قاعدة النموذج الساداتي المُتهاوية

  • تلعب تحويلات العاملين في الخارج دوراً مُعتبراً في توفير النقد الأجنبي لمصر، وتمارس تأثيراً جوهرياً على التكوين الاقتصادي يتجاوز حجمها المُطلق، ويتفاقم حكماً مع كلّ نمو في حجمها.
     
  • أبرز دولتين عربيتين تعانيان من أزمات مالية خانقة راهناً هما لبنان ومصر اللتين تحتلَّان المركزين الثاني والأوّل على ترتيب الدول الأكثر تلقّياً للتحويلات في المنطقة العربية.
     
  • ارتبط استقرار الاقتصاد الكلّي باستمرار تدفّق التحويلات، بحيث أصبحت مصر مُقيّدة أكثر بوضعية ميزان المدفوعات، الذي قيَّد بدوره النمو الاقتصادي.

في مقالته على مِنصتيّ بارونز الإنكليزية وأصوات العربية، مطلع كانون الأول/ ديسمبر الماضي، تحدّث ديفيد مالباس رئيس مجموعة البنك الدولي عن التحويلات المالية كعاملٍ حاسمٍ في تحقيق الاستقرار الاقتصادي. وكالعادة، ركّز مالباس مثل غالبية المتحدِّثين بالخطاب الاقتصادي السائد على الجانب الكمّي البحت لتلك التحويلات، سواء من جهة دورها كـ "دخل" يُحسِّن مستويات حياة الأسر الفقيرة، أو كـ "تدفقات مالية" تخفّف من وطأة التقلّبات الاقتصادية الكلّية الدورية في الدول المتوسّطة والمنخفضة الدخل، مُنتهياً إلى ضرورة "زيادة التحويلات إلى ملايين الفقراء والمجتمعات المحلّية في جميع أنحاء العالم"، وضمنها هدف خفض تكاليف التحويل إلى 3% بحلول العام 2030.

لكن ما يغفله هذا الخطاب المُبتسر هو الأبعاد والآثار الكيفية والنوعية طويلة الأجل لتلك التحويلات، التي ربّما جاوزت بخسائرها في بعض السياقات كافة المكاسب الكمّية قصيرة الأجل الناجمة عنها. ولعلّ المُفارقة الدالة في هذا السياق هي أنّ أبرز دولتين عربيتين تعانيان من أزمات مالية خانقة اليوم، من دون حروب أهلية، وصلت حدّ مخاوف إعلان الإفلاس، هما لبنان ومصر، اللتين تحتلّان المركزين الثاني والأول على الترتيب كدول متلقّية للتحويلات على مستوى المنطقة العربية.

وعلى الرغم من الاختلافات الجوهرية في تكوين الدولتين والبُنى الاجتماعية الكبرى الحاكمة لأدائهما الاقتصادي عموماً، فإنّهما تشتركان منذ عقود في الأهمّية المُعتبرة للتحويلات الخارجية في اقتصاديهما، التي وصلت في المتوسّط، وفقاً لقاعدة بيانات البنك الدولي، إلى 7.45% من الناتج المحلّي الإجمالي لمصر طوال الفترة 1977-2021، و18.5% منه للبنان طوال الفترة 2002-2020، ناهيك عن فترات الذروة التي بلغت فيها التحويلات نسباً أكبر بكثير، مثل 12.4% و14.6% و10.5% من الناتج الإجمالي لمصر في الأعوام 1980 و1992 و2017، ونحو 26.4% و24.7% و20.9% للبنان في الأعوام 2004 و2008 و2020.

التكوين والاتجاهات في مصر

احتلّت التحويلات مكانةً مهمّة في الاقتصاد المصري منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي، وكانت ضمن، بل على رأس، ما عُرِف بـ "الأربعة الكبار" بين مصادر النقد الأجنبي في مصر طوال تلك الفترة وحتى تاريخه، حتى احتلّت مصر مؤخّراً المركز الخامس عالمياً والأوّل عربياً في تحويلات العمالة بالقيمة المُطلقة، وبلغت نحو 32.3 مليار دولار في العام 2021.

تُبيِّن الاتجاهات العامّة لتحويلات العاملين المصريين في الخارج بين العامين 1977 و2021 تقلّباً شديداً عبر السنوات المختلفة، وبالتالي خطورة الركون إليها كمورد أساسي للتدفّقات المالية عموماً، بما يُفترض معه ألا يُعتمد عليها بكثافة لتلبية الاحتياجات الأساسية من النقد الأجنبي. إلّا أنّ واقع الحال كان على خلاف ذلك تماماً. فقد وصلت تحويلات العاملين في الخارج طوال عقد الثمانينيات إلى نحو نصف إجمالي الصادرات المصريّة، وما يقارب أربعة أضعاف الاستثمار الأجنبي المباشر، وأكثر من مرّة ونصف المرّة المعونات الإنمائية، ونحو ثُلثيّ الادخار المحلّي، وما يقرب من نصف الادخار الإجمالي، وما يُعادل ثُلث الاستثمار الإجمالي. 

لم تتغيّر هذه الصورة كثيراً. ففي العقد الأخير (2013-2021) لا يزال متوسّط التحويلات يشكّل نحو 8% من الناتج المحلّي الإجمالي، مرتفعاً عن متوسّطه العام طوال نصف قرن، كنتيجة لارتفاع التحويلات بالقيمة المُطلقة لأسباب عينية عديدة، وكقيمة نسبية بسبب انخفاض الناتج بفعل انخفاض سعر الصرف، وقد تجاوزت التحويلات نصف الصادرات، ونحو أربعة أضعاف الاستثمار الأجنبي المباشر، وأربعة أضعاف إيرادات السياحة، وما يقرب من أربعة مرّات ونصف المرّة إيرادات قناة السويس.

تحويلات العاملين إلى مصر كنسبة من الناتج المحلي

وبالنظر في الميزان الجاري لآخر عامين (2018/2019 و2019/2020)، ووفقاً للتقديرات المبدئية للبنك المركزي المصري في تقريره السنوي، نجد أنّ صافي تحويلات العاملين وحدها يجاوز إجمالي المتحصِّلات الخدمية الأخرى بكافة أنواعها، فقد بلغ للعام الأول 7.7% من الناتج المحلي الإجمالي في مقابل 5.9% منه لإجمالي المتحصِّلات الخدمية و2.5% منه لصافي الميزان الخدمي، وبلغ في العام الثاني نحو 8.3% من الناتج المحلّي الإجمالي في مقابل 8.1% منه لإجمالي المتحصِّلات و4.3% منه لصافي الميزان الخدمي.

جُملة القول، ما زالت تحويلات العاملين بالخارج تلعب دوراً مُعتبراً في توفير النقد الأجنبي لمصر، وبالتبعية، بطبيعة الحال، تمارس تأثيراً جوهرياً على التكوين الاقتصادي يتجاوز نوعياً حجمها المُطلق، ويتفاقم بالطبع مع كلّ نمو في حجمها، الذي قد لا يبدو خطيراً للوهلة الأولى، ناهيك بالطبع عمنّ يظنونه خيراً بالمُطلق، لمجرّد أثره الإيجابي الترقيعي على مستوى المعيشة والتوازن الخارجي.

الأثر الاقتصادي: مصيدة النمو وتفريغ السياسة النقدية

لعلّ أول وأغرب الحقائق الاقتصادية الكلّية عن أثر التحويلات هو عدم وجود أي دليل على مساهمتها الإيجابية في النموّ الاقتصادي. فعلى الرغم من مساهمتها المباشرة المؤكّدة في رفع مستويات استهلاك العائلات، الذي يُمثِّل أكبر روافد النموّ - بفارقٍ كبيرٍ عن غيره - في غالبية الدول النامية خصوصاً، ومن ضمنها مصر التي يساهم فيها بنحو 85% من النموّ كمتوسّط عام للعقود الماضية، فإنّها ترتّب من الآثار المُضادة ما قد ينتهي بها أحياناً لمحصّلة صافية سلبية على الأداء الاقتصادي.

ويحدث هذا الأثر خصوصاً إذا ما تحقّق هذا الاستهلاك ابتداءً من زيادة الاستيراد من الخارج، بحيث لا يُسهِم في زيادة القدرات الإنتاجية، بل يكبحها في الواقع، كما يعزّز من حجم رأس المال التجاري وقوّته كعلاقة اجتماعية وبنية اقتصادية تعوق نموّ الصناعة المحلية وتطوّرها استراتيجياً، فضلاً عن تأثيرها السلبي المباشر على التوازن الخارجي في الأجل القصير.

من جهة أخرى، ترفع تلك التحويلات الإيجابية المتدفّقة من دون مقابل من سعر الصرف الحقيقي للعملة الوطنية، ما يجعلها تلعب دور عوائد الموارد الطبيعية في الدول الغنيّة بالموارد، بما يخلق حالة من حالات "المرض الهولندي"، بكافة آثاره المعروفة من إعاقةٍ لنموّ القطاعات التجارية التصديرية، وانتفاخ ضارّ في القطاعات المحلّية غير القابلة للتصدير، وعلى رأسها العقارات التي شهدت نموّاً انفجارياً في مصر، ومثّلت قطاع الريادة الاقتصادية الأساسي طوال نصف القرن المُنصرم، ومعها القطاع المصرفي، ما يشبه الوضع في لبنان إلى حدٍّ ما.

هذا البلد فائق الفوائض المالية، لكن العاجز هيكلياً عن التصدير واسع النطاق لاعتبارات بنيوية تاريخية ومؤسّسية ونقدية، ينتهي به الحال بلا منافذ تراكم محلّية كافية لاستيعاب تلك الفوائض، بشكل نفهم معه لماذا تتراكم أكثر من نصف الودائع في البنوك من دون أيّ توظيف أو استثمار على الإطلاق (مع وجود أسباب أخرى مهمّة بالطبع)، حتى بحساب الاقتراض الواسع من الحكومة كأكبر مُستهلك مالي في البلد. ما يعني ارتفاع متوسّط الكلفة الحقيقية للإقراض لتغطية تلك الودائع الراكدة بلا تشغيل، كما أن هذه الفوائض المُتراكمة ذاتها تُلغي أيّة فاعلية لسعر الفائدة كآلية لإدارة السياسة النقدية من طرف البنك المركزي، خصوصاً مع انتماء مصر لفئة الدول التي تتراوح فيها التحويلات بين 7% و8% من الناتج المحلّي الإجمالي، ما يناهز العتبة التي تنتفي عندها فاعلية السياسة النقدية بفعل تلك التحويلات عند مستوى 7.6%، والذي يتلاشى عنده تأثير سعر الفائدة الأساسي الخاص بالبنك المركزي على أسعار فائدة القروض المصرفية، بل إنه عند عتبة 5% من الناتج الإجمالي لا يتجاوز تأثيره نسبة الـ 4%. فإذا كان النظام المصرفي كذلك غير تنافسي، فإن عتبة عدم فاعليته تنخفض إلى 1.2% فقط من الناتج الإجمالي1 .

وعلى المستوى المؤسّسي، وفضلاً عن طبيعة الدولة التي يُحفِّز المرض الهولندي تكوينها عموماً، وتعزيزه الميل الريعي من ريعية الموارد الخاصّة إلى ريعية الممارسات العامّة، بما ينحرف بكامل أداء الاقتصاد والدولة عن التصنيع والإنتاجية، فإنها كذلك تضعف، بفضل ما توفّره من تلطيف نسبي للأوضاع الاقتصادية، الضغط الشعبي على الحكومة؛ فتتراجع الحوكمة والديموقراطية، كما هو الحال في غالبية الدول التي مسّتها "لعنة الموارد"، التي وصفها مايكل روس في كتابه الشهير "نقمة النفط"، وكما صرّح قبله ميلتون فريدمان بما معناه أنه حيثما وُجد النفط غابت الديموقراطية.

أزمة نموذج

تمرّكز هذا الدور الكبير للتحويلات في صميم وجود ومنطق عمل نموذج الانفتاح الساداتي العاجز عن التصنيع تكوينياً، بحيث ارتبط استقرار الاقتصاد الكلّي باستمرار تدفّق هذه التحويلات، خصوصًا في سياق ما أشار إليه خالد إكرام في كتابه "الاقتصاد المصري في نصف قرن"، عن أنّ مصر أصبحت مُقيّدة أكثر فأكثر بوضعيّة ميزان المدفوعات، الذي وصفه بأنّه كان "القيد النهائي على نموّ مصر"، بحيث خضع التوازن الداخلي للتوازن الخارجي.

ويكفي للنظر في ذلك معرفة أن غالبية واردات مصر تتكوّن أساساً من سلع غذائية أساسية من جهة، ومُستلزمات إنتاج وسلع وسيطة من جهة أخرى، بشكل يؤدّي أي قصور في موارد النقد الأجنبي إلى كبح إمكانات توريد جزء مُعتبر من هذه الضرورات ومن ثمّ نموّ الاقتصاد، في مقابل استمرار استهلاك المجتمع عند المستوى نفسه، واتساقاً مع هذا الوضع لم تنجح مصر في تنمية صادراتها لمضاهاة نموّ وارداتها، واعتمدت طوال نصف قرن على فائض ميزان الخدمات والتحويلات لتغطية غالبية عجز الميزان التجاري.

بل أصبحت حركة توسّع الاقتصاد المصري وانكماشه مُعتمدة أكثر فأكثر على موارده من النقد الأجنبي التي تحتلّ التحويلات مكانةً متقدّمة فيها. وقد قدّر الدكتور محمود عبد الفضيل تلك الموارد الخارجية التي وصفها بـ"الحقن الخارجية" بنحو 45% من إجمالي الموارد المُتاحة للاقتصاد المصري طوال النصف الأول من الثمانينيات، مُؤكِّداً على مساهمتها الجوهرية في دورات التوسّع والانكماش في الاقتصاد المصري، واضعاً مُخطّطاً مُبسّطاً لدورها في دورة التدفّقات الاقتصادية الداخلية له2 .

عناصر الحقن الخارجية في دورة التدفقات الداخلية للاقتصاد المصري

ومع هذا الدور الكبير للتحويلات الخارجية، دخل الاقتصاد المصري منذ ذلك الوقت في حلقة مُفرغة من "إعاقة التنمية"، حيث تسبِّب تلك الحقن الخارجية بالمرض الهولندي الذي يعيق التصنيع ونموّ التصدير، ومعهما النموّ الإنتاجي وموارد النقد الأجنبي، اللذين يؤدّيان بدورهما إلى مزيد من الاعتماد على تلك الحقن الخارجية، لمجرد استمرار الاقتصاد من دون توسّع حقيقي أو تطوّر نوعي. أدّى اعتماد مصر على الحقن الخارجية إلى نموذج اقتصادي هشّ مالياً، وغير مُستدام اجتماعياً وسياسياً، وبحاجة لحقن مُتزايدة الحجم لسدّ العجوزات المتزايدة نتيجة اتساع الفجوة بين الاستهلاك المُتزايد بسبب الآثار الكمّية للتحويلات، والإنتاج المحلّي الراكد بسبب الآثار الكيفية لها، بصيغة أخرى يحتاج الاقتصاد لموارد متزايدة لمجرد البقاء في مكانه.

وبطبيعة الحال تتعاظم الأزمة التمويلية بدرجة أكبر مع تراجع تلك الحقن الخارجية كاتجاه تاريخي مؤكّد ضمن القانونية العامة لتراجع معدّلات التبادل الدولي للمواد الخام مُنخفضة القيمة المُضافة عموماً (باستثناء فترات الأزمات، وخصوصاً الجيوبوليتيكية)، بالتوازي مع ظهور بدائلها من مصادر الطاقة المُتجددة، بما ينتج عنه تراجعاً في الموارد المالية الناتجة عنها في المراكز النفطية الإقليمية نفسها، وبالتالي ينعكس على نموّ اقتصاداتها وفرص العمل المُتاحة للهجرة المصرية والعربية لها. فلا عجب إذاً أن تتعاظم أزمات أكثر الدول العربية اعتماداً على تلك التحويلات بوتيرة مُتصاعدة.

أدّى اعتماد مصر على الحقن الخارجية إلى نموذج اقتصادي هشّ مالياً، وغير مُستدام اجتماعياً وسياسياً، وبحاجة لحقن مُتزايدة الحجم لسدّ العجوزات

ولا غضاضة في التأكيد على حتمية تزايد اهتزاز علاقات التوازن الهشّة المذكورة في ميزان المدفوعات، حتى بفرض استمرار ارتفاع التحويلات مطلقاً ونسبياً. وفي حال لم يُكبح الاستيراد العشوائي خصوصاً، وتبدأ بمصر بسياسة استبدال واردات منهجية، سوف يجاوز الميزان التجاري ميزانيّ الخدمات والتحويلات معاً بالأحجام المطلقة والنسبية، لتنتهي إمكانية التمويل الهشّ للعجز بفوائضهما، وتتزايد الحاجة للاقتراض، بالحسابين الرأسمالي والمالي، لمجرّد "التجديد البسيط" للاقتصاد، أي تجديده عند المستوى نفسه، دونما نموّ حقيقي، بالتعبير الماركسي الشهير.

وحيث لا يمكن لذلك أن يستمر، ففي نهاية المطاف، سوف ينكمش الاقتصاد المصري، وما شابه من اقتصادات في المنطقة، مرحلياً على الأقل، إلى حجمه الطبيعي المُستند لمُحصّلة رأسماله المادي وإنتاجيته البشرية، كما يحدث الآن فعلياً مُجسّداً ومتمظهرًا في التدهور المُتسارع للعملة والانخفاض المستمرّ للتدفقات المالية المُصطنعة الناتجة عن تلك التحويلات، مُؤذنةً بانتهاء النموذج الساداتي غير المُستدام، ومُعيدةً طرح قضية التصنيع والتنمية، التي دفنتها التسوية "البتروساداتية" إن جاز التعبير، على الطاولة من جديد.

  • 1 أدولفو باراهاس وآخرون، متاعب الانتقال.. تحويلات العاملين الضخمة تضعِف قدرة البلد المتلقي على إدارة سياسته النقدية، مجلة التمويل والتنمية، العدد (53)، الرقم (3)، سبتمبر 2016م، ص 42.
  • 2 محمود عبد الفضيل، حول اتجاهات التوسع والانكماش في الاقتصاد المصري في ظل سياسة الانفتاح الاقتصادي، مجلة مصر المعاصرة، الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع، المجلد (75)، العدد (397)، تموز/ يوليو 1984، ص 89.