Preview انفاق غزة

الملح في كلِّ مكان

في استراتيجية وصفها المقرّر الخاص للأمم المتّحدة المعني بحقوق الإنسان بأنها شبيهة بتمليح الرومان لأرض قرطاج، طرحت الخطّة الإسرائيلية لإغراق أنفاق غزّة بمياه البحر تهديداً خطيراً أمام القطاع الذي يعاني أصلاً من ضغوط مائية، فهذه العمليّات من شأنها تلويث التربة ونشر الأمراض وتدمير الزراعة. وبذلك يخلق الاحتلال ظروفاً مثالية لممارسة الإبادة الجماعية بحقّ الفلسطينيين بأسلحة العطش والمجاعة والمرض.

يزعم جيش الحرب الإسرائيلي أنّ تدمير شبكات أنفاق غزة أمر لا بدّ منه للقضاء على حركة حماس، التي تشكّل خطراً وجودياً حسب الجيش الصهيوني. ومن الخطط التي طرحها لتحقيق هذا الهدف إغراق الأنفاق بمياه البحر الملوّثة، وكشفَ جيش الحرب الإسرائيلي عن هذه الخطط في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر. وبعد مرور شهر تقريباً على الإعلان، بدأت وسائل الإعلام تنشر تقارير تفيد بأنّ عمليات الإغراق انطلقت بالفعل، وأن جيش الاحتلال يستخدم ما لا يقل عن خمس مضخّات مياه بالقرب من مخيّم الشاطئ في مدينة غزّة لضخّ مياه البحر وإغراق الأنفاق بها. 

جيش الاحتلال يستخدم ما لا يقل عن خمس مضخّات مياه بالقرب من مخيّم الشاطئ في مدينة غزّة لضخّ مياه البحر وإغراق الأنفاق بها. 

ليست هذه العملية إلّا خطوة أخرى من سلسلة خطوات يتّخذها الاحتلال لجعل غزّة مكاناً غير قابل للعيش، وذلك بتدمير بنيتها التحتية، وتخريب مواردها المائية، وأراضيها الزراعية.

إغراق الأسرى الإسرائيليين أيضاً

قد يتفاجأ كثيرون في الجانب الإسرائيلي بقرار إغراق الأنفاق، فسلامة أسرى السابع من تشرين الأول/أكتوبر كانت مسوّغاً أساسياً للعدوان على غزّة. وقد صرّح الجيش الصهيوني والأسرى أنفسهم أنّ عدداً منهم محتجز في تلك الأنفاق. فكيف تبرّر سلطات الاحتلال قرارها الذي قد يؤدّي إلى إغراق بقية الأسرى الموجودين لدى حماس؟

في الحقيقة، غيّرت حكومة الاحتلال خطابها من «استعادة الأسرى» إلى «القضاء على حماس بأي وسيلة وبأي ثمن». وأحد الأثمان هنا قد يكون أرواح الأسرى المتبقين. غير أنّ هذا القرار أثار نقمة لدى الرأي العام في الأراضي المحتلّة. ففي تسجيلات نشرتها المقاومة الفلسطينية للأسرى الإسرائيليين المحرّرين، عبّر هؤلاء عن غضبهم إزاء الخطر الذي يتعرّض له الأسرى بسبب القصف الإسرائيلي. وقد واجهت إحدى الأسيرات نتنياهو واتهمته بالإهمال قائلة: «أنتم تتكلّمون عن ضخّ مياه البحر في الأنفاق؟ أنتم تقصفون مسارات الأنفاق في النقاط التي يتواجد فيها الأسرى. بناتي يسألنني عن أبيهم وعليّ أن أقول لهم إنّ الرجال الأشرار لا يريدون إطلاق سراحهم». ولكن هذا التكتيك الإسرائيلي لا يقتصر خطره على حياة الأسرى، فهو يطرح تهديدات كارثية على حياة الفلسطينيين المقيمين في غزّة.

تكتيكات قديمة، أهداف جديدة، والضرر واحد

إن إغراق أنفاق غزّة ليس بالمسألة الجديدة. فقد سبق للحكومة المصرية أن أقدمت على هذه الخطوة في أيلول/سبتمبر 2015، بداعي الحاجة إلى وقف تهريب الأسلحة عبر الأنفاق عن طريق معبر رفح. ومع حلول تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه، كانت السلطات المصرية قد بدأت بتدمير الأنفاق بغمرها بمياه الصرف الصحّي بدايةً، ثمّ بمياه البحر الأبيض المتوسط لاحقاً، غير آبهة بالمخاطر البيئية المُحتملة التي حذّرت منها المنظّمات غير الحكومية والمزارعون المحلّيون.

إغراق أنفاق غزّة ليس بالمسألة الجديدة. فقد سبق للحكومة المصرية أن أقدمت على هذه الخطوة في 2015، بحجة وقف تهريب الأسلحة عبر الأنفاق

وبعد أيام من بدء عمليّات الغمر، كشفت بلدية رفح عن حالات عدّة من تآكل التربة على طول المنطقة الحدودية، ما ألحق أضراراً جسيمة بالبنية التحتية، بما فيها الطرق الواقعة في المنطقة، والجدار القائم بين فلسطين ومصر، وبعض منشآت الطاقة والكهرباء. كما أثّرت هذه التآكلات في التربة بفعل الإغراق على العديد من الآبار في مدينة رفح، وأحدثت تشقّقات فيها، ما سمح للمياه الجوفية الملوّثة بالتغلغل إلى مياه الآبار النظيفة.

ومن المتوقع أن يؤدي ضخّ المياه الجاري حالياً على نطاق واسع إلى إحداث أضرار واسعة تطال البنية التحتية في غزّة التي دمّرها بالفعل القصف العشوائي. ويحذّر الخبراء من أن أضرار ضخّ مياه البحر في الأنفاق لن تقتصر على تشقّق الآبار وتآكل التربة، بل ستكون له تداعيات بيئية وخيمة على المدى البعيد.

مسمار آخر في نعش الموارد المائية في  غزّة

يجدر التأكيد على مدى اتساع وعمق الكوارث البيئية المحتملة الناجمة عن العملية الإسرائيلية الحالية. وعلى عكس العملية المصرية التي تركّزت على حدود رفح، فإن العملية التي تنفّذها قوات الاحتلال الإسرائيلي تهدف إلى تدمير شبكة الأنفاق في غزة بالكامل. وتشير التقديرات إلى أن هذه الشبكة كانت تحتوي في العام 2021 على «1,300 نفق وتغطّي أكثر من 300 ميل تحت غزّة، بعمق يصل إلى 230 قدماً». ووفقًا لهذه الأرقام، سيتطلّب ملؤها نحو 1.5 مليون متر مكعب من المياه. الفيضانات الاصطناعية ليست تكتيكاً جديداً. تشمل الأمثلة السابقة غارة دامبوستر التي نفذّها الإنكليز في العام 1943، واستهدفت السدود الألمانية لإغراق وادي الرور وتدمير محطّتين ألمانيتين للطاقة. وكان آخرها تدمير سدّ كاخوفكا في أوكرانيا من قبل القوات الروسية. ومع ذلك، فإن إغراق البنى الموجودة تحت الأرض بالمياه الملوّثة، على النطاق الذي يقوم به جيش الاحتلال الإسرائيلي، لم يحدث من قبل. لذلك، لا يمكن إلّا التكهّن بعواقبها.

يشكّل ضخّ مياه البحر في أنفاق غزة تهديداً للقطاع الذي يعاني أصلاً من ضغوط مائية. في العام 2019، أشارت التقديرات إلى أن سكّان غزّة يواجهون بالفعل خطر العطش

يشكّل ضخّ مياه البحر في أنفاق غزة تهديداً للقطاع الذي يعاني أصلاً من ضغوط مائية. في العام 2019، أشارت التقديرات إلى أن سكّان غزّة يواجهون بالفعل خطر العطش. فقد بلغ متوسط استهلاك المياه اليومي في غزة 83.1 لتراً، وهو أقل من الاستهلاك اليومي الموصى به والبالغ 100 لتر، وأقل بكثير من متوسط الاستهلاك المسجّل في الأراضي المحتلة والذي يتراوح بين 240 و300 لتر. وفي العام 2021، قدّر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان أن «97% من مياه غزّة باتت ملوّثة، وقد تفاقم الوضع بشكل كبير بسبب أزمة حادّة في الكهرباء تعيق تشغيل آبار المياه ومحطّات معالجة مياه الصرف الصحّي، وتؤدّي إلى تصريف 80% تقريباً من المياه الآثنة في غزّة إلى البحر، في حين يتسرّب 20% منها إلى المياه الجوفية». وما يزيد الوضع سوءاً قيام الاحتلال بقطع الوقود عن القطاع، متسبّباً في تعطيل أي محاولات لمعالجة النفايات. ويتفاقم الوضع أيضاً بسبب القصف العنيف وتسرّب معادن الذخائر إلى باطن الأرض.

ونتيجة لذلك، تتسرّب مياه الصرف الصحّي والمعادن الثقيلة وغيرها من الملوّثات إلى المصدر الطبيعي الوحيد للمياه في غزة، ألا وهو طبقة المياه الجوفية الساحلية المستنزَفة أصلاً، إذ إن «غزة تستخرج حالياً مياهاً تتجاوز كميتها ثلاثة أضعاف التغذية السنوية المستدامة للمياه الجوفية»، في غياب أي موارد مائية أخرى.1  وحتى قبل الحرب، أدّى الضخّ المفرط بالفعل إلى تسرّب مياه البحر إلى طبقة المياه الجوفية، ما أثّر على جودة المياه، وكذلك على نوعية التربة في القطاع.2

إغراق الأنفاق يزيد من حدّة المشاكل الموجودة أصلاً

إذاً، وبسبب نقص الموارد ينتهي الأمر بمعظم مياه الصرف الصحي من القطاع في البحر الأبيض المتوسط. وبالتالي، فإن مياه البحر غير المعالجة القريبة من الساحل والتي يضخّها جيش الحرب الإسرائيلي حالياً في الأنفاق لا تحتوي على مستويات مرتفعة من الملح قادرة على تغيير ملوحة المياه الجوفية والتربة وحسب، ولكنها أيضاً تحمل أنواعاً مختلفة من البكتيريا والفيروسات إلى الأرض وإلى طبقة المياه الجوفية. وتزداد نسبة الملوّثات وكمّياتها بسبب القصف الذي يؤدّي إلى تسرّب المعادن الثقيلة إلى التربة، ويلحق أيضاً أضراراً بالأنفاق، فيرتفع بذلك منسوب المياه الذي يتمّ ضخّه إلى أعماق التربة. وهكذا تجتمع القنابل وعمليات إغراق الأنفاق بمياه البحر الملوثة لتضاعف من الأضرار اللاحقة بالتربة والموارد المائية المهدّدة بالفعل في غزة، ما يزيد من صعوبة الزراعة والحياة عموماً في القطاع.

نحو ربع الأمراض المنتشرة في غزّة سببها تلوّث المياه، بما فيها الإسهال والتهاب الكبد (أ) وحمى التيفوئيد والتهاب المعدة والأمعاء، و12% من وفيات الأطفال والرضع سببها الأمراض المعوية الناجمة عن المياه الملوثة

حتى بعد انتهاء هذه الحرب، سيواجه سكّان غزة خطر انحسار الزراعة، التي ستقتصر على المحاصيل القادرة على تحمّل ملوّثات التربة وملوحتها العالية. وسيعجزون أيضاً عن توفير ما يكفيهم من المياه، لأن معالجة مياه غزّة، غير الصالحة أصلًا للاستهلاك البشري، ستصبح أكثر صعوبة. كما سيتزايد خطر إصابة سكّان غزة بالأمراض الناجمة عن تلوّث المياه، وهو خطر يعاني منه القطاع فعلاً، حيث أن «نحو ربع الأمراض المنتشرة في غزّة سببها تلوّث المياه، بما فيها الإسهال والتهاب الكبد (أ) وحمى التيفوئيد والتهاب المعدة والأمعاء، و12% من وفيات الأطفال والرضع سببها الأمراض المعوية الناجمة عن المياه الملوثة».

تظهر إسرائيل مرّة أخرى استهتارها بقدسية الأرض وتخلق ظروفاً مثالية لممارسة الإبادة الجماعية بحق السكّان الفلسطينيين في غزة، بأسلحة العطش والمجاعة والمرض. وهي تحقّق هدف «جعل غزة مكاناً غير صالح للعيش سواء مؤقتًا أو بشكل دائم»، كما قال غيورا آيلاند، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي.

  • 1Alexander Kouttab, Thinking Strategically about Water: Future Scenarios for the Palestinian Water Sector, Water in Palestine The Birzeit Strategic Studies, Forum The Ibrahim Abu-Lughod Institute of International Studies Birzeit University Birzeit-Palestine 2013. Page 9
  • 2المرجع نفسه، الصفحة 10.