معاينة trump

أيديولوجية ترامب

  • إذا وافقت الصين على أن تبيع أقل وتشتري أكثر، فسوف يرضى بذلك. وعلى عكس بايدن، لن يحاول ترامب تقويض النظام الصيني أو الإطاحة به.
  •  في ضوء المبادئ الميركانتيلية لترامب، فإنه سوف يجعل حلفاء الولايات المتّحدة يدفعون ثمناً أكبر. مثلما كان الحال في أثينا بقيادة بريكليس، فإن الحماية لن تأتي بعد الآن مجاناً.

هل لدى دونالد ج. ترامب أيديولوجيا، وما هي؟ الجزء الأول من السؤال ليس مهماً، لأن كل فرد لديه أيديولوجيا، وإذا اعتقدنا أنه لا يملكها، فالسبب يعود لأن أيديولوجيته قد تمثّل مزيجاً من أجزاء منتقاة من أيديولوجيات مختلفة أعيد تنظيمها، وبالتالي يصعب علينا تسميتها. لكن هذا لا يعني عدم وجودها. الجزء الثاني هو السؤال الأهم، لأنه إذا تمكنّا من تحديد أيديولوجية ترامب، فسوف يمكننا التنبؤ أو تخمين، مع الأخذ بالاعتبار ارتفاع عنصر التقلّب، كيف ستبدو فترة حكمه في خلال السنوات الأربع المقبلة.

السبب في أن معظم الناس غير قادرين على تقديم حجة متماسكة بشأن أيديولوجية ترامب هو أنهم إما مغلوبون بالكره أو بالإعجاب، أو لأنهم غير قادرين على إدراج ما يلاحظونه فيه ضمن إطار أيديولوجي له اسم مألوف لديهم.

قبل أن أحاول الإجابة عن السؤال، سوف أستبعد من تحليلي صفتين خاطئتين تماماً أُلصقتا بترامب: الفاشية والشعبوية. إذا استخدمت كلمة «الفاشي» كتعبير مرادف للإساءة، فهذا مقبول ويمكننا استخدامها بحرية، لا أحد يهتم. لكن عند استخدامه كمصطلح في نقاش عقلاني بشأن آراء ترامب، فهو استخدام خاطئ. الفاشية كأيديولوجيا تعني (i) القومية الإقصائية، (ii) تمجيد القائد، (iii) التركيز على قوة الدولة مقابل الأفراد والقطاع الخاص، (iv) رفض النظام التعدّدي، (v) الحكم التشاركي (الكوربوراتية)، (vi) استبدال البنية الطبقية للمجتمع بالقومية الموحّدة، و(vii) التقديس شبه الديني للحزب والدولة والقائد. لست بحاجة إلى مناقشة كل عنصر من هذه العناصر على حدة لأبيّن أنها بالكاد ترتبط بما يعتقده ترامب أو بما يرغب في فرضه.

السبب في أن معظم الناس غير قادرين على تقديم حجة متماسكة بشأن أيديولوجية ترامب هو أنهم إما مغلوبون بالكره أو بالإعجاب

وبالمثل، أصبحت كلمة «شعبوي» مؤخراً لفظة مسيئة، وعلى الرغم من بعض المحاولات (التي أراها غير ناجحة إلى حدّ ما) لتعريفها بشكل أفضل، إلا أنها تُستخدم فعلياً للإشارة إلى القادة الذين يفوزون في الانتخابات على أساس برنامج لا «يعجبنا». وهكذا، يصبح المصطلح بلا معنى.

ما هي المكوّنات الأساسية لأيديولوجية ترامب التي قد نستخلصها من خلال سنوات حكمه الأربع الماضية؟

الميركانتيلية. الميركانتيلية هي مذهب قديم ومعتبر ينظر إلى النشاط الاقتصادي، وخصوصاً تجارة السلع والخدمات بين الدول، على أنها لعبة صفرية. ارتبطت الميركانتيلية تاريخيّاً بعالم كانت فيه الثروة تُقاس بالذهب والفضّة. فإذا افترضنا أن كمية الذهب والفضّة محدودة، فمن الواضح أن الدولة وقائدها الذي يمتلك قدراً أكبر من الذهب والفضة (بغض النظر عن السلع الأخرى) يكون أكثر قوة. على الرغم من تطوّر العالم منذ القرن السابع عشر، إلا أن الكثير من الناس لا يزالون يؤمنون بها. وعلاوة على ذلك، إذا اعتقد الشخص أن التجارة هي شكل آخر من أشكال الحرب وأن الصين الخصم الأساسي للولايات المتحدة، فإن سياسة ميركانتيلية تجاهها تصبح استجابة طبيعية جداً. عندما تبنى ترامب هذه السياسات ضد الصين في العام 2017، لم تكن جزءاً من الخطاب السائد، لكنها منذ ذلك الوقت أصبحت مركزية. تابعت إدارة بايدن هذه السياسات ووسّعتها بشكل كبير. ويمكننا أن نتوقع أن ترامب سوف يُكثر من هذه السياسات. لكن الميركانتيليين، وسيكون ترامب كذلك، هم عمليّون: إذا وافقت الصين على أن تبيع أقل وتشتري أكثر، فسوف يرضى بذلك. وعلى عكس بايدن، لن يحاول ترامب تقويض النظام الصيني أو الإطاحة به. لذا، بخلاف ما يعتقده الكثيرون، أعتقد أن ترامب جيد بالنسبة إلى الصين (بالمقارنة مع البدائل المتاحة).

تحقيق الربح. يؤمن ترامب بالقطاع الخاص، كحال جميع الجمهوريين. في نظره، تُعيق الأنظمة والقوانين والضرائب القطاع الخاص بغير مبرر. فقد كان رأسمالياً لم يدفع ضرائب قط، وهذا يظهر من وجهة نظره ببساطة أنه كان رائد أعمال ناجح. لكن بالنسبة إلى آلآخرين، الرأسماليين الأقل نجاحاً، يجب تبسيط الأنظمة أو التخلّص منها، كما ينبغي تقليل الضرائب. يتّسق هذا الرأي مع الاعتقاد بأن الضرائب على رأس المال ينبغي أن تكون أقل من الضرائب على العمل. يُنظر إلى روّاد الأعمال والرأسماليين على أنهم «مبدعو فرص عمل»، بينما يعتبر الآخرون، وفقاً لكلمات آين راند، «متطفّلين». لا يوجد جديد في هذا الأمر بالنسبة إلى ترامب، فهي العقيدة ذاتها التي استمرت منذ عهد ريغان، بما في ذلك بيل كلينتون. قد يكون ترامب أكثر صراحة وعلنية بشأن الضرائب المنخفضة على رأس المال، لكنه سوف يفعل الشيء نفسه الذي فعله بوش الأب وكلينتون وبوش الابن. وكان رمز الليبرالية آلان غرينسبان يؤمن بهذا بعمق.

السمة المميّزة لقومية ترامب ليست عرقية ولا عنصرية، بل ببساطة هي عدم تقبّله للمهاجرين الجُدد

القومية المناهضة للمهاجرين. هذه نقطة صعبة للغاية. فمصطلح «القومي» ينطبق برعونة على السياسيين الأميركيين لأن الناس اعتادوا على «القوميات الإقصائية» (وليست الجامعة) في أوروبا وآسيا. عندما نتحدّث عن القومية اليابانية، مثلاً، نعني أن اليابانيين يرغبون في إقصاء غير اليابانيين عرقياً سواء من صنع القرار أو من الوجود في البلاد، أو من كليهما. وينطبق الأمر نفسه على القوميات الصربية، الإستونية، الفرنسية أو الكاستيلية. أما القومية الأميركية، فبطبيعتها لا يمكن أن تكون عرقية أو قائمة على النسب بسبب التنوّع الهائل للشعب الذي يشكّل الولايات المتحدة. لذا، صكّ المحلّلون مصطلحاً جديداً وهو «القومية البيضاء». إنه مصطلح غريب لأنه يجمع بين لون البشرة والعلاقات العرقية (النسبية). في الواقع، أعتقد أن السمة المميّزة لقومية ترامب ليست عرقية ولا عنصرية، بل ببساطة هي عدم تقبّله للمهاجرين الجُدد. وهي في جوهرها ليست مختلفة عن السياسات المناهضة للمهاجرين المعمول بها اليوم في قلب العالم الاجتماعي الديمقراطي، في دول شمال أوروبا وغربها حيث ترى الأحزاب اليمينية في السويد وهولندا وفنلندا والدنمارك (وفقاً للتعبير الشهير لزعيم اليمين الهولندي خيرت فيلدرز) أن بلدانهم «مكتظة» ولا تستطيع استقبال المزيد من المهاجرين. وجهة نظر ترامب غير معتادة فقط لأن الولايات المتّحدة ليست، وفقاً لأي معايير موضوعية، دولة مكتظة: فعدد السكان لكل كيلومتر مربع في الولايات المتحدة هو 38 بينما يبلغ في هولندا 520.

أمة لنفسها. عند الجمع بين الميركانتيلية وكراهية المهاجرين، نقترب من ملامح السياسة الخارجية الأميركية تحت حكم ترامب. سوف تكون سياسة قومية مناهضة للإمبريالية. يجب عليّ توضيح هذه المصطلحات. هذا المزيج نادر، خصوصاً بين القوى الكبرى: فعندما تكون الدولة كبيرة وقومية وميركانتيلية، من المفهوم تقريباً بشكل بديهي أن عليها أن تكون إمبريالية. لكن ترامب يتّحدى هذه القاعدة. فهو يعود إلى سياسة المؤسّسين في العلاقات الخارجية، والتي كانت تنبذ «التشابكات الأجنبية». الولايات المتحدة، في نظرهم ونظره، هي أمة قوية وغنيّة تهتم بمصالحها، لكنها ليست «أمة لا غنى عنها» كما عرّفتها مادلين أولبرايت. ليس من دور الولايات المتّحدة تصحيح كل خطأ في العالم (وفقاً للرؤية التفاؤلية أو المصلحيّة لهذه العقيدة)، ولا إهدار أموالها على شعوب وقضايا لا علاقة لها بمصالحها (وفقاً للرؤية الواقعية للعقيدة نفسها).

من الصعب القول عن سبب كره ترامب للإمبريالية التي أصبحت شائعة في كلا الحزبين الأميركيين منذ العام 1945، لكنني أعتقد أنه يتبنّى غريزياً قيم الآباء المؤسّسين وأشخاصاً مثل الجمهوري المعارض للرئيس وودرو ويلسون، ويليام تافت، الذي كان يؤمن بقوة الاقتصاد الأميركي ولم يرَ ضرورة لتحويل هذه القوة إلى سيطرة سياسية مهيمنة على العالم.

هذا لا يعني أن ترامب سوف يتخلى عن الهيمنة الأميركية، فهو لن يُحل حلف الناتو، لأنه كما كتب ثوسيديدس: «لم يعد بإمكانكم التخلي عن هذه الإمبراطورية، على الرغم من أنه قد يكون هناك بعض الأشخاص الذين يعتقدون في حالة من الذعر المفاجئ وروح من اللامبالاة السياسية أن هذا سيكون أمراً جيّداً ونبيلاً القيام به. إمبراطوريتكم الآن أصبحت مثل الاستبداد: ربما كان من الخطأ أخذها، ومن المؤكد أنه سيكون خطيراً التخلّي عنها». لكن في ضوء المبادئ الميركانتيلية لترامب، فإنه سوف يجعل حلفاء الولايات المتّحدة يدفعون ثمناً أكبر. مثلما كان الحال في أثينا بقيادة بريكليس، فإن الحماية لن تأتي بعد الآن مجاناً. يجب ألا ننسى أن الأكروبوليس الجميل الذي نعجب به جميعاً تم بناؤه بالذهب المسروق من الحلفاء.