معاينة trump

أميركا أولاً؟

لقد أحدثت إعادة انتخاب دونالد ترامب للرئاسة موجات من الصدمات في جميع أنحاء العالم. وبعد ساعات فقط من ظهور النتائج، انهارت حكومة الائتلاف الألمانية المكوّنة من ثلاثة أحزاب، والتي كانت تتأرجح منذ أشهر. والآن أصبح بقاء التحالفات السياسية المهيمنة في دول مجموعة السبع الأخرى - بما في ذلك في فرنسا واليابان وكندا - أكثر غموضاً من أي وقت مضى.

وسط التكهنات بشأن كيفية سير ولاية ترامب الثانية، تتصدّر مسألة التدابير التجارية عناوين الأخبار. ومن المتوقع أن تزيد كمية التعريفات الجمركية في ظل الإدارة المقبلة، وأن يتم تسليحها بشكل أكثر حزماً. ومع ذلك، فإن المدى الذي ستمثّله هذه التعريفات قطيعة مع عصر بايدن بقي غامضاً.

بايدن في العام 2021: «كل شيء، من سطح حاملة الطائرات إلى سياج المبنى الجديد، سيتم بناؤه بواسطة شركة أميركية وعمال أميركيين وسلسلة توريد أميركية، حتى نستثمر دولارات الضرائب الأميركية في العمال الأميركيين». (المصدر: البيت الأبيض)

من المعروف أن إدارة بايدن تركت غالبية التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب في الحرب التجارية كما هي. في الواقع، نمت الإيرادات المحصّلة من التعريفات الجمركية تحت إشراف بايدن - وخصوصاً على السلع الصينية.

يدفع الأميركيون رسوماً جمركية على الواردات من الصين منذ عقود

من الصعب التنبؤ بكيفية تنفيذ ترامب لمقترحاته، التي تتضمن فرض رسوم جمركية بنسبة 60% على الواردات الصينية ورسوم جمركية بنسبة 25% على السلع الواردة من كندا والمكسيك. وتشير تعيينات أشخاص مثل سكوت بيسنت إلى جزء من الصياغة الإستراتيجية للرسوم الجمركية الجديدة والمتزايدة، ولكن ما هي آثارها، وكيف ستتم إدارتها؟ يتوقّع الكثيرون ارتفاعات كبيرة في أسعار الاستهلاك، فضلاً عن التدابير الانتقامية من الشركاء التجاريين. ووفقاً لمايكل بيتيس، سيصبح من الصعب للغاية التعامل مع المقايضات مع رغبة ترامب في الحفاظ على مركزية الدولار.

هل يمكن حظر الرسوم الجمركية الجديدة، خصوصاً أنها ستخالف بالتأكيد قواعد منظمة التجارة العالمية؟ في ضوء حقيقة أن ترامب أحبط بالفعل ترشيحات لجنة منظمة التجارة العالمية التي تقيّم المطالبات، ما يجعلها غير فعّالة تقريباً، فمن غير المرجح أن تؤدّي المنظمة المتعدّدة الجنسيات دوراً مهماً. كانت إدارة أوباما هي التي حرّكت هذه الكرة في العام 2011 عندما منعت الترشيحات لمحكمة الاستئناف، مدّعية أن منظمة التجارة العالمية فشلت في حماية المصالح الأميركية. ومن جانبه، حافظ بايدن على موقف متشكّك تجاه المنظمة، مستشهداً بمظالم واسعة النطاق بينما لم يقدم سوى القليل من الحلول. وفي العام 2022، كانت نائبة الممثل التجاري الأميركي ماريا باغان هي التي أعلنت أن «الولايات المتحدة لن تتنازل عن اتخاذ القرار بشأن أمنها الأساسي للجان منظمة التجارة العالمية».

كانت التعريفات الجمركية المرتفعة التي فُرِضت في عهد بايدن جزءاً لا يتجزأ من «السياسة الخارجية للطبقة الوسطى» التي تنتهجها إدارته، وهي العقيدة التي أنشأها كبار المسؤولين في إدارته وسعت إلى معالجة تراجع القوى العاملة والمناطق ذات الميول الديمقراطية، فضلاً عن خيبة الأمل المحلية في التدخل الأميركي والحروب الأبدية. وفي حين ساعدت في دعم نهضة السياسة الصناعية في عهد بايدن، إلا أنها ألقت أيضاً باللوم على قاعدة الديمقراطيين المتعثرة عند باب التجارة الحرة، وخصوصاً الواردات الصينية. وقد أغفل هذا اللوم أهمية التدابير المحلية مثل دعم العمالة والتدخلات القائمة على المكان والتي ربما كانت لتخفّف من آثار انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية. وبدلاً من ذلك، اختار كلا الجانبين في الكونغرس التشدّد تجاه الصين، وأصرّوا على «فك الارتباط» و«إزالة المخاطر» من العلاقات مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم.

تزايد العقوبات في السنوات الأخيرة

العقوبات

كانت العقوبات أداة عدوانية أخرى لإدارة ترامب الأولى.

يعود استخدام العقوبات كسلاح اقتصادي إلى الحرب العالمية الأولى، وكانت سمة مهمة إبّان فترة أوباما في منصبه أيضاً. وحافظت إدارة بايدن إلى حد كبير على العقوبات المفروضة في عهد ترامب وزادتها، لتصل إلى مستويات تاريخية.

بفضل مركزية الدولار في النظام المالي العالمي، تتمكّن واشنطن من فرض عقوبات من جانب واحد عبر SWIFT على أي مؤسسة تشارك في المعاملات العالمية بالدولار. يوفر SWIFT، وهو نظام مراسلة بين البنوك يقع في بروكسل، للولايات المتحدة بيانات في الوقت الفعلي عن جميع المعاملات. اليوم، يخضع أكثر من نصف الاقتصاد العالمي لنوع من العقوبات الأميركية.

حتى عندما يبدو أن العقوبات تستهدف كيانات أو أفراداً محدّدين فقط، فإنها تؤثّر على البلدان المستهدفة على نطاق واسع. وعلى الرغم من الإعفاءات الإنسانية الممنوحة على الورق، فإن منظمات الإغاثة وأولئك الذين يعملون على تقديم الدعم غير قادرين عملياً على معالجة المدفوعات أو المعاملات المتعلقة بالدول الخاضعة للعقوبات. وثّق المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالعقوبات كيف تسبّبت التدابير الأحادية الجانب في تأخيرات كبيرة في القدرة على الاستجابة لجائحة كوفيد-19 وضمان الوصول إلى الإمدادات الطبية المنقذة للحياة.

في الوقت نفسه، غالباً ما تفشل العقوبات في تحقيق أهدافها المعلنة. كانت الولايات المتحدة وشركاؤها في مجموعة الدول السبع يتوقعون أن تؤدي عقوباتهم ضد روسيا إلى إضعاف اقتصادها بشدّة وإعاقة قدرة بوتين على شنّ الحرب. وهذا لم يحدث بالطبع. لا يزال النفط الخام من روسيا يباع في الأسواق العالمية، ولم يؤثّر تنفيذ سقف أسعار النفط إلا على خصم صغير على براميل النفط الروسية، مقارنة بمؤشر برنت. لا تزال روسيا تحتفظ بفائض في الحساب الجاري، وعلى الرغم من حملتها المكلفة ضد أوكرانيا، فإن الاقتصاد الروسي من بين أسرع الاقتصادات نمواً في العالم.

مع استبعاد المزيد من الدول من نظام الدولار، تزداد الحوافز لبناء البدائل بقوة. وبصرف النظر عن مدى صعوبة إنشاء بديل للعملة الاحتياطية الأولى في العالم - وقد هدّد ترامب أعضاء مجموعة البريكس بالكف عن تطوير البدائل - فإنه أصبح أكثر جاذبية للدول المنزعجة من العقوبات الأميركية.

وبينما من غير المرجح أن تهدّد هذه البدائل مركزية الدولار في الأمد القريب، من شأنها أن تعوّق قدرة الولايات المتحدة على فرض العقوبات حيثما تراه مناسباً.

التعددية

كانت إدارة ترامب الأولى معادية بشكل علني للهيئات المتعددة الأطراف، فانسحبت بسرعة من اتفاقية باريس وعينت ديفيد مالباس، المستشار السابق لريغان وبوش، لرئاسة البنك الدولي. كما انسحبت من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة وفرضت عقوبات على مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية.

وعندما تولّى السلطة، غيّر بايدن المسار، ووعد بالعمل مع «حلفائنا وشركائنا»، وبالتالي «تجديد دورنا في المؤسسات الدولية، واستعادة مصداقيتنا وسلطتنا الأخلاقية، التي فقدناها كثيراً».

وبعيداً من تشكيل تحالفات عسكرية جديدة، وتعزيز التحالفات القائمة، كانت مساهمة بايدن في التعددية ضئيلة. لم تفعل إدارته شيئاً لإجبار الدائنين التجاريين على المشاركة حتى في أبسط تأجيلات البلدان المثقلة بالديون، ولم تساعد في توفير لقاحات كوفيد بسرعة للدول النامية.

وفيما يتعلق بالمناخ، كان هناك بعض التقدم في عهد بايدن؛ لقد أعقب التراجع عن انسحاب ترامب من اتفاقية باريس في العام 2017 قانون خفض التضخم المصمّم بذكاء، والذي قطع شوطاً طويلاً نحو تحسين مساهمة الولايات المتحدة في العمل المناخي العالمي (على الرغم من أنها لا تزال بعيدة من أن تكون رائدة). عندما يتعلق الأمر بالتجارة والتمويل الدوليين، فقد حافظ إلى حد كبير على ما وضعه ترامب.

ربما يكون الإجراء الوحيد المهم حقاً الذي يمكن لإدارة بايدن الإشارة إليه هو استخدام حصتها التصويتية الحاسمة في صندوق النقد الدولي لدعم توزيع جديد لحقوق السحب الخاصة. حقوق السحب الخاصة هي نوع من الأصول التي يصدرها صندوق النقد الدولي ويمكن مبادلتها بالدولار واليورو والين والجنيه الإسترليني واليوان. كان تخصيص العام 2021 بقيمة حوالي 650 مليار دولار من حقوق السحب الخاصة هو الأكبر على الإطلاق - أقل بقليل من العتبة التي تتطلب موافقة الكونغرس. لقد وفّر الوصول إلى العملة الصعبة التي تحتاج إليها بشدة البلدان المدينة التي تكافح مع ضربة كوفيد لإيراداتها. اتضح أن التخصيص يوفر أكبر دعم غير ديوني للدول النامية، والتي استخدم الكثير منها حقوق السحب الخاصة الجديدة لسداد ديونها:

أكثر من 100 دولة استخدمت حقوق السحب الخاصة

ولكن التخصيص الجديد لم يكن كافياً، ورُفِضَت الدعوات إلى المزيد. كما تم تجاهل المطالب بإصلاح الحوكمة في مؤسسات بريتون وودز واتخاذ تدابير لتوفير مساحة مالية أكبر للدول الجنوبية.

كانت المقترحات التي طرحت بشأن هذه القضايا تفتقر إلى الجوهر، وركزت بشكل أساسي على الأدوات التي أكدت على شروط المستفيدين. وتقدمت قدرة البنك الدولي على الإقراض بوتيرة بطيئة للغاية. واقترحت خريطة طريق الإصلاح التي تقودها مجموعة السبع للبنك المزيد من التمويل المناخي لكنها أكدت على أنه ينبغي أن تستمر قيادتها من قبل تلك البلدان الأكثر مسؤولية عن الانبعاثات التاريخية؛ ولم يتم اقتراح أي تمويل إضافي. وفي صندوق النقد الدولي، قدمت منشأة جديدة قروضاً طويلة الأجل ميسورة التكلفة لبناء القدرة على الصمود في مواجهة قضايا المناخ والصحة - ومع ذلك فإن الوصول إلى هذه القروض يتطلب وجود برنامج تقليدي لصندوق النقد الدولي، حيث تفرض الشروط تدابير تقشفية قاسية وتروّج لسياسات تتعارض مع أهداف المناخ والتنمية.

أميركا، مستبعدة

لعقود من الزمان، عملت الولايات المتحدة كزعيمة لما أطلق عليه النظام الدولي القائم على القواعد. وكانت شرعية هذا النظام مهدّدة على الأقل منذ الأزمة المالية العالمية؛ ولكن مع تدمير غزة - الذي قوبل، على النقيض المزعج لغزو أوكرانيا، باللامبالاة من جانب مجموعة الدول السبع الكبرى - أصبحت هذه الشرعية غير قابلة للإصلاح. ولم يساعد الفشل في الوفاء بالتزامات تمويل المناخ ومساعدات التنمية في تحسين صورة الولايات المتحدة التي ترفض، حتى في ظل الإدارة الديمقراطية، تقديم مساعدة دولية ذات فعّالية إلى البلدان في مختلف أنحاء العالم.

لقد حملت دول الجنوب العالمي، التي تفتقر إلى التمثيل في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، دعواتها لإصلاح البنية المالية الدولية إلى الأمم المتحدة. وبقيادة مجموعة الـ 77 والصين، بدأت العملية من أجل عقد مؤتمر لتمويل التنمية حيث يمكن مناقشة هذه المسائل. وإلى جانب هذه العملية، تقود مجموعة الـ 77 أيضاً الجهود الرامية إلى التفاوض على ضريبة دولية في الأمم المتحدة للتعامل مع تكتيكات تحويل الأرباح والتهرب الضريبي للشركات المتعددة الجنسيات. وقد عارضت الولايات المتحدة وحلفاؤها المقربون هذه العمليات ورفضوا المشاركة بشكل مثمر في المفاوضات، مؤكدين أن دعمهم للتعددية يقتصر على تلك الأماكن التي لا يزال بإمكانهم فيها اتخاذ القرارات. فلا عجب إذن أن يُنظر إلى بكين بشكل أكثر إيجابية من واشنطن في الجنوب العالمي.

نظرة الجنوب العالمي إلى الصين (2024)

نُشِر هذا المقال في Phenomenal World في 18 كانون الأول/ديسمبر 2024، وتُرجِم إلى العربية ونُشِر في موقع صفر باتفاق مع الجهة الناشرة.