسؤوليّاتهم في
من شأن هذه الصلاحيات أن تسمح لو استخدمت بفعالية، ومن دون الأهداف القمعية، أن تنقذ الأرواح في خلال الكوارث والحروب، لكن من يتحكّمون بالدولة اللبنانية وأجهزتها يتنصّلون كما الحال دائماً من مسؤوليّاتهم في التصدّي لتداعيات الحرب، ملقين بالمسؤولية على المتطوّعين والناجين. يقول الأستاذ الجامعي جميل معوّض إن «حالة الطوارئ في لبنان تنفّذ تاريخياً من قبل منظّمات المجتمع المدني، فأمور الناس وأحوالهم متروكة للجمعيات، نتيجة عدم وجود دولة ترعى مصالحهم بالأساس. وهذا ما يظهر جلياً في الوقت الحالي من خلال عدم أخذ أي من الأطراف خطّة الطوارئ المزعومة على محمل الجدّ، سواء المواطنين أو الأطراف المعنية، وهو ما يدفعهم كما العادة إلى محاولة تدبّر أمورهم بأنفسهم أو اللجوء إلى القوى الفاعلة من خارج مؤسسات الدولة».
شهد العام 2020، إعلان التعبئة العامّة في 15 آذار/مارس 2020 في خلال تفشّي جائحة كورونا، وحالة الطوارئ الجزئية في بيروت في 7 آب/أغسطس من العام نفسه بعد انفجار مرفأ بيروت. لكن تُجمع الكثير من التحليلات أن الحكومة اللبنانية هدفت من خلال هذه القرارات إلى قمع الحركات الاحتجاجية التي عمّت الشوارع اللبنانية بعد انهيار القطاع المصرفي في خريف العام 2019، بحجّة الوباء حيناً والانفجار والتحقيق فيه تارة أخرى. وفي حين فرضت منع التجوّل على جميع المقيمين والمقيمات، تمنّعت عن استخدام الصلاحيات الأخرى التي يتيحها لها قانونيْ «الدفاع الوطني» و«حالة الطوارئ» مثل مصادرة السلع الأولية والمنشآت الحيوية لإدارة الكوارث وتنظيم عمليّات الإنتاج في القطاعات كافة وتأمين سبل عيش الناس، التي بقيت خاضعة لمصالح القطاع الخاص.
يقول صاغية إن «نقاشاً برز في العام 2016، في خلال أزمة النفايات، وطرحت فكرة إعلان حالة الطوارئ لكي يتمكّن الجيش من مصادرة أدوات وآليّات تسمح بلمّ النفايات ومعالجتها بعد انتهاء عقد سوكلين، إلا أن المُمسكين بالسلطة اعتبروا الأمر تعدّياً على القطاع الخاص الذي كان بالأساس من ركائز المشكلة». وهذا ما يتكرّر اليوم، ولكن مع فارق أنّ شيئاً فعلياً لم يُعلن لمواجهة الحرب، في تثبيت واضح لانعدام أي شكل من أشكال الدولة يمكن لأي مقيم أو مقيمة في لبنان أن يركُن إليه، لتبقى أموره وأحواله مرهونة للمصالح الخاصّة وأسيرة الارتهان.
يستبعد معوّض إعلان حالة الطوارئ على الرغم من اشتداد الحرب، لأن ذلك يعني «تسليم الشؤون المدنية إلى الجيش، وما قد ينجم عن ذلك من دور مدني وسياسي، وهذا ما لا يرغب به أحدٌ من الممسكين بالسلطة لسببين رئيسين، أولهما سياسي ومُرتبط بأن قائد الجيش هو من المرشّحين المحتملين لرئاسة الجمهورية، والثاني متعلّق بأي دور مُحتمل للمؤسّسة العسكرية في الجنوب بعد انتهاء الحرب وعدم الرغبة في خلق حساسيّات مع حزب الله هناك». لكن الأمر لا يرتبط فقط بالحسابات السياسية للسلطة في لبنان، بحسب معوّض، بل يتعلّق أيضاً وأساساً بـ«الاقتصاد السياسي الذي يحكم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في لبنان، والمصالح المرتبطة به، والدور المفترض للدولة أو الهامش الممنوح لها من أجل تنظيم هذه العلاقات بعيداً من مصالح القطاع الخاص اللاهثة وراء الربح، الذي يزيد ويسهل انتزاعه في خلال الأزمات، أو بما يهدّد سلطة الأحزاب المحلّية القائمة على استخدام حاجات الناس من أجل تعزيز نفوذها بدلاً من تثبيت هذه الحاجات كحقوق مُصانة من خلال مؤسسات الدولة».
وبالفعل هذا ما شهده لبنان في خلال فترة تفشّي جائحة كورونا إذ على الرغم من إصدار الحكومة جملة قرارات لضبط تفشّي الجائحة مركزياً، برز تسابق بين الأحزاب المحلّية لتقديم مساعدات بخسة للناس مثل «قناني السبيرتو» أو مواد النظافة الشخصية. وتكرّر كذلك بعد انفجار المرفأ، عندما حدث خلاف داخل الحكومة ورفضت الأحزاب تسليم عملية توزيع المساعدات إلى الجيش، أو من خلال مؤسسات الدولة، على اعتبار أن في ذلك تقويض لمبدأ حاجة الناس إليها وبالتالي المسّ بنفوذها. وتكثر الأمثلة، ولعل أجدّها بالذاكرة أزمات توافر الوقود والأدوية والقمح بعد الانهيار النقدي في العام 2019، والتي جعلت الناس أسرى مصالح التجّار والمستوردين وبالتالي حرمت شرائح واسعة من حقوقهم البسيطة، فضلاً عما يحصل منذ 11 شهراً وقت اندلاع الحرب في الجنوب ومَصاب اللبنانيين هناك المستبعدين من أولويات الدولة.