الخصخصة: معالجة مكانية أم توصية فنّية؟

  • يتم عرض الخصخصة كأنها نتاج لأزمة داخلية يمرّ بها البلد الذي يسعى إلى الخصخصة. هذه السردية بالطبع ليست خاطئة، لكنّها تحكي نصف الحكاية فقط، وتغفل عادة دافع المستثمر والدول التي تقف وراءه.
     
  • رأس المال في حاجة دائمة إلى التوسّع مكانياً من خلال إيجاد المزيد من الأسواق، وزمانياً من خلال الاستهداف الحالي لأرباح مستقبلية استجابة لأزمة الربحية والتراكم الزائد. 

أعلنت الحكومة المصرية في بداية شهر شباط/ فبراير الخصخصة الجزئية لنحو 32 شركة من القطاع العام، في ظلّ محاولاتها المستمرّة لخصخصة القطاع العام جزئياً فيما يُعرف بـ «برنامج الطروحات الحكومية». أعلن رئيس الوزراء مصطفى مدبولى أن هذا الإجراء هدفه تعويض النقص الحادّ في العملة الصعبة التي عانى منه الاقتصاد المصري على مدار السنوات الأخيرة، والتي يرى إنها جاءت نتيجة لحرب أوكرانيا. كان هذا هو الدافع ذاته لإجراء اتفاق تمويلي جديد مع صندوق النقد الدولي، وهو الاتفاق الذي يدفع بدوره في الاتجاه نحو الخصخصة.

نُفِّذ آخر برنامج خصخصة واسع النطاق في مصر في تسعينيات القرن الماضي، وكان الهدف المُعلن من البرنامج وقتها هو تحسين حوكمة تلك الشركات، التي كان يتمّ إدعاء أن كثير منها خاسرة وتكلف الموازنة العامّة الكثير من الأموال. في الوقت الحالي عادة ما يتمّ تأطير نقص التمويل على أنه الأزمة الهيكلية الدافعة للخصخصة، فمثلاً وفقاً لتقرير لمدى مصر، تمّ الإسراع في برنامج الطروحات بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا الذي سبّب بدوره خروج مستثمرين من سوق السندات في مصر، ممّا أدى إلى خروج 20 مليار دولار من البلاد خلال النصف الأول من العام 2022.

في الحالتين (الحالة التسعيناتية والحالية) دائماً ما يتمّ عرض الخصخصة كأنها نتاج لأزمة داخلية يمرّ بها البلد الذي يسعى إلى الخصخصة. هذه السردية بالطبع ليست خاطئة، لكنّها تحكي نصف الحكاية فقط وتغفل عادة دافع المستثمر والدول التي تقف وراءه من الدفع في اتجاه خصخصة القطاع العام وما تمارسه من ضغوطات في هذا الصدد، وهو ما سيكون محور هذه المقالة.

على الرغم من دخول رأس المال الخليجي كلاعب مهمّ في موجة الخصخصة التسعينية، لكن على عكس تلك الفترة، لا يمكن للعين أن تخطئ الدور المتزايد لرأس المال الخليجي حيث تمّ بيع غالبية الأصول العامة المطروحة لبلدان الخليج- وتحديداً السعودية والإمارات. على سبيل المثال، كان طرح شركة التكنولوجيا المالية المملوكة للدولة «إي فاينانس» من ضمن أبرز الطروحات التي حدثت حتى الآن، واستحوذ صندوق الاستثمارات العامة السعودي على حصة 25% منها بقيمة 7.5 مليار جنيه ليصبح المُساهم الفردي الأكبر بالشركة. حتى عندما كان الطرح عاماً مثل في حالة الشركة الشرقية للدخان التي تمتلك احتكار صناعة التبغ في مصر، اشترى مستثمرون سعوديون نحو ربع الأسهم المطروحة بقيمة 400 مليون جنيه.

لا يمكن للعين أن تخطئ الدور المتزايد لرأس المال الخليجي حيث تمّ بيع غالبية الأصول العامة المطروحة لبلدان الخليج- وتحديداً السعودية والإماراتليس هذا بغريب، باعتبار العلاقة السياسية القوية التي بدأت بين مصر من جانب والسعودية والإمارات من جانب آخر في أعقاب الإطاحة بنظام الإخوان المسلمين من الحكم في العام 2013، حيث أدّت الدولتان دور الداعم الأكبر للنظام السياسي الجديد الذي ولد من رحم ذلك النزاع الأهلي الطاحن. في كتابه الشهير «المال والأسواق والممالك»، يقول أستاذ التنمية بكلية الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن آدم هنية، أن من المتوقع للدول المستهدَفة بالاستثمارات السعودية أن يكون لها علاقات سياسية قويّة مع المملكة، وأن تكون على استعداد لتوقيع اتفاقيات استثمار تحمي الاستثمارات السعودية من أي مصادرة. يضرب هنية المثل بإندونيسيا والفلبين اللتين وافقتا على تغيير قوانين الاستثمار الخاصة بهما تحت ضغط سعودي.

أما في مصر، قيل إن أثناء المؤتمر الاقتصادي، اقترحت السعودية على الحكومة المصرية بعض التعديلات في قانون الاستثمار المصري، وتضمّنت عدم القيام بأي إجراءات جنائية ضد المستثمرين من دون موافقة وزير الاستثمار، بالإضافة إلى إجراءات أخرى لحماية المستثمرين من أي إجراءات القانونية قد تحدث ضدهم، وهو ما تم تضمينه في تعديلات قوانين الاستثمار اللاحقة على المؤتمر. جاء هذا تحديداً بعد قضايا بارزة في أعقاب ثورة يناير ضدّ شركات ومستثمرين من السعودية والإمارات، مثل رجل الأعمال السعودي عبد الله الكحكي، وشركة داماك العقارية المملوكة لدولة الإمارات، ومجموعة أنوال السعودية.

الخصخصة كحل لأزمة التراكم الزائد في المراكز الرأسمالية

هناك بالطبع الكثير من الأمثلة الأخرى على محاولات التأثير في القوانين من قبل دول الخليج الذي لا يتسع المجال – ولا يوجد أيضاً داعي – لحصرها جميعاً هنا. لكن ما هو الدافع وراء إصرار بلدان الخليج على الاستثمار ودخول كلّ هذه الأسواق بعيداً عن تبريرات الحاجة إلى الاستثمار الأجنبي في البلدان المُستقبِلة للاستثمارات؟ من الممكن أن نجد الإجابة عن هذا السؤال في النظريات الجغرافية/المكانية للتراكم والتمدّد الرأسمالي.

استخدم ديفيد هارفي مفهوم المعالجات المكانية والزمانية Spatio-temporal fixes لشرح كيف أنّ رأس المال في حاجة دائمة للتوسّع مكانياً من خلال إيجاد المزيد من الأسواق، وزمانياً من خلال الاستهداف الحالي لأرباح مستقبلية استجابة لأزمة الربحية والتراكم الزائد.

بالنسبة لهارفي، لا يمكن اعتبار الشكل الحالي للعولمة أكثر من جولة جديدة يهدف فيها رأس المال الزائد إلى إنتاج وإعادة إنتاج الحيّز المكاني خدمة لأغراض التراكم. يستخدم هارفي مصطلح «المعالجة المكانية» لوصف دافع الرأسمالية لحلّ تناقضاتها الداخلية عن طريق التوسّع وإعادة الهيكلة الجغرافية. وفقاً لهارفي هناك علاقة قوية بين التراكم الزائد والمعالجة المكانية. تناقض الرأسمالية الرئيسي الذي يتمّ التعبير عنه من خلال التراكم الزائد، غالباً ما يُعرَّف كلاسيكياً كفوائض في قوّة العمل ورأس المال مع عدم وجود طريقة لجمعهما معاً بطريقة مربحة. ينتج هذا بسبب الاتجاه لزيادة رأس المال الثابت (أي التطوّر التكنولوجي) ممّا يؤدي إلى فوائض كبيرة في الإنتاج وانخفاض الأجور في الوقت نفسه. يتحايل رأس المال دوماً على هذا التناقص عن طريق حزم التحفيز الحكومية والاستهلاك المدفوع بالديون. إذا تعذّر حل الأزمة بإحدى هذه الوسائل، فإن النتيجة هي تخفيض كبير لقيمة كلّ من رأس المال والعمالة (انتشار حالات إفلاس وتوقّف المصانع والآلات، والسلع غير المُباعة، والبطالة).

نشأ هذا التراكم الزائد في اقتصاديات الخليج من خلال الثروات النفطية الضخمة في مناطق غير كثيفة بالسكانإذا حدثت، على سبيل المثال، أزمة تراكم فائض محلّي داخل منطقة أو إقليم معين، فإن تصدير فوائض رأس المال والعمالة إلى مناطق جديدة لبدء إنتاج جديد سيكون حلاً للأزمة. يذكر هارفي هجرة العمالة ورأس المال عبر المحيط الأطلنطي من بريطانيا إلى أميركا الشمالية في سنوات أزمة القرن التاسع عشر. «الهدف هو السماح بتراكم رأس المال على صعيد عالمي لمواصلة مساره من خلال عمليات الضبط وإعادة التشكيل الجغرافية المستمرّة والمُسبِّبة للاضطراب في بعض الأحيان».

على الرغم من أن التراكم الزائد في الخليج لم ينبع من مثل هذه الديناميكية التي تميز الاقتصاديات المُعتمدة على إعادة الإنتاج الموسّع (سواء صناعي أو خدمي)، بل نشأ هذا التراكم الزائد في اقتصاديات الخليج من خلال الثروات النفطية الضخمة في مناطق غير كثيفة بالسكان. وعلى الرغم من التباين في أصول التراكم الزائد إلا أنهم يتشابهان في الرغبة المحمومة الدائمة في التوسع الجغرافي.

تأثير فائض الثروة على تدفّقات رأس المال 

بدأ التراكم الزائد في دول الخليج جليّاً في أعقاب أزمة النفط التي أعقبت حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 بسبب الارتفاع الحادّ والسريع في أسعار النفط الناتج عن قطع بلدان الخليج إمدادات النفط عن الاقتصاديات الكبرى الداعمة لإسرائيل. كان هناك ردة فعل عنيفة من الولايات المتحدة لفرض حصار نفطي على دول الخليج لدرجة إنه تم نقاش مخطّط لغزو المنطقة والسيطرة على مصادر النفط. وافقت حينها  بلدان الخليج على إعادة تدوير مكاسبها الناتجة عن زيادة أسعار النفط من خلال مصارف نيويورك الاستثمارية كطريقة لإرضاء الولايات المتحدة والحيلولة دون تطور الأزمة إلى صراع عسكري.

نتيجة لهذا، تم استثمار غالبية الفوائض الخليجية في المراكز المالية الغربية، وجاءت إلى المنطقة بشكل غير مباشر في شكل ديون «رخيصة». لكن منذ بداية الألفية ومع طفرة أسعار السلع الأولية التي شهدها العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ذهب جزء كبير من تلك الفوائض في هيئة استثمار مباشر في المنطقة وعلى مستوى العالم.

يذكر هنية في كتابه أن بين عامي 2000 و2015 تضاعفت الحصة العالمية لدول مجلس التعاون الخليجي من تدفّقات الاستثمار الأجنبي المباشر الخارجة ثلاث مرّات، لتصل إلى 1.6%، وهو مستوى تجاوز جنوب آسيا بالكامل (بما في ذلك الهند)، وأفريقيا بأكملها، ويقترب من نفس مستوى جميع دول أميركا الجنوبية. كانت القيمة الإجمالية للاستثمارات الأجنبية المباشرة التي قامت بها دول مجلس التعاون الخليجي رابع أعلى نسبة من بين جميع المناطق في العالم - بعد الاتحاد الأوروبي وأميركا الشمالية وشرق آسيا. يشير هنية أيضاً إلى إنه تم أيضاً توليد 510 مليارات دولار من السيولة الإضافية بين عامي 2002 و2006 فقط.

يؤدّي توطين أسباب ودوافع الخصخصة إلى الاعتقاد بأن «الخصخصة» تمثل حلاً فنياً تكنوقراطياً لأزمات الاقتصاد الهيكلية على المستوى الوطني

في العام 2011، سجلت منطقة الخليج أعلى فائض في الحساب الجاري في العالم قُدِّر بنحو 300 مليار دولار، ما يعني أن صادرات المنطقة وأرباح الاستثمار في الخارج تزيد بمقدار 300 مليار دولار عن وارداتها وأرباح المستثمرين الأجانب في دول مجلس التعاون الخليجي. بلغ إجمالي القيمة الإجمالية للأصول الأجنبية المملوكة لدول مجلس التعاون الخليجي بحلول العام 2011، نحو 1.7 تريليون دولار، نصفها مملوك لصناديق الثروة السيادية.

علاوة على ذلك، بلغ إجمالي المدّخرات المحلية، الذي يقيس مدّخرات الحكومة والقطاع المنزلي وقطاع الشركات مجتمعة 34% و45% من الناتج المحلي الإجمالي في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على التوالي. نسبة مدّخرات محلية أعلى تعني نسبة أعلى من الأموال المتاحة للاستثمار، ويُعدُّ هذان المعدّلين من بين أعلى المعدّلات في العالم. على سبيل المقارنة، يبلغ معدل إجمالي المدّخرات المحلية في مصر 3.1% من الناتج المحلي الإجمالي.

كان لهذه الزيادة الهائلة في فائض الثروة التي نتجت عن ارتفاع أسعار النفط في بداية الألفية تأثير ملحوظ على تدفّقات رأس المال إلى دول الشرق الأوسط غير الخليجية. في العام 2008، جاء 36% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية في المنطقة من دول مجلس التعاون الخليجي، وهو ما يتجاوز حجم الاستثمارات الواردة من أميركا الشمالية التي بلغت 31%، وأوروبا بنسبة 25% وآسيا بنسبة 4%.

في الأخير، يؤدّي توطين أسباب ودوافع الخصخصة إلى الاعتقاد بأن «الخصخصة» تمثل حلاً فنياً تكنوقراطياً لأزمات الاقتصاد الهيكلية على المستوى الوطني. يعتبر هذا من أهم أوجه قصور «القومية المنهجية» methodological nationalism السائدة في الاقتصاد، والتي تتعامل مع الدولة الوطنية كوحدة التحليل الرئيسية. تحرمنا القومية المنهجية والتعاطي التكنوقراطي في تقارير مؤسسات التمويل الدولي الحافلة من القدرة على تحليل الظاهرة اجتماعياً وطبقياً وتاريخياً. تصبح المقاربة القومية أيضاً أكثر تقادماً كلّما تعمّقت سلاسل القيمة العالمية وأزيلت الحواجز الوطنية أمام رأس المال كما هو الحال حالياً، ليحدث الجمع بين فوائض رأس المال الخليجية وفوائض قوة العمل في مصر وغيرها على مستويات متجاوزة للدولة الوطنية.