طوق نجاة أم إعادة تدوير للمأساة؟

  • يُعدُّ لبنان حالياً البلد الثاني الأكثر اعتماداً على التحويلات في العالم بعد تونغا، إذ شكّلت في العام 2022 نحو 37.8% من مجمل ناتجه المحلّي وفقاً لبيانات البنك الدولي. في الواقع، تشهد التحويلات الوافدة تغييرات لافتة ومُعبّرة منذ بداية الأزمة.
     
  • تقدّر إدارة الإحصاء المركزي أنّ 15% من الأسر المقيمة في لبنان تعتمد على التحويلات كمصدر من مصادر دخلها، بالمقارنة مع 10% من الأسر في العامين 2018 و2019، فيما ترجّح دراسة صادرة حديثاً أنّ هذه النسبة قد تصل إلى 30%.

لطالما شكّلت تحويلات اللبنانيين المهاجرين رافداً أساسياً لدعم استهلاك الأسر وتحفيز نشاطات اقتصادية مُحدّدة، غالباً ما كانت تتركّز في القطاعين الخدماتي والعقاري، وقد بلغ المعدّل السنوي لهذه التدفّقات النقدية في خلال العقدين الماضيين نحو 6.4 مليار دولار. وعلى الرغم من تراجعها من ذروة 7.6 مليار دولار في العام 2016 إلى 6.8 مليار دولار في العام 2022، إلّا أن قيمتها لا تزال تتجاوز المعدّل السنوي، لا بل أصبحت أكثر أهمّية من السابق، والمصدر الرئيسي لمدّ البلاد بالعملات الأجنبية بعد انكشاف الإفلاس المصرفي في العام 2019 وهبوط ودائع غير المقيمين. في الواقع، تحوّلت هذه التحويلات النقدية إلى ركيزة "صمود" للأسر المقيمة في لبنان، أو الاصح لقسم من هذه الأسر، في ظل الانهيار المستمرّ في سعر الليرة وتآكل الأجور وعدم تصحيحها بما يتماشى مع ارتفاع الأسعار.

الثاني عالمياً

يُعدُّ لبنان حالياً البلد الثاني الأكثر اعتماداً على التحويلات في العالم بعد تونغا، إذ شكّلت في العام 2022 نحو 37.8% من مجمل ناتجه المحلّي وفقاً لبيانات البنك الدولي. في الواقع، تشهد التحويلات الوافدة تغييرات لافتة ومُعبّرة منذ بداية الأزمة، فعلى الرغم من انخفاض قيمتها من نحو 7.4 مليار دولار في 2019 إلى 6.6 مليار في 2020، واستمرار هذا الانخفاض في العام 2021 وصولاً إلى 6.3 مليار، قبل أن تعاود الارتفاع إلى 6.8 مليار في 2022، إلّا أن حجمها في الاقتصاد بات أكثر ضخامة، وارتفع من 14.5% كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2019 إلى 37.8% في العام 2022، وهو دليل على مدى تنامي أهمّيتها بالنسبة للاقتصاد المتدهور.

9.8% فقط من مجمل الأسر المشاركة في المسح تتلقّى تحويلات تتجاوز الـ 10 آلاف دولار سنوياً (أكثر من 833 دولاراً شهرياً

وبالفعل، تقدّر إدارة الإحصاء المركزي أن 15% من الأسر المقيمة في لبنان تعتمد على هذه التحويلات كمصدر من مصادر دخلها، بالمقارنة مع 10% من الأسر في العامين 2018 و2019، فيما ترجّح دراسة صادرة حديثاً عن Mercy Corps أنّ هذه النسبة قد تصل إلى 30% خصوصاً أن العديد من الأسر لا تصرّح عن مصادر دخلها وقيمته الفعلية خوفاً من حرمانها من مصادر أخرى للمساعدات. ومهما كانت النسبة، فإن منحاها التصاعدي يعزّز النظرية التي تقول إنّ التحويلات النقدية إلى الأسر لها طابع اجتماعي، وهي تزداد في أوقات الأزمات عندما يمدّ المهاجرين يد العون لأسرهم.

وليس هناك غرابة في أن قيمة التحويلات انخفضت بالمقارنة مع العام 2019، في حين أن نسبة الأسر المتلقية ازدادت في الفترة نفسها، إذ يجدر التذكير أن تقديرات البنك الدولي ليست شاملة، بل ترصد تلك المتدفّقة عبر القنوات الرسمية التي يمكن تتبّعها مثل شركات تحويل الأموال والمصارف، وبالتالي لا تشمل التحويلات الوافدة عبر قنوات غير رسمية مثل الأموال التي يحملها المسافرون معهم ولا يمكن رصدها واحتسابها، وهي تزايدت بعد الإفلاس المصرفي. كذلك يجدر التذكير أن جزءاً مهمّاً من هذه التحويلات كان موجّهاً في السابق لشراء عقارات وزيادة الودائع المصرفية، وبالتالي لا توجد تقديرات جدّية للقيمة الفعلية للتحويلات التي تتلقّاها الأسر لدعم ميزانية استهلاكها مباشرة، وبالتالي من البديهي الاعتقاد أن التحويلات الفعلية للاسر ارتفعت في ظل الأزمة القائمة في حين أن الجزء الذي كان يودع في المصارف لم يعد يأتي وتراجع الجزء الموظّف في شراء العقارات المبنية وغير المبنية.

في كلّ الأحوال، توجد نسبة كبيرة من الأسر المقيمة في لبنان تتلقّى تحويلات من أفرادها العاملين في الخارج. وبالتالي تعتمد على مداخيل خارجية لتمويل استهلاكها كلّياً أو جزئياً أو عند الحاجة، وهي تتجاوز معدّلات الأجور في لبنان، ويفسّر تدفقها استمرار بعض الأنشطة الاقتصادية التي يحرّكها استهلاك هذه الأسر، وهو ما ينزع بدوره الدهشة التي تلازم الوجوه عند وصف امتلاء المطاعم أو استمرار الاستيراد والاستهلاك في بلاد تواجه واحدة من أشدّ الأزمات في تاريخها المعاصر، ويتماشى مع المنحى التاريخي للبلاد حيث كان 20% من السكّان مسؤولين عن 50% من الاستهلاك قبل الأزمة بحسب أرقام UNDP.

يرى الاقتصادي غسّان ديبة أن "هذه الأرقام قد لا تكون مُستغربة بالمطلق، ولكنها من دون شكّ تعبّر عن اقتصاد مزدوج، اقتصاد يعتمد على الدخل المُحقّق داخلياً ويتقلّص حجمه بحكم انهيار الأجور المقوّمة بالليرة وتآكلها بحكم ارتفاع الأسعار بالدولار، واقتصاد خارجي منبعه عمل المهاجرين اللبنانيين وتقاضيهم أجوراً أعلى تتناسب مع مهاراتهم ومعدّلات الأجور في البلدان التي يعملون بها". ويتابع ديبة أن "العاملين اللبنانيين في الخارج يساوون ثلث القوى العاملة اللبنانية، وبالتالي يغذّي نزيف الهجرة المُستمرّ هذه الازدواجية في الاقتصاد وما تفرزه من تفاوتات اجتماعية".

إعادة إنتاج الطبقات

يعبّر توزّع هذه التحويلات عن تفاوتات فاقعة على مستويات مختلفة سواء جندرية أو طبقية أو مناطقية ممتدّة تاريخياً ومُتجذّرة في البنى الاجتماعية اللبنانية. بحسب مسح1 أعدّته ARK وUNDP في آب/أغسطس الماضي، لا تتوزّع هذه التدفّقات بالتساوي بين الأسر المتلقيّة، ويتبيّن أن التركّز في التحويلات لا يختلف كثيراً عن التركّز في الدخل، بحيث أنّ 9.8% فقط من مجمل الأسر المشاركة في المسح تتلقّى تحويلات تتجاوز الـ 10 آلاف دولار سنوياً (أكثر من 833 دولاراً شهرياً)، في حين أن 33.5% من الأسر تتلقّى تحويلات بقيمة تراوح بين 1,200 إلى 10 آلاف دولار سنوياً (بين 100 و833 دولاراً شهرياً)، في مقابل 30.2% من الأسر التي تتلقّى تحويلات بقيمة تراوح بين 750 و1,200 دولار سنوياً (بين 62 و100 دولار شهرياً). والباقي غير مُحدّد أو غير معروف.

يقول الاقتصادي ألبير داغر: "لا شكّ أن الكثير من الأسر باتت تعتمد بشكل أكبر على التحويلات لتستمرّ وتصمد وتقاوم سياسة التجويع والتفقير، ولكن ذلك لا يعني اجتياز قطوع الأزمة أو نفي ازدياد معدّلات الفقر، لأن هناك جزء كبير من الأسر لا يملك مصدر دخل بالدولار أو ولوجاً إلى تحويلات نقدية من الخارج". بمعنى آخر، تفسّر هذه الأرقام أسباب استمرار بعض الأنشطة الاقتصادية والاستهلاكية التي تتغذّى بأموال المغتربين، ولكن هذا لا يعني أن جميع الأسر المتلقية للتحويلات لديها قدرة شرائية عالية، كما لا يعني أن جميع الأسر المقيمة في لبنان تستفيد من تدفّق هذه التحويلات نظراً لضعف تأثير إنفاق هذه التحويلات على النموّ الاقتصادي.

وبالفعل، لا تتلقّى مجمل الأسر التحويلات بانتظام. بحسب المسح نفسه، أفادت 35.9% من الأسر المُشاركة أنها تتلّقي تحويلات بصورة منتظمة، في مقابل 50.6% بين الحين والآخر، و13.3% في مناسبات خاصة أو لتلبية احتياجات خاصّة مثل أقساط المدارس أو فواتير المستشفيات. أيضاً يتبيّن أن 23.2% من الأسر التي تقودها نساء تتلقّى تحويلات من الخارج في مقابل 14.6% من الأسر التي يقودها رجال، وهو ما يعبّر عن الطابع الذكوري الطاغي على الهجرة اللبنانية وبالتالي هجرة أرباب الأسر لإعالة أسرهم المقيمة في لبنان.

أمّا فيما يتعلّق بالتقسيم المناطقي، فيبيّن المسح نفسه أن 22.1% من الأسر المتلقّية لتحويلات نقدية من الخارج تقيم في النبطية، تليها محافظة جبل لبنان بنسبة 21.1%، ومن ثمّ عكار بنسبة 18.1%، وتليهم محافظة بعلبك – الهرمل بنسبة 16.7%، ومن ثمّ محافظة البقاع بنسبة 15.4%، والشمال بنسبة 14.5%، وأخيراً الجنوب بنسبة 8.3% وبيروت بنسبة 3.9%. علماً أن الأسر المقيمة في محافظات جبل لبنان والنبطية والبقاع هي الأكثر اعتماداً على التحويلات لتلبية احتياجاتها اليومية.

كانت كلّ 100 دولار تكفي لشراء أكثر من 80% من سلة الغذاء الأساسية في آذار/مارس 2021، في حين لم تعد تؤمّن في تشرين الثاني/نوفمبر 2022 سوى كلفة 40% من هذه السلّة التي بات شراؤها يتطلّب نحو 250 دولاراً شهريايشير الاقتصادي غسّان ديبة الى أن هذه التفاوتات في توزّع التحويلات تعبّر عن "إعادة إنتاج الطبقات التي تلازم أي أزمة، فاستحواذ 9.8% من الأسر المتلقّية للتحويلات على ما يتجاوز الـ 10 آلاف دولار سنوياً يعني أن هذه التحويلات هي نتاج عمالة لبنانية ماهرة تلقّت تعليماً أفضل من غيرها، وهي تسمح لها بالتنعّم بمستوى معيشي أفضل من الأسر الأخرى، وتتيح لها الإنفاق على استهلاكها اليومي وأيضاً الاستثمار في تعليم أولادها وتحسين حظوظهم بالهجرة والحصول على مداخيل أعلى، وبالتالي إعادة إنتاج الطبقات نفسها".

سباق مع التضخّم

يُعرف عن التحويلات بأنها طوق نجاة للأسر المتلقّية لها وخصوصاً في خلال الأزمات. وفي الحالة اللبنانية الراهنة، يقول الاقتصادي كمال حمدان إن "التحويلات لا تزال أحد المحرّكات الأساسية للاقتصاد ولو عبر الاستهلاك، لأنها الداعم الأساسي لاستهلاك الشريحة الأكبر من الأسر المتلقّية لها في ظلّ الارتفاع المستمرّ في الأسعار ولا سيّما أسعار السلع الغذائية"، ويرجّح حمدان أن "يكون الجزء الأكبر من التحويلات موجّهاً لدعم استهلاك الأسر وسدّ حاجاتها اليومية، في مقابل تراجع التحويلات الموجّهة نحو الاستثمار في العقارات ودفع أقساط الشقق والتعليم أسوة بما كانت عليه قبل الأزمة".

مع ذلك، تخسر التحويلات السباق مع كلفة المعيشة المُتضخّمة لا سيّما بعد رفع الدعم عن السلع الأساسية وأزمة ارتفاع الأسعار عالمياً. في الواقع، كانت كلّ 100 دولار تكفي لشراء أكثر من 80% من سلة الغذاء الأساسية في آذار/ مارس 2021 بحسب دراسة Mercy Corps، في حين لم تعد تؤمّن في تشرين الثاني/نوفمبر 2022 سوى كلفة 40% من هذه السلّة التي بات شراؤها يتطلّب نحو 250 دولاراً شهرياً.

لا شكّ أنّ تحويلات المهاجرين تقود الاقتصاد المنزلي وتنفقها الأسر على الاستهلاك الشخصي، وترتفع أهمّيتها في البلدان ذات الاقتصادات الضعيفة التي تتسمّ بوجود حكومات أقل استقراراً، عدا أنها تُعدُّ مصدراً رئيساً للعملات الأجنبية. يقول الاقتصادي شربل نحّاس في مقابلة سابقة معه إن "سياسة اللا قرار المُعتمدة من السلطة القائمة هو تعبير عن رهانها على الوقت لتهجير المزيد من السكّان وخصوصاً الشباب وتفقير شرائح أوسع من المقيمين، من جهة لتخفيف الاستهلاك وبالتالي الاستيراد ونزف الدولارات، ومن جهة أخرى لتجديد الهجرة وتوفير جيل جديد من المهاجرين القادرين على إرسال تحويلات جديدة ورفد البلاد بعملات أجنبية إضافية"، وهو ما يسمح بإعادة إنتاج النظام وتدوير المأساة نفسها.

  • 1ARK-UNDP, Regular perception survey on social tension throughout Lebanon: Wave XIV narrative report, August 2022, p.16.