Preview الرأسمالية المتأخرة

عن أشباح رأسمالية المرحلة المتأخِّرة

ما يميِّز الطور الحالي من الرأسمالية -يطلق عليها أحياناً «رأسمالية المرحلة المتأخِّرة» (late-stage capitalism)- عن رأسمالية آدم سميث المتخيَّلة أو المثالية، أن ما كان يظن سميث إنه خفيٌّ في نموذجه (يد السوق) أصبح أقل خفاءً، بينما ما كان مرئياً وقتها أصبح خفياً. 

تتمحور يد سميث الخفيَّة حول قدرة الأسعار على نقل المعلومات المُرتبطة بالعرض والطلب بشكلٍ آني ما يسمح للمنتجين بزيادة العرض أو تقليله، وتسمح هذه الآليّة بالاستغلال الأمثل للموارد المحدودة، بحيث تذهب تلك الموارد للمنتجات المطلوبة وتنسحب من المنتجات التي يقلُّ عليها الطلب. لا يمكن الحصول على تلك المعرفة -وفق الرؤية المثالية للسوق-  إلّا بترك قوى السوق تعمل بشكلٍ حرٍّ، ولكن في رأسمالية المرحلة المتأخِّرة أصبح من المُمكن الحصول عليها بطرق عدّة، وأصبحت معلومات مُتاحة، والشكل الأوضح لهذه الإتاحة هو ما يُسمَّى بالبيانات الكبيرة (big data) التي تسجِّل عمليَّات البيع والشراء بشكل آني، بل وتسجِّل حتّى الاهتمام أو التفكير في شراء سلعٍ معيَّنة. 

بيانات المحال التجارية أيضاً -التي أصبحت مُسجَّلة إلكترونياً بشكل متزايد- يمكن أن تعطي المُنتِج أو البائع فكرة دقيقة عن حركة الطلب على السلع المختلفة. حتّى بالنسبة للخدمات مثل التاكسي ورحلات الطيران وحجوزات الفنادق، فكل المعلومات التي تخصّها أصبحت مُتاحة، والكثير منها مُعلن بشكلٍ مُستقل تماماً عن السعر كتمثيل لديناميَّات العرض والطلب. تفترض أيضاً يد سميث الخفيَّة أن السوق يمكن أن تكون حرَّة تماماً ولا يتمّ التدخّل بآليّات العرض والطلب، وهذه بالطبع صورة مثالية قلّما تحدُث في الواقع المعاش. على سبيل المثال، قوانين الملكيّة الفكرية هي في الواقع ليست أكثر من مجرّد محاولة للسيطرة على المعروض من منتج معيَّن، للحفاظ على أسعاره مُرتفعة، لصالح مُحتكر يمتلك حقوق إنتاج منتج ما حصرياً.

بالنسبة للمنتجات المادية الملموسة، لم تعد الأسعار هي السبيل الوحيد لمعرفة آليَّات العرض والطلب، وبالنسبة للمنتجات الرقمية، لم يعد هناك أصلاً علاقة بين العرض والطلبلدينا أيضاً أمثلة لا حصر لها من الندرة المُصطنعة المُصمَّمة للتحكّم في إمدادات سلع معيَّنة، ناهيك عن القيود الجمركية والضريبية وسياسات الدعم والحوافز وأنواع ودرجات مختلفة من الاحتكارات، تهدف جميعها إلى التأثير على أسعار السلع (بما في ذلك سلعة العمل)، بعيداً من المفاهيم المثالية لديناميّات العرض والطلب البحتة.

من خصائص رأسمالية المرحلة المتأخِّرة أيضاً هو تنامي حصّة اقتصاد المعرفة الرقمي في الاقتصاد. لا يوجد في هذه السلع علاقة بين العرض والطلب من الأساس. فزيادة الطلب على منتج معرفي رقمي لا يؤدِّي إلى زيادة المعروض منه. يكفي وجود نسخة واحدة من كتاب أو أغنية أو مقالة على الإنترنت ليستهلكها أي عدد من البشر من دون زيادة المعروض منها. حدث أيضاً فكّ للارتباط بين الطلب والسعر، ففي غالبية الحالات لا يتأثَّر سعر المنتج الرقمي بحجم الطلب عليه، فالمعرفة الرقمية لا تعاني من الندرة بحيث تؤدّي زيادة الطلب عليها إلى زيادة في سعرها حتى نحصل على توازن السوق. 

باختصار بالنسبة للمنتجات المادية الملموسة، لم تعد الأسعار هي السبيل الوحيد لمعرفة آليَّات العرض والطلب، وبالنسبة للمنتجات الرقمية، لم يعد هناك أصلاً علاقة بين العرض والطلب. 

على الجانب الآخر، كانت عمليَّات التراكم ونزع فائض القيمة تتمّ على مرأى ومسمع من الجميع في عالم آدم سميث وما قبله، فمسرح نزع القيمة في فترة الرأسمالية الصناعية المُبكرة كان المصنع، وهو مساحة مركزية يجتمع فيها العمَّال وعوامل الإنتاج والرأسمالي جميعاً في المكان نفسه ليقوموا بعملية الإنتاج وخلق القيمة، وقبلها في ظل النظام الإقطاعي كان المسرح الرئيسي للتراكم ونزع القيمة هي الأرض الزراعية، وكان الإقطاعي مالك الأرض أيضاً قريب من عملية الإنتاج وكان المُنتَج أيضاً ملموساً. 

سهَّل هذا كثيراً من عمليات التفاوض والتنسيق والنضال من أجل أجور أفضل وأيام عمل أقل وأقصر، وبالفعل نجح عمّال المصانع في تحسين ظروف عملهم على مدار أكثر من قرنٍ من النضال على أرضية المصانع، واستطاع الفلّاحون أيضاً نيل الكثير من الحقوق نتيجة النضال من أجل الأرض. أدّى حالياً تطوّر أدوات التمويل وتعقّد هياكل الملكية وفصل العمل والإدارة عن الملكية، فضلًا عن ملكية الأصول غير الملموسة (مثل حقوق الملكية الفكرية)، إلى فكّ ارتباط الملاك المادي والمباشر بعملية الإنتاج.

أصبحت أيضاً عملية إنتاج القيمة لا مركزية بشكلٍ متزايد بسبب انتشار اقتصاد المنصَّات مثل أوبر، وانتشار العمل المنزلي والحرّ، وبالتالي لم يحدث فكّ ارتباط فقط بين بائعي قوَّة العمل وملاك وسائل الإنتاج كما أشرت أعلاه، لكن بين بائعي قوة العمل بعضهم البعض. هذا التفتيت كان من الممكن أن يكون إيجابياً لو كان هدفه توسيع قاعدة الملكية ودمقرطتها، ولكن ما نشهده هو العكس تماماً فقد صاحب هذا التفتيت أيضاً تركيز كبير رأس المال.

التعبير النقدي عن التبادل يخفي أكثر ما يُظهر

لم تقتصر هذه الشبحية على أنماط الملكية فقط. كانت التجارة في الماضي تتم إلى حدّ كبير بين منتجات تتطلّب قدراً متقارباً من الموارد الطبيعية والبشرية، فكان التبادل البيئي في التجارة متوازن، لكن مع صعود ما يُسمَّى بالانشطار الكبير Great Divergence في معدّلات النموّ وتعميق التقسيم الدولي للعمل بين الاقتصادات الاستعمارية (metropolis) والمُستعمَرات في أعقاب الثورة الصناعية، أصبح التبادل البيئي لا متكافئاً حتى ولو كان التعبير النقدي عن التبادل التجاري متكافئاً.

مصر تخسر على مستويين: إعطاء العالم أموالاً أكثر ممّا تتلقى، وفي الوقت نفسه إعطاء العالم موارد بيئية أكثر ممّا تتلقىدعنا نأخذ مصر في العام 2015 كمثال (وهو آخر عام مُتاحة فيه بيانات عالمية عن تبادل الموارد البيئية)، فنجد أن عجز الحساب الجاري -التجارة مع العالم الخارجي- كان 18.7 مليار دولار، بينما بلغ العجز في معادلات المواد الخام  182 مليون طن، أي أن مصر صدَّرت 182 مليون طن من معادلات المواد الخام أكثر ممّا استوردت. أمّا بالنسبة للطاقة، فقد عانت مصر من عجز يساوي 155 مليون غيغاجول، وهي طاقة تعادل 26 مليون برميل نفط، و27 ألف هكتار من الأراضي، وحوالي نصف مليون ساعة من العمل.

لو افترضنا أن القيمة النقدية للسلع والمنتجات مرتبطة -حتى لو بشكلٍ غير وثيق- بحجم الموارد البيئية التي استخدمت في إنتاجها، فوجود عجز نقدي في الحساب الجاري من المفترض أن يعني أن مصر تلقَّت موارد بيئية أكثر ممّا أرسلت للعالم، أي أن لديها فائض من الموارد البيئية، لكن العكس هو الصحيح، فمصر تخسر على مستويين: إعطاء العالم أموالاً أكثر ممّا تتلقى، وفي الوقت نفسه إعطاء العالم موارد بيئية أكثر ممّا تتلقى. بهذا الشكل يخفي أيضاً التعبير النقدي عن التبادل التجاري مسارات نزوح الموارد البيئية مكانياً.

تطوَّر التقسيم الدولي للعمل بحيث لم يعدْ مُقتصراً على إنتاج سلع مختلفة في بلدان مختلفة فحسب، بل أن مكوِّنات السلعة الواحدة تٌنتَج بشكل متزايد في بلدان عدّة فيما يُسمَّى بـ«سلاسل القيمة»، ولعل هذا أيضاً مُرتبطٌ بالنقطة السابقة عن التبادل البيئي اللامتكافئ، بحيث احتفظت البلدان الأغنى لنفسها بالأنشطة غير كثيفة الموارد الحيوية المادية من عمل ومياه وطاقة وموارد طبيعية. تطوَّرت أيضاً سلاسل القيمة وتوزيعها بين مراحل الإنتاج، وهو التحوّل الذي يحدث من دون ملاحظة كبيرة، ولكنه يؤثِّر بشكلٍ كبير على توزيع الثروة بين القطاعات والبلدان والمناطق الجغرافية، وهو ما يُسمَّى بـ«البسمة الآخذة في الكبر» (growing smile)، والتي تُظهر كيف تزيد القيمة المُستخلصة من عمليات/خدمات ما قبل الإنتاج (البحث والتطوير والتصميم) وما بعده (التسويق والدعاية) على حساب عمليّة الإنتاج نفسها، ما يجعل المنتجين الفعليين للسلع والخدمات الملموسة -سواء كانوا أفراداً أو شركات أو بلداناً- ليس في وضع هشّ فحسب٫ بل في وضع يزداد هشاشة مع الوقت على حساب الاقتصادات التي تتخصّص في الخدمات والأصول غير الملموسة (أنظر الشكل أدناه).

الرأسمالية المتأخرة

انتشرت أيضاً ثقافة «النمو قبل الأرباح»، التي تعني أن الشركات الناشئة من المُمكن أن تخسر طالما حجم الشركة يزيد. والهدف هنا ليس تحقيق أرباح تشغيلية كما كان في الرأسمالية المبكرة، بل تحقيق أرباح رأسمالية عن طريق الإنفاق على نمو الشركة ولو بالخسارة، من خلال عملية تشبه «تسمين» الخراف قبل بيعها حتى يزداد ثمنها. فهدف ثقافة ريادة الأعمال المموَّلة من ما يُسمَّى بالـ venture capital هو تأسيس شركات وبيعها بعد بضعة سنوات والبدء في تأسيس جديد وهلم جرا. كان تدخّل الدولة في الاقتصاد يلام دائماً لأنه يدعم شركات خاسرة مع ما لذلك من آثار سلبية على الاقتصاد، ولكن أصبح الآن هذا هو السياق الحاكم لجزء مُتزايد من القطاع الخاص بسبب ما يُسمَّى بـ«أمولة الاقتصاد»، التي تذهب بنا إلى عالمٍ حيث استثمار سعر السهم فيه أهم كثيراً من أرباح الشركة وأدائها. شركات مشاركة الركوب مثل أوبر هي المثال الأوضح على هذه الدينامية، فقد خسرت أوبر في العام 2022 حوالي 8.8 مليار دولار في حين خسرت شركة ليفت 1.8 مليار دولار. 

تشير كلّ هذه الأمور إلى الحاجة الماسّة لإيجاد مساحة تسعى لفهم عرض أسس ما يُسمَّى بـ«رأسمالية المرحلة المتأخِّرة» وتأثيراتها على منطقتنا والعالم الجنوبي، خصوصاً وأنه يظن أحياناً -بشكل خاطئ- أن هذه الظواهر مُقتصرة على الرأسماليات المتقدِّمة، لكني أكاد أجزم أن تأثيراتها الاجتماعية والاقتصادية والبيئية ستكون أعنف في العالم الجنوبي. سوف تُخصَّص هذه المساحة العمودية الدورية لهذا الغرض، وسوف تكون استمراراً لمدوِّنة وبودكاست «يدٌ خفيَّة» التي كنت أنتجها بشكل مستقل، لكن بدءاً من هذا الشهر ستكون جزءاً من «مشروع صفر» الذي سُعدت وأسعد بالمشاركة فيه.