الهجرة اللبنانية: الدليل الديموغرافي إلى الانهيار الحتمي

  • تقدّر حجم الهجرة الخارجية من لبنان بين عامي 2007 و2018 بنحو 641,660 شخصاً، أي بمتوسّط سنوي يصل إلى 58,330 نسمة، وهو ما يساوي نحو 17% من سكّان لبنان في العام 2018، و81% من المواليد اللبنانيين للعام نفسه. وهذا المستوى، لم يسبق أن حصل في أي فترة زمنية سابقة من تاريخ لبنان.
     
  • يبدي أكثر من نصف البالغين رغبتهم بالهجرة، وتزيد الرغبة لدى الفئات الشابّة إلى أكثر من الثلثين، كما تبرز أيضاً بين المُسنِّين الذي يتجاوزون 65 عاماً.

منذ ما يزيد عن القرن ونصف القرن من الزمن،  اعتبر اثنان من أهمّ المفكِّرين، وهما يقفان على طرفي نقيض في التحليل الاقتصادي والسياسي للمسألة الديموغرافية، روبرت توماس مالتوس وكارل ماركس، أنّ السكّان يشكِّلون، إلى جانب الأرض ورأس المال، أحد المتغيِّرات المركزية الثلاث في أي عمل أو تحليل في المسائل الاقتصادية - الاجتماعية. وهكذا، فإنّ الديموغرافي، بما له من موقع وأهمّية، يتقاطع مع المسألتين الأخرتين، وإنّ يكن بنسب مختلفة، بين الفترة والأخرى، تمليها الظروف السياسية. ربّما تتمظهر هذه العلاقة بأبرز تجلِّياتها في لبنان من خلال الهجرة الخارجية.

سبق أن كتبت عن موضوع الهجرة في خلال العقدين الأولين من القرن الواحد والعشرين وآثارها الديموغرافية، بحيث تبيِّن محاكاة الأرقام المتوافرة هول المآسي التي يعاني منها اللبنانيون. وإذا كان اتفاق الطائف قد قدّم مساراً لحلّ سياسي في لبنان، ركيزته الأساس فصل أزمة لبنان عن أزمة المنطقة، والمُتمثِّلة في الصراع مع العدو الصهيوني على أرض فلسطين، وسمح بإجراءات سياسية وقانونية متعدّدة، فإنّ عدم اكتمال تنفيذ بنوده قد تمّ بقرار أميركي أعقب غزو صدام حسين لدولة الكويت، ومشاركة بعض الدول العربية، ومن بينها سوريا، في التحالف العسكري الذي شكّلته الولايات المتّحدة للتحرير، وأدّى إلى تراجع الولايات المتّحدة عن رعايتها فصل أزمة لبنان عن أزمة المنطقة، على أن يستمرّ النظام السوري بإدارة الأزمة في لبنان، على ما يقول الرئيس السابق لمجلس النوّاب حسين الحسيني. ولكن، على أثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري، خرج الناظم للأوضاع السياسية وملحقاتها، وتفلَّت الصراع على النفوذ بإدارة البلد، وأدّى إلى نظام سياسي وصفه باحثون في حقل العلوم الاجتماعية، وبدلالات اجتماعية  متنوِّعة، على أنّه نظام المناهبة (الدكتور أحمد بيضون)، الدولة الزبائنية (الدكتور أحمد بعلبكي)، الدولة الغنائمية (الباحث الاجتماعي أديب نعمة)، إلخ. ومهما تكن الصفات التي يتّسم بها هذا النظام السياسي على المستوى الاقتصادي - الاجتماعي، تترسَّم ملامح ديموغرافية يمكن لها إنّ استمرّت على ما هي عليه أنّ تؤدّي لاختلالات بنيوية مُتزايدة في تركيب بنية سكّان لبنان، وليس كما يحاول البعض الإيحاء أو المجاهرة على أنها ستكون بين مكوّناته بحسب الأديان والمذاهب، وهي بالتأكيد كذلك، وإنّما أيضاً على مستوى تركيب قواه العاملة، وكذلك على مسائل أخرى ذات صلة بمواضيع اجتماعية مثل السكن والأجر والصحّة، إلخ1 . وهكذا، إنّ تتبُّع التغييرات الحاصلة في عدد من الأدلّة الديموغرافية انطوت على مضامين سلبيّة في كلّ ما له علاقة بالسياسة والاقتصاد والمال.

استقبلت البلدان العربية الموجة الجديدة من المهاجرين بعد العام 1992 مع نسبة تجاوزت الثلث (34.9%). واحتلّت ضواحي بيروت الصدارة في تصدير المهاجرين (21%) تليها جبل لبنان بنسبة (18.7%)

الدليل بحسب قاموس المعاني، يعني البرهان، أي ما يُستدل به على شيء ما. ولا يقتصر هذا اللُبس في استخدام المصطلحات على ما يحصل في الحقل الديموغرافي فحسب، وإنّما أيضاً في ميادين أخرى تتناول مواضيع اجتماعية واقتصادية. بينما يبقى التساؤل عن ماهية هذا الدليل في الديموغرافيا، والمرتبط بقضايا مجتمعية، كما حاولنا تعريفه بالتشارك مع الدكاترة الزميلين عزة شرارة بيضون وجاك قبانجي، عبارة عن "علامة كمّية تدلّ على الحالات أو الكيفيات (modalités) المُحتملة في مقاربة خاصيّة ما (caractère) في مجموعة مجتمعية (العمر، والدخل، والحالة المدنية، والمستوى التعليمي…"2 . وهكذا، يستعين الدليل بالأعداد ليتمّ بناؤه، فهل من شكّ في أنّ هذه الأعداد، ومهما تكن طبيعة القضايا التي تتناولها (عدد موظّفي القطاع العام، وخسائر قطاع الكهرباء، وأرباح المصارف، والتحويلات إلى الخارج، وعدد سكّان لبنان…)، هي بالتحديد ما تسعى هذه السلطات إلى "طمسها". انطلاقاً من ذلك، نميل للقول إنّ الهجرة من لبنان، بجميع أشكالها ومظاهرها، تشكِّل أحد العناوين الديموغرافية التي يُراد طمسها، وربّما هي في الوقت نفسه مصدراً لأزمة النظام السياسي كما لسكينته واستمراره!

التاريخ يعيد نفسه

قد تكون مقولة كارل ماركس الشهيرة، عن أن مسألة ما تظهر "في المرة الأولى كمأساة، وفي المرّة الثانية كمهزلة"، أكثر ما ينطبق على حال الهجرة الخارجية اللبنانية.

تُعدُّ الهجرة ذات أهمّية مُتزايدة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، سواء من حيث الأسباب أو النتائج المُترتبة عليها، وهي تقدّم الأدلّة على ما وصلت إليه حال الأوضاع الاقتصادية - السياسية من تدهور وانحطاط، وتكشف الترابط بين الديموغرافيا والاقتصاد.

بالعودة إلى التاريخ، وتحديداً إلى العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر في متصرفية جبل لبنان التي كانت تمتدّ على مساحة جغرافية بحدود 4500 كيلومتر مربّع، أي ما نسبته 43% من مساحة لبنان الحالية، يتجلّى هذا الارتباط بشكل واضح. إذ رأى باحثون فرنسيون ولبنانيون أنّ الهجرة مرتبطة بتدهور إنتاج شرانق الحرير التي تحوّل إلى خيوط، وتصدّر بشكل رئيسي إلى مدينة ليون في فرنسا، "بحيث كان من الصعوبة بمكانٍ، فصل تاريخ تربية دود القز الحديثة في بلاد الشام عن صناعة الحرير في ليون الفرنسية، ومن دون أي مبالغة يمكن القول إن الأرياف في لبنان (المقصود بذلك المتصرفية)، بدت وكأنها تشكِّل إحدى مقاطعات هذه المدينة الفرنسية"3 .

استخدم إنتاج الحرير نحو 40% من الأراضي الزراعية، واستوعب 41% من القوى العاملة في المتصرفية، ولكن على أثر اكتشاف خيوط الحرير الاصطناعي في اليابان، سرعان ما أصيبت هذه السلعة بنكسة، إذ تراجع سعر الحرير من 45 قرشاً في العام 1873 إلى 19 قرشاً في العام 18904 . وكان من نتائجها الديموغرافية أن وصل حجم الهجرة الخارجية إلى نحو 120 ألف نسمة في العام  19005 ، وهو ما يمثّل 23% من سكّانه. إلى ذلك، تبيَّن أنّه خلال  العقدين الأولين من القرن الواحد والعشرين، أي بعد مئة عام من تشكّل دولة لبنان الكبير بحدوده الإدارية الراهنة، استعادت الهجرة الخارجية زخمها، إنّما ليس لأسباب مرتبطة بأسواق تجارية خارجية مماثلة لحال متصرفية جبل لبنان، ولكن بسبب سياسات مالية واقتصادية ريعية انتهجها نظام سياسي "زبائني"، على حد تعبير بعض المشتغلين في حقل العلوم الاجتماعية والاقتصادية، على حساب الزراعة والصناعة، القطاعين الأكثر استيعاباً للتشغيل. وإذا كان هذا التراجع الزراعي في لبنان الصغير قد ارتبط بعوامل خارجية، أتى في دولته "الكبيرة" نتيجة لسياسات اقتصادية، إمّا خاطئة أو هادفة لمنافع شخصية وزبائنية، وهي كذلك على الأرجح، تستبعد أي مشروع إنمائي يمكن أن يؤدّي إلى استقلالية الناس في تحصيل أرزاقهم. وهذه مسؤولية نظام سياسي وليس مراكز سلطوية معيّنة على سلم الرئاسات.

يستحضرني في هذا المجال تجربة مع وزير الزراعة السابق طلال الساحلي، وعلى الرغم من تجربته القصيرة في الحكم، جهد لتحقيق مشروع إنمائي في الأرياف اللبنانية، ولا سيّما في البقاع، حيث أجرى سلسلة لقاءات واجتماعات عمل مع منظّمة الأغذية والزراعة للأمم المتّحدة، مُمثلة برئيسها في لبنان آنذاك علي مومن، تقوم على مشروع قروض للفلّاحين لتربية نوع من الماعز الحلوب، بمعدّل عشر رؤوس لكلّ فلاح، تكفي لإعالة أسرة من ستة أشخاص في السنة، ووضعت تفاصيل متكاملة للمشروع، من برك للمياه، ووصول الحليب إلى المصانع، وبيع رواس الماعز كأسمدة… وبعدما استقال الوزير الساحلي مع عدد من الوزراء، انتهى الموضوع وأصبح في طيّ النسيان، أوليس الحكم استمراراً؟ أين وكيف؟

هكذا، وبعدما "كانت الزراعة تشكّل نحو نصف القوى العاملة في بداية الاستقلال (أي في خمسينيات القرن العشرين)، هبطت نسبة العاملين فيها إلى نحو 19% من مجموع القوى العاملة في العام 1970، في مقابل 55% في قطاع الخدمات و21.5% للصناعة وقطاع البناء"6 . واستمر هذا التراجع النسبي بمعدّلات العاملين في القطاعات المُنتجة، وبوتائر مُتسارعة، إلى أن وصل في العام 2019 إلى نحو 3.6% في الزراعة و11% في الصناعات التحويلية، لترتفع بنسب طفيفة في العام 2022، نتيجة تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية7 . تُرجم ذلك على المستوى الديموغرافي، ببقاء حجم السكّان اللبنانيين في العام 2018 كما كان في العام 1998 أي بحدود 3.8 ملايين نسمة. وكأنّ الزمن الديموغرافي قد توقّف. فإذا كانت الهجرة الخارجية قد أفقدت متصرفية جبل لبنان نحو 23% من سكّانها، فبعد نحو قرن وربع القرن من الزمن، أفقدت الهجرة نفسها دولة لبنان الكبير ما يزيد عن 26% من سكّانه.

مصادر الأرقام ودلالاتها

لا بأس بالاستعانة بما يتيسَّر من أرقام، وإن كانت تقريبية، لإتاحة إمكانية الجدل والنقاش أو تقديم وجهة نظر مفيدة. لم يحصل في تاريخ هذه الجمهورية سوى تعداد سكّاني واحد في العام 1931، أيام الحكم الفرنسي، وما يتوافر من أرقام حول الوضع الديموغرافي في لبنان لا يتأتى عن طريق تعدادات سكانية، وإنّما من نتائج مسوحات إحصائية بالعيّنة، مع كل ما تتضمّنه نتائجها من هوامش للخطأ، يكون في الغالب الأعم بحدود 5% على المستوى العام للمجتمع الإحصائي (بلد، مدينة)، في حين أنها تصل إلى أكثر من ذلك في وحداته الفرعية. ومهما يكن، تشكِّل الهجرة الخارجية الظاهرة المجتمعية الأكثر حضوراً في الأدبيات الديموغرافية اللبنانية.

يتداول الباحثون في الشأن الديموغرافي تقديرات متعدّدة حول هجرة اللبنانيين الخارجية، ولا تستند غالبيتها إلى مصادر إحصائية موثوقة، وإنّما لتقديرات تمّت على أساس تجميع لإحصاءات من مصادر متعدّدة في لبنان (رصيد حركة دخول وخروج المسافرين اللبنانيين) ومن البلدان الأخرى المضيفة. وعلى الرغم من تاريخيّتها وأهمّيتها المتزايدة في حياة اللبنانيين المقيمين، ولا سيّما، في العقدين الأخيرين، وما يتمّ تحويله سنوياً من أموال إغترابية، لم تحصل أي محاولة رسمية لإجراء دراسة حول الاغتراب اللبناني، على الرغم من أنه شكّل، ولا يزال، السند الأساسي لاستمرار الأنظمة المُتعاقبة في لبنان وخصوصاً في العقدين الأخيرين، بما يتمّ تحويله من أموال، وصلت بحسب بعض المصادر إلى نحو 23% من الناتج المحلي في العام 2020، وربّما كان من إحدى نتائجها، تحييد فئة، قد تكون نسبتها وازنة من اللبنانيين، عن المشاركة بالتحرّكات الشعبية الاحتجاجية.

بالإضافة إلى ذلك، يتبيّن أن غالبية المهاجرين حديثاً في العقدين الماضيين هم من حملة الشهادات الجامعية والاختصاصات المهنية والجامعية العليا (أطباء، مهندسون، ممرضون…). مع ذلك، لم تتوافر سوى دراستين حول هذا الموضوع تعودان إلى عقدين من الزمن، ولكنّهما لا تفقدان راهينيتهما لأنّهما تُحدِّدان مساراً بنيوياً يميّز هذه الفترة فيما يتعلّق بموضوعي الديموغرافيا والاقتصاد. وقد أجرت الباحثة الجامعية شوفيك كسباريان هاتين الدراستين بناءً على نتائج مسحٍ بالعيّنة أجرته الجامعة اليسوعية في العامين 2002 و2007. أتت الدراسة الأولى بعنوان "دخول الشباب اللبناني إلى سوق العمل والهجرة (ثلاثة أجزاء) في العام 2003 (للفترة الزمنية 1975-1992)، والثانية بعنوان "هجرة الشباب اللبناني ومشاريعهم المستقبلية" في العام 2008 (للفترة الزمنية  1992-2007)، إذ تمّ استيفاء المعطيات الإحصائية من أحد أفراد الأسر المقيمة في لبنان الذي تربطه صلة قرابة مباشرة  مع شخص يعيش في المهجر منذ ما يزيد عن ستة أشهر. ونشير مسبقاً إلى أن نتائج هاتين الدراستين، وإن انطوت على بخس في التقدير بسبب استبعاد المهاجرين الذين لم يتسنَّ إيجاد أحد من أسرهم المباشرين في لبنان،  إلّا أنهما تضمنتا أرقاماً تبقى الأقرب إلى الصحة. عُرِضت النتائج على ثلاث فترات تاريخية غير متساوية المدد آخذة بالاعتبار الأوضاع الاقتصادية والسياسية التي طبعت تلك الحقبات: تمتدّ الفترة الأولى من العام 1975 ولغاية 1990 (سنوات الاضطرابات الداخلية الأهلية)، والثانية لفترة ما بعد الحرب ومعاودة الانتعاش الاقتصادي 1991-1995، وتزامنت الحقبة الثالثة مع أوضاع اقتصادية صعبة 1996- 2007، والتي سنضيف إليها الفترة التالية 2008-2022.

الهجرة بين 1992 و2007

بينت نتائج المسح لهذه الفترة أنّ 45% من الأسر اللبنانية لديها فرد على الأقل قد هاجر من لبنان في الفترة المدروسة، وقُدِّر عدد المهاجرين بحدود 466 ألف نسمة، وهو ما أحدث خللاً في التركيب العمري للسكّان المقيمين في لبنان. وما بدا لافتاً في إجابات أسرهم في لبنان أنّ 53.5% من المغادرين ستكون هجرتهم نهائية، وهذه النسبة أدنى بقليل عمّا تمت ملاحظته في الدراسة السابقة لجامعة اليسوعية حول الموضوع نفسه للفترة 1975- 1992.

سنوات المغادرة

تذكِّر حركة الهجرة الناشطة في لبنان خلال الفترة 1992-2007 بالهجرة الحاصلة في الربع الأخير من القرن العشرين، على أثر ما سُمِّي بحرب 1975، والتي تشير مختلف التقديرات إلى أنّها كانت بحدود 750 ألف نسمة. أما الهجرة في الفترة الزمنية المعنية بالدراسة (1992-2007)، فقد توزّعت على ثلاث فترات، إذ أنّ 46% من المهاجرين تركوا الوطن خلال سنواتها الستة الأخيرة، ربّما على أثر العدوان الصهيوني في العام 2006، لكن ما بدا لافتاً هو أنّ 25% منهم غادروا بعد اتفاق الطائف وعودة السلم الأهلي. وبخلاف ما حصل سابقاً لجهة توجّه أكثر من ثلث المهاجرين نحو أميركا الشمالية في نتائج الدراسة الأولى لجامعة اليسوعية حول الموضوع نفسه (1975-2001)، استقبلت البلدان العربية الموجة الجديدة من المهاجرين بعد العام 1992 مع نسبة تجاوزت الثلث (34.9%). واحتلّت ضواحي بيروت الصدارة في تصدير المهاجرين (21%) تليها جبل لبنان بنسبة (18.7%).

تعود هذه الهجرة الخارجية بالزمن إلى نحو عقد ونصف العقد من الزمن، وترتدي أهمّية مضاعفة لأنّها الظاهرة الديموغرافية الأكثر تعبيراً عن بنية النظام الاقتصادي الريعي على حساب الاقتصاد المنتج (زراعة وصناعة) الذي ليس من مصلحة أصحابه وسياسييه العمل على تحجيم هذه الظاهرة، بل السعي إلى تعزيزها تكريساً لديمومته واستمرارية سلطة حماته ومنتفعيه؟

كما في الحرب كذلك في السلم

توزُّع المهاجرين بحسب الفئة العمرية

أظهرت نتائج المسح أنّ المعدل الإجمالي للمهاجرين في فترة 1992-2007 وصل إلى نحو 10.3% من حجم السكّان المقيمين، وكان عدد الذكور ضعفي عدد الإناث (13.5 و7% على التوالي). أمّا الهرم العمري للمهاجرين فقد ارتدت ملامحه سمات خاصّة غير متساوقة، يضيق في الأطراف ويتمدّد في الوسط. وتراوحت أعمار 80% من المهاجرين بين 25-54 سنة، في حين لم تتجاوز 40% بين المقيمين في لبنان عند فئات الأعمار نفسها. وهذا ما يفسّر التراجع الحادّ بنسبة الذكورة لدى هذه الشريحة العمرية بين المقيمين اللبنانيين في العقد الأوّل من القرن الواحد والعشرين، والذي نقدّر أنها اشتدّت أكثر في العام 2022.

ما بدا لافتاً هو أنّ متوسّط عمر المهاجرين الذكور لم يتجاوز 35 عاماً، بينما وصل إلى 34 عاماً بين النساء. وفيما يتعلّق بالتوزّع بحسب الجنس، لا تزال هجرة الشباب أعلى بين الذكور، وتزيد بحدود الضعفين، وفي كافة الفئات العمرية. وأشارت النتائج حول الأوضاع العائلية في العام 2007 إلى أنّ 80.7% من النساء المهاجرات في خلال فترة 2007-1992 هنّ متزوجات، بينما لا تتجاوز النسبة لدى الذكور الـ 55.1%. أيضاً يتبيّن أن نسبة الطلاق والترمّل متدنّية جدّاً، وبحدود واحد في المئة. أمّا بالنسبة للمستوى التعليمي فقد تبيّن أن 62.1% من الذكور حصَّلوا تعليماً ثانوياً على الأقل، في حين ترتفع هذه النسبة قليلاً بين الإناث (67.5%).

تراوحت أعمار 80% من المهاجرين بين 25-54 سنة، في حين لم تتجاوز 40% بين المقيمين في لبنان عند فئات الأعمار نفسها

لا تنحصر أهمّية هذه الدراسة الرائدة حول هجرة اللبنانيين بما وفّرته من معطيات إحصائية حول الموضوع عن تلك الفترة الزمنية، وإنّما بما أشرَت إليه عن بنية تركيب هذه الظاهرة والمستمرّة، ولربما حتى بالأرقام نفسها، للسنوات التالية.

انتفاخ في الوسط وضيق في الأطراف

هجرة العشرية الأخيرة: 2012- 2022

هناك ملاحظتان تطلبهما مقتضيات البحث العلمي حول المسائل الديموغرافية الخاصة في لبنان: 

  • في العام 2012، زوّدتنا رئيسة دائرة الإحصاءات الحيوية والصحية في وزارة الصحة العامة هيلدا حرب، بمعلومة غير شائعة بين المشتغلين في الحقل الديموغرافي، إذ أشارت فيها الى أنه نتيجة دراسة قامت بها وزارة الخارجية في العام 2008، أظهرت أنّ 21.6% من الولادات المُسجّلة في دوائر النفوس  تحصل في بلدان أخرى، بينما لا تتجاوز نسبة المتوفين خارج لبنان 6.3% من مجموع المسجّلين خلال العام نفسه. ونقدّر أن  هذا الأمر ينطبق على السنوات كافة. ويقتضي الأمر تصويب النتائج الإحصائية المُتاحة في هاتين الواقعتين الديموغرافيتين الحيويتين (الولادات والوفيات) في كافة النتائج الإحصائية الصادرة عن إدارة الإحصاء المركزي والمُتعلقة بهاتين الواقعتين، ما يعني استبعاد هاتين النسبتين من إعداد الولادات والوفيات في احتساب  المعدّلين الخاصّين بهما.
  • من الصعوبة القيام بتقديرات ديموغرافية موثوقة، على امتداد فترة من الزمن، لأنّها تتطلب، بالإضافة إلى الجهود البحثية والموارد المالية، قاعدة موثوقة من المعطيات الديموغرافية حول الواقعات الحيوية المعنيّة بذلك (ولادات، وفيات، هجرة). بيد أنه على الرغم من الملاحظات العلمية حول قاعدة المعطيات التي استندت إليها دراسة "سكان لبنان 2000"، والنتائج المترتبة على ذلك، تبقى هي المصدر الذي يُبنى عليه في مقاربة حجم الهجرة الخارجية من لبنان.

تبيّن نتيجة الإسقاطات الديموغرافية أنّ عدد السكّان المتوقّع لسنتي 2016-2021، وتبعاً لسيناريو المتغيّر المتوسط، يتراوح بين 4,138,569 و4,356,751 نسمة، أي بمعدّل وسطي لعام 2018 بحدود 4,241,660 نسمة.

21.6% من الولادات المُسجّلة في دوائر النفوس  تحصل في بلدان أخرى، بينما لا تتجاوز نسبة المتوفين خارج لبنان 6.3% من مجموع المسجّلين خلال العام نفسه. ونقدّر أن  هذا الأمر ينطبق على السنوات كافة

إنّ مقارنة هذا الرقم الأخير مع عدد سكّان لبنان المُقدّر بحدود 3,600,000 نسمة، بحسب نتائج التحقيق الإحصائي بالعيّنة الذي أجرته إدارة الإحصاء المركزي في العام 2007، يتيح إمكانية تقدير حجم الهجرة الخارجية من لبنان خلال تلك الفترة (2007- 2018) بنحو 641,660 شخصاً، أي بمعدّل متوسّط هجرة خارجية سنوية تصل إلى 58,330 نسمة، وهو ما يساوي نحو 17% من سكّان لبنان في العام 2018، و81% من المواليد اللبنانيين للعام نفسه. ما يعني أن في مقابل كلّ مئة ولادة في لبنان، كان يغاد نحو 81 شاباً.

وعلى افتراض استمرار هذا الرقم السنوي الوسطي من المهاجرين في خلال السنوات الأربعة التالية (2019-2022)، وهو بالتأكيد أكثر من ذلك، لأصبح عدد المهاجرين من لبنان في خلال عقد ونصف عقدٍ من الزمن (2007-2022)، بحدود 875,000 نسمة على الأقل، أي ما يمثّل 23% من سكانه. وهذا المستوى، لم يسبق أن حصل في أي فترة زمنية سابقة من تاريخ لبنان. بالطبع في ما عدا سنوات الإحتراب الأهلي (1975-1990).

أظهرت دراسة هوفيك كسباريان لعام 2007 أنّ نحو 20% من الأسر اللبنانية المقيمة حينذاك تتلقّى مساعدات مالية من أقرباء في الخارج. في حين ترتفع هذه النسبة إلى نحو 50% بين الأسر التي يوجد بين أفرادها مهاجر واحد على الأقل. وهكذا، أصبحت تحويلات المغتربين مكوِّناً أساسياً في الاقتصاد اللبناني، إذ تَبيَّن، من خلال الحسابات الاقتصادية اللبنانية أنّ مجموع  التحويلات الخارجية للمغتربين شكَّلت نحو 26.3% من الناتج المحلّي الإجمالي على إمتداد الفترة الزمنية 1997-2010، وأنّ ضواحي بيروت كان لها النصيب الأكبر من المهاجرين مع نسبة 26.60%، تليها محافظة الشمال بنسبة 22.10% من مجموعهم، في حين تأتي محافظة البقاع في المرتبة الأخيرة مع 4.9% فقط.

بدا لافتاً أنّ 21.5% من الأسر كانت لديهم النيّة بالهجرة خلال فترة 1975-2001، أو أنّهم يقومون بالإجراءات اللازمة لذلك. وقد تراجعت النسبة قليلاً إلى نحو 15% في العام 2009 (إدارة الإحصاء المركزي، 2009)، وأنّ 12% من أرباب هؤلاء الأسر هن من النساء، علماً أن 80% من بينهن أرامل. ومن البداهة أن ترتفع كثيراً نسبة من أبدوا رغبتهم بالهجرة ممن هم بعمر 15 سنة وما فوق في العام 2022. إذ أظهرت النتائج الأولية لمسح القوى العاملة في لبنان لعام 2022، والتي امتدّت عملية جمع البيانات الخاصة به من 27 كانون الأول/ديسمبر 2021 إلى 31 كانون الثاني/ يناير 2022، أبدى أكثر من نصف المقيمين (52%) الذين تزيد أعمارهم عن 15 سنة (52%) عن رغبتهم بالهجرة، وكانت هذه الرغبة أكير لدى الفئات الشابّة وبلغت 69% لدى من هم بين 15-24 سنة و66% لدى من هم بين 25-44 سنة، وبرزت هذه النسبة أيضاً بين المسنين الذين يتجاوزن الـ65 عاماً ووصلت إلى 10%. أليست هذه كلها أدلة ديموغرافية عن أوضاع اقتصادية ومالية وسياسية وتربوي، وربّما قضائية، تتهاوى؟

في النتيجة، إذا كانت الهجرة الخارجية من دولة لبنان الصغير (المتصرفية) نتيجة مأساة أملتها ظروف خارجية، فالملهاة أن يقوم نظام لبنان الكبير بهذه المهمّة بما فيها من إفقار وذلّ؟

  • 1أسعد الأتات، نمو سكّاني يتراجع وأزمة سكنية تتفاقم، محاضرة ألقيت في ندوة نظّمتها جمعية قدامى الكشّاف المسلم في لبنان ونشرتها جريدة النهار في 2 أيار/مايو 1997.
  • 2الدليل إلى معرفة أحوال المرأة، الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية، بيروت 2010
  • 3Maurice Févret, la sériciculture au Liban, première partie : sa fortune passée. in Revue de géographie de Lyon, volume 24, numéro 3, 1949.pp :247-260. 
  • 4عبد الله ملاح، الهجرة من متصرفية جبل لبنان 1861-1918، مكتبة نور، لبنان، 2007.
  • 5أسعد الأتات الهجرة الخارجية والانتشار اللبناني في العالم، مجلّة الدفاع الوطني، العدد 38، 2001.
  • 6الدكتور نجيب عيسى، "سياسة التشغيل والموارد البشرية"، الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية في لبنان، المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، بحوث ومناقشات المؤتمر الاقتصادي، ص:290، بيروت، 1999.
  • 7labour force and household living conditions survey 2018-2019, and survey Labour Force Survey January 2022, Central Administration of statistics.