الديموغرافية السياسية في المشرق العربي
تشابُه في السلوك وتخالف في التفسير

  • تُعنى الديموغرافيا بدراسة ديناميّات السكّان، بينما تتمثّل السياسة في طبيعة الدولة ونظام حكمها وتركيب السلطة وضوابط ممارستها، في مقابل الحقوق والحرّيات المختلفة العامة والخاصة.
     
  • موضوع الديموغرافية السياسية هو علاقة التأثير المُتبادلة بين الموضوعات السكّانية ومجموع المسائل ذات الصلة بالدولة، لا سيّما فيما يتراءى من إعادة تشكّل في المجالين السياسي والديموغرافي، يمكن أن تنسحب مفاعيلهما على المجالات المجتمعية الأخرى.
     
  • هل المجال الديموغرافي، الذي يشكل مقوّماً جوهرياً في صياغة العملية السياسية، يُسهِّل تحقيق مشاريع سياسية تنحو باتجاه تعديل الجغرافيا السياسية في هذه البلدان؟ أم أن ذلك عصيٌّ على التنفيذ بسبب من الديموغرافي نفسه؟

لماذا الديموغرافيا السياسية لبلدان المشرق العربي؟ وما هو المجال الجغرافي الذي يرسم حدودها؟ وما هي الفروقات التي تساعد على التمييز بين هذا الحقل وغيره من الحقول الجغرافية، وتتميّز بها دوله، دون سائر البلدان العربية الأخرى؟ لماذا يقتصر البحث على: فلسطين، الأردن، العراق، سوريا ولبنان؟ وما هو الترابط بين هذه الجغرافيا، مع مكوّناتها الديموغرافية، والمُتمثّلة بوقائعها الحيوية، (زواج، ولادات، وفيات، هجرة، إلخ)؟ وربّما ما يزيد من أهمية هذه المسألة، ما جرى في غالبيتها، ولا يزال، من مواجهات، سواء في العنف أو في السياسة، قد تؤدّي إلى تحوّلات جيو-سياسية. إذ ارتسمت منذ مطلع عشرينيات القرن العشرين، وفي بدايات تكوّن دولها، لوحة مركّبة من الديناميات الديموغرافية، التي كانت تضفي على الانتماءات الدينية، أهمّية تتخطّى، في غالب الأحيان، ما عداها من انتماءات أخرى، ممّا قد يعني، أنه لربما يفضي إلى واقع سياسي، أقل ما يقال فيه، على المدى المنظور: إنه كارثي النتائج، وعلى مستويات متعدّدة، ولا سيما في ظل تدخّلات أميركية، ومن ثمة إسرائيلية، تستمر متزايدة، ومن تصدّعات سياسية وإجتماعية، تضعف من عناصر القوة والمقاومة. وتقضي الإشارة مسبقاً إلى أن عشرات الكتب والدراسات، وبلغات متعدّدة، لباحثين أجانب وعرب، تناولوا هذا الموضوع، وفي هذه الدول نفسها، ولا سيّما، ما له علاقة بفلسطين، في حين أن أساس مقاربتنا، يتناول مدى أهمّية التحليل الديموغرافي، في مقاربة المسألة السياسية، والذي يؤشِّر إلى عناصر قوية من الوحدة بين مكوّناتهم الاجتماعية، المُتمثلة بهذه الكثرة من تنوّعهم الديني، والعرقي، والإتني، والمذهبي … إلخ، وذلك، خلافاً لبعض السائد والمتداول شفهياً أو كتابة، والذي رأى فيه، أي في هذا التنوّع، المغفور له العلّامة المرجع محمد حسين فضل الله أطراً وأساساً «لغنى أفرادها من خلال التنوّع في الوحدة... إن من الضروري السعي من قبل الجميع، وعلى امتداد عالمنا العربي والإسلامي، إلى عدم الاستمرارفي جعل الانتماء الحزبي أو الحركي أو ما إلى ذلك من أطر سياسية أو اجتماعية حالة عصبية تجعل الارتباط بالعنوان والشعار، فتلغي التنوع في داخلها».1

الديموغرافيا والسياسة

لا بأس أن تكون البداية، من بعض التعريفات العامّة، بحيث بات من المسلّمات، أن كلمة «الديموغرافية»، هي مصطلح، من ابتكار أشيل غيار، الباحث الفرنسي في مجال علم النبات، وكان ذلك في العام 1855، في كتاب له بعنوان «مبادئ الإحصاء البشري، أو الديموغرافية المقارنة».2 في مقدمة الكتاب، رأى أن يتمّ التمييز بين مفهومين للديموغرافيا، أولهما بالمعنى الواسع، وقصد به: التاريخ الطبيعي والمجتمعي للكائن البشري، في حين بالمعنى الحصري والدقيق، فإنه يشمل مروحة من المواضيع، التي لها علاقة الناس، بما هي عليه من «وصف للجماعات البشرية بلغة الأرقام، وبحسب الأماكن التي يقيمون فيها»،3 وعلى أنها علم الوقائع، التي لها علاقة بأحوالهم، أي أن الديموغرافيا هي «الدراسة الرياضية عن السكان، من حيث تغيّراتهم العامة، وعن أحوالهم الجسمية، والمدنية والفكرية والأخلاقية.4

الديموغرافيا هو العلم الأكثر استعانة بالإحصاء والرياضيات، في دراسته لخصائص السكان، وغالباً ما يدرَّس في الجامعات على أنه أحد فروع علم الاجتماعوفي حين تميل غالبية الترجمات العربية لكلمة (démographie) على أنها علم السكان، نميل لأن تبقى على حالها، «ديموغرافيا»، بحيث أنه لا يوجد علم واحد بمفرده يهتمّ بالسكّان، فجميع العلوم الإنسانية والاجتماعية تولي الأهمّية بهم، وعلى أن كلاً من هذه العلوم، يهتم بأحد الجوانب من نشاطاتهم الحياتية والعملية، ويحدّد حقلاً خاصاً به. أما بالنسبة لماهية هذا العلم، فهناك تعريفات متعدّدة، وربما، بحسب ما كان يحصل من تقدّم في مجالات دراساته وفي تطوير أدوات التحليل التي يتمّ ابتكارها، من أهمّها ما ورد في القاموس الديموغرافي متعدّد اللغات، الصادر عن لجنة السكّان في الأمم المتّحدة في العام 1958، والذي قام بترجمته للغة العربية الدكتور عبد الكريم اليافي في العام 1966، وجاء فيه «الديموغرافيا علم يتناول دراسة المجتمعات البشرية من حيث حجومها وبناها وتطوّرها وخصائصها العامّة، ولا سيما من النواحي الكمية».5 وهذا التعريف لا يختلف كثيراً عن التعريف الذي صاغه الديموغرافي-الإحصائي الفرنسي الشهير رولان بريسا: «الديموغرافيا علم يتناول الجماعات البشرية، من حيث تغيّر حجومها، نتيجة فعل تأثير الولادات والوفيات والهجرة»،6 وهو الذي كان من أبرز المساهمين، في إعادة صياغة هذا القاموس نفسه في العام 1982، في طبعته الثانية. وبإختصار، فإن الديموغرافيا هو العلم الأكثر استعانة بالإحصاء والرياضيات، في دراسته لخصائص السكان، وغالباً ما يدرَّس في الجامعات على أنه أحد فروع علم الاجتماع. وكما هي عليه حال هذا العلم الاجتماعي في توزّع موضوعاته على حقول متعدّدة (علم اجتماع عام، عائلي، سياسي، اقتصادي، ديني… إلخ). وكذلك، وبالنظر إلى طرائقها وأما إلى مقاصدها، ظهرت فروع في الديموغرافيا مستقلة ومتميزة بعضها عن البعض الآخر: الديموغرافيا الكمية (التحليل الديموغرافي، الديموغرافيا الوصفية، الديموغرافية الرياضية)، الاقتصادية والاجتماعية، والتاريخية، المذاهب والنظريات السكانية،… إلخ. وإذا كانت مقاصد العلم مُبرراً لوجوده، بات من المستغرب أن فرع الديموغرافيا السياسية لم يظهر إلا في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، وهل هناك قضية، في السياسة كما في الاجتماع، أسطع حضوراً، من تدخل الدول الغربية، ولا سيّما الولايات المتحدة وبريطانيا، في شؤون وقضايا العالم، ولا سيّما العربية منها، وخصوصاً في هلاله الخصيب، ممّا أدى لاستعمار فلسطين واحتلالها واقتلاع أكثر من نصف أهاليها، عبر تشتيهم وتشريدهم لاجئين في أرض الله الواسعة، في البلدان العربية المجاورة، أو في بلدان الاغتراب؟ أوليس كلّ ذلك التغيير، أو بالأحرى (الاقتلاع) الديموغرافي لم يكن ليتمّ سوى بفعل سياسي صرف؟ أو على أن هذا التأخير بابتكار مصطلح ديموغرافيا سياسية، ولربما يكون قد تمّ بفعل سياسي أيضاً؟ وبالتالي يطرح التساؤل عن ماهية المقاربة، المبنية على أسس ديموغرافية، والتي يمكنها تقديم مساهمة إضافية، في تفسير ما جرى في فلسطين، وفي امتداداتها الجغرافية الشمالية والشرقية (سوريا ولبنان والأردن والعراق)، من إرهاصات في بناء الدولة. ولكن قبل ذلك، لا بدّ من الإشارة إلى تاريخية هذا المصطلح، وإلى ماهيته.

في خلال ندوة متعدّدة التخصصات حول موضوع «مدخل للديموغرافية السياسية» (24 و25 كانون الثاني/ يناير 1981)، في معهد الديموغرافيا السياسية في باريس آنذاك، والتي كانت برئاسة الديموغرافي ألفريد سوڤي، طرح الجغرافي الفرنسي، جيرار فرانسوا ديمون في محاضرته، تساؤلات عن مدى أهمّية وجود علم جديد عن المجتمعات بعنوان «الديموغرافية السياسية».7 وعلى أي حال، إذا كانت الديموغرافيا تعنى بدراسة ديناميات السكان، والمتمثلة، ليس فقط بالأدلة التي تحكم مواضيع تكاثرهم، وإنما أيضاً، تلك البنية من التحولات الاقتصادية والاجتماعية، التي حدّدت مسارات تطوّرها،  بينما تتمثّل السياسة في طبيعة الدولة ونظام حكمها وتركيب السلطة وضوابط ممارستها في مقابل الحقوق والحريات المختلفة، العامة والخاصة، يصبح «موضوع الديموغرافية السياسية تلك العلاقة من التأثير المتبادلة بين المواضيع السكانية ومجموع المسائل ذات الصلة بالدولة (la cité)»،8 لا سيما فيما يتراءى من إعادة تشكل في المجالين السياسي والديموغرافي، يمكن أن تنسحب مفاعيلهما على المجالات المجتمعية الأخرى. فهل يسهِل المجال الديموغرافي تحقيق مشاريع سياسية تنحو باتجاه تعديل الجغرافيا السياسية في هذه البلدان؟ أي في بلدان المشرق العربي؟ أم أن ذلك عصيٌّ على التنفيذ بسبب من الديموغرافي نفسه، كما كان عصياً على قيام الدولة-الأمة؟ وتوصَّل ديمون لاقتراح عشرة قوانين، أي قضايا، قدَّر على أنها ضوابط تحكم آليّات تأثير الديموغرافي في السياسي، لكن ما نرى على أنها الأكثر تعبيراً، وتقاطعاً مع موضوع دراستنا، يقتصر على أربعة منها: العدد، النوع، الأجيال، والشتات (دياسبورا). 

هكذا، فإن الديموغرافيا السياسية، علم لم يحظَ، قبل ثمانينيات القرن الماضي، سوى بقسط يسير من البحث، وجل ما كتب حول موضوعاتها، يصنف على أنه في إطار الجغرافيا السياسية لهذه البلدان، أو كتابات حول الأوضاع الديموغرافية فيها، أو قراءات سياسية للمجال، من حيث التعبير السياسي عن التشكيلة الاقتصادية-الاجتماعية، المتكوّنة فيها بعد الحرب العالمية الثانية، أي تلك الخصوصية التي ترى أن التباين المكاني، ومن ثمّة الديني، يمكنه أن يشكّل وحدات سياسية ذات شخصية وسمات اقتصادية واجتماعية، ولها نظام سياسي مميّز. وأن أدوات التحليل الأساسية سوف تعتمد على ما تحمله بين طياتها الإحصائيات المتوافرة عن أحوال التكاثر البشري، من دلالات وتفسيرات معيّنة، لا سيّما في السياسي والاجتماعي.

إنّّ تردّي الأوضاع الاقتصادية والسياسية أدّى إلى انتفاضات شعبية، تم استغلالها من الجماعات الإسلامية الأصولية المتطرّفة، بما وفّر إمكانية متزايدة، لتدخلات خارجية في كافة أوضاع هذه  الدولمن الناحية التاريخية، لقد تشكّل المجال الجغرافي في هذه البلدان ضمن مسار جعل من المجالات الأخرى، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، أكثر تنوّعاً وتداخلاً، مقارنة مع بقية البلدان العربية الأخرى، بحيث أن جدلية ديموغرافية تجلّت باستمرار ما بين تشكّل الجماعات، على أسس فرعية (دين، عرق، مذهب، جهة، إلخ) واستغلالها من الدول الغازية أو المستعمرة قبل الاستقلال، ومن الدولة الوطنية بعد منتصف القرن العشرين. هذا، وبعدما جرت محاولات حثيثة في تخطّي ما يفرِّق فيما بين هذه الانتماءات العمودية، من خلال تنامي الفكر اليساري والقومي العربي، الذي تحوّل إلى طفرة أيام حكم عبد الناصر، حصل عكس المأمول والمرتجى، بل تراجعا، على أثر نكسة حزيران/ يونيو 1967. نتيجة ما تم الاصطلاح على تسميته بالعدوان الثلاثي، أي الحرب الإسرائيلية على مصر وسوريا والأردن، وهذا الانكسار أدّى «منذ عقد التسعينيات إلى عملية تحوّل عميقة في التكوين الاقتصادي فرضت تهميش جزء كبير من السكّان وإفقارهم» (سلامة كيلة، ص: 132)، بحيث، أن تردّي الأوضاع الاقتصادية والسياسية أدّى إلى انتفاضات شعبية، تم استغلالها من الجماعات الإسلامية الأصولية المتطرّفة، بما وفّر إمكانية متزايدة، لتدخلات خارجية في كافة أوضاع هذه  الدول.

استعمار فلسطين وتحرير الجزائر

على نحو ما، وبالمقارنة مع بقية البلدان العربية الأخرى، يتبيّن أن بلدانه تشكّلت تاريخياً ضمن مسار جغرافي، جعل من المجالات الأخرى، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، أكثر تنوّعاً وتداخلاً، هذا، ومن بين أسباب أخرى متعدّدة، من المرجّح، هذا ما لم يكن من المؤكّد، أن يكون استعمار فلسطين واحتلالها لتجميع اليهود فيها، تمّ نتيجة سمات هذا التنوّع المجتمعي نفسه، الملاحظ بخاصة، على المستوى الديني والمذهبي والإتني… إلخ، وهذا ما شكّل ولا يزال مجالاً لحراك سياسي متعدّد الغايات والأهداف، من تشكيل لأحزاب وقوى سياسية ذات أهداف وحدوية، إلى أخرى ذات مرامي أخرى، تفسح في المجال إلى تدخّلات خارجية متزايدة. وإنّما، وعلى الرغم من ذلك كلّه، أي من هذا التنوّع، فإن التحليل الجغرافي-السياسي للظواهر الديموغرافية، ولا سيما، فيما يتصل بمواضيع التناسل البشري، أي في تكاثر السكّان يبرز في الغالب، على وجود أفعال تأثير متشابهة على وجهة تطور مقاييس غالبيتها، من الأدلة والمؤشّرات (indicateurs et indices)،9 ولا سيّما في ما يتصل منها بمواضيع مرتبطة بالخصوبة والوفاة، حيث  تؤكّد النتائج الإحصائية، المحصَلة على مدى فترات زمنية، ليس فقط على التراجع بمستويات معدّلاتهما، وإنما إلى التقارب فيما بينها، وفي كافة فئات المجتمع، أي على مختلف مكوّنات تنوّعهم، العمري، الديني، المذهبي، الإتني… إلخ. وذلك، خلافاً لما هو سائد من التباين في المجالات السياسية والدينية… إلخ، ولربما من قائل، متخصّص في العلوم الديموغرافية، على أن هذا المنحى في تطوّر معدلات هاتين الظاهرتين، شكَّل سمة عامة في كافة المجتمعات البشرية، ولا سيما منذ خمسينيات القرن العشرين، لكنه في هذا المشرق، له دلالة أخرى في تكوين جماعاته.

فهل شكّل، ولا يزال، ذلك «الديموغرافي»، بما هو عليه من خصائص، منفذاً أم عقبة بوجه مشاريع سياسية، معلنة أم مضمرة، تغيّر من واقع ما هي عليه حال الجغرافيا السياسية لبلدان المشرق العربي؟ أم أن ذلك، دونه عقبات بسبب من هذا التكوين المجالي نفسه؟

إذ، وحسب معطيات التاريخ التي يعتبر الظرف المكاني الزماني من معطياته الأساسية:10 استعمار فلسطين واحتلالها وتحرير الجزائر، قضيتان ذات بعد قومي، شكّلتا في أواخر أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، قوام النشاط السياسي، في لبنان، كما في غيره من البلدان العربية، ولا سيّما التي تتشارك الحدود مع كلّ منها، أي في سوريا والأردن. وفي 5 تموز/يوليو من العام 1962، ومع تقديرات بعدد الشهداء تراوح ما بين 50-70 ألف شهيد، حصلت الجزائر على استقلالها، في حين، أنه بعد خمس سنوات من هذا التاريخ نفسه، ونتيجة لما تم الاصطلاح على تسميتها، حرب الأيام الستة من العام 1967، توسّع الاستعمار الإسرائيلي ليطال كامل التراب الفلسطيني، باحتلاله الضفّة الغربية وقطاع غزة، أي فلسطين بكافة مناطقها، بالإضافة إلى قسم من الجولان في سوريا، وسيناء في مصر. ولكن، بدعم ممّا سُمّي بدول الطوق بعد الهزيمة (مصر وسوريا والأردن) نشطت حركة مقاومة فلسطينية مسلّحة، ولا سيما من لبنان ومن منطقة الغور في الأردن، حيث تعاظم الوجود الفلسطيني المسلّح، ولا سيما من الجنوب اللبناني، وبترحيب وتعاطف كبيرين أبداهما غالبية السكان الجنوبيين، وإنّما وسط انقسام وطني حاد حول هذا الوجود المسلّح، بين فئات مؤيدة ومتعاطفة من الأحزاب اليسارية والوطنية بقيادة الزعيم الوطني كمال جنبلاط، وفئات أخرى معترضة، لا سيّما من الأحزاب اليمينية، رأت في ذلك خطراً يهدّد الوحدة الوطنية. وفي تشرين الأول/ أكتوبر من العام 1969 حصلت صدامات مسلّحة بين الجيش اللبناني والفدائيين، تُرجم سياسياً بازدياد حدّة الانقسام الوطني، ممّا استدعى تدخّلاً مصرياً، أدّى لإتفاق بين السلطات اللبنانية والمنظّمات الفلسطينية، نصّ في مادته الرابعة على «السماح للفلسطينيين المقيمين في لبنان بالمشاركة في الثورة الفلسطينية من خلال الكفاح المسلّح ضمن مبادئ سيادة لبنان وسلامته»، وهو ما سُمِّي باتفاق القاهرة (3/11/1969)، الموقّع بين السلطات اللبنانية ممثلة بقائد الجيش اللبناني، العماد إميل بستاني، رئيساً للوفد اللبناني، وياسر عرفات، رئيس منظّمة التحرير الفلسطينية. وهذا ما شكّل حجة لاجتياحين إسرائيليين: الأول في العام 1978، لمناطق جنوبية حدودية، لكنه لم يدم كثيراً، ولاجتياح ثاني كبير في العام 1982، طاول نحو نصف مساحة لبنان، وأدّى إلى سقوط، واحتلال، أول عاصمة عربية، ممّا ولَد مقاومة مسلّحة وطنية عامة، ضمّت ائتلافاً من أحزاب يسارية (جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية «جمول») وأخرى وطنية وإسلامية (أفواج المقاومة اللبنانية-أمل، الجماعة الإسلامية...إلخ)، أجبرت العدو على الانسحاب، بداية من العاصمة، في أقل من فترة أسبوع، ومن ثمّ إلى حدود نهر الليطاني، بحيث برزت مقاومة متنامية من حزب الله، استطاعت في خلال فترة، لم تتجاوز العقد والنصف من الزمن (1985-2000)، أن تحرِّر تراب الوطن، وأن تطرد قوات الاحتلال الإسرائيلي من كافة مناطق الجنوب اللبناني. وكان ذلك، يحصل للمرّة الأولى في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي، أنّ يتم تحرير أراضي محتلّة بفعل مقاومة مسلّحة. ولكن ليس ذلك فحسب، وإنّما على كسر هيبة وجبروت الجيش الإسرائيلي، مرّة أخرى، ولا سيّما بعد عدوانه المستجد في العام 2006. وممّا أدّى إلى نتيجتين هامّتين: الأولى تمثّلت بردع الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي اللبنانية، جوّاً وبرّاً، في حين تتمثّل الثانية، بما شكّله هذا الانتصار من دور في تعزيز دور المواجهة والتصدّي، التي يقوم بها الشعب الفلسطيني ضدّ العدو الصهيوني في فلسطين المحتلّة وغزة؟ وكل هذه المجريات والسؤال المستمر، كان ولا يزال، لماذا اختيار فلسطين موطناً لتجميع اليهود؟ والذين تعرّضوا، ومن دون شك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لمآسي ومظالم في بعض الدول الأوروبية، مع العلم أن الصهيونية السياسية شدّدت على «أهمّية الدولة اليهودية المستقلّة سياسياً من دون كثيرٍ من الإلحاح على فلسطين كموقع لها… ومع أن بنكسر أصبح زعيم أحباء صهيون، عارض في البداية صياغة الفكرة القومية اليهودية على أساس فلسطين… وعلى الرغم من أنه رأيه، في النهاية قد استقر عليها، لتكون موقع الدولة العتيدة، فهو اعتبر أماكن أخرى مثل الأرجنتين وقبرص وشبه جزيرة سيناء وأوغندا بأنها أكثر ملائمة للغرض بسبب ضآلة سكّانها نسبياً».11 فكان الردّ من الصهيانة المتطرّفين، وبدعم أوروبي، ولا سيّما إنكليزي، أن رفضوا هذه العروض كافة، وأصرّوا على أن تكون دولتهم اليهودية في فلسطين. فهل أن التبريرات اللاهوتية هي السبب الفعلي، كما هو متداول وشائع تاريخياً؟ أو أن أسباباّ أخرى غيرها، أكّدتها كافة الكتابات السياسية، ولربما كانت هي الأساس، أو لنقل تم البناء عليها، ومن دون الإفصاح عنها؟ ونعني بذلك سمات البنية الاجتماعية في بلدان المشرق العربي، المتميزة بهذا الغنى من تكويناتها المختلفة، سواء كان ذلك على مستوى التكوين: الأهلي، المدني، والثقافي لجماعاتها المختلفة، أم على مستوى الانتماء الديني، المذهبي، الإتني، وحتى اللغوي… إلخ، والتي تفسح في المجال لتدخّلات خارجية متنوّعة، ومتعددة الأهداف والمرامي، بخاصة بسبب من موقع جغرافي واقتصادي، يتوسّط ثلاث قارات، ولا سيما ما تحتوي عليه بلدانه من مصادر متعددة للطاقة: بترول، غاز، طاقة شمسية... إلخ،  وحيث يتبيّن استمرار اكتشافات جديدة واعدة من الحقول، ومن مقادير مخزوناتها، والتي لطالما وجدت الدول الخارجية في هذا التنوّع، مجالاً لتحسين الإمكانية في إثارة النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية… إلخ، بل والعمل على تعميقها باستمرار، ولربّما استجابة للنصيحة التي قدّمتها جامعة هارڤرد، الجامعة الأميركية الأقدم والأكثر شهرة في ميدان علم الاجتماع، وذلك منذ منتصف القرن العشرين، في كيفية تعاطي الإدارة الأميركية مع البلدان ذات المجتمعات التعددية، بحيث دعتها ليس فقط للمحافظة على التمزّق الإقليمي والطائفي في المجتمع العربي، بل والعمل على تعميقه.12 وليتمّ التأكيد على هذا المنحى في التحليل، من خلال وقائع وحقائق وردت في سرديات تاريخية-سياسية، تضمّنها كتاب ضخم يقع في 716 صفحة من تأليف الكاتب والدبلوماسي الفرنسي السابق، ميشال رانبو بعنوان «عاصفة على الشرق الأوسط الكبير»13 (قام بترجمة نسخته الأولى للعربية، لبانة مشوح، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2016). وهكذا، «وإن بدت إسرائيل، ومنذ إنشائها، على أنها تتويجاً لحلم صهيوني، وهي بالتأكيد كذلك، في حين أنها، وقبل أي شيء آخر، تعبير عن مشروع استراتيجي استعماري مدوٍ، تمّ وضعه بين الكالفنيين الإنكليز وورثتهم من الأميركيين. وهكذا، منذ مطلع القرن العشرين، وبحيث كانت الإمبراطورية البريطانية في أوج مجدها، تمّ التصوّر لتوافق ما بين الصهيونية المسيحية (الكالفينيون الجدد) والصهيونية اليهودية. بحيث، أنه وقبل عشر سنوات من إعلان وعد بلفور، فإن التقرير، الذي تمت صياغته في العام 1907، باسم ئيس وزراء صاحبة الجلالة البريطانية، السير هنري كامبل بانرمان، فإنه، ونظراً لأهميته الاستراتيجية، لم يصدر بصورة علنية، إلّا بعد انقضاء مدة طويلة على تحريره؟ وفقاً لهذه الوثيقة، والتي تتماشى مع النظريات الجيوسياسية لهارولد ماكيندر (أكاديمي وسياسي بريطاني 1861-1947، أحد آباء الجيوبوليتيكا والجيوستراتيجية)، فإن العرب، الذين يسيطرون على مناطق شاسعة، غنيّة بالموارد المعروفة  أو الخفية،  وتقع على مفترق طرق التجارة العالمية، يشكّلون تهديداً لأوروبا، وعائقاً أمام توسّعها؟.14 وبالإضافة إلى كون منطقتهم، هي مهد الحضارات والأديان البشرية، وعلى أنهم متّحدون بالإيمان واللغة والتاريخ، ويشتركون في التطلّعات نفسها، فلا وجود لأي حاجز طبيعي يمكن أن يؤدّي لأن يعزل بعضهم عن البعض الآخر. ولو هناك احتمال، أو مصادفة، أن يتم توحيد هذه الأمة في دولة ما، فإنها ستكون قادرة على عزل أوروبا عن بقية العالم. وخلص بانرمان إلى رأي مفاده: وإذا ما نظرنا للأمور بجدّية فسوف يكون لزاماً علينا زرع جسم في القلب من هذه الأمة العربية، لمنع دوله من الاتحاد، وحتى تكون مضطرة إلى إنهاك قواتها في حروب لا تنتهي، ممّا يتيح  للغرب الاستعانة به قاعدة، يستطيع من خلالها تحقيق الأهداف التي ترمي إليه دوله. وتم إقتراح أربع إجراءات، ترمي إلى تفكيك العالم العربي، أو العربي الإسلامي، ولا سيما إنشاء (دولة عازلة) في فلسطين، يكون فيها وجود أجنبي كبير ولافت، معادية لجيرانها، وصديقة للدول الأوروبية، ولتأمين مصالحهم… وهكذا، وبعد أربعين عاماً من كتابة التقرير الآنف الذكر أعلاه، بدأ تأسيس إسرائيل، وكأنه تعويض عن الكابوس، الذي عاشه يهود أوروبا، في مشهد مروع، وفي كافة المناطق التي وقعت تحت سيطرة النازية المنتصرة بقيادة الرايخ هتلر».15

لطالما وجدت الدول الخارجية في هذا التنوّع، مجالاً لتحسين الإمكانية في إثارة النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية، بل والعمل على تعميقها باستمرار

وبالتالي، يبدو أن تقاطعاً ما، حصل بين موقع جغرافي وتنوّع متعدّد المستويات: الدينية، الإتنية، الثقافية....إلخ ، هو الذي ساهم أن أرسى الخيار، لأن تكون فلسطين بلداً لتجميع اليهود فيها. وأن المسار التاريخي من توزّع سكان بلدانه، الذي غالباً ما كان يحصل على هذه الأسس نفسها، تمّ استغلاله من الدول، الغازية أو المستعمرة، قبل الاستقلال، ومن ثم لإعاقة بناء الدولة الوطنية لاحقاً.

ما هو المقصود بالديموغرافيا السياسية؟

ولكن، على الرغم من التحوّلات الجيو-استراتيجية، والتي حصلت على امتداد مئة عام، وكذلك من الوفرة المتراكمة، من مقالات ودراسات حول هذا المدى الجغرافي، فإن جلّ ما كتب فيها، يصنف على أنه في إطار الجغرافيا السياسية لهذه البلدان، أو كتابات حول الأوضاع الديموغرافية فيها، أو قراءات سياسية للمجال، من حيث التشكيلة الاجتماعية، المتكوّنة فيها بعد الحرب العالمية الأولى؟

وما هي الصلة بين اختيار موضوع الديموغرافيا السياسية لبلدان هذا المشرق، والانفجار الدموي الذي أصاب البعض منها، ولا يزال نازفاً، ومنذ سنوات، وعنينا بذلك العراق وسوريا، وبعدما مرّ بهذه التجربة نفسها لبنان، ولا يزال يعاني من آثارها؟ وباختصار، لماذا يقتصر حقل الدراسة على هذه البلدان (فلسطين، الأردن، العراق، سوريا ولبنان)، والتي غالباً ما كانت تُسمّى بالمشرق العربي؟16 أي على الغالبية من تلك البلدان التي تشكّل ما سُمّي بالهلال الخصيب، التي ناضل من أجل تحقيق وحدتها بعض الأحزاب السياسية، وكذلك بعض من السياسيين والمفكّرين في هذه البلدان، ولا سيما «الدكتور أنطون سعادة، المؤسس للحزب القومي السوري الاجتماعي». ولكن، ما هو المقصود بالديموغرافيا السياسية؟ وفي هذه البلدان تحديداً؟

هذا، وعلى الرغم ممّا جرى، من محاولات حثيثة، في استغلال هذه البنية المجتمعية، ولا سيّما على المستوى السياسي، بهدف التأثير باتجاه تعميق ارتباط هذه البلدان، وعلى كافة المستويات، في خدمة ما تعدّه البلدان الرأسمالية من مشاريع للهيمنة والاستتباع، وبما يضمن، ليس فقط، من يجهد في تسويغ مصالحها، ولكن، وبما لا يتعارض مع مصالح حليفتها إسرائيل، بيد أنه، مع تنامي  الفكر القومي العربي عموماً، واليساري خصوصاً، والذي تحوّل إلى طفرة أيام حكم جمال عبد الناصر، فإنّ هذه المشاريع أصابها الوهن والتعثّر بعض الشيء، ولم تحقّق النتائج المرجوة. في حين أنه، على أثر هزيمة حرب 6 حزيران/ يونيو 1967، بين الكيان الصهيوني وكلّ من مصر وسوريا والأردن، ولا سيّما بعد وفاة الرئيس عبد الناصر في العام 1970، استعادت هذه السياسات والمشاريع الاستعمارية، ليس زخمها فقط، وإنما التنوّع في أساليب تحقيقها.  

وعلى الرغم من أنها لم تعرف الاستقرار، إلا لفترات تاريخية محدودة، فإن هذه البلدان استمرت تشكّل كياناً جغرافياً وسياسياً متصلاً، حتى وإن لم تكن لتستطيع التحوّل إلى شكل من الاتحاد، ولكنها كانت تفشل، في الوقت نفسه، المحاولات الهادفة، لإقامة كيانات جغرافية-سياسية على أسس طائفية، أو عرقية، ولعل المثال الأكثر بروزاً، ما حصل في جبل لبنان في أواسط القرن التاسع عشر، في زمن الحكم العثماني، إذ، وعلى أثر انسحاب قوات إبراهيم باشا من بلاد الشام، تفاقم الوضع على الساحة اللبنانية واستحال الاتفاق على أمير واحد للبنان الموحّد الجبلي، وبعد أن برزت التناقضات بين أعيان الدروز والمسلمين من ورائهم، وبين تيار الموارنة الصاعد، فرضت الدول الأوروبية حلاً نمساوياً اتخذ شكل نظام فدرالي منطلقاً من مبدأ الصيغة التعددية. فقسّم جبل لبنان إلى قائمقاميتين يرأس كل منها قائمقام يعيّنه العثمانيون. الشمالية وعاصمتها بكفيا للمسيحيين، والجنوب وعاصمتها بعقلين للدروز وبعض المسلمين».17  

لكن بعد مرور نحو عقد ونصف عقد تقريباً من الهدوء، تجدًد الصراع الطائفي في العام 1860، وبشكل أكثر قسوة وتدميراً، إلى أن فرض الحل بتدخل أوروبي-روسي مع السلطنة العثمانية، والاتفاق على إنشاء متصرفية، سمّيت متصرفية جبل لبنان، على أن يكون المتصرّف أرمنياً مسيحياً، تعيّنه الدولة العثمانية، إنما بعد موافقة الدول الأوروبية المعنية بالاتفاق، ويتمتّع بصلاحيات مُطلقة، ومن أبرزها تعيين مجلس إدارة، يعاونه في إدارة شؤون المتصرفية، أي من استعادة وحدة الجبل، أو كما حصل في سوريا من ثورات ضدّ الانتداب الفرنسي، في مشروع تقسيم سوريا إلى أربع دويلات، من أبرزها ثورتي صالح العلي الذي رفض إنشاء دولة جبل العلويين، وسلطان باشا الأطرش في جبل العرب (السويداء)، وابراهيم هنانو في حلب ممّا أدّى إلى إفشال تلك المحاولة.

حصل تقاطع ما بين موقع جغرافي وتنوّع متعدّد المستويات: الدينية، الإتنية، الثقافية، ساهم أن أرسى الخيار لأن تكون فلسطين بلداً لتجميع اليهود فيهاومنذ انتهاء فترة الانتداب الفرنسي والبريطاني، يمكن التمييز بين ثلاث مراحل تاريخية، من حيث تعاقبها الزمني، والسياسي أيضاً، منذ الاستقلال وحتى هزيمة حزيران/ يونيو 1967، والربع الأخير من القرن العشرين، وأخيراً ما تعيشه هذه البلدان من إرهاصات، في السياسة كما في الاجتماع. فمن التعثّر في بناء الدولة، كما هي الحال عليه في العراق، ومن  الحرب الكونية في سوريا، والخلاف على دورها في لبنان، ومن ثمّ إلى استيقاظ التناقضات الجماعوية بكافة أشكالها وتحت مسميات متنوّعة. كل ذلك، ينطوي على دور ما للمجال الديموغرافي، أو أقلّه في استخداماته.

وطالما أن السكان (الناس) يشكِّلون العنصر الأول في التكوين الأهلي، كأحد التكوينات المختلفة، التي تؤلف البنية الاجتماعية، فإن مقدار تزايد أعدادهم في بلدان المشرق العربي، والذي يتم التعبير عنه إحصائياً، بمعدل النمو السنوي للسكان، يدفع بالاستنتاج على أن هؤلاء دخلوا في المرحلة الثالثة، من «مراحل تحوّلهم الديموغرافي». وذلك، على قاعدة نظرية شائعة التداول، تحت عنوان «التحوّل الديموغرافي»، كإطار مرجعي عام، من حيث الوصف الكمّي عن مراحل هذا النمو عبر التاريخ، على أساس «منحنيات التطور التي تم ترسيمها، على ما وفرته البيانات الإحصائية من أرقام عن المواليد والوفيات، والتي تم تجميعها منذ منتصف القرن الثامن عشر، في  غالبية البلدان الأوروبية»،18 وشكّلت، وما تزال، على أنها الأنموذج، كاتجاه عام للتطوّرات الديموغرافية المعاصرة، في كافة البلدان، والتي يتم التعبير عنها بيانياً بخطّ تطوّر معدل النمو الطبيعي بين سكانها، أي في تلك المحصلة، الناتجة عن الفرق بين معدلي الولادات والوفيات، وهكذا، يتم الانتقال من نظام ديموغرافي تقليدي، من سماته معدل نمو سكاني بطيء (نتيجة معدلات مرتفعة بين الولادات والوفيات) إلى نظام آخر، يرجع فيه هذا المعدل، بعد فترة طويلة من الزمن، إلى المستوى المتدنّي نفسه، إنّما بعد المرور بمرحلة انتقالية منه، سميت بمرحلة «التحوّل الديموغرافي»، والتي تمّ تقدير مداها الزمني، على فترة مئتي عام (1800-2000)، وشملت بالواقع الفعلي كافة البلدان، والمقسّمة غالباً إلى أربع مراحل زمنية، حيث أن معدل النمو السكاني فيها، والمتدني جدّاً في مرحلته الأولى، والممتدّة إلى آلاف السنوات، ليصل إلى أعلى مستوياته، في مرحلة ما، والتي تشير الدراسات الديموغرافية، أنها حصلت في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر، ليستعيد في مطلع أربعينيات القرن العشرين (1920-1940) معدّلاته المتدنية السابقة. وهي السيرورة المماثلة، التي عرفتها الدول الأوروبية، وانتهت في خلال سنوات 1920-1940.19 وفقاً لذلك، صنّفت تقارير الأمم المتحدة لبنان، على أنه في مرحلة متقدّمة من التحوّل الديموغرافي (المرحلة الثالثة)، إذ يقلّ المعدّل الإجمالي للخصوبة عن ثلاثة مواليد، والأردن وسوريا في المرحلة الثانية مع معدل 3-5 أولاد، أما فلسطين والعراق، فإنهما لا يزالان في أواخر المرحلة الثانية من هذا التحوّل مع معدل إجمالي للخصوبة يتجاوز خمسة مواليد. وجاءت هذه النتائج بخلاف ما توقّعه بعض الباحثين العرب في بداية تسعينيات القرن الماضي، حول استمرار معدل الولادات مرتفعاً، والخصوبة عالية، لا تنفع معهما «كل برامج تنظيم الأسرة وتحديد النسل».

وأن معاينة رقمية لحال تطوّر عدد السكان، على امتداد فترة ستة عقود (1950-2020)، تبيّن أن هذه البلدان عرفت نمواً جامحاً، ولربما بين الأعلى في العالم، أي بمعدل نمو للسكان يصل إلى 2,94 في المئة سنوياً، باستثناء لبنان (كان بحدود 2%). وهذا النمو ليس فقط عبارة عن معادلة إحصائية بين مكوّنات عناصره (ولادات، وفيات، وهجرة)، وإنما يختزن تحوّلات كيفية على إيقاع زمني ثلاثي العقود، وهي في الغالب الفترة الفاصلة بين جيل وآخر. وبالمعنى السوسيولوجي فلكل جيل، وهو المفهوم الذي سنفصٍل حوله لاحقاً، يغتني بتجربته التاريخية المختلفة، والمستندة إلى تراكمات كمّية ونوعية، وعلى مستويات متعددة: التعليمية، والثقافية، والفنية، والسينمائية والعلمية… إلخ. بحيث أن هذه التغييرات، النسبية فيما بين الأجيال، كافية لاستدراج تحولات كيفية، تطال المثل والذهنية والسلوك والآمال… إلخ. إذ يكفي أن يكون لجيل ما، أرجحية عددية على غيره، حتى يشكّل قاطرة للتغيير، أو للاستقطاب حول مسائل معيّنة، وبحيث قدر، صموئيل هنتنغتون، في هذا المجال على «أن نمو السكان في البلدان الإسلامية، وبخاصة تزايد الفئة العمرية بين 15- 24 عاماً، يوفّر الاستقطاب للتيارات الأصولية ويشجّع التمرّد»، ولكن هل أن هذه الأرجحية هي التي تحدّد المسارات، بمعنى أن الموضوع على صلة بالكم، أم بسياق الأزمات الاقتصادية/الاجتماعية المعمَم، الذي يدفع بالعائلة لأن تتخلّى عن دورها كجسر عبور للشباب «إذ أن إنهيار بنيات الإنتاج المحلية يمكن أن يقود إلى انهيار نسق التبادل الاجتماعي والاتصال ما بين الأجيال، وحتى إلى نبذ الشباب خارج البنيات العائلية التي لم تعد قادرة على إظهار تضامنها  مع الشاب الذي يعاني من صعوبة ما، ولا على النهوض بوظائفها كجسر عبور إقتصادي».20 وتاريخياً، شكل العراق وسوريا، تداخلاً جيو-سياسياً، ومجالاً جغرافياً متصلاً، حتّى في ظلّ الصراعات على السلطة التي حصلت في كلّ منهما. حتى أن بعض التكوين العشائري والعائلي، استمر عابراً للحدود الجغرافية بينهما. وغالباً ما كان الاستقرار السياسي بأحدهما شرطاً لاستقراره في الآخر، وحتى للاستقرار في دول الجوار، ولا سيما في لبنان. وفي الغالب، عندما كانت تستتب الأمور السياسية في أحدهما تنسحب بالإجمال على المنطقة بكاملها.

هذه البلدان استمرت تشكّل كياناً جغرافياً وسياسياً متصلاً، حتى وإن لم تكن لتستطيع التحوّل إلى شكل من الاتحاد، ولكنها كانت تفشل، في الوقت نفسه، المحاولات الهادفة، لإقامة كيانات جغرافية-سياسية على أسس طائفية، أو عرقيةهذا، وعلى ضوء ما يجري من صراع مُسلّح في هاتين الدولتين، سوريا والعراق، لا سيّما مع الجماعات التكفيرية، ومن مواجهات مع العدو الإسرائيلي، ولاسيّما على أرض فلسطين، ومن قلق على الاستقرار في لبنان والأردن، تصدر مقالات أو دراسات، غالبيتها من منظور ثقافوي، وذلك انطلاقاً من الخصوصيات الثقافية، تفسر ما يجري على أنه حصيلة فرز للمكوّنات الديموغرافية في هذه البلدان على أسس جماعوية، تحتل فيها الانتماءات الطائفية والمذهبية والعرقية مجالات واسعة ومتعددة من الدراسة والبحث، سواء كأسباب مفسرة، لعدم الاستقرار السياسي، أو كأهداف تسعى الدول الخارجية، العمل على تغذيتها والإفادة منها، كما ذكر أعلاه.

تسهيل المجال الديمغرافي أم عصيانه؟

إنما، ومن دون شك، برزت في العقود الأربعة الماضية، طفرة في الانتماء إلى الهويات الفرعية. وإن التساؤل الذي يطرح نفسه، فيما إذ أن النمو الديموغرافي التفاضلي بين أصحابها، كان معطى للاستعانة به في حقل الصراع السياسي الدائر فيها، للاستمرار في السلطة، أو في الوصول إليها. وهنا، تبدو مفارقة واضحة على مستوى هذه الانتماءات، ولا سيما الدينية، إذ أظهرت نتائج معظم الدراسات الميدانية، التي تناولت نساء بحسب انتمائهن الديني، يتقاسمن أوضاعاً متشابهة في أماكن سكنهن، وبالتالي في الاقتصاد والتعليم، ينسحب ذلك بتشابه مماثل يطال أبرز خصائصهم الديموغرافية، مثل، معدلات: الولادات، الوفيات، والنمو… إلخ. في حين يتبين على أن مجريات الأحداث السياسية الدائرة في هذه البلدان، وكذلك مضامين بعض الكتابات السياسية، وحتى ما يتم تداوله بين ما يسمى جماعاتها الأهلية، فإنها بخلاف ذلك المتشابه، تتضمّن إضفاء أدوار متزايدة للانتماءات المجتمعية الفرعية.

وإذا كانت الديموغرافيا تعنى بدراسة ديناميات السكان، بينما تتمثل السياسة في طبيعة الدولة ونظام حكمها وتركيب السلطة وضوابط ممارستها، في مقابل الحقوق والحريات المختلفة، العامة والخاصة، يصبح موضوع الديموغرافية السياسية تلك العلاقة من التأثير المتبادلة بين الموضوعات السكانية ومجموع المسائل ذات الصلة بالدولة، لا سيما فيما يتراءى من إعادة تشكّل في المجالين السياسي والديموغرافي، يمكن أن تنسحب مفاعيلهما على المجالات المجتمعية الأخرى. فهل أن المجال الديموغرافي، الذي يشكّل مقوّماً جوهرياً في صياغة العملية السياسية، يُسهّل تحقيق مشاريع سياسية تنحو باتجاه تعديل الجغرافيا السياسية في هذه البلدان؟ أو أن ذلك عصي على التنفيذ بسبب من الديموغرافي نفسه؟ وعلى الرغم مما أصابها من اختلال في بنية تركيب سكّانها، بحسب مختلف التصنيفات، المكانية، العمرية، المذهبية، الإتنية… إلخ؟

  • 1السيد محمد حسين فضل الله، جريدة السفير اللبنانية. تاريخ 25/1/2007
  • 2Éléments de statistique humaine ou Démographie comparé , éd. en fac-similé par Jean-Marc et Jacques Véron, Édition Ined, Paris, 2013
  • 3Éléments de statistique …….op.cit. page xxI
  • 4المرجع نفسه
  • 5الدكتور عبد الكريم اليافي، المعجم الديموغرافي المتعدد اللغات، الفقرة (101)، لجنة السكان في الأمم المتحدة، 1966.
  • 6Roland Pressat, Dictionnaire de démographie, éd:PUF, Paris, 1979, P : 39 - ترجمته إلى العربية: د. حلا نوفل
  • 7Gérard-François Dumont : introduction à la Démographie politique, dans les actes de Colloque «L’Enjeu démographique, Édition de l’association pour la recherche et l’information démographique (A.P.R.D.), Paris, 1981»
  • 8المرجع نفسه، ص: 18
  • 9للاستزادة في معرفة الفرق ما بين الدليل والمؤشر يمكن الإطلاع على مدخل "الدليل إلى معرفة أحوال المرأة" في لبنان، منشورات الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية، بيروت 2010.
  • 10معجم قاموس المعاني
  • 11الدكتور إبراهيم أبو لغد، تهويد فلسطين، منشورات رابطة الإجتماعيين في الكويت ومنظمة التحرير الفلسطينية( مركز الأبحاث)، بيروت 1972، ص: 28-29
  • 12الدكتور حليم بركات، المجتمع العربي المعاصر، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1984، ص:114-118
  • 13Michel Rainbaud, tempête sur le grand Moyen-Orient, 2e.édition, ellipse,2017
  • 14المرجع السابق نفسه، ص: 158
  • 15المرجع السابق نفسه، ص: 159
  • 16الدكتور غسان سلامة، المجتمع والدولة في المشرق العربي، مركز درسات الوحدة العربية، بيروت، طبعة ثانية 1999، ص: 11
  • 17الدكتور وليد فارس، التعددية في لبنان، منشورات الكسليك، لبنان 1978، ص: 115
  • 18Daniel Noin, la transition démographique dans le monde, éd.PUF, paris 1983, P :27
  • 19Daniel Noin, ibidem, P :27
  • 20problèmes de jeunesses et régulations Sociales, actes des cinquièmes journées internationales, Vaucresson, Mai 1985, CNRS, Paris, 1987.