الدولة اللبنانية «غير المسؤولة» عن مواطنيها
قفز عدد النازحين في لبنان إلى 82,012 نازحاً ونازحة بحلول التاسع من كانون الثاني/يناير الحالي نتيجة تصاعد حدّة الاعتداءات الإسرائيلية على جنوب لبنان. يشكّل هؤلاء نحو 1.4% من مجمل سكّان لبنان (المُقدّرين)، ولا يتجاوز 8,2% من عدد النازحين المُحتملين الذي توقعته «خطّة الطوارئ» الحكومية في بداية الحرب. من هنا، قد يتهيّأ للبعض أن بمقدور الدولة التعامل مع هذه النسبة المُنخفضة من النازحين مهما كانت أوضاعها المالية أو ظروفها السياسية، إلا أن التجربة مع دخول الحرب على جبهة الجنوب شهرها الرابع تبيّن أن الدولة لا تتحرّك وفق أي خطّة ولا تستبق أي أحداث، وأنها في حالة أشبه بالموت السريري.
لا شك أن نشوء هذه الأزمة مرتبط بالحرب الإسرائيلية واستمرارها، ولكن طريقة تعامل الحكومة اللبنانية معها حدّدته حتى الآن المنظّمات الدولية والأحزاب السياسية. تبيّن أرقام منظّمة الهجرة الدولية أن النسبة الأكبر من النازحين (98%) وضِعت أمام خيار أوحد، لا بديل له، قضى بتدبّرها أمورها بنفسها. ففي حين يمتلك 1% من النازحين بيوت ثانوية في مناطق أخرى ما جعل تجربة النزوح أقل وطأة عليهم، اضطر 80% من النازحين للانتقال إلى منازل أقارب لهم، وهو ما أضاف أعباءً على الأسر المضيفة والنازحين أنفسهم الذين اضطروا للتخلّي عن مصادر أرزاقهم ولم يحصلوا إلّا على مساعدة نقدية لمرّة واحدة فقط طوال الأشهر الثلاثة الماضية. واضطر 17% من النازحين لاستئجار منازل في مناطق بعيدة من مواقع الاشتباك ووضعوا تحت أعباء تضخّم أسعار الإيجارات بنسب وصلت في بعض المناطق إلى 650% بحسب مسح بالعيّنة أجراه «ستوديو أشغال عامة»، وبالتالي اضطروا لاستنزاف مدّخراتهم مع انقطاع جزءٌ منهم عن أعمالهم في مناطق سكنهم الأساسية.
أمّا النسبة الباقية من النازحين (2%) فقد نُقِلت مسؤولية تأمين حاجاتها إلى المنظّمات الدولية بحكم انتقالهم إلى 14 مأوى جماعياً. يبلغ عدد هؤلاء نحو 1,101 فرد، وهم يعيشون حالياً من المساعدات التي تقدّمها الجمعيات الأهلية والمنظّمات الدولية، وهي عبارة عن وجبات غذائية وبطانيات وملابس وبعض الخدمات الصحّية الأساسية.
يبيّن مسار الأمور أن الدولة اللبنانية لم تغيّر نهجها في التملّص من أي مسؤولية، فهي لم تعترف أن لبنان في حالة حرب على الرغم من اشتعال جبهة الجنوب منذ اليوم الثاني لبدء الحرب على غزّة، وتركت مهمّة مسح الأضرار وتعويض الناس وتأمين حاجاتهم للأحزاب المحلية والمنظّمات الدولية
وفي خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب، أمّنت المنظّمات الدولية بحسب مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية نحو 61 ألف بطانية و28 ألف قطعة ثياب، ووزّعت نحو 242 ألف وجبة غذائية على المآوي الجماعية في صيدا وصور، وحصل نحو 80 ألف شخص (16 ألف أسرة) على مساعدة نقدية لمرّة واحدة. لا تطال هذه المساعدات - على أهمّيتها - كلّ الحاجات، ومن الواضح أنها لا تشمل كلّ النازحين، عدا أنها لا تتعامل مع الأضرار الاجتماعية الاقتصادية والمعيشية التي تطال شريحة من المجتمع اللبناني. تشير بيانات وزارة الزراعة التي نقلها مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية عن تدمير نحو 300,000 مزرعة حيوانات ودواجن، واحتراق نحو 462 هكتاراً من الأراضي الزراعية، وانقطاع العديد من النازحين عن أعمالهم بسبب نزوحهم وافتقارهم لمصدر رزقهم، وإغلاق 50 مدرسة في المناطق الحدودية واستبدالها بـ10 مدارس فقط في أماكن النزوح… وهذا كلّه يشير إلى حجم الخسائر التي بقيت خارج اي بحث حتى الآن.
تشكّل هذه الجولة من الحرب اختباراً محدوداً ومحصوراً لما جرى تسويقه على أنه أول «خطّة استباقية» تضعها حكومة لبنانية على الإطلاق في مواجهة احتمالات الحرب وامتدادها جغرافياً وزمنياً. لكن على عكس ما يتم الترويج له، يبيّن مسار الأمور أن الدولة اللبنانية لم تغيّر نهجها في التملّص من أي مسؤولية، فهي لم تعترف أن لبنان في حالة حرب على الرغم من اشتعال جبهة الجنوب منذ اليوم الثاني لبدء الحرب على غزّة، وتركت مهمّة مسح الأضرار وتعويض الناس وتأمين حاجاتهم للأحزاب المحلية والمنظّمات الدولية.
أقرّت الحكومة «خطّة الطوارئ» في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 2023، أي بعد مرور أكثر من ثلاثة أسابيع على اندلاع الحرب ووقوع ما لا يقل عن 70 شهيداً وإصابة نحو 300 شخصاً ونزوح ما لا يقل عن 40 ألف آخرين، بحسب مكتب الأمم المتّحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية. وضِعت الخطة على أساس نتائج عدوان تموز 2006، إذ تم افتراض أن الحرب سوف تؤدّي إلى تهجير مليون لبناني ولبنانية لفترة 45 يوماً واستضافة 200,000 منهم في مراكز إيواء، في حين أن تهديدات العدو الإسرائيلي كانت تتكلّم عن تحويل بيروت إلى غزّة، وهو سيناريو أفظع من الذي اختبره اللبنانيون واللبنانيات في خلال عدوان تموز 2006. وفي حين قدّرت الحكومة كلفة تنفيذ الخطة بنحو 120 مليون دولار، إلا أنها بقيت من دون تمويل نتيجة تسليم الحكومة والبرلمان برفض المصرف المركزي تمويلها تحت ذريعة حماية ما تبقّى من أموال المودعين. وأكثر من ذلك، لم تتحرّك الدولة إلا بعد مطالبتها من الأحزاب المحلّية بالقيام بواجباتها، وانحصر تدخّلها بصرف مبلغ 300 مليار ليرة لبنانية لمجلس الجنوب من أجل دفع تعويضات للمتضرّرين من الحرب.
يقول وزير البيئة ناصر ياسين، المُكلّف من الحكومة اللبنانية بالتنسيق بين لجنة الكوارث الوطنية والمنظّمات الدولية، إن «الخطّة لم تطبّق بالأساس لأن ما أنتجته هذه الحرب مختلف عن السيناريو التي بُنيت عليه. فالحرب بقيت محصورة في الجنوب ولم تتمدّد العمليات العدائية ولم تسفر عن أعداد كبيرة من الإصابات، كما بقي عدد النازحين أقل مما هو متوقّع مع فارق أن فترة نزوحهم كانت أطول مما هو متوقّع. وبسبب عدم توفير التمويل المحلّي الكافي، تركّز الاعتماد بشكل أساسي على برنامج الأغذية العالمي واليونيسف لتوفير المساعدات الغذائية والنقدية والإغاثية والصحّية، وانحصر دور الدولة بتأمين العلاقة بين المنظّمات الإغاثية والجهات المحلّية».
يبدو واضحاً من هذا الاختبار المحدود أن الدولة تتملّص حتى عن أدوارها البسيطة التي كانت لا تزال تمارس بعضاً منها حتى أمد قريب، وحصرت نفسها بوظيفة التنسيق بين المجتمعين المحلّي والدولي، وهذا يعني أنه في حال كانت أزمة النزوح الحالية مضبوطة، فإن الكارثة الأكبر لم تقع بعد بل هي مقبلة في حال توسّعت الحرب
لا تكمن المشكة الوحيدة بأن الخطة لم تكن استباقية على عكس ما روِّج لها، ولم تتعامل مع الواقع الفعلي والتهديدات الماثلة، ولم يؤمن لها التمويل بل رُبِطت بالحصول على تمويل من المنظّمات الدولية، وبأنها افتقرت للمواصفات البديهية لأي خطّة وأهمّها التعامل مع سيناريوهات مختلفة لما قد تؤول إليه الأمور، فهذه «ممارسات» معتادة من الدولة اللبنانية المتقاعسة عن حماية مجتمعها وتلبيه حاجاته، كما أنها متوقّعة في كثير من الأحيان كنتيجة عملية لشكل الدولة اللبنانية نفسه القائم على ائتلاف طائفي يستخدم موارد الدولة للتوزيع وتأمين الحاجات من خلال الأحزاب الطائفية.
تكمن المشكلة بأن تجربة الأشهر الثلاثة الأخيرة هي التعبير الصريح عن «تفكّك الدولة وتعطّل مؤسساتها»، على ما يقول المتخصّص بشؤون التنمية والسياسات الاجتماعية ومكافحة الفقر أديب نعمه، «وتفكّك الدولة لا يمكن لأي مؤسسة دولية أو جهة محلّية أن تعوّضه». يقدّم نعمة تقييمه لكيفية التعامل مع الأزمة، ويقول «لا شك أن وضع خطّة طوارئ للتعامل مع أزمة اللجوء ضروري، لكن الأهم هو استباق المشكلة ومنع حصولها وليس تجاهلها والتعامل فقط معها عند وقوعها. فوجود ما سمّي بخطة طوارئ لا يعفي الدولة ومؤسّساتها من مسؤولية اتخاذ الإجراءات السياسية الوقائية، والنشاط داخلياً وخارحياً لمنع تطوّر الحرب، وممارسة الضغط لكبح الجموح المجنون للعدو الإسرائيلي وحكومته اليمينية المتطرفة. وهو أحد أهم وظائف أي دولة ولكنه مفقود للأسف، إذ يبدو أن رد الفعل السياسي والوعي بكيفية التعاطي مع هذه المخاطر الحقيقية متروك لأطراف غير الدولة للتصرّف به. أما الأمر الثاني الذي لا يمكن إغفاله فهو متعلق بالموارد المالية والبشرية والمؤسّسية للتعامل مع الأزمة. فهل يمكن تخيل نجاح خطة طوارئ وامتصاص هذه الأزمة وما يمكن أن تتطوّر إليه في حال توسّعت الحرب، من دون وجود مؤسّسات دولة وموظّفين يتقاضون رواتب جيدة؟ لا يجب التساهل مع فكرة أن تتولّى البلديات بالتنسيق مع المنظمات الدولية تدبير الأمور بالتي هي أحسن. فهذا لا يكفي ولا يحلّ مكان الدولة. ولا يجب أن نعفي الدولة من مسؤوليّتها عن تفعيل دورها. فوضع النازحين وحاجاتهم كما باقي المواطنين غير معروف ولا يمكن الاعتماد على معلومات البلديات وتصاريح الأحزاب والتقارير الإعلامية، لا بد من وجود أجهزة تابعة للدولة تقيّم الواقع وترصده وتتعامل معه وفق الحاجات المختلفة للناس».
يبدو واضحاً من هذا الاختبار المحدود والمحصور لتداعيات الحرب أن الدولة اللبنانية تتملّص حتى عن أدوارها البسيطة التي كانت لا تزال تمارس بعضاً منها حتى أمد قريب، ولو بتوكيلها للأحزاب الطائفية، وحصرت نفسها بوظيفة التنسيق بين المجتمعين المحّلي والدولي، وهو ما يعني أنه في حال كانت أزمة النزوح الحالية مضبوطة، فإن الكارثة الأكبر لم تقع بعد بل هي مقبلة في حال توسّعت الحرب. وهو أمر محتمل في أي حرب ولا يوجد ما يضمن عكسه.