Preview حملات المقاطعة

هل المقاطعة سلاحٌ فعّال لتحرير فلسطين؟

في ظل عالم رأسمالي يعاني من أزمة الإنتاج الزائد ورأس المال الفائض، قد تكون المقاطعة الاستهلاكية سلاحاً فعّالاً لكن بشروط. 

في أيلول/ سبتمبر 1944، تعرّضت الأميركية من أصل أفريقي ريسي تايلور للخطف والاغتصاب الجماعي على يد ستة رجال بيض مسلّحين في ولاية ألاباما. بعد التحقيق في قضيتها، قامت الناشطة الأميركية من أصل أفريقي الشهيرة روزا باركس - مع نشطاء آخرين من أصول أفريقية في حركة الحقوق المدنية وقتها - بالترويج لقضية تايلور في مونتغمري.

على الرغم من نجاحهم في حشد دعم وطني من النقابات العمّالية، والمنظّمات الأميركية الأفريقية، والجماعات النسائية، لكنّهم لم يحصلوا على العدالة في المحكمة لتايلور. وعلى الرغم من اعترافات الرجال الستة، رفضت هيئة المحلّفين توجيه الاتهام إلى الرجال، ولم تتم إدانة أي منهم.

التعبئة التي أنشأها مجتمع السود في ألاباما كوّنت شبكات اجتماعية وسياسية مكّنت من تنظيم مقاطعة للحافلات في مونتغومري بعد عقد من الزمن

بعد عشر سنوات من هذه الحادثة، وفي ظل تكرار حوادث أخرى ضد مواطنين أميركيين سود، رفضت روزا باركس – في حادث شهير خلّد اسمها – القيام من مقعدها في حافلة في مونتغمري لتوفيره لرجل أبيض، فكانت القواعد وقتها تحتم على المواطنين السود الجلوس في المقاعد الخلفية من الأتوبيس، واحتلال المقاعد الوسطى فقط إذا كانت مُتاحة في حال امتلاء المقاعد الخلفية، مع التزامهم بترك المقعد والوقوف في حال ركوب مواطنين بيض. والتعبئة التي أنشأها مجتمع السود في ألاباما كوّنت شبكات اجتماعية وسياسية مكّنت من تنظيم مقاطعة للحافلات في مونتغومري بعد عقد من الزمن. وفي ليلة اعتقال باركس كردّ فعل على رفضها القيام لرجل أبيض، قام المجلس السياسي النسائي – مؤسّسة مشكّلة من نساء أميركيات من أصول أفريقية تدعو للحقوق المدنية للمواطنات والمواطنين السود – بطباعة وتوزيع منشور في جميع أنحاء المجتمع الأسود في مونتغمري جاء في نصّه:

للسود حقوق أيضاً، لأنه إذا لم يركب السود الحافلات، فلن يتمكّنوا من العمل. ثلاثة أرباع الركّاب من السود، ومع ذلك يتمّ القبض علينا، أو نضطر إلى الوقوف مع وجود مقاعد فارغة. إذا لم نفعل شيئاً لوقف هذه الاعتقالات، فإنها سوف تستمرّ. في المرّة المقبلة قد تكون أنت أو ابنتك أو والدتك. قضية هذه المرأة (أي روزا باركس) ستُطرح يوم الاثنين. ولذلك فإننا نطلب من كلّ مواطن أسود الابتعاد عن الحافلات يوم الاثنين احتجاجاً على الاعتقال والمحاكمة. لا تركب الحافلات إلى العمل أو المدينة أو المدرسة أو أي مكان يوم الاثنين. يمكنك البقاء خارج المدرسة لمدة يوم واحد إذا لم يكن لديك وسيلة أخرى للذهاب إلا عن طريق الحافلة. يمكنك أيضاً تحمّل كلفة البقاء خارج المدينة ليوم واحد. إذا كنت تعمل، استقل سيّارة أجرة، أو قم بالمشي. لكن من فضلكم، أيها الأطفال والكبار، لا تركبوا الحافلة على الإطلاق يوم الاثنين. 

في هذا الوقت، تبرّع أصحاب السيّارات من المتضامنين مع القضية في توصيل المواطنات والمواطنين السود، وأوصل سائقو التاكسي السود الركّاب السود بعشر سنتات، وهي قيمة أجرة الحافلة، وتحوّلت المقاطعة الأسبوعية لمقاطعة دائمة، واستمرّت أكثر من سنة كاملة، وكلّفت المقاطعة شركة حافلات مونتغمري أكثر من مليون دولار في ذلك الوقت (حوالى 11.5 مليون دولار حالياً). لكن الأهم من ذلك، أعطى نجاح الحملة مجتمع السود في الولايات المتّحدة ثقة كبيرة، وكان الحادث والمقاطعة بمثابة شرارة مهمة لحركة الحقوق المدنية الأميركية التي أدّت إلى إلغاء كل قوانين الفصل العنصري في الولايات المتّحدة.

باركليز والفصل العنصري في جنوب أفريقيا

في بدايات الرأسمالية، ساد نموذج «كل ما ينتج يباع»، لكن مع التطوّر التكنولوجي وزيادات الإنتاجية الكبيرة لم يعد هذا هو الحال، فلو كان البيع سهلاً، لماذا نغرق في هذا الكمّ من الدعاية والإعلان؟

أطلق طلّاب بريطانيون حملة لمقاطعة بنك باركليز في العام 1969 لكونه أكبر بنك في جنوب أفريقيا في زمن الفصل العنصري. استهدف الطلاب في البداية جهود باركليز لجذب طلّاب جدد في بريطانيا لفتح حسابات لدى البنك من خلال مطالبة الطلاب بعدم فتح حسابات جديدة وإغلاق حساباتهم إذا كان لديهم أي حسابات هناك. بالإضافة إلى ذلك، ولتكبيد البنك تكاليف كبيرة، فتح الطلاب عشرات الحسابات وأودعوا القليل من البنسات في كل منها، ثم أغلقوها في اليوم التالي.

في العام 1970، نظّم الطلاب اعتصامات في فروع البنك، وقاموا بتوعية عملاء البنك من خلال منشورات عن علاقات باركليز بنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. أجرى 600 طالب في نوريتش إضراباً عن دفع الإيجار إلى الحسابات البنكية التي تمرّ عبر باركليز. كما شجّع النشطاء من الطلاب المنظّمات الدينية والثقافية والطلّابية الأكبر على سحب حساباتهم من بنك باركليز علناً. في العام 1971، أغلقت بالفعل الحركة الطلّابية المسيحية ومجلس حيّ لامبيث في لندن المسيطر عليه من حزب العمّال حساباتهم في البنك.

سقط نظام الفصل العنصري في العام 1990 على الرغم من الدعم الشركاتي والسياسي الواسع الذي لاقاه من الساسة المحافظين في الولايات المتّحدة وأوروبا 

في العام 1972، استخدم الطلّاب تكتيكات عدّة للشوشرة على الاجتماعات الجمعية العمومية السنوية لبنك باركليز لطرح أسئلة عن تورّط البنك في الفصل العنصري. واصل الطلاب الضغط على المنظّمات لسحب أموالهم علناً من بنك باركليز. وبحلول العام 1973، أغلقت جمعية المعلّمين في نوتنغهام وكلّية من كلّيات أكسفورد حساباتهما في البنك. واصل الطلاب المقاطعة، وجهود تثقيف عملاء البنك والتوقّف عن دفع الإيجارات، والاعتصامات في الفروع. في كانون الأول/ديسمبر 1976، اشترت شركة باركليز ناشيونال، وهي الشركة التابعة للبنك في جنوب أفريقيا، ما قيمته 6.5 مليون جنيه إسترليني من سندات الدفاع الجنوب أفريقية، ما دفع النشطاء إلى مواصلة المشاركة في حملة المقاطعة.

بدأت كرة الثلج وقام عدد كبير من المنظّمات بسحب حساباتهم علناً من بنك باركليز. وفي العام 1980، سحب المجلس المحلّي لحيّ كامدن في لندن حساباته في باركليز. في العام 1981، وافق المؤتمر الميثودي الوطني على قرار يطلب من أعضاء المؤتمر سحب حساباتهم من بنك باركليز، وفي تشرين الأول/أكتوبر من ذلك العام، حثّ حزب العمّال السلطات المحلّية التي يسيطر عليها حزب العمّال على مقاطعة باركليز. وفي العام 1982، أغلق المعهد الكاثوليكي للعلاقات الدولية حساباتهم في البنك.

بحلول العام 1985، انخفضت حصّة باركليز في سوق الطلاب من 23% إلى 13%، وهو ما تمّ كشفه في وثيقة مُسرّبة بعد أن أصرّ باركليز على أن المقاطعة لا تضرّ أرباحهم على الإطلاق. أدّت هذه الحملة إلى خسارة باركليز عشرات الملايين من الجنيهات الإسترلينية قبل أن يبيع البنك فرعه التابع في جنوب أفريقيا في العام 1986 بعد 17 عاماً من بدء الحملة ضده.

صاحبت هذه الحملة مقاطعة اقتصادية أوسع استهدفت صادرات جنوب أفريقيا، وشركات متعدّدة الجنسيات تعمل في جنوب أفريقيا وتدعم نظام الفصل العنصري هناك، ومقاطعات رياضية وأكاديمية وفنية، حتّى سقط نظام الفصل العنصري في العام 1990 على الرغم من الدعم الشركاتي والسياسي الواسع الذي لاقاه من الساسة المحافظين في الولايات المتّحدة وأوروبا (وتحديداً بريطانيا)، الذين وصفوا مقاومة نظام الفصل العنصري بالعنف والسلطوية. في مقال في الغارديان في العام 2021 بعنوان «ساعدت المقاطعة والعقوبات في تخليص جنوب أفريقيا من الفصل العنصري – فهل إسرائيل التالية في الصف؟»، يقول كاتب المقال: «وصف المدافعون عن جنوب أفريقيا البيضاء، والذين كان من بينهم ساسة محافظون على ضفتيْ الأطلسي، حزب المؤتمر الوطني الأفريقي باعتباره حركة عنيفة مناهضة للديمقراطية وواجهة للاتحاد السوفياتي.  نظرت الصحف الشعبية اليمينية في بريطانيا إلى أجزاء أخرى من القارة الأفريقية وتساءلت عن سبب انتقاد جنوب أفريقيا في حين كانت أوغندا في ظل حكم عيدي أمين أسوأ بكثير، لكن الملايين من الناس العاديين أدركوا حقيقة ذلك الفصل العنصري كجريمة ضد إنسانية كل جنوب أفريقي يخضع لقوانين الفصل وممارساته العنصرية».

***

سلاسل القيمة تجعل سلع كثيرة بلا بلد منشأ واحد مُحدّد، والفرنشايز جعل العلامات التجارية التي كانت مرتبطة ببلد واحد عالمية الطابع، وملاذات الضرائب في الجزر الكاريبية جعلت الشركات وصناديق الاستثمار بلا موطن. تطوّر أدوات رأس المال التمويلي جعل رأس المال متشابكاً بشكل قلّل بشدّة من وجود مصالح رأسمالية منفصلة أو في مواجهة بعضها البعض. في ظل هذا تتحوّل المقاطعة إلى احتجاج على منظومة رأس المال العالمي ككلّ، وليس ضد شركة أو بلد محدّد، حتى ولو كانت الحملة استراتيجياً تتوجّه ضد شركة واحدة حتى لا نكون في مواجهة أشباحاً لا تراهم.

تطوّر أدوات رأس المال التمويلي جعل رأس المال متشابكاً بشكل قلّل  من وجود مصالح رأسمالية منفصلة أو في مواجهة بعضها البعض. في ظل هذا تتحوّل المقاطعة إلى احتجاج على منظومة رأس المال العالمي ككل

قاد يهود الولايات المتّحدة وأوروبا حملة مبكرة لمقاطعة البضائع الألمانية أبان الحكم النازي. واجه جزء كبير من المجتمع الأميركي هذه المقاطعة بالرفض، فرأى بعض الأميركيين وقتها أن هناك مؤامرة يهودية شيوعية لجرّ الولايات المتّحدة للحرب مع ألمانيا النازية واليابان، وظهر هذا الرفض والميل لوجود مؤامرة يهودية عالمية في أكثر صوره تطرفاً في شكل منشور انتشر في العام 1939 نصّه:

إلى الأمام أيها الجنود المسيحيين!

لجعل العالم آمناً من اليهود الشيوعيين.

في الصباح والظهيرة والليل، تغمر الصحافة والراديو والأفلام الإخبارية التي يسيطر عليها اليهود هذا البلد بالدعاية الموجّهة عمداً إلى إشراكنا في الحرب! اليهودي الدولي باروخ، وإيكيس، ودوروثي تومسون ليفي، وكوشر لا غوارديا، وكل جمهور «الصفقة اليهودية»، يستفزون الدول الصديقة! (إشارة إلى ألمانيا النازية واليابان). الشعب الأميركي ليس لديه أي نزاع مع ألمانيا أو اليابان، ولا يريد محاربة أي من الأمتين، ولا الألمان ولا اليابانيون يريدون قتالنا. الأشخاص الوحيدون الذين يريدون الحرب هم اليهود! هل سيتولى اليهود القتال؟ لا! سوف يحققون الأرباح!

لكن مئات الآلاف من الأولاد المسيحيين الأميركيين سيُقتلون ويصابون بالإعاقة والعمى على مذبح الشيوعية اليهودية لأن ألمانيا في أوروبا، واليابان في آسيا، هم أعداء البلشفية اليهودية. إذا اختارت ألمانيا التخلّص من يهودها، فهذا شأنها وليس شأننا! (...) عندما تدافع اليابان عن نفسها ضدّ الشيوعية، فإن إدارة باروخ - فرانكفورتر - روزنمان - مورغنثاو - ناي-بريث لهذه الجمهورية المسيحية تصبح مهينة بشكل عدواني، ويملأ دعاة الدعاية الذين استأجرهم اليهود أعيننا وآذاننا بالأكاذيب، ويصرخون «الاضطهاد!»، ويطالبون بالحرب!

إلى الأمام أيها الجنود المسيحيين!

إلى موتكم!

***

تكثر المقاطعات الاقتصادية حينما يدرك جمهور ما متظلم أن في ظل العالم الرأسمالي حيث يتحكّم منطق الأرباح والتسليع على كلّ شيء، وفي مواجهة آلات الحرب الغاشمة التي تخدم هذا المنطق، أن قوّتهم الشرائية الجماعية هي قوّتهم الوحيدة في المواجهة. لم تكتسب الكثير من مبادرات المقاطعة الزخم الكافي لإحداث تغيير، وبالطبع كانت هذه المقالة انتقائية في اختيار مبادرات المقاطعة التي حقّقت زخماً ما، وأسفرت عن نتائج حتى ولو بعد سنوات طوال. لكن المشترك بين كل المبادرات الناجحة هو تطبيقها لسياسة النفس الطويل، وجماعية الفعل وعالميته، واستهداف منتجات ليست احتكارية ولها بدائل، أو لو كانت تتمتع بوضع احتكاري، فمن الممكن إيجاد بدائل لها  بوسائل تضامنية كما في حالة حافلات مونتغمري. في حالة انتل المتواجدة بكثافة في إسرائيل منذ العام 1974، على سبيل المثال، فمقاطعتها تعني ببساطة مقاطعة الحواسيب.

يجب أن يكون النضال تاريخياً وبنيوي الطابع وجماعياً وعالمياً وذي نفس طويل، ووقتها فقط من الممكن أن تكون المقاطعة الاقتصادية سلاح فعّال

نحن كائنات تاريخية في مجتمع تمّ تشكيله على مدار عشرات الآلاف من السنين ونعيش في طبيعة تم تكوين خصائصها على مدار مليارات السنين، وكالتنا (أي قدرتنا كأفراد على اتخاذ أفعال تتعارض مع البنية الاجتماعية التي ورثناها من أسلافنا والبنية الطبيعية) إذن محدودة بالتعريف. لهذا يجب أن يكون حجم وجماعية الفعل على قدر ضعف وكالتنا وقدرتنا على تغيير العالم. تقول وجودية الرجل الأبيض البرجوازي بأن الوجود يسبق الماهية، وأن الإنسان محكوم عليه بالحرّية، لكن ماذا عن العالم الذي سبق وجود أهل غزّة المحاصرين، ألم يسبق ويحدّد ماهيتهم قبل وجودهم؟ وأين الحكم عليهم بالحرّية، وهم ليس لهم اختيار غير الموت سريعاً بقنبلة، أو الموت الأبطأ بالجوع والتعطيش والتشريد والحزن على فقدان الأهل؟

بما إننا من تعساء الحظّ من الكائنات التاريخية التي لم يسبق وجودهم ماهيّتهم، فإن فعلنا يجب أن يكون تاريخياً أيضاً، فنقص وكالتنا في مقابل البنية التي وجدنا أنفسنا نعيش في ظلها، لا يعني اننا لا نستطيع فعل شيء، فنحن نعيش في عالم ساهم في تشكيله نضالات تاريخية لأسلافنا. لكن لكي نفعل شيئا، بعيداً من ابتذال الوجودية والفردانية الفجّة عن الحرية وقدرة الفرد على تحديد مصيره، يجب أن يكون النضال تاريخياً وبنيوي الطابع  وجماعياً وعالمياً وذي نفس طويل، ووقتها فقط من الممكن أن تكون المقاطعة الاقتصادية سلاح فعّال.

يجب أيضاً أن نستعد، لأن أي نجاح لن يعني أن المعركة سوف تحسم حسماً نهائياً أرماغدوني، فما زالت آثار أنظمة الفصل العنصري موجودة في جنوب أفريقيا والولايات المتحدة، ولم يتخلّص العالم لليوم من تهديدات التفوّق الأبيض على الرغم من ما بدت عليه هزيمة النازيين في الحرب العالمية الثانية من كونها هزيمة حاسمة. وما زال أيضاً التفاوت الاقتصادي والاجتماعي الكبير بين القوى الاستعمارية والمستعمرات السابقة كبير على الرغم من انتصارات حركات التحرّر المتتالية في النصف الثاني من القرن العشرين.