الثورة العقاريَّة كمعالجة مكانيَّة: مصر نموذجاً 

  • فشل نموذج النمو القائم على التصدير لأسباب عدّة أبرزها: وجود حوافز لجذب الاستثمار بعيداً من القطاعات الإنتاجية وتحديداً في القطاع المالي، وضعف الطلب العام العالمي بسبب الأزمات الاقتصادية المُتتالية
  • يأكل التوسّع الحضري الطائش الأخضر واليابس، ويُعدُّ من أكثر القطاعات الاقتصادية الملوِّثة وكثيفة الاعتماد على الموارد. أما القطاع التمويلي الذي ينمو جنباً إلى جنب مع القطاع العقاري، فهو من أقل القطاعات توليداً لفرص العمل.

في العقود الأخيرة، أصبح القطاع العقاري في مصر قاطرة النمو والنشاط الاقتصادي، ففضلاً عن الزيادة الكبيرة في حجم القطاع نفسه، إلّا أن تأثيره غير المباشر ضخم أيضاً، حيث يدعم قطاعات أخرى مثل الحديد والأسمنت والنقل والأثاث. وكونه قطاع كثيف العمالة، فإنه يخلق أيضاً الكثير من فرص العمل الموسميّة التي تتحوّل أجورها إلى طلبٍ عام في الاقتصاد، فيُحفز  قطاعات استهلاكية أخرى مثل التغذية والاتصالات والترفيه والبيع بالتجزئة.

المعضلة الهيكلية

تزيد الأهمّية الاجتماعية والسياسية للقطاع العقاري في بعض اقتصاديات الجنوب، في ظل تراجع قطاعات أخرى مثل الإدارة العامّة والصناعة والزراعة عن توفير فرص عمل كافية. يتراجع دور الإدارة العامّة كموفِّر للوظائف المكتبية بسبب سياسات التقشُّف التي غزت العالم، وكان من أهمّ ضحاياها أجهزة الدولة البيروقراطية، التي لعبت دوراً مركزياً في سياسات التوظيف الكامل وبناء قواعد اجتماعية من الطبقة الوسطى في دول ما بعد الاستقلال منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. تراجع أيضاً دور الصناعة التشغيلي - على الرغم من زيادة حجمها كنسبة من الناتج في بعض الحالات - بسبب التطوّر التكنولوجي الموَفِّر للعمل، الذي أدّى إلى تراجع مستوى التشغيل في القطاع، فنجد مثلاً أنه على الرغم من زيادة نسبة العمالة في الصناعة في البلدان المتوسّطة والمنخفضة الدخل من 20% إلى 23% من إجمالي العمالة بين العامين 1991 و2019، إلّا أن هذه الزيادة لم تستوعب الانخفاض الشديد في العمالة الزراعية من 53% إلى 32% في الفترة نفسها، ممّا أدّى إلى هبوط كبير في نسب التشغيل في دول الجنوب العالمي من 64% من إجمالي السكان في 1991 إلى 57% في 2019.

يتراجع دور الإدارة العامّة كموفِّر للوظائف المكتبية بسبب سياسات التقشُّف التي غزت العالم، وكان من أهمّ ضحاياها أجهزة الدولة البيروقراطيةيعود ذلك بشكل رئيسي إلى التقسيم الدولي للعمل والعلاقات التجارية غير المُتكافئة. نجا عالم الشمال بنفسه من التحوّلات الكبرى من الاقتصاد الزراعي والصناعي نحو الاقتصاد الخدمي والمالي، من خلال تركيز القطاعات الخدمية والمالية وجعلها محور التبادل التجاري، فهو يتخصّص بشكل غير متناسب في السلع والخدمات غير الملموسة (التصاميم، حقوق الملكية الفكرية، السلع الملموسة مرتفعة المكوِّن المعرفي، إلخ)، ممّا حافظ على استقرار نسب العمالة فيه التي حقّقت زيادة طفيفة، إنّما انخفضت في المقابل معدّلات الأجور كجزء من الناتج المحلّي الإجمالي، نظراً لكون الكثير من هذه الوظائف هشّة وبدوام جزئي. وبالتالي، لم يتساقط نمو الثمار الجديد على من يبيعون قوّة عملهم في مقابل الأجر. فمجرّد استقرار معدّلات التشغيل في ظل اقتصاد متنامي هو علامة على زيادة اللامساواة، لكن بالطبع ليس بالمستوى نفسه لهبوط معدّلات التشغيل في اقتصاديات جنوبية تنمو بمعدّلات أسرع.

للتعامل مع هذه المعضلة الهيكلية، يظهر الدور الكبير للقطاع العقاري، فهو يخفِّف من وطأة ووتيرة فقدان الوظائف الحادّ والسريع الذي يحدث في الجنوب، وفي الوقت نفسه يُعتبر قناة لتصريف فوائض رأس المال المحلّية والإقليمية والدولية في مشروعات قد تبدو مُربحة ومضمونة.

«التوسُّع الحضري الطائش»

يدعونا أستاذ الجغرافيا والاقتصاد السياسي ديفيد هارفي دائماً للتأمّل في البيئة المبنية كمعالجة مكانية لأزمات رأس المال، خصوصاً في ظل أزمات التوظيف. يشير هارفي مثلاً إلى أنه في أعقاب الأزمة المالية العالمية في العام 2008 فقد نحو 30 مليون صيني وظائفهم بسبب ضعف الطلب على الواردات الصينية في بلدان الشمال، التي مرَّت بواحدة من أسوأ فترات الركود منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين، لكن انخفض هذا الرقم إلى 3 ملايين فقط بسبب برنامج هائل للتوسّع الحضري هناك، نجح في توظيف عشرات الملايين من العمّال الصينيين.

يُطلق هارفي على هذا النمط «التوسّع الحضري الطائش» mindless urbanization. بالإضافة إلى توفير الوظائف وتوظيف الطاقة الإنتاجية الزائدة/العاطلة في الاقتصاد، يهدف التوسّع الحضري الطائش أيضاً إلى إنتاج منتجات استهلاكية هدفها تقصير وقت دورة إنتاج السلع والخدمات واستهلاكها، وهو وفقاً لهارفي واحدة من استراتيجيات علاج أزمة انخفاض الربح. يقول هارفي أن مع انخفاض معدّل الربح، يجب على رأس المال زيادة كتلة/كمّية الربح لتعويض انخفاض المعدّل. ويحدث هذا من خلال الميل إلى التوسّع والاحتكار، ولكن أيضاً عن طريق تسريع وقت دورة الإنتاج والاستهلاك. ويأتي هنا دور بيع التجارب الخاطفة مثل الإقامة الفندقية وغيرها من الأنشطة السياحية، أو مشاهدة مباراة رياضية أو عرض فني، وهي الأنشطة التي تحفّز وتستوعب جزءاً كبيراً من هذا التوسّع الحضري.

ردّة فعل مكانية لاقتصاد لم ينجح في التصدير

في مصر، فشل نموذج النمو القائم على التصدير لأسباب عدّة أبرزها وجود حوافز لجذب الاستثمار بعيداً من القطاعات الإنتاجية وتحديداً في القطاع المالي، وضعف الطلب العام العالمي بسبب الأزمات الاقتصادية المُتتالية، فضلاً عن القيمة المنخفضة جدّاً للسلع التي تفرضها اقتصاديات التقسيم الدولي للعمل/الميزة المقارنة على بلدان الجنوب.

يهدف التوسّع الحضري الطائش أيضاً إلى إنتاج منتجات استهلاكية هدفها تقصير وقت دورة إنتاج السلع والخدمات واستهلاكهافي هذا السياق غير المواتي يبرز العقار كسلعة غير قابلة للتداول non-tradable good مناسبة لإحداث نموّ حيث تفشل الصناعات الإنتاجية. وكونه أصل غير قابل للتداول، لا يمكن استيراد العقار من الخارج لمجرّد أن هناك بلد قادر على إنتاجه بشكل أكثر كفاءة أو احتكاره، فضلاً عن أن الزيادة الكبيرة في الكتلة السكّانية وخصوصاً الشبابية تضمن وجود طلب دائم على العقار، وفي ذلك تشترك مصر مع غيرها من بلدان الجنوب الأفقر التي تزيد فيها معدّلات النمو السكّاني.

لكن يبقى كونها سلعة غير قابلة للتداول، الدافع الرئيسي وراء النموّ الكبير لهذا القطاع، إذ يزيد عدد العقارات الشاغرة في مصر بشدّة، ويصل إلى نحو ثلث إجمالي الوحدات السكنية في البلاد، ممّا يدل على أن نمو القطاع ليس مدفوعاً بالنمو السكّاني بشكل رئيسي، وهو ما يعطي مصداقية لمقاربة «التوسّع الحضري الطائش» حيث تعطى الأولوية للقيمة التبادلية للعقار في مقابل قيمته الاستخدامية.

يستخدم آدم هنية في كتابه Money, Markets and Monarchies مفهوم «تحويل رأس المال» capital-switching لديفيد هارفي ليشرح أسباب التوسّع العمراني في المنطقة. وقد استحدث هارفي هذا المفهوم لشرح قدرة رأس المال على التحوّل من القطاعات الإنتاجية إلى القطاعات الإنشائية في الشمال العالمي كنتيجة لأزمة التراكم الزائد لرأس المال. وعلى الرغم من حدوث تحوّل مماثل في دول الجنوب لكن عادة ما تكون دوافعه مختلفة، وهو غياب قنوات التراكم بسبب ضعف القطاعات الإنتاجية عالية الربحية والقيمة المضافة في اقتصاديات الجنوب، خصوصاً أن غالبية هذه البلدان تكمن أزمتها في قلّة رأس المال وليس زيادته عن الحدّ. وما يؤكّد ذلك أيضاً هو أن الجزء الأكبر من الاستثمارات العقارية والإنشائية تنفق عليها الدولة وليس رأس المال الخاص، وهي تمثّل نحو ثلاثة أرباع حجم الاستثمارات في قطاع التشييد. 

تضخّم حجم القطاع العقاري في مصر بشدّة في خلال السنوات الأخيرة، وقد نما بمعدّل سنوي متوسّط قدره 16% في السنوات المًمتدة من 2007 إلى 2017. في 2019-2020، شكّل قطاع البناء 6.3% من الناتج المحلّي الإجمالي. وشكّلت الاستثمارات في قطاع البناء في العام نفسه 12.5% من إجمالي الاستثمارات، وتمّ تمويل ثلاثة أرباعها من القطاع العام. وترتفع هذه الحصّة إلى 18.1% إذا قمنا بتضمين الاستثمارات في الكهرباء والمياه والصرف الصحي وغالبيّتها استثمارات عامّة. تنعكس الثورة العقارية على سوق العمل حيث يعمل نحو 3.5 مليون في قطاع البناء، وهو ما يمثِّل 13.3% من جميع العاملين في 2017.

مُسكِّنات غير مُستدامة

بسبب عدم زيادة الأجور في مصر، وعدم قدرة غالبية المصريين عن شراء العقارات، خصوصاً في الفترة الحالية مع توالي الأزمات الاقتصادية الطاحنة، يعتمد القطاع العقاري على حيل عدّة لتحفيز الطلب وسوف نذكر منهم ثلاثة؛ أولاً، استهداف الأجانب من الجنسيات الخليجية خصوصاً والمصريين المقيمين في الخارج. ثانياً، التركيز على العقار كمخزن للقيمة وفرصة استثمارية للأغنياء، وهنا يبرز دور القيمة التبادلية على حساب القيمة الاستخدامية للعقار أي توفير مأوى مناسب لمن يحتاج. وثالثاً، توفير حزم تمويلية عن طريق تزاوج القطاعين العقاري والمصرفي.

الجزء الأكبر من الاستثمارات العقارية والإنشائية تنفق عليها الدولة وليس رأس المال الخاص، وهي تمثّل نحو ثلاثة أرباع حجم الاستثمارات في قطاع التشييديتحدّث هنية في كتابه «الرابطة بين العقارات والتمويل» real estate-finance nexus عن هذه الآلية الثالثة. ويشير إلى الزيادة الكبيرة في حصّة التمويل العقاري كنسبة من الناتج المحلّي في غالبية بلدان المنطقة. في مصر، زاد حجم التمويل العقاري 16 مرة بين العامين 2006 و2013 من نحو 42 مليون دولار إلى 710 ملايين دولار. في العام 2014، أعلنت أيضاً الحكومة المصرية عن حزمة بحجم 20 مليار دولار لتشجيع البنوك على توسيع برامج التمويل العقاري.

تكمن مشكلة التوسّع الحضري الهائل المدعوم بحزم تمويلية من دون أي زيادة حقيقية في الأجور والطلب العام، إنها غالباً ما تؤدّي إلى فقّاعة عقارية ومالية. يجب هنا الإشارة إلى إن حجم التمويل العقاري في مصر ما زال محدوداً جدّاً بالمقارنة مع المعدّلات العالمية لأن جزءاً كبيراً من البيئة المبينة غير مُخطّطة رسمياً، وبسبب عدم وصول القطاع الأكبر من السكّان إلى الخدمات المصرفية ممّا يحدّ من فرص حدوث فقّاعة مالية. لكن من دون توسّع ضخم في التمويل العقاري بالتزامن مع انخفاض الأجور الحقيقية فلن يكون هناك طلب كاف – حتى لو مصطنع – على جميع تلك العقارات الشاغرة وقيد الإنشاء، وإذا حدث توسّع كبير في التمويل العقاري فقد يخلق فقّاعة مثلما حدث في سوق العقارات الصينية، وإن لم يحدث قد يخلق ركوداً بسبب اعتمادية الاقتصاد بشكل كبير على النشاط العقاري.

من أهم الآثار السلبية للثورة العقارية (أو التوسّع الحضري الطائش بعبارة هارفي) كمعالجة مكانيّة لأزمات التجارة والاستثمار في اقتصاد طرفي هو تأثير التوسُّع غير المتناسب على النساء، بحيث تظهر سيطرة الذكور في مصر على 98% من وظائف هذا القطاع الهشّة والموسمية، وقد تزامن ذلك مع الهجمة التقشّفية في السنوات الأخيرة على قطاعات اجتماعية مثل الصحّة والتعليم، وعلى الإدارة العامّة التي تُعدُّ من أكثر القطاعات كثيفة العمالة والمتوازنة جندرياً. ونتيجة لهذه الاتجاهات نرى إنخفاضاً حاداً لمشاركة النساء في سوق العمل، من 24.5% إلى 17.6% بين العامين 2017 و2021، وهي الفترة الكافية لإظهار نتائج برنامج صندوق النقد للإصلاح الاقتصادي الذي بدأ في نهاية العام 2016.

لكن يدفع الذكور أيضاً ثمن هذه التغييرات. فالتوسّع الكبير فيما يُسمّى «الرابطة بين التمويل والعقارات» كان واحداً من أسباب توسّع القطاع المالي مع القطاع الإنشائي على حساب القطاعات الاجتماعية والحكومية المولِّدة لفرص عمل مُستقرّة وكثيرة ومتوازنة جندرياً. فنرى أن معدّل تشغيل الذكور انخفض على الرغم من كلّ فرص العمل التي وفَّرها التوسُّع العقاري من 80% إلى 75% بين العامين 2014 و2019، وانخفض إجمالي معدّل تشغيل السكّان من 53% إلى 48% ممّا يدل على أن التوسّع الحضري الطائش كوسيلة لخلق فرص عمل في ظلّ ركود وتقشّف، ووضع غير مواتي في التجارة الدولية، وانخفاض الأجور والطلب العام قادر على تقليل حدّة انهيار قدرة الاقتصاد على خلق فرص العمل فحسب، فيما يخلق بالتوازي مشاكل مرتبطة بالاستدامة المالية والأمان الوظيفي، ويضرُّ أيضاً بالبيئة حيث يأكل التوسّع الحضري الطائش الأخضر واليابس، ويُعدُّ من أكثر القطاعات الاقتصادية الملوَّثة وكثيفة الاعتماد على الموارد. أمّا القطاع التمويلي الذي ينمو جنباً إلى جنب مع القطاع العقاري، فهو من أقل القطاعات من حيث توليد فرص العمل سواء للإناث أو للذكور لكونه شديد كثافة رأس المال، وبالتالي لا يمكن له أن يعوِّض ولو جزءاً صغيراً من انكماش القطاعات الثلاثة المولّدة لفرص العمل.