سابق عصره
لبنان النيوليبرالي ما قبل النيوليبرالية
- أقرّت شخصيّات بارزة في الدوائر الاقتصادية، مثل ميشال شيحا، أنه يجب أن يكون النظام الاقتصادي في لبنان مبنياً على التجارة الحرّة، حيث تكون المشاريع الخاصّة هي المحرّك الرئيسي للنمو، بينما يبقى على عاتق الدولة «المشاركة الخفيفة» في الاقتصاد.
- إن صورة لبنان ما قبل الحرب كملاذٍ مثالي للازدهار تزداد تشرذماً عندما ينظر المرء إلى الصراعات الاجتماعية العنيفة في الحقبة التي سعت إلى تحدّي الوضع الراهن غير المُتكافئ، حيث غالباً ما يكون العمّال وطلّاب الجامعات في المقدّمة.
يواصل لبنان الغرق في الهاوية بينما يجلس أوليغارشيّوه على الأطلال، شامتين بأنهم تمكّنوا من تحويل ثرواتهم إلى الخارج، فيما هربوا من أي شكل من أشكال المساءلة عن جرائمهم. في مثل هذه الأوقات البائسة، تظهر موجات الحنين إلى «عصر ذهبي» مفترض حيث كانت الأموال والأحوال وفيرة، وكان لبنان واحة من الازدهار والتنمية الاقتصادية وسط «منطقة مُتخلّفة». انتشرت حسابات لا حصر لها ولا تعداد على منصّات التواصل الاجتماعي، تقدّم محتوى يثير هذا الشوق الكئيب لهذا الماضي المجيد، تشارك يوميّاً صور بيروت قبل الحرب، وفي مناسبات نادرة صور من بقيّة لبنان. يصف أحد المُعلّقين السياسيين البارزين هذه الفترة المحصورة بالستينيات غالباً - مع الاعتراف بالفجوات الاجتماعية والاقتصادية للعصر - بأنها «حلم يتحقّق»، بل ويصنّف النخب السياسية التقليدية ما قبل الحرب على أنها «أفضل بكثير من الحشد الذي نحن عالقون معه الآن».1
تشهد جميع جوانب المجالين الاجتماعي والاقتصادي في لبنان تحوّلات جذريّة تتمثّل بشلل النظام المصرفي الذي يضع نفسه فوق القانون ويشلّ الاقتصاد معه، والتدمير الهائل لثروات الطبقات الفقيرة والمتوسّطة، وموجة هجرة جديدة تضرب المقيمين في البلد أيّاً كانت خلفيّتهم وجنسيّاتهم، بالإضافة إلى تدهور كامل لجميع القطاعات. تبدو احتمالات الخلاص قاتمة، ويعتقد البعض أن صندوق النقد الدولي - حتى مع سجلّه الكارثي عبر التاريخ المعاصر في دول أخرى - سيكون «منقذاً».
إن كان لبنان ما قبل الحرب يشبه الحلم، فهو حلم كافكائيّ جائر في قمعه وغير مبالٍ إلى حدّ لا يطاقيبقى أمر واحد مؤكّد، يجب علينا تجنّب الوقوع في فخّ «النوستالجيا»، وأن نكفّ عن إضفاء الطابع الرومانسي على الماضي. بصرف النظر عن بعض فترات الثبات والنبات - التي بُنيت إلى حدّ كبير على نظام اقتصادي غير عادل واستغلالي - فإن كان لبنان ما قبل الحرب يشبه الحلم، فهو حلم كافكائيّ جائر في قمعه وغير مبالٍ إلى حدّ لا يطاق.
الدولة النيوليبرالية عَ الأصول
النيوليبرالية هي نظام سياسي اقتصادي يتّسم بدولة ضعيفة إلى حدّ اللاوجود، ذات قدرة محدودة على التدخّل في الاقتصاد، وأسواق يفترض أنها «حرّة» وأكثر فعالية، مع القليل من القوانين التي من شأنها تنظيم التجارة، أو وضع الحواجز التجارية من الأساس. يرتبط ظهور النيوليبرالية بتشيلي، حيث أسقط انقلاب - مدعوم من وكالة المخابرات المركزية الأميركية - حكومة سلفادور أليندي اليسارية المُنتخبة ديمقراطياً، وجيء بدكتاتورية وحشية أخضعت تشيلي عنوةً لتحرير اقتصادها، ممّا أدّى إلى عقود من الإفقار الجماعي، وممارسات إرهابية من الدولة، وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
مع ذلك، يُعدُّ لبنان من أوّل روّاد النيوليبرالية بمفهومها اليوم، منذ أواخر الأربعينيات، حتى لو لم يكن المُصطلح أو المسمّى نفسه متداولاً حينها. في ذلك الوقت، تمحورت النقاشات بين أوساط طبقة «الإنتليجنسيا» أو المثقّفون في البلاد حول الأمور المُتعلّقة بالهوية الوطنية. شكّلت حدود «لبنان الكبير» التي رسمتها السلطات الاستعمارية الفرنسية، مع منطقتي بيروت وجبل لبنان، نواة الدولة الجديدة، وتمتّعت بيروت تحديداً بالهيمنة المالية والتجارية، وأخضعت تلك الحقبة القطاعين الزراعي والصناعي لتبعية البنوك والتجارة. اندثرت بقايا صناعة الحرير، التي كانت في يوم من الأيام ركيزة اقتصاد جبل لبنان، وأصبح لبنان معزولاً عن الأسواق في المناطق النائية السورية بينما لم يعد الحرير مطلوباً في ليون.2
بالنظر إلى التركيبة مُتعدِّدة الطوائف للبلد، وموقعه الجغرافي الاستراتيجي على تقاطع ثلاث قارات، أقرّت شخصيات بارزة في الدوائر الاقتصادية، مثل ميشال شيحا، أنه يجب أن يكون النظام الاقتصادي في لبنان مبنياً على التجارة الحرّة، حيث تكون المشاريع الخاصة هي المحرّك الرئيسي للنمو، بينما يبقى على عاتق الدولة «المشاركة الخفيفة» في الاقتصاد. في تشرين الثاني/ نوفمبر 1948، تم تخفيف ضوابط الصرف على العملات الأجنبية إلى حدٍّ كبير، ثمّ ألغيت تماماً في العام 1952. 3 أصبحت الحكومات في حقبة ما بعد الاستقلال تنحاز بشدّة نحو تحرير القطاع التجاري، ولم تفرض أي قيود على التجارة الخارجية، ووضعت كأولوية في موازنة النفقات الحكومية كلّ الإجراءات التي تعكس مصالح التجّار والمصرفيين في قطاع الخدمات، بدلاً من قطاعيّ الزراعة والصناعة. كانت التعريفات الجمركية القليلة المفروضة على الواردات تهدف إلى ضمان تدفّق ضئيل من الإيرادات إلى الدولة، بدلاً من حماية الصناعة المحلّية من المنافسة الأجنبية.
مهَّد رفع جميع ضوابط الصرف على العملات الأجنبية والتعريفات الجمركية المنخفضة للغاية على الواردات، بأن يسطو رأس المال على الدولةمهَّد رفع جميع ضوابط الصرف على العملات الأجنبية والتعريفات الجمركية المنخفضة للغاية على الواردات، بأن يسطو رأس المال على الدولة. كان أصحاب المشاريع الصغيرة والعاملين المنهكين في مجال الصناعة يكافحون للتأثير على قرارات الحكومة والضغط من أجل الحصول على قوانين ترعى لهم حقوقهم من ضمانات اجتماعية وظروف عمل أفضل، في حين أن التجّار الكبار والمصرفيين كانوا بكبسة زرّ يحافظون على ترتيبات السوق الحرّة.4
للوهلة الأولى، بدا هذا النظام ناجحاً. أصبحت بيروت الميناء التجاري الرئيسي لشرق البحر الأبيض المتوسِّط، وكانت بمثابة بوابة للبضائع الغربية، تعبرها لتصل من خلالها إلى الأسواق العربية - وهو «إنجاز» لم يكن ليكون، لولا تنازل سوريا، مرغمة تحت فرض حكم الإنتداب الفرنسي، عن لواء الإسكندرون لتركيا في العام 1938، واستيلاء الاحتلال الصهيوني على حيفا في العام 1948. أصبحت ميناء بيروت جراء تلك الأحداث القناة الرئيسية لعبور البضائع إلى البلدان المجاورة، ومرَّ جزء كبير من واردات الأردن وسوريا إلى المنطقة الحرّة في مرفأ بيروت.5 بالإضافة إلى ذلك، أصبح مطار بيروت الدولي جزءاً رئيسياً من الطرق الجوّية الدولية التي تعبر المنطقة، وتوافد السيّاح الغربيون والعرب إلى البلاد، وجلبوا معهم العملات الأجنبية، وحفّزوا التجارة وقطاع الخدمات.
عادة ما تكون هذه الصورة في ذهن الذين يفكّرون في العصر الذهبي للبنان، زمن الازدهار والانفتاح والوفرة، حيث كان لكلّ شخص - ظاهرياً - فرصة للعيش الكريم، بشرط أن يعمل بجدّ وكدح لتحقيق ذلك.
بلاد الرخاء والدهاء… لكن لمن؟
للأسف، كان الواقع مختلفاً تماماً عن هذه الصورة الوردية. في العام 1959، كلّف الرئيس فؤاد شهاب - وهو أحد السياسيين القلائل الذين لم يأتوا عن طريق الأوليغارشية الإقطاعية الطائفية التقليدية - منظّمة IRFED غير الحكومية الفرنسية، بإعداد دراسة، مشهورة حتّى الآن، لتقييم الظروف الاجتماعية والاقتصادية في جميع أنحاء لبنان، تمهيداً لوضع خطط تنموية مستقبلية.
كانت النتائج صارخة، وتعكس واقعاً أليماً. اتسم لبنان بتفاوتات طبقية وصفتها الدراسة بالـ«خطيرة ومثيرة للقلق»، حيث تعيش عدّة مناطق - مثل الشمال والهرمل وبعلبك وسهل البقاع - في حالة «تخلّف» شديد، وتفتقر إلى أساسيات الخدمات الاجتماعية. فقد كانت الطرق والمدارس والأبنية السكنية والكهرباء والصرف الصحّي، غير موجودة فعلياً في العديد من هذه المناطق. حتى في أكثر المناطق «تطوّراً» - بيروت وجبل لبنان - كانت الفوارق بين الأحياء والبلدات فاقعة، ولم تصل أي من الخدمات والتطوّر العمراني في بيروت إلى «حزام البؤس» الذي يلفُّ المدينة.6
أيضاً وثّقت الدراسة فوارق عميقة على مستويات الدخل، فوجدت أن نحو نصف الأسر تنتمي إلى الفئات «الفقيرة» أو «البائسة»، وتحصل على أقل من 700 دولار أميركي سنوياً، في حين أن 32% من الأسر تكسب في المتوسّط ما يقرب من 1,000 دولار أميركي سنوياً. بشكل عام، كانت 82% من الأسر تعاني لتغطية نفقاتها.7 يشير توزيع الدخل هذا إلى الانقسام الاجتماعي العميق وراء واجهة الازدهار. عندما أنشأ الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي فرع ضمان المرض والأمومة في العام 1971، تبيّن أن 70% من الطبقة العاملة لم يتجاوزوا الحدّ الأدنى للأجور، وبالتالي يعيشون في فقر واضطهاد مجتمعي. تجنّبت العديد من الشركات تسجيل موظّفيها في الضمان الاجتماعي الوطني، وهدّدت بفصل من طالبوا بالتسجيل.8
حتى الأصوات غير الطائفية داخل مجتمع الأعمال، المدركة للانقسامات الاجتماعية العميقة في لبنان، والقلقة بشأن مستقبل البلاد، تمت محاربتها بقسوةاتحدت مصالح المصرفيين والتجّار في معارضة السياسات التي كانت سوف تزيد الضرائب عليهم، وتمهِّد الطريق لتدخل حكوميّ أكبر في السوق من أجل حماية من هم في أسفل السلم الاجتماعي. في أيلول/ سبتمبر 1971، سعت الحكومة إلى زيادة الرسوم الجمركية على مجموعة كاملة من السلع المستوردة، واستخدام الإيرادات الحكومية الجديدة هذه لتمويل صندوق التنمية الاجتماعية والاقتصادية. لكن اعترض التجّار وأصحاب المتاجر في بيروت، ونظّموا إضراباً استمر عشرة أيام، أدّى في النهاية إلى إلغاء القرار.9 وهكذا، كان لقطاع الخدمات والتجارة، ولا يزال، قوّة احتكارية قاهرة، بفضل قانون التمثيل التجاري الذي يمنح حقوقاً حصرية لتوزيع العديد من السلع الاستهلاكية. ويُعتقد أن التضخّم المشهود في 1973-1974 يعود إلى قوّة الشركات الاحتكارية، التي حقّقت أرباحاً ضخمة على حساب المستهلكين اللبنانيين.10
حتى الأصوات غير الطائفية داخل مجتمع الأعمال، المدركة للانقسامات الاجتماعية العميقة في لبنان، والقلقة بشأن مستقبل البلاد، تمت محاربتها بقسوة. نجيب علم الدين، الذي كان على رأس شركة طيران الشرق الأوسط من 1952 إلى 1977، اتُهم بأنه «اشتراكي ثوري خطير» من قبل نخبة رجال الأعمال لمجرّد أنه سعى إلى تطبيق قدر ضئيل من العدالة الاجتماعية في الشركة، مثل الأجور اللائقة، والمنح الدراسية لأبناء الموظّفين، ونظام تقاسم الأرباح، حيث يكون للموظّفين الحقّ في شراء أسهم الشركة بظروف وشروط ميسّرة.11 ومن المفارقات أن مثل هذه التدابير شكّلت جزءاً من الدوافع وراء استمرار عمل موظّفي شركة طيران الشرق الأوسط بلا كلل أو ملل أثناء الحرب لضمان بقاء الشركة.
خطط غير مخطوطة
ذكر تقرير IRFED أن تدخّل الدولة لا غنى عنه للبدء في الإصلاحات والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، ولكن هذا التدخّل كان لعنة على العقلية النيوليبرالية للنخب السياسية في لبنان.
يُحسب للدولة اللبنانية أنها نوَت تبنّي خطّة اقتصادية خماسية للأعوام 1962-1967، ركّزت فيها على احتياجات البلاد من المواصلات والكهرباء والمياه،12 ولكنها كانت متواضعة فيما يتعلّق بالمشاكل الاجتماعية التي كان لبنان يواجهها. مع ذلك، لم تتمكّن الحكومة من جمع الموارد لتمويل الخطّة، فقد كان مجلس النواب مُتردّداً في طلب قروض دولية خشية تعريض سمعة لبنان المالية للخطر، وبالتالي تعريض الاقتصاد الحرّ لخطر التضخّم. إضافةً إلى ذلك، كان النظام الضريبي البالي غير قادر على جمع الأموال الكافية للمشاريع الاجتماعية. ففي العام 1964، قُدّر أن حوالي ثلثي الشركات الكبرى كانت منخرطة في شكل من أشكال التهرّب الضريبي، وأن المعدّل كان أعلى بين المهن الحرّة.13
على الرغم من تحقيق بعض الإنجازات التنموية التي قادتها الدولة، إلّا أن الصحافة المحليّة في ذلك الوقت حذّرت من تحوّل المبالغ الكبيرة المُخصّصة للتنمية إلى جيوب المقاولين وموظّفي الخدمة المدنية والمقرّبين من السياسيين. وقد اتُهمت وزارة الأشغال العامّة، على وجه الخصوص، بالعمل ضدّ المصلحة العامة، بسبب إبداء عدم رغبتها في الإشراف بشكل صحيح على المشاريع، والاستعداد لقبول الرشاوى. لم يكن ذلك مُفاجئاً، فحتى بشارة الخوري، أحد «أبطال» الاستقلال، «سمح لعائلته وأصدقائه بتحويل البلاد إلى محميّة خاصّة لصفقاتهم المالية» عند تولّيه الرئاسة.14
القطاع المصرفي: مُحرّك النمو؟
لطالما حظي القطاع المصرفي اللبناني بتقدير كبير باعتباره العمود الفقري للاقتصاد اللبناني، و«مفتاح الازدهار»، وهي وجهة نظر آمن بها الكثيرون حتى وقت قريب جداً.
في العام 1956، صدر قانون السرّية المصرفية لجذب الودائع الأجنبية، وخصوصاً رأس مال برجوازية الدول العربية المجاورة الفارّين من سياسات التأميم في بلادهم. شكّل هذا النظام الذي يسمح بتحويل العملات بسهولة واستيراد الذهب بحريّة، مغناطيساً جذب الودائع والبترو-دولار من جميع الدول العربية إلى البنوك اللبنانية.
قُدّر أن حوالي ثلثي الشركات الكبرى كانت منخرطة في شكل من أشكال التهرّب الضريبي، وأن المعدّل كان أعلى بين المهن الحرّةإلى حين إنشاء البنك المركزي في العام 1964، كان القطاع المصرفي خاضعاً لتنظيم خفيف للغاية. كانت البنوك تخضع للقانون التجاري العادي بدلاً من أي قوانين مخصّصة لتتعامل مع القطاع المالي. سمح التنظيم الخفيف والحواجز القليلة أمام تحويلات رأس المال، للقطاع المصرفي بالنمو بشكل كبير وفي وقت قصير جداً. صبيحة الاستقلال، لم يكن هناك سوى 7 بنوك تجارية تعمل في البلاد. وقبل انهيار بنك إنترا في العام 1966، كان هناك 86 بنكاً - ثمّ انخفض عددها إلى 74 عشيّة الحرب نتيجة انهيار سلسلة من البنوك المرتبطة بإنترا.15
لكن هذه البنوك - وكثير منها كانت بنوك أجنبية ذات ملكيّة مُختلطة - لم تفعل شيئاً يذكر لتمويل الاستثمارات في الاقتصاد المحلّي، لا سيّما قطاعات الصناعة والزراعة، التي اعتمدت على التمويل الذاتي للنمو. في العام 1968، تمّ تخصيص 4.3% من مجمل القروض المصرفية للزراعة، و16% للقطاع الصناعي. بشكل عام، لم يكن أي من البنوك مُهتماً بالاستثمار في القطاعات الإنتاجية للاقتصاد. حتى بنك التسليف الزراعي والصناعي والعقاري - وهو بنك تعود ملكيّته للدولة اللبنانية، تأسّس في العام 1954 لتطوير القطاعات الإنتاجية وتمويل الإسكان الميسور - فقد قدّم فقط 4 ملايين ليرة على شكل قروض في العام 1974، والقليل منها وصل بالفعل إلى صغار المزارعين.16
بدلاً من ذلك، ركّزت البنوك على الإقراض قصير الأجل والأرباح السريعة، وتمويل القطاع التجاري المهووس بالاستيراد والمضاربة العقارية. وقد أدّت هذه الأخيرة إلى رفع كلفة الإسكان وجعلها غير محمولة بالنسبة للغالبية. في الفترة 1970-1975، كان صنِّف 25% من مشاريع الإسكان الجديدة كمشاريع «فاخرة» تلبّي احتياجات أصحاب الدخل المرتفع، بالمقارنة مع 6% فقط في أواخر الأربعينيات.17
هل من اعتراض على لبنان النيوليبرالي؟
إن صورة لبنان ما قبل الحرب، بوصفه ملاذاً مثالياً للازدهار، تزداد تشرذماً عندما ينظر المرء إلى الصراعات الاجتماعية العنيفة في الحقبة التي سعت إلى تحدّي الوضع الراهن غير المتكافئ، حيث غالباً ما يكون العمّال وطلّاب الجامعات في المقدّمة.
شهدت فترة أوائل السبعينيات احتجاجات طلّابية واسعة النطاق. وتراوحت المطالب الاجتماعية والاقتصادية بين دعوات للحكومة لتطوير القطاعين الزراعي والصناعي، ودعم الجامعة اللبنانية، وتقديم المنح الدراسية للطلاب من خلفيات مهمّشة.18 عانى الخريجون الشباب للعثور على عمل، حيث كانت الواسطة مُستشرية في كلّ من القطاعين العام والخاص، بينما كانت الجامعة اللبنانية - التي كان من المُفترض أن تكون مركزاً للبحث العلمي لدعم السياسات التنموية للدولة - غير قادرة على توفير المهارات التقنية اللازمة في سوق العمل. في الواقع، لم يتمّ تأسيس كليتيْ الهندسة والزراعة في الجامعة اللبنانية رسمياً حتى العام 1974، وفشلت الجامعة في لعب دور تنموي. أما بالنسبة لخرّيجي الجامعة اللبنانية الذين تمكّنوا من العثور على وظائف، فقد انتهى بهم المطاف بأن يحصلوا على أجور أقل بكثير من رواتب أقرانهم الذين تخرّجوا من الجامعة الأميركية في بيروت وجامعة القديس يوسف.19
هذه البنوك - وكثير منها كانت بنوك أجنبية ذات ملكيّة مُختلطة - لم تفعل شيئاً يذكر لتمويل الاستثمارات في الاقتصاد المحلّيأمّا بالنسبة للحركة العمّالية، فقد شكّلت حقبة ما قبل الحرب حلبة مواجهات مُكثّفة بين الحركة العمّالية المُنظمة غير الطائفية مع أصحاب العمل. أشهر مثال عن ذلك القمع الدموي لإضراب عمّال مصنع غندور في تشرين الثاني/ نوفمبر 1972، والتضامن اللاحق الذي حصلوا عليه من الاتحاد العمّالي العام والأحزاب اليسارية، وهو مثال ملموس على وحشية النزاعات الاجتماعية، والتغييرات الحقيقية التي حقّقتها على الرغم من ذلك، إذ أدّى هذا الإضراب في نهاية المطاف إلى تعديل قانون العمل وحظر الفصل التعسفي.20
لعنة النوستالجيا
على الرغم من أن الصور ومقاطع الفيديو من لبنان ما قبل الحرب قد تبدو مغرية في سياقنا الحالي المُبعثر، إلّا إن الأمل والحلم بالعودة إلى هذه الأيام ليس مجرّد سذاجة فحسب، بل فخٌّ خطير. قد يكون الاقتصاد المافيوي الذي نشأ في المراحل الأخيرة من الحرب وترسّخ بعد اتفاق الطائف مُختلفاً بشكل جذري وأكثر وحشية من النظام الاقتصادي قبل الحرب، لكن ذلك لا يعفي الأنظمة السابقة من طبيعتها الاستغلالية والظالمة للغاية.
ما يحتاجه لبنان هو قطيعة كاملة مع الأنظمة السياسية والاقتصادية والمالية المختبرة في الماضي، والتي لم تجلب سوى دورات من البؤس والفقر للغالبية العظمى من السكان. ورؤية أوجه الشبه بينها وبين الحلول التي يتمّ الدفاع عنها بشكل شائع في الوقت الحاضر، مثل التكنوقراطية، والخلاص من خلال «إصلاحات» يدعمها صندوق النقد الدولي، أو حتى صندوق ثروة سيادية». وكلّها حلول تتّجه نحو الضرر الأقل شرّاً، بعيداً من أي تغيير حقيقي أو تحسينات ملموسة. ويعاد بناء الهوية اللبنانية إنطلاقاً من تعلّق في خيال ماض مجيد لم يكن يوماً مجيداً.
- 1The Beirut Banyan, ‘Episode 285: Consensus,’ November 13, 2021
- 2Owen, R. (1976). ‘The Political Economy of Grand Liban 1920-1970,’ in Roger Owen (ed.), Essays on the Crisis in Lebanon, London: Ithaca
- 3Gaspard, T. (2003). A Political Economy of Lebanon, 1948-2002: The Limits of Laissez-faire. Leiden: Brill.
- 4Owen, R. (1976). ‘The Political Economy of Grand Liban 1920-1970’
- 5Persen, W. (1958). ‘Lebanese Economic Development since 1950,’ Middle East Journal, Vol. 12 (3), 277-294
- 6Documents pertaining to the IRFED mission can be consulted via the website of the Office of the Minister of State for Administrative Reform (OMSAR).
- 7Farsoun, S. (1973). ‘Student Protests and the Coming Crisis in Lebanon,’ Middle East Research and Information Project, August 1973
- 8عدنان فحص (1979)، الظروف الاقتصادية للحرب اللبنانية، مطابع لبنان الجديد
- 9Owen (1976). ‘The Political Economy of Grand Liban 1920-1970’
- 10عدنان فحص (1979)، الظروف الاقتصادية للحرب اللبنانية
- 11Alamuddin, N. (1987). The Flying Sheikh. London: Quartet Books Ltd.
- 12المرسوم رقم 7277 تاريخ 7 آب سنة 1961، المنشور في الجريدة الرسمية عدد 36، 16 آب 1961
- 13Issawi, C. (1964) ‘Economic Development and Political Liberalism in Lebanon,’ Middle East Journal, Vol.18 (3), 279-292
- 14Reuters (1964). ‘Bechara el-Khoury Dies at 73; Former President of Lebanon,’ New York Times, January 12, 1964
- 15Gaspard (2003). A Political Economy of Lebanon, 1948-2002: The Limits of Laissez-faire.
- 16عدنان فحص (1979)، الظروف الاقتصادية للحرب اللبنانية
- 17 المرجع نفسه
- 18Farsoun (1973). ‘Student Protests and the Coming Crisis in Lebanon’
- 19عدنان فحص (1979)، الظروف الاقتصادية للحرب اللبنانية
- 20جويل بطرس (2015). أزمة معامل غندور: عندما كان القانون يحمي الطرد التعسفي. المفكرة القانونية.