السرّية المصرفية
فتقٌ في ثوب القداسة
منذ إقراره قبل 66 عاماً في المجلس النيابي اللبناني، لم يتعرّض قانون سرّية المصارف لأي ضغوط داخلية جدّية، ولم يكن إلغاء هذا القانون عنواناً رئيساً لأي حركة سياسية أو اجتماعية محلّية، إلّا في سياق بعض التوصيات الإصلاحية الثانوية ومطالب بعض الاتجاهات اليسارية. كُرِّست سرّية العمل المصرفي المُطلقة كحقّ قانوني، عام ومجّاني، يُشرِّع إخفاء الثروات والتهرّب الضريبي، ويمثّل حجر الأساس لنظام مصرفي مُهيمن، تجري عبره عمليّات إعادة التوزيع العكسية من المجتمع عموماً إلى النخب السياسية والمالية المُسيطرة. ولم يكن صمود هذا القانون مُمكناً طيلة هذه المدّة، لو لم تنجح هذه النخب بتحويل السرّية المصرفية إلى نوعٍ من الأيديولوجيا، تقوم على أسطرة الخبرة المصرفية اللبنانية وجاذبيتها للرساميل الباحثة عن الملاذ الآمن. ولكن، ما يجري منذ انكشاف الإفلاس المصرفي في خريف 2019، أو ما يُسمّى مُخطّط "بونزي" الاحتيالي، الذي أسفر عن خسارة أكثرية الودائع المُكدّسة في الحسابات المصرفية والديون الداخلية، يقدّم إثباتاً إضافياً على أن السرّية المصرفية لم تقدّم أي منفعة عامّة منذ إقرارها وتكريسها وأدلجتها، إنّما شكّلت الجدار السميك الذي يمنع رؤية كل الموبقات التي تحدث، فتقديس الحقّ بالسرّية، ووضعه في مرتبة أسمى من جميع الحقوق الفردية والعامّة، بما فيها حقوق الملكيّة الخاصّة المُحصّنة بالدستور والتي تُجسِّد أحد أهم الأسس التي يقوم عليها النظام الرأسمالي المزعوم، سمح حتّى الآن بحماية جميع المسؤولين والمتورِّطين والمستفيدين من واحد من أكبر الانهيارات المصرفية في التاريخ، ومنع التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان والمصارف، وقوّض فرص التوزيع العادل للخسائر المصرفية، وسمح بتهريب عشرات مليارات الدولارات عبر سحب الودائع وتحويلها إلى الخارج أو استخدامها لتسديد قروض وشراء الأراضي وغيرها.
اليوم، توجد مصلحة أكيدة لأكثرية أصحاب الودائع بإلغاء السرّية المصرفية، إلّا أن الخطاب الشائع يقدّس الودائع كلّها، ويرفض فرزها بين الصالح والفاسد، وبالتالي يتحجّج بالسرّية لتسويغ المساواة بين الجميع بمعزل عن مصادر ثرواتهم، وهذا هو الإجحاف الذي يُفترض التصدّي له من قبل تجمّعات المودعين والمودعات. ولكن، للأسف، لا تزال الضغوط التي يتعرّض لها قانون سرّية المصارف مصدرها خارجي فقط، وهو ما حصل أخيراً، اذ أُجبِر المجلس النيابي على إقرار تعديلات جوهرية على القانون بفعل إصرار صندوق النقد الدولي على ذلك، كواحد من الشروط المُسبقة لإقرار أي برنامج تمويلي تطلبه السلطات اللبنانية. لقد جاءت هذه التعديلات بعد سنتين من الكرّ والفرّ في محاولة لتفادي هذا الشرط والتحايل عليه، ونجحت القوى المُسيطرة على الحكومة ومجلس النواب في التوصل إلى صيغة تعديلات مع صندوق النقد تحافظ على أكبر قدر مُمكن من السرّية المصرفية وتفرض أكبر قدر ممكن من القيود على رفعها، إذ أن الأحكام التي نصّت عليها هذه التعديلات تفتح الباب الواسع أمام الاجتهادات والعراقيل التي تُبقي على الوظائف الداخلية للسرّية المصرفية، أي إخفاء الثروات وتمكينها من التهرّب الضريبي وتفادي التحقيقات الجنائية.
في الواقع، يتعرّض قانون سرّية المصارف لضغوط خارجية شديدة منذ إقرار قانون "فاتكا" (أو قانون الامتثال الضريبي) في الولايات المتّحدة الأميركية في عام 2010 ودخوله حيّز التنفيذ في عام 2014، وكذلك إقرار إتفاقية "غاتكا" (أو الاتفاقية الدولية للتبادل التلقائي للمعلومات الضريبية) التي وضعتها مجموعة العشرين والاتحاد الأوروبي في عام 2014، إذ اضطرت السلطات المحلّية طيلة هذه الفترة إلى الامتثال مباشرة أو مواربة لأحكام القوانين الأجنبية، التي ألزمت المصارف بالكشف عن حسابات الأشخاص المُكلّفين بالضرائب في الخارج، ولا سيّما الذين يحملون جنسيات وتأشيرات الإقامة في أميركا وأوروبا... ففي العقد الأخير، لم تعد الحجج القديمة صالحة للحفاظ على سرّية العمليات المصرفية، ولا سيّما المتعلّقة بتوفير الملاذ الآمن للرساميل الأجنبية الهاربة من مواطنها، فقد باتت السرّية محصورة بإخفاء عمليّات النهب والفساد وتبييض الأموال والتجارة غير المشروعة والتهرّب الضريبي التي تجري هنا، والتي تشكّل المصدر الأساسي لتراكم ثروات شخصية طائلة.
مع الانهيار غير المسبوق الذي طال بنية النظام الاقتصادي والمالي والنقدي والاجتماعي في لبنان، استدعى أقطاب السلطة السياسية صندوق النقد الدولي لانتشالهم من الأزمة التي باتت تُهدِّد وجود النظام نفسه. وبهذا، أصبح صندوق النقد لاعباً فاعلاً ومؤثّراً في السياسة المحلّية، ومُحدِّداً رئيسياً للسياسات والتشريعات والمراسيم التي تقرّها الدولة اللبنانية. ترافق ذلك مع تحوّل في الخطاب السياسي لدى جميع أقطاب السلطة السياسية بوتيرة متوازية مع منحنى الانهيار، كان قوامه شعاراتٍ إصلاحية من قبيل مكافحة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة والمحاسبة إلخ...
لم تلغِ قانون سرّية المصارف الصادر عام 1956، بل عدّلته فحسب. وإن دلّ هذا على شيء فإنه يدلّ على استقرار مفهوم السرّية المصرفية كمبدأ من مبادئ النظام القانوني اللبناني
ومن موقعه السلطوي كدائن، اشترط صندوق النقد الدولي على الدولة اللبنانية، لتمويلها، إتّخاذ إجراءات إصلاحية تتمثّل بإقرار عدد من التشريعات المُرتبطة بالسياسات المالية والاقتصادية والنقدية. فكان قانون تعديل سرّية المصارف إلى جانب قانون الموازنة والكابيتال كونترول وإعادة هيكلة المصارف من أبرز المطالب التي أصرّ عليها الصندوق وجهات مانحة أخرى.
استجابت السلطات اللبنانية جزئياً، فلم تلغِ قانون سرّية المصارف الصادر عام 1956، بل عدّلته فحسب. وإن دلّ هذا على شيء فإنه يدلّ على استقرار مفهوم السرّية المصرفية كمبدأ من مبادئ النظام القانوني اللبناني، وما القانون الجديد إلّا استثناءً ضيّقاً ومحدوداً على هذا المبدأ.
مخاضٌ عسير لولادة تعديلات ملغومة
لم يكن مسار التفاوض في السنوات الأخيرة مع صندوق النقد الدولي يسيراً، إذ تخلّلته مطبّات وعقبات ومماطلة وتسويف وأخذ وردّ من الجانب اللبناني. وعلى المنوال نفسه، وبالوتيرة ذاتها، اتسمت رحلة إقرار قانون تعديل قانون سرّية المصارف، كما جاءت تسميته في نشرة الجريدة الرسمية اللبنانية، بمحطّات رئيسية ثلاث، هي باختصار:
المحطّة الأولى (أيّار/ مايو 2020): بعد أخذٍ وردّ من الجانب اللبناني، أُقرّ اقتراح قانون تعديل قانون سرّية المصارف في مجلس النوّاب، وكان عبارة عن توليفة ضمّت مجموعة من الاقتراحات المُقدّمة من عددٍ من النوّاب، جرى دمجها في لجنة فرعية مُنبثقة عن لجنة مشتركة تولّت دراسة القانون. لكن التعديل كان شكلياً فارغ المضمون لإبقائه على الصلاحية الحصريّة لهيئة التحقيق الخاصّة في رفع السرّيّة، الأمر الذي دفع رئيس الجمهورية لإعادته إلى البرلمان طالباً توسيع الصلاحيّة لتشمل القضاء.
المحطّة الثانية (تمّوز/ يوليو 2022): على مرأى سفيرة الولايات المتّحدة في لبنان، التي كانت حاضرة في الجلسة آنذاك، أقرّ مجلس النوّاب مشروع قانون تعديل السرّية المصرفية المطروح من الحكومة. وجاء ذلك بعد توقيع الحكومة على اتفاق على مستوى الموظّفين مع صندوق النقد الدولي في نيسان/ أبريل من العام نفسه، وذلك بعد انقطاع نسبي للتفاوض بين الجانبين. لكن لم يكن التعديل كافياً بالنسبة لصندوق النقد الدولي كونه لم يطل بنوداً جوهرية مطلوبة، فعمد رئيس الجمهورية إلى إعادته إلى المجلس من جديد مُعتمداً في مرسوم الإعادة الصادر بتاريخ 31/8/2022 على ملاحظات الصندوق المطالبة بتوسيع دائرة الهيئات ذات الصلاحية في رفع السرّية المصرفية وتوسيع صلاحية القضاء مجدّداً.
المحطّة الثالثة (تشرين الأول/ أكتوبر 2022): استناداً إلى ملاحظات رئيس الجمهورية، ناقش المجلس النيابي بتاريخ 18/10/2022 مشروع قانون تعديل السرّية المصرفية، ثمّ أقرّه أخيراً، وصدر بالقانون رقم 306، بعد مفاوضات استمرت أشهراً بين اللجان النيابية المخوّلة دراسة القانون وممثّلي صندوق النقد الدولي، الذين أصرّوا على إقراره وفق صيغة موسّعة وفعّالة كشرط مُسبقٍ مطلوب للاتفاق على برنامج تمويلي معه. تمّ ذلك على الرغم من العراضات الإعلامية والصحافية المُخادعة التي مارسها عدد من أقطاب السلطة السياسية حول سيادة مجلس النواب وعدم خضوعه لصندوق النقد الدولي.
غير أنّ عدداً من النوّاب اعترض على الصيغة التي نُشر فيها القانون، مُعتبراً أنها جاءت مخالفة للصيغة التّي أقرّت في الهيئة العامة للمجلس النيابي، ما جعل القانون فارغ المضمون ومتعارضاً مع ملاحظات رئيس الجمهورية وصندوق النقد، ودفعهم إلى تقديم مراجعة طعن في دستورية القانون أمام المجلس الدستوري في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022.
تعديلات ملغومة ومُخادعة
قانون تعديل سرّية المصارف الأخير ليس القانون الأمثل، ولا يقارب هذه الصفة حتّى، على الرغم من أنه جاء بنسخة مُحسّنة عن نُسخِه السابقة، فقد حظر فتح حسابات ودائع مُرقّمة (أي بلا أسماء أصحابها)، ووسّع دائرة الأشخاص الذين لا تسري عليهم أحكام السرّية المصرفية، فباتت تشمل بالإضافة إلى كلّ من يتولّى وظيفة أو مسؤولية عامّة وذويهم والمتّصلين بهم، رؤساء الجمعيات التي تتعاطى شأناً سياسياً، ورؤساء وأعضاء مجالس إدارة المصارف ومدرائها التنفيذيين ومدقّقي الحسابات الحاليين والسابقين، ورؤساء وأعضاء مجالس إدارة الشركات التي تدير أو تملك الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة والمكتوبة والإلكترونية، إلّا أنّه ربط ذلك بقوانين تبييض الأموال والإثراء غير المشروع ومكافحة الفساد في القطاع العام، وهي قوانين تحيل إلى هيئة التحقيق الخاصّة، الأمر الذي يُعقِّد ويعطِّل آليّة رفع السرّية، ويفرِّغ القانون من مضمونه، ويقف في وجه تحقيق الغاية (المُعلنة) من إقراره.
لم تخفِ الأسباب الموجبة لقانون سرّية المصارف الصادر في عام 1956 مآربه الحقيقية، فقد جرى تصميمه، وفق ما ورد فيها، من أجل إيواء الثروات الهاربة والمتهرّبة والمتخفيّة، وتأمين الملاذ الآمن لها، وتمكينها من التهرّب الضريبي، وضمان انتقالها بالإرث
أُنشِئت هيئة التحقيق الخاصّة لدى مصرف لبنان بموجب قانون تبييض الأموال الرقم 318 الصادر عام 2001، وهي هيئة يمنحها القانون طابعاً قضائياً (اسمياً)، في حين أنّه في المادة نفسها يولي رئاستها إلى حاكم مصرف لبنان، بالإضافة إلى 3 أعضاء آخرين (يُعيّنون وفقاً للصيغة الطائفية المعروفة بطبيعة الحال).
وبالنظر إلى أداء هيئة التحقيق الخاصّة منذ تأسيسها حتّى اليوم، يتبيّن أنّ دورها كان حجب السريّة المصرفية والوقوف كحارسٍ أمينٍ في وجه من يطلب رفعها، خصوصاً في قضايا الفساد، مما منح حصانة مضاعفة لناهبي المال العام والمتهرّبين من الضرائب. لقد رفضت هذه الهيئة العديد من طلبات رفع السرّية المصرفية المُقدّمة إليها من النيابات العامّة في قضايا فساد مُختلفة مثل قضيّة سوناطراك، والتحويلات الماليّة إلى الخارج التي قامت بها المصارف بعد تشرين الأول/ أكتوبر 2019، والتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان... إلخ. علاوةً على ذلك، أثبتت الممارسة أنّها خاضعة لرئيسها حاكم مصرف لبنان، الآمر الناهي بشأن قراراتها، ما يعني أنّ القانون الراهن جاء ليكرّس سلطة رأس هرم السلطة المالية في البلاد المُتحكّم في سياستها الاقتصادية والمالية والنقدية (أي حاكم مصرف لبنان)، وحصر صلاحية رفع السرّية المصرفية به دون غيره، بوصفه أمين صندوق السلطة السياسية.
جاءت التعديلات على قانون سرّية المصارف مخادعة لجهة صلاحية القضاء في رفع السرّية المصرفية، فقد حُجبت هذه الصلاحيّة عن النيابات العامّة في مرحلة استقصاء الجرائم والتحقيق فيها وملاحقتها، ولم يُلزم المصارف بتقديم المعلومات المطلوبة إلّا عند تلقيها طلباً من القضاء المختصّ في الدعاوى المُتعلّقة بجرائم الفساد والجرائم الواقعة على الأموال. وتعبير الدعاوى ينطوي على إنهاء للدور الذي يمكن للقضاء الواقف أن يلعبه، إذ إن الدعوى جزءٌ من مسار قضائي يسبقه تحقيق واستقصاء وملاحقة تقوم بها النيابة العامّة، وتكون الأساس الذي تقوم عليه أي دعوى، ومنع طلب رفع السرّية المصرفية في هذه المرحلة وحصره في مرحلة ما بعد الإدعاء، يؤدّي إلى إفقار أي مسارٍ قضائي للفعاليّة اللازمة. بالإضافة إلى تكريس القانون لمبدأ الحصانات المُتمثّل بوجوب استحصال المرجع القضائي المُختصّ على إذنٍ مُسبق بملاحقة الأشخاص المُتمتّعين بالحصانة.
وأكثر من ذلك، حصر القانون إمكانيّة رفع السرّية المصرفية في حالات معيّنة تعييناً ضيّقاً ولغايات مُحدّدة بالنسبة لمصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف ومؤسّسة ضمان الودائع التي بإمكانها الحصول على معلومات عامّة عن الحسابات فقط، وإتاحة الإمكانية لأي متضرّر لتعطيل قرارها من خلال تقديم اعتراض قضائي.
أضف إلى ذلك أنّه منح الإدارة الضريبية حقّ طلب المعلومات المحميّة بالسرّية المصرفية من المصارف، وإنّما ربطه بصدور مرسوم عن مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير المالية، يُحدِّد فيه آليّة طلب المعلومات من المصارف ونطاقها. وهذا البند، هو الخدعة التي طالما مارسها مجلس النواب اللبناني لإفراغ القوانين التي لا يرغب بإقرارها، وأقرّها رغماً عنه. فإذا ما أريد تعطيل قانونٍ ما، عُلّق تنفيذه على صدور مراسيم تنظيمية حكومية لا تصدر، حتّى باتت تُعرف بمقبرة القوانين.
قانون السرّية المصرفية بشكله التقليدي بات طارداً للرساميل عوض أن يكون جاذباً لها، كونه بات مؤشّراً إلى الفساد والإثراء غير المشروع وعدم سيادة القانون
أخيراً وليس آخراً، لم يُعدِّل القانون الجديد قانون رسم الانتقال المُتعلّق بالضرائب على الإرث، على غرار تعديله لقانون ضريبة الدّخل، ولم يُثِر هذا الأمر في أي من النقاشات حول القانون.
هذا الالتباس والغموض والفراغ والإحالة إلى قوانين أخرى والتعقيدات القانونية والإداريّة ليسوا أموراً عبثية، أو أخطاء تقنية، خصوصاً أن النسخة النهائية من القانون جاءت مُناقضة في مضمونها للملاحظات التي أقرّت في الهيئة العامّة للمجلس بحسب مراجعة الطعن في دستورية القانون المُقدّمة من عدد من النّواب. بل يعود ذلك لغاية المُشرّع في الحفاظ على "خطّ العودة" وإفساح المجال لهروب النافذين من الأشخاص الطبيعيين والمعنويّين الذين قد يتضرّرون منه في المستقبل، وفتح باب تفسير القانون والاجتهاد بما يتناسب مع مصالحهم، خصوصاً مع عدم وضوح الموازين التي سوف تستقرّ عليها الأوضاع السياسية، وعدم نضوج الظروف المؤدّية للاستقرار حتى الآن.
يُعبِّر القانون الجديد عن استمرار النهج الاقتصادي المدمّر نفسه، وبل عن محاولة إنعاشه وإطالة أمده، ويعكس انعدام النيّة لدى مختلف الجهات في إعادة النظر في هذا النهج. المخاض العسير الذي سلكه قانون تعديل قانون سرّية المصارف، وأفضى إلى ولادته بصورته المشوّهة شكلاً ومضموناً، ليس إلّا انعكاساً لميزان قوى السّلطة في البلاد، الذي اختلّ ولم ينقلب، فجذور كفّته الراجحة تجد لها عمقاً تاريخياً وأيديولوجياً راسخاً، ما يجعل اقتلاعها أمراً في غاية الصعوبة بحسب ما تبيِّنه لنا محطّات تاريخية مختلفة سبقت إقرار قانون سرّية المصارف وتلته.
عودة إلى الأساس
"إن الغاية من هذا المشروع هي جعل لبنان ملجأ للرساميل الأجنبيّة، ومنع تسرّب الرساميل اللبنانية إلى الخارج تهرّباً من دفع الضرائب، وأخصّها ضريبة الإرث. ويتوخّى لبنان من هذا التشريع إمكانية تمويل المشاريع الكبرى التي تنتظرها البلاد، وإمكانية جعل لبنان مصرفاً للدول العربيّة، شأن سويسرا التي كانت ولم تزل مصرفاً لأوروبا بأسرها"1 .
لم تخفِ الأسباب الموجبة لقانون سرّية المصارف الصادر في عام 1956 مآربه الحقيقية، فقد جرى تصميمه، وفق ما ورد فيها، من أجل إيواء الثروات الهاربة والمتهرّبة والمتخفيّة، وتأمين الملاذ الآمن لها، وتمكينها من التهرّب الضريبي، وضمان انتقالها بالإرث... كل ذلك على أمل أن يساهم في إمكانية تمويل المشاريع الكبرى وتحويل لبنان إلى مصرف العرب. لكن مع مرور كلّ هذه السنوات، لم نعد بحاجة إلى أدلّة إضافية على أن القانون المذكور حقّق القسم الأول من أسبابه الموجبة، أي المتعلّق بتحويل لبنان إلى ملجأ آمن لإخفاء الثروات ومصادرها، في حين أن القسم المقابل، أو التعويض المُفترض، المتعلّق باستخدام هذه الثروات في تمويل المشاريع الكبرى، لم يتحقّق منه شيئاً. على مدار العقود الى أعقبت إقرار هذا القانون كانت المفارقة السائدة في الخطاب العام تدور حول وفرة التمويل وشح الاستثمار أي وجود مال كثير على دفاتر المصارف لكن من دون تخصيص أي منها لتمويل التنمية.
باتت سرّية المصارف أو ما درج على تسميته "السرّية المصرفيّة"، لعقودٍ طويلة، أحد الأقانيم المُقدّسة للأيديولوجيا اللبنانية المُهيمنة، فاكتسبت "صلابة المعتقدات الشعبية" على حدّ تعبير غرامشي
التّأسيس (1943 – 1956)
بعد استقلال لبنان عام 1943، وتوقيع الميثاق الوطني الذي ثبّت الصيغة الطائفية لنظام الحكم في لبنان، بدأت تلوح معالم ما يُسمى "دولة التجّار" أو "الجمهورية التجارية" القائمة على تطرّف في المبادئ الاقتصادية الليبرالية المُتمثّلة بأفكارٍ من قبيل الاقتصاد الحرّ وتقديس التجارة على حساب الصناعة والزراعة (بزعم أن اللبنانيين ـ تاريخياً وجغرافياً ـ أمّة من التّجار) وتعزيز قطاع الخدمات وتبنّي سياسة عدم تدخّل الدولة، وذلك على نقيضٍ من سيرورة الاقتصاد العالمي في تلك الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية.
كان ميشال شيحا أبرز المنظرّين والمُخطّطين للبنية الاقتصادية والسياسية لهذه الجمهورية اللبنانيّة التاجرة القائمة على مدينة بيروت وأحد أكثر الوجوه تأثيراً فيها2 . فقد اتّخذت أفكاره وطروحاته وشعاراته التي عبّر عنها في خطبه ومحاضراته ومقالاته شكل الأيديولوجيا والعقيدة التي فرضت سطوتها وهيمنتها في دوائر السلطة والنخب في لبنان، وبقيت مُحرِّكاً للفكر السياسي والاقتصادي لفترة طويلة، ومصدر إلهامٍ للعديد من تلامذته الذين احتلّوا المناصب الأولى في الدولة والإدارة.3
تُوِّج هذا المسار بانتخاب كميل شمعون عام 1952 رئيساً للجمهوريّة، فشكّلت سياسات عهده الليبرالية والمُنحازة إلى الغرب تعبيراً فجّاً وواضحاً عن الأيديولوجيا اللبنانية المُسيطرة، وشهد عهده ازدهاراً ونموّاً كبيراً في القطاع المالي والمصرفي خصوصاً، قابله ازدياد الفوارق بين الطبقات الاجتماعية والمناطق وتفاقم التوتر في ما بينها، ما لبث أن تجلّى بمظاهر عنف عرفها المجتمع اللبناني في السنوات التالية.
ساهمت عوامل عديدة إقليمية ودولية في هذا النموّ، منها ما شهدته المنطقة العربية من ثورات وانقلابات وحروب ترافقت معها موجات من التأميم وصعود للنزعة الاشتراكية في مصر والعراق وسوريا،4 الأمر الذي أصاب الرساميل (الكائنات الأكثر جُبناً في العالم) في هذه الدول بالذعر فنزحت باتّجاه المصارف اللبنانية، ومنها ثروات الفلسطينيين الذين لجأوا إلى لبنان بعد الاحتلال الإسرائيلي عام 1948 والتي كان لبعضها دوراً رئيسياً ومؤسِّساً في القطاع المصرفي، مثل بنك إنترا الذي أسّسه رجل الأعمال الفلسطيني الأصل يوسف بيدس والذي كان أحد أكثر الشخصيّات فعاليّة وتأثيراً ونفوذاً في الوسط المالي والسياسي. أضف إلى ذلك، الدور الحيوي الذي لعبته مدينة بيروت ومرفئها بعد تعطّل أدوار مدن عدة مثل إزمير واللاذقية ودمشق وطرابلس وصيدا وعكا وحيفا والقدس والإسكندرية لأسباب مختلفة.5
في ظل هذه الظروف السياسية والاقتصادية والأيديولوجيا المُسيطرة، نما قانون السرّية المصرفية، ليُبصِر النور عام 1956 لوالده ريمون إدّه، المحامي وعميد الكتلة الوطنية والنائب في ذلك الحين.
إقرار القانون (1956)
أُطلِق على ريمون إده لقب "ضمير لبنان". أخذ هذا اللقب بالانتشار والتوسّع وبات مُلاصقاً لاسمه حتّى يومنا هذا. وإذا كان الضمير ما يضمره الإنسان في قرارة نفسه من أفكار وقيم وشعور، فقد يكون من الأصوب لناحية الأمانة التاريخية تلقيب ريمون إده بأنه ضمير فئة من اللبنانيين تُمثِّل النخبة المالية في بيروت والجمهورية التجارية ومحرّكها الاقتصادي: القطاع المصرفي.6 ريمون هو شقيق بيار إده النائب ووزير المالية لثلاث مرّات في عهد الرئيس كميل شمعون ورئيس مجلس إدارة بنك "بيروت الرياض" وأحد مؤسّسي جمعية مصارف لبنان، وأول رئيس لمجلس إدارتها. والأخوين إده هما ابنا إميل إده، رئيس الجمهورية اللبنانية بين عامي 1936 و1941 إبّان الاحتلال الفرنسي، والسّيدة لوري سليلة آل سرسق إحدى أغنى عائلات التجّار في بيروت، ما جعل منهما خير نتاج لتزاوج المال والسياسة.7
إنطلاقاً من هذا الموقع والدور، كان ريمون إده عرّاب السرّية المصرفية ووالدها الروحي وحارسها الأمين. فتقدّم عام 1955 باقتراح قانون سرّية المصارف الذي يهدف بحسب أسبابه الموجبة إلى جعل لبنان ملجأ للرساميل الأجنبية بوصفه مصرفاً للدول العربية (على غرار اعتبار سويسرا مصرفاً لأوروبا)، وأشار بوضوح مباشر إلى غايته في منع تسرّب الرساميل اللبنانية إلى الخارج تهرّباً من دفع الضرائب وخصوصاً ضريبة الإرث، ليُقرّ القانون عام 1956. وأبرز ما تضمّنه كان إلزام المصارف بكتمان السرّ إطلاقاً لمصلحة زبائنهم، وعدم جواز إفشاء ما يعرفونه عن أسماء الزبائن وأموالهم والأمور المتعلّقة بهم لأي شخص فرداً كان أم سلطة عامة إدارية أو عسكرية أو قضائية. وجرى تكريسها كحقٍّ لأصحاب رؤوس الأموال، باعتبارها خدمة مجّانية لا يدفع المستفيدون منها أي رسم أو اشتراك مقابل ذلك، على عكس ما كان معمولاً به في بعض القوانين المُشابهة حول العالم.
بهذا التشريع، باتت سرّية المصارف أو ما درج على تسميته "السرّية المصرفيّة"، لعقودٍ طويلة، أحد الأقانيم المُقدّسة للأيديولوجيا اللبنانية المُهيمنة، فاكتسبت "صلابة المعتقدات الشعبية" على حدّ تعبير غرامشي. وساهم في تكريس ذلك، انسجام دورها المزعوم كملجأ للرساميل الأجنبية، مع الدور التاريخي الذي روّج له آباء الأيديولوجيا اللبنانية والكيان اللبناني لجبل لبنان كملجئٍ للأقليات المضطهدة في المنطقة.
إلهٌ من مال (1956-2019)
تبدّلت بين عامي 1956 و2019 حكومات ومجالس نيابيّة ورؤساء جمهوريّة، ونشبت حربٌ دمويّةٌ استمرّت خمسة عشر عاماً، وتعرّضت الأراضي اللبنانية لاجتياحين إسرائيلين، وعُدّل الدستور وأقرَّت قوانين وألغِيت أخرى، وصُدِّقت معاهدات دولية، بيد أنّ الثابت الوحيد الذي بقي عصيّاً على المساس به كانت السرّية المصرفية. ولفترة طويلة من السنوات هذه، كان الأخوان إده رأسي حربةٍ في الجيش المدافع عن السرّية المصرفية في وجه الهجمات المتواضعة والخجولة التي كانت تواجهها، ولم يوفّرا في سبيل ذلك جهداً سياسياً وتشريعياً وإعلامياً ونقابياً.
كان لجمعية المصارف، التي ترأّس مجلس إدارتها الأوّل عام 1959 أحد أبرز وأنشط مؤسّسيها بيار إده، دوراً في حماية السرّية المصرفية وتعزيزها، خصوصاً إبّان ورشة الإعداد لقانون النقد والتسليف وإنشاء المصرف المركزي
كانت البداية مع قانون رسم الانتقال (أي الضريبة على الإرث) المُقرَّ في 12/6/1959 الذي ألزم المصارف بإعلام الدوائر المالية خلال المدة المبينة أعلاه عن وفاة أي شخص من زبائنها من دون ذكر اسمه واطلاع المراقبين المُحلّفين بالحفاظ على سرّية المهنة على حساب المتوفى عند حضورهم إلى مكاتبها. فما كان من النائب بيار إده بعد شهرٍ من إقرار القانون إلّا أن تقدّم باقتراح قانون يقضي بعدم تطبيق أحكام هذه المادة على المصارف الخاضعة لقانون 3 أيلول 1956 المُتعلّق بسرّية المصارف، مُعتبراً أن قانون سرّية المصارف "قد جعل رساميل كبيرة تؤم لبنان وتساعد في تغلبه على الأزمات التي اجتازها، فلم تؤثّر الأزمة الأخيرة مثلاً، على سلامة الوضع المالي"،8 وأُقرَّ القانون بالأكثرية الساحقة في مجلس النوّاب ولم يعارضه سوى نائب واحد فقط.
وكذلك فعل شقيقه ريمون إده عام 1961، إذ تقدّم باقتراح قانون لتعديل قانون ضريبة الدخل وجعله خاضعاً لقانون سرّية المصارف، وقد تمّ إقراره بالفعل، وتلاه إقرار قانون آخر اقترحه الأخير مُعزِّزاً قانون سرّية المصارف، وهو قانون إجازة فتح حساب مُشترك.
وقد كان لجمعية المصارف، التي ترأّس مجلس إدارتها الأوّل عام 1959 أحد أبرز وأنشط مؤسّسيها بيار إده، دوراً في حماية السرّية المصرفية وتعزيزها، خصوصاً إبّان ورشة الإعداد لقانون النقد والتسليف وإنشاء المصرف المركزي، حيث لعبت الجمعية دوراً كبيراً بألّا تُزعزع نُظُم المصرف المركزي الجديد النشأة ما سمّاه بيار إده الأساس الذي "لا يُمس" للقطاع المصرفي، أي قانون السرّية المصرفية،9 فجاءت إحدى مواد هذا القانون المُقرّ لتكرّس مبدأ السرّية المصرفية وتحفظه، على الرغم من وجود أصوات كانت تعارض ذلك.
أمّا ما لا يُحكى عنه ولا يُشار إليه، فهو الدور السلبي الذي لعبه قانون سرّية المصارف المُساهم في نموّ القطاع المصرفي في ضرب القطاعات والاستثمارات الإنتاجية، وحتّى في تقويض قدرة قطاعات مالية أخرى على النمو، مثلما هو الحال بالنسبة لبورصة بيروت التي بقيت متواضعة جدّاً لأسباب عديدة عبّرت عن بعضها جمعية المصارف اللبنانية التي اعتبرت أن التداول العلني بالمعلومات في البورصة هو بمثابة خرق لقانون سرّية المصارف الذي يحمي هويّة المُستثمر، فامتنعت المصارف في حينها عن المشاركة في البورصة، على الرغم من أن امتناعها هذا مناقضٌ تماماً لمنطق الأسواق المالية وشروط نموّ المصارف.10
عصفت بعد ذلك أعاصير مُدمّرة بالاقتصاد اللبناني والقطاع المصرفي تحديداً، في فترات مختلفة، تمكّن فيها جنود السرّية المصرفية من الانحناء ببراعةٍ بوجه العاصفة، وبقي الصنم الذي شيّدوه مُقدّساً لم يُمسْ، فعلى الرغم من انهيار بنك إنترا في ظروفٍ بقيت غامضة عام 1966، والأزمة التي سبّبها على أصعدة مختلفة، ثمّ صدور قانون إفلاس المصارف (أو ما عُرف بقانون إنترا) في عام 1967، ثمّ فضيحة بنك المدينة بعد عقودٍ في عام 2003 والتي شكّلت السرّية المصرفية عائقاً جديّاً أمام التحقيق فيها، بقي مبدأ السرّية المصرفية بمنأىً عن أيّ مسّ أو تعديل.
السرّية المصرفية بالحفظ والصون
اكتست السرّية المصرفية بثوب القداسة، بوصفها مبدأً "فوق ـ قانوني" لا يجوز المساس به. استمرّ ذلك حتّى نهاية الحرب الأهليّة، التي كان لريمون إدّه منها نصيبٌ، إذ انتقل إلى منفاه الاختياري في باريس عام 1977 بعد محاولات اغتيال عدّة تعرّض لها. ولكن انتقاله هذا لم يمنعه من الاستمرار في استبساله الشرس في الدفاع عن السرّية المصرفية، خصوصاً بعد استقرار النظام السياسي الجديد بعد الطائف. فعندما فُتح ملف استعادة الأموال المودعة باسم قائد الجيش في حينها العماد ميشال عون، انبرى ريمون إدّه من منفاه الباريسي ناشراً عدداً من التصاريح في الصحافة اللبنانية بوجه الحملة التي كان يقودها وزير العدل آنذاك إدمون رزق، مستعيداً الحجج القديمة نفسها، ومطالباً بحماية إضافية للسرّية المصرفية التي يريد "بعض الجيران" القضاء عليها.11
استمرّ ممثلو الطوائف من المشاركين في السلطة السياسية الرسمية بعد انتهاء الحرب ـ التي أنتجت ما أنتجته من تحوّلات على الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية ـ بطمأنة "أشباح" السرّية المصرفية ضامنين عدم المساس بها. فلم يتوانَ رئيس مجلس النواب حسين الحسيني عن التعبير عن "الإرادة الصلبة" في حماية السرّية المصرفية،12 كذلك فعل رئيس حكومة ما سُمِّي في حينه "الانقلاب على الطائف" رشيد الصلح في بيانه الوزاري مُطمِئناً بأن الحكومة "حريصة على نظام السرّية المصرفية"،13 وكذلك الأمر عندما اعتبر رئيس الحكومة رفيق الحريري أثناء مناقشة بيان حكومته الوزاري حيث اعتبر أن السرّية المصرفية هي من المُسلِّمات،14 وأيضاً رئيس مجلس النوّاب نبيه بري الذي صرّح بأنّ "السرّية المصرفية خطٌّ أحمر ولبنان لن يتّخذ أي إجراء يمسها".15 ناهيك عن عددٍ كبير من النوّاب الذين شكلوا جماعة ضغط لصالح السرّية المصرفية وأصحاب المصارف، لعل أكثرهم بروزاً وأشدّهم وفاءً النائب إيلي الفرزلي الذي له صولات وجولات في هذا الصدد، ليس آخرها إعلانه صراحة في عام 2021 أنه ينتمي إلى "حزب المصارف".
وذهب رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي وليد جنبلاط إلى أبعد من ذلك في الدفاع عن السرّية المصرفية - أسوة بريمون إده الذي تحدّث عن جيران يريدون القضاء على السرّية المصرفية - معتبراً في مداخلته حول قانون الإثراء غير المشروع، الذي كان يقوّض السرّية المصرفية أن إلغاءها هو مطلب للحركة الصهيونية العالمية: "فجأة اليهود في كلّ أنحاء العالم يعملون على كشف حسابات الغير، وأنا كاشتراكي وفي ظلّ ظروف تاريخية مختلفة كنت مع رفع هذه السرّية، ولكنني اليوم لن أتفق كاشتراكي أو كوليد جنبلاط مع مطالب الصهيونية العالمية من سويسرا إلى السويد إلى لبنان إلخ... أعرف بأنكم تتمنّون أن تضعونا جميعاً أو نصفنا على الأقل في رومية ولكن حتّى الآن لم تستطيعوا".16
قوّة الأيديولوجيا
إذا ما قيست المواقف الضامنة للسرّية المصرفية بميزان تبادل المصالح، فليس من المفترض أن تكون مُفاجئة البتة، إذ إنه من السهل العثور على مصلحة أصحابها في المذهب الذي ذهبوا إليه، لكن بعض المواقف تستدعي الوقوف عندها والتأمّل فيها لما تحمله من دلالة على قوّة الأيديولوجيا المُهيمنة وشبه استحالة التصدّي لسيلها الجارف. في عام 1998 تشكّلت أولى حكومات عهد الرئيس إميل لحود برئاسة سليم الحصّ (المعارضين للنهج الاقتصادي والسياسي الذي اتّبعه الرئيس رفيق الحريري)، الذي استعان بالدكتور جورج قرم وزيراً للمال، وكان الأخير معروفاً بمواقفه المناوئة للسرّية المصرفية، والتي عبّر عنها غير مرّة، مُعتبراً إياها وسيلة شبه قانونيّة لتهرّب الفئات الثرية من الإفصاح عن مداخيلها الحقيقية، بينما يتم اقتطاع الضريبة شهرياً من رواتب الموظّفين والعمّال، وواصفاً النظام الاقتصادي اللبناني بأنه نظام رأسمالية متوحشّة.17
كان طبيعياً أن تثير دعوات الرئيس لحود للإصلاح وخلافه مع رفيق الحريري وترؤس الحصّ للحكومة وتولّي قرم وزارة المال، حفيظة منظومة واسعة من شخصيّات المال والسياسة في لبنان، وقد تمّ التعبير عن ذلك صراحة من قبل عدد من النوّاب في جلسة مناقشة البيان الوزاري لحكومة الحصّ، أبرزها مداخلة للنائب عن كتلة الحزب التقدّمي الاشتراكي محسن دلول، الذي وجّه سؤالاً إلى الرئيس الحصّ مُستنكِراً تولية قرم وزارة المالية: "فما رأيكم يا دولة الرئيس بمن اسندتم إليه حقيبة أساسية وهو ضدّ سرّية المصارف، يقول في كتاب له أنه لا يؤمن بسرّية المصارف لا بل يدعو إلى أن تتحوّل الرساميل من لبنان؟"، ثمّ يستشهد بمقاطع من الكتاب المذكور.18 وكذلك فعلت النائبة بهيّة الحريري في مناسبة أخرى بإشارتها إلى النوايا الخفيّة للوزير قرم بإلغاء السرّية المصرفية.19
أقرّ قانون "فاتكا"، ليس في مجلس النواب اللبناني بل في الكونغرس الأميركي، وفرض على المصارف في العالم تبليغ وزارة الخزانة الاميركية مباشرة بكشوف حسابات عملائها من حملة الجنسية الأميركية أو بطاقة الـ"غرين كارد"
لكن اللافت، أن في الجلستين المُشار إليهما أعلاه، كان الرّد على ما أثير حول موضوع السرّية من قبل الرئيس سليم الحصّ هو تأكيد حرصه على السرّية المصرفية والتزامه بها وعدم سماحه المساس بها، وأنّ حكومته تعتبر السرّية المصرفية من عناصر القوّة للقطاع المصرفي الناشط في لبنان وليس في نيّتها على الإطلاق لا حاضراً ولا مستقبلاً التعرّض للسرّية المصرفية من قريب أو بعيد.20
استمرّ الوضع بالنسبة لقانون سرّية المصارف على ما هو عليه، مُقدّساً لا يُمسّ، ومصحفاً لا يُعدّل، حتّى عام 2001، سنة إقرار القانون الرقم 318 المُتعلّق بمكافحة تبييض الأموال، الذي أقرّه مجلس النواب اللبناني بعد ضغوط كبيرة من المجتمع الدولي وتهديد الدول غير المُمتثلة بالعقوبات، وبموجبه أنشِئت هيئة تحقيق خاصّة برئاسة حاكم مصرف لبنان يُحصر بها حقّ تقرير رفع السرّية المصرفية، أثبتت مع السنوات أن الغاية منها كان تكريس السرّية المصرفية للمؤسّسات والشخصيّات النافذة، لا رفعها.
ثمّ بعد ذلك، أقرّ قانون "فاتكا"، ليس في مجلس النواب اللبناني بل في الكونغرس الأميركي، وفرض على المصارف في العالم تبليغ وزارة الخزانة الاميركية مباشرة بكشوف حسابات عملائها من حملة الجنسية الأميركية أو بطاقة الـ"غرين كارد"، أو من يشكّ المصرف في إقامتهم في الولايات المتّحدة الأميركية، تحت طائلة العقوبات بحقّ المصارف غير المُلتزمة، أو المُمتثلة (وهو التعبير الذي يستسيغه الأميركيون ومصرف لبنان). فهرعت المصارف اللبنانية لتطبيق هذا القانون، وأجبرت عملائها ممن يسري عليهم على التوقيع على موافقتهم على كشف السرّية المصرفية عن حساباتهم تحت طائلة إقفالها.
وتحت تأثير سيف العقوبات المُصلت، امتثل مجلس النواب اللبناني مرّة أخرى عام 2015، ليقرّ القانون 44 التعديلي للقانون 318/2001 المذكور آنفاً، بحيث وسّع نطاقه لناحية الجرائم التي تبيح رفع السرّية المصرفية، ولكنه أبقى على الصلاحية الحصرية للهيئة المذكورة في رفع السرّية بالتفاف على الغايات المرجوّة من القانون. واللافت في الأمر أن هذا التشريع قد تمّ خلال فترة فراغٍ رئاسي حين كانت قوى سياسية تتذرّع بانعدام إمكانيّة عقد جلسة تشريعية للمجلس قبل انتخاب رئيس الجمهورية عملاً بأحكام الدستور، فابتُدِع ما عُرِف بـ"تشريع الضرورة" القائم على مبدأ "الضرورات تبيح المحظورات" وشارك به أكثرية أعضاء المجلس، كرمى لعيون الأجانب!
القانون في خدمة الأموال القذرة
على الرغم من سواد الترويج لقانون السرّية المصرفية بوصفه جاذباً للرساميل، وبالتالي مُحقِّقاً للازدهار والرفاه والنموّ الاقتصادي، فإنّ هذه السردية تُغفِل جانباً آخرَ من الحقيقة. فالقطاع المصرفي اللبناني بدأ يشهد نموّه قبل إقرار قانون السرّية المصرفية بسنوات، وكذلك الأمر بالنسبة إلى نزوح الرساميل من المنطقة، بالإضافة إلى أن دول الخليج العربية شهدت طفرتها النفطية بعد سنوات من إقرار القانون، فليس دقيقاً الجزم بأن العامل الجاذب للرساميل كان قانون السرّية المصرفية وحده، بل إن ظروفاً عديدة محلّية وإقليمية ودولية هي التي ساهمت مجتمعة بالأمر.
ولعلّ ما جاء في الأسباب الموجبة للقانون، حول التهرّب من الضرائب ورسوم الإرث يجيبنا عن التساؤل حول سبب التمسّك الوثيق بالسرّية المصرفية من السواد الأعظم من أذرع السلطة المختلفة في لبنان، من سياسيين وإعلاميين ومصرفيين وتجّار ورجال دين... تسبّب هذا القانون في حرمان الدولة اللبنانية من مليارات الدولارات التي كان بإمكانها أن تجبيها، بدل أن تتكدّس وتتراكم في حسابات المصارف والأثرياء من اللبنانيين والأجانب، مُحقِّقا بذلك "النموّ" في القطاع المصرفي والودائع على حساب الخزينة العامّة، ومُحقِّقاً "نبوءة" ريمون إده حول صيرورة لبنان مصرفاً للعالم العربي أسوة بسويسرا بالنسبة لأوروبا، إنّما بوصفها "أمّة من مخبئي المسروقات" كما أسماها لينين.21
قانون السرّية المصرفية، قبل كلّ شيء، هو الكهف الحصين الذي تختبئ فيه الأموال القذرة، المُتأتية عن الفساد والرشوة والإثراء غير المشروع وصرف النفوذ وغيرها من جرائم مالية، وهو الغطاء الذي تستّرت به السياسات المصرفية التي كانت قائمة في العقود الماضية، وتلطّى خلفه المصرف المركزي مراراً وتكراراً لمنع أي تحقيق جدّي وحقيقي حول الهرم الاحتيالي الذي شُيِّد بنيانه بتواطؤ خبيث بين قوى المال والسياسة في لبنان. ثمّ، في الدرجة الثانية هو وسيلة قانونية للتهرّب الضريبي، وبالتالي أداةً فعّالة ومُستدامة للتوزيع غير العادل للثروات والمداخيل.
من هنا كان قانون سرّية المصارف أو عقيدة السرّية المصرفية، شرطاً أساسيّاً من شروط استمرار وهيمنة اقتصاد الكومبرادور القائم حول بيروت كقطب تجاري يمارس هيمنةً إقليمية حتّى عام 1975، ومن ثمّ الاقتصاد القائم على النهب وإعادة توزيع الغنائم المقوننين الذي يتهاوى أمامنا منذ عام 2019، وفي سبيل خدمته تجنّدت هيئات ومؤسّسات وأشخاص وقضاء.
تسبّب هذا القانون في حرمان الدولة اللبنانية من مليارات الدولارات التي كان بإمكانها أن تجبيها، بدل أن تتكدّس وتتراكم في حسابات المصارف والأثرياء من اللبنانيين والأجانب
على هذا المنوال، فإنّ مجموعة القوانين في لبنان هي تمظهرٌ سلطوي للأيديولوجيا المُسيطرة، تحاول اللحاق بها وتكريسها، باعتبار القانون عاكساً للعلاقات الاجتماعية والواقعات السابقة لتكوينه ويُصادق عليها، ويناقض مفهوم الحقّ حين يكون تعبيراً حادّاً غير ملطّف وغير مشوّه عن سيادة طبقة واحدة.22 من هنا جاءت مقولة "القانون يطارد رأس المال"، ليس دلالة على مطاردةٍ بوليسية أو مطاردة الوحش لفريسته، بل هو لهاث العبد خلف معبوده، والدابة خلف سائسها.
مفهوم القانون: فئة تُطاع وفئة تُطيع
لا يمكن تصوّر إمكانية لتعديل القوانين الأيديولوجيّة إن صحّ التعبير، من دون انقلابٍ حقيقي في موازين القوى السياسية، أو حدوث اختلال شديد في هذا الميزان يُهدِّد البنية الاجتماعية والاقتصادية كما هو الحال في ظل الانهيار المُستمرّ الذي بدأت مفاعيله بالظهور بفجاجةٍ منذ سنوات ثلاث. وقد يكون من باب الخديعة أو السذاجة القول إن إقرار قانونٍ هنا أو تعديل قانون هناك كفيل بقلب موازين القوى، لأن القانون ليس مفهوماً عامّاً خالياً من أي مضمون تاريخي، بل هو مرتبط بالطابع العدائي للعلاقات والمصالح المُتقابلة داخل المجتمع، ولأنه يُبنى على شعورين اجتماعيين: شعور فئة بأنّ لها الحقّ في الطاعة، وشعور فئة أخرى بواجب الطاعة، فيتكوّن القانون نتاجاً لهذه الجدلية.
وخير مثالٍ على ذلك، الرحلة الطويلة لإقرار قانون العمل اللبناني، الذي لم يُقرَّ عام 1946 إلّا بعد عقودٍ طويلة من نضال العمّال، ثمّ انتظامهم في إطار الاتحادات النقابية، وتنفيذ إضرابات وتظاهرات سالت فيها الدماء، ورافقها وقابلها تعنُّت شديد وحملة مضادة من أرباب العمل، بحيث أقرّ في النهاية، وإن بصيغة مُجحفة بحقّ العمّال،23 ليكون انعكاساً لموازين القوى التي استتبت في ذلك الحين. ثم تطلّب تعديله عقوداً أخرى من النضال العمالي، حيث انتزع تعديل المادة 50 منه في ذروة الحركة العمّالية قبل نشوب الحرب عام 1975، ثم خبوّ الحركة العمّالية والمطلبية بشكلٍ عام لمصلحة خطاب طائفي تقسيمي، فيكون ذلك آخر تعديلٍ أساسي في قانون العمل حتّى تاريخنا. والأمر نفسه ينطبق على قوانين الأحوال الشخصية الطائفية، التي بقيت عصيّة على أي تبديل أو تعديل باعتبارها تشكّل أحد مرتكزات الأيديولوجيا اللبنانية.
وينعكس ذلك على سلوك المؤسّسات المولجة تطبيق هذه القوانين، سواءً كانت إدارية أو قضائية. فليس القانون وحده من يحكم الحيثيّات والقرارات القضائية، بل تحكمه موازين القوى والمُعتقدات السائدة في المجتمع، فرُبَّ شخصٍ اقتحم مصرفاً واحتجز من في داخله، اعتُبِر في لحظة ما خاطفاً وسارقاً ومجرماً، وفي لحظة أخرى مستوفياً لحقّه بالذات أو بريئاً في أحيانٍ أخرى.
ثوب القدسية المفتوق
لم يكن الإصلاح ـ بكلّ تأكيد ـ هو الغاية التي ارتجاها أقطاب السلطتين السياسية والمالية عند إعطائهما الإذن بتعديل قانون سرّية المصارف، بل اللهاث خلف المال، فهم أولاً يضعون نصب أعينهم المليارات الثلاثة الموعودة من صندوق النقد الدولي، بالإضافة إلى المساعدات الأخرى من جهات دولية مختلفة التي تربط تحرير هذه المساعدات بإنجاز الشروط التي يفرضها الصندوق، وثانياً، فإن قانون السرّية المصرفية بشكله التقليدي بات طارداً للرساميل عوض أن يكون جاذباً لها، كونه بات مؤشّراً إلى الفساد والإثراء غير المشروع وعدم سيادة القانون، ثالثاً، والأهمّ، أن النظام المصرفي اللبناني بالشكل الذي عرفه منذ تأسيس الكيان بات خارج الخدمة محلّياً وإقليمياً ودولياً، إلّا من وظائف بسيطة لم يزل يقوم بها، فهو بقانون سرّية أو من دونه لم يعد قابلاً للتعويم وفقاً لتقرير البنك الدولي بتاريخ 23/11/2022، ولم يعد مكاناً آمناً ولا موثوقاً لإيداع الرساميل، وانتفت الأسباب التي كانت تُساهم في استقطابها، والتي تباهى ببعضها آباء الأيديولوجيا اللبنانية على أنّها مميّزات عضوية تميّز الأمة اللبنانية عن غيرها من الأمم، في نظرة عنصرية تجاه الشعوب الأخرى وتجاه اللبنانيين أنفسهم على حدٍّ سواء.
ليست السرّية المصرفية القاعدة الوحيدة التي تقوم عليها الأيديولوجيا اللبنانية المُهيمِنة، ولكنها بلا شك إحدى أبرز تجلِّياتها، ولعلّ خدش هالة الحرمة التي أحاطت بها طوال عقودٍ وخلع ثوب القدسيّة عنها قد يكون أحد النداءات الناعية للنظام الاقتصادي، وربّما السياسي، الذي عرفه لبنان منذ تأسيسه، والمتحوّر الذي نتج عنه بعد الحرب، والمُتمسّك بالحياة حتى الرمق الأخير، على الرغم من موته السريري، المؤقّت، ربّما.
- 1من الأسباب الموجبة لمشروع قانون سرية المصارف المقدم من النائب ريمون إده والمعروضة في جلسة مجلس النواب تاريخ 25/10/1955
- 2كمال الصليبي، بيت بمنازل كثيرة (بيروت: دار نوفل، الطبعة السادسة 2018) ص 239
- 3فواز طرابلسي، صلات بلا وصل: ميشال شيحا والإيديولوجيا اللبنانية (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 1999) ص 12
- 4فواز طرابلسي، تاريخ لبنان الحديث: من الإمارة إلى اتفاق الطائف (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2008) ص 222
- 5كمال ديب، يوسف بيدس: إمبراطورية إنترا وحيتان المال في لبنان (بيروت: دار النهار، 2014) ص 73- 152
- 6هشام صفي الدين، دولة المصارف: تاريخ لبنان المالي، ترجمة فكتور سحاب (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2021) ص 130-131
- 7صقر يوسف صقر، عائلات حكمت لبنان (بيروت: المركز العربي للمعلومات، 2008) ص 206-207
- 8محضر جلسة مجلس النواب اللبناني بتاريخ 15/7/1959
- 9هشام صفي الدين، دولة المصارف: تاريخ لبنان المالي، ترجمة فكتور سحاب (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2021) ص 142
- 10كمال ديب، يوسف بيدس: إمبراطورية إنترا وحيتان المال في لبنان (بيروت: دار النهار، 2014) ص 90-
- 11إده ردّاً على رد الوزير رزق، جريدة السفير، 14/11/1990
- 12محضر جلسة مجلس النواب اللبناني بتاريخ 8/6/1991
- 13محضر جلسة مجلس النواب اللبناني بتاريخ 28/5/1992
- 14محضر جلسة مجلس النواب اللبناني بتاريخ 2/11/2000
- 15بري: السرية المصرفية خط أحمر، جريدة السفير 11/12/2001
- 16محضر جلسة مجلس النواب اللبناني بتاريخ 13/10/1999
- 17جورج قرم، مدخل إلى لبنان واللبنانيين تليه اقتراحات في الإصلاح (دار الجديد، بيروت 1996) ص 166-167
- 18محضر جلسة مجلس النواب اللبناني بتاريخ 14/12/1998
- 19محضر جلسة مجلس النواب اللبناني بتاريخ 7/12/1999
- 20المرجعين السابقين نفسيهما
- 21فواز طرابلسي، صلات بلا وصل: ميشال شيحا والإيديولوجيا اللبنانية (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 1999) ص 303-304
- 22إنجلز، ماركس إنجلز مختارات: من إنجلز إلى كونراد شميدت (دار التقدم، موسكو) ص 180
- 23للمزيد من التفاصيل حول هذه القضية؛ لمى كرامة. النقابات والقضاء في معركة قانون العمل 1946 حين بدا القانون سلاحا في ايادي القوى العاملة. المفكرة القانونية، العدد الثالث