أوهام العملات الرقميَّة

  • بورصة العملات الوهمية هي فقّاعة مُغلقة، والربح الذي يحقِّقه طرف ما هو في النتيجة خسارة حتّمية يتكبّدها طرف آخر. بمعنى آخر، لا تأتي الأرباح نتيجة إنتاج شيءٍ ملموس بل نتيجة توسّع البونزي الهرمية، فأي دولار يسحب من منصّة بيع البيتكوين على سبيل المثال يأتي من محفظة شخص آخر اشترى بيتكوين بدولارٍ حقيقي
  • يروّج الليبرتاريون الجُدُد للفوضوية المالية، بحجّة أن السلطات المالية تقيِّد حركة رأس المال وتمنع النمو نتيجةً البيروقراطية المفروضة من المؤسّسات. وبالتالي، يعتقدون أن النموّ لا يتحقّق من دون أناركية مالية، أي من دون حركة حرّة ومُطلقة لرأس المال، يتحمّل مسؤوليّتها الفرد أو المؤسّسة الاستثمارية

«الأناركية كفلسفة سياسية تسعى إلى حلّ كلّ أشكال السلطة والقوّة، وإذا أمكن، تتمنّى إزالتها تماماً»
بيتر مارشال - كتاب «طلب المستحيل: تاريخ الأناركية» - ص 47.

تشهد العملات الرقمية انهيارات مُتتالية منذ أوائل العام 2022، إذ خسر البيتكوين نحو 75% من قيمته، وتراجع من ذروة 65 ألف دولار للبتكوين الواحد في أواخر العام 2021 إلى نحو 16.5 ألف دولار في نهاية العام 2022. وعلى الرغم من الارتفاعات التي عاود تسجيلها منذ مطلع العام 2023 إلى نحو 30 ألف دولار في نيسان/ أبريل الحالي، إلّا أنها لم تصل إلى ذروتها التاريخية بعد. لا تنحصر الانهيارات بعملة البيتكوين فحسب، أو غيرها من العملات الرقمية والمُشفّرة، بل طالت أيضاً مراكز تبادل العملات الرقمية، بحيث انهارت شركة FTX التي تعدُّ ثالث أكبر مركز تبادل في العالم في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، وتبدَّدت معها ملايين الدولارات. حاول صاحب الشركة، سام بانكمان-فريد، اللجوء إلى جزر البهاماس خوفاً من اتهامه بإدارة عمليات بونزي احتيالية، ولكن نجحت السلطات المحلِّية في إلقاء القبض عليه. ويُضاف إلى أزمة FTX، انهيار نحو خمس من كبرى شركات الكريبتو.

قبل موجة الانهيارات الأخيرة، شهدت أسعار العملات ارتفاعاً جنونياً طوال العقد الماضي، ما جعلها مركز استقطاب للمُضاربين. ذاع صيت هذه العملات، وانتشرت قصص نجاح الأغنياء الشباب على مواقع التواصل، ممّا دفع الكثير للصعود إلى السفينة والاستثمار فيها قبل فوات الأوان. لم يقتصر الأمر على الشباب والأفراد الباحثين عن الربح السهل والسريع فقط، بل أعلنت أكبر مصارف العالم الاستثمارية مثل JP Morgan عن السماح لزبائنها بتوظيف أموالهم في هذه العملات، وتبنّى رئيس دولة السلفادور البيتكوين كعملة للبلاد، وتملّك نحو 3 آلاف بيتكوين، وطوَّر محفظة وطنية بالعملات الرقمية أُطلِق عليها اسم Chivo.

ما هي العملات المُشفَّرة وكيف تعمل؟

ظهرت العملة المُشفَّرة الأولى، البيتكوين التي تُعدُّ الأشهر على الإطلاق، في العام 2009. ويسوَّق للعملات الرقمية أو المُشفَّرة على أنها وسيلة لاستبدال العملات التقليدية مثل الدولار الأميركي والين الياباني، فهي عملات افتراضية غير مركزية، أي نقدٍ غير مطبوع وغير صادر عن جهة رسمية مثل المصارف المركزية أو وزارات الخزانة والمالية. وبالتالي يمكن لأي شركة خاصّة معروفة أو سرِّية أن تصدر عملة وتطرحها في سوق مالي خاص لتشتري بالمقابل عملة حقيقية، فتتحوّل إلى أصول يُتاجر بها في هذه السوق المالية الافتراضية. 

يمكن لأي شركة خاصّة معروفة أو سرِّية أن تصدر عملة وتطرحها في سوق مالي خاص لتشتري بالمقابل عملة حقيقية، فتتحوّل إلى أصول يُتاجر بها في هذه السوق المالية الافتراضيةتعمل العملات الرقمية المُشفَّرة وفق مبدأ إزالة الوسيط، أي المصرف، ولا سيّما في التحويلات الخارجية، إذ تُدوَّن هذه التبادلات في دفتر موزّع (distributed ledger) يُعرف بسلسلة التكتّل (blockchain)، وبحسب موسوعة investopedia، يعمل نظام البلوكتشاين على شبكات من الحواسيب غير المربوطة بمشغّل مركزي (server)، ويمكن لأي شخص توظيف جهازه وضمّه إلى الشبكة مقابل بدل مادي بالعملة الرقمية، وهو ما يُعرف بالتنجيم (mining). ونظراً لكون الشبكات غير المركزية تعاني من مشكلة نظام التكامل فيما بينها، لا يُسمح بتعديل التبادلات المدوَّنة بل بإضافة المعلومات فقط. ولكي تدوَّن المعاملة يجب حصول توافق بين عدة حواسيب لضمان عدم خضوع هذه العملية لأي تغيير خلال فكّ شفرتها، ومن هنا تأتي كلمة تشفير في أسماء العملات.

خلق الأوهام من خلق النقد

على مدار عقدٍ من الزمن، جرى التسويق لـ«ميزات» عدّة ينطوي عليها هذا النظام اللامركزي، مثل قدرته على محاربة التضخّم الناجم عن طباعة النقد، ونزع حصرية التحكّم المالي من المصارف المركزية للدول الكبرى المُسيطرة على الاقتصاد العالمي، أو حتّى إخفاء هوية الجهة التي تجري بالتحويلات النقدية. في الواقع، لا تقدّم العملات الرقمية حلولاً لمعضلات النقد والمال، بل تطرح مشاكل إضافية وتخلق المزيد من الأوهام.

أولاً، عن وهم خلق العملات الرقمية المُشفَّرة لمكافحة التضخّم. العملة هي وحدة نقدية هدفها توظيف المال في الاقتصاد، أي أنها وسيلة لتبادل المنتجات والخدمات والممتلكات، وبالتالي يفترض بالمال أن يحافظ على استقرار مقبول يضمن عمليّة التبادل التجاري. لذلك تسعى الحكومات إلى الحفاظ على استقرار النقد أي منع التضخّم للحفاظ على قيمة رأس المال. من هنا، يُعدُّ التضخّم مقبولاً طالما لم ترتفع معدَّلاته بنسب كبيرة، فهو إشارة إلى تحقيق نموّ في الاقتصاد. فكلّما سُجِّل نموٌّ، ارتفع الاستهلاك، وارتفعت معه الأجور ومستويات العمل والإنتاج، وكذلك الأسعار. لكن تحصل الأزمات عند خروج التضخُّم عن السيطرة وارتفاع الأسعار إلى مستويات عالية والتسبُّب بركودٍ، ممّا يدفع المؤسّسات النقدية الرسمية إلى التدخّل عبر رفع سعر الفائدة وضبط طباعة العملة، وصولاً إلى اتباع سياسات تقشُّفية في الموازنات الحكومية غالباً تدفع ثمنها الفئات الأكثر هشاشةً في المجتمع.

لا تقدّم العملات الرقمية حلولاً لمعضلات النقد والمال، بل تطرح مشاكل إضافية وتخلق المزيد من الأوهاملم تصل الدول إلى هذه المعادلة صدفةً أو كتجربة أولى كما يظن المعتقدون بالعملات الرقمية. ففي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانت العملات مُرتبطة بسعر المعادن وأبرزها الذهب، وكان سعر الصرف تحت سيطرة شركات المناجم. فتعرَّضت الدول الصناعية لأزمات مُتتالية بسبب المعيار الذهبي نظراً لكون الذهب سلعة بذاته، وبالتالي يُقيِّد السياسات النقدية للحكومات بسبب ميله إلى التقلّب وعدم استقراره. عندها تحوَّلت المصارف المركزية التي كانت في غالبيتها تهدف إلى تمويل الحروب التوسّعية إلى مصارف حكومية لإدارة النقد وتوظيفه في خدمة الاقتصاد. لذلك، تعتبر الإدارة المركزية للنقد حاجة للاقتصاد في ظل الرأسمالية. وهذا ما نلاحظه من خلال التنسيق العالي بين جميع المصارف. ففي الأزمة الأخيرة، كانت المصارف المركزية الأوروبية ترفع سعر الفائدة للحاق بالفدرالي الأميركي نتيجة عولمة رأس المال.

ولتفسير خطورة التفكير البدائي بإمكانية استبدال العملات الحالية بالبتكوين، يشبِّه الاقتصادي يانيس فاروفاكيس العملات الرقمية بالمعيار الذهبي، ويقول إن «المعيار الذهبي هو الحجّة الأمثل عن مدى خطورة بدائية التفكير المتطرّف في موضوع البيتكوين». فبحسب فاروفاكيس «إذا حلّ البيتكوين مكان العملات الرقمية، سوف تلجأ المصارف إلى الإقراض بالعملات الرقمية، وهذا يعني تراكم تسهيلات السحب على المكشوف1 التي تسمح للمدينين بشراء السلع والخدمات بعملات رقمية غير موجودة أساساً… وفي الأوقات الحرجة سوف تصدر الحكومات والمصارف المزيد من وحدات البيتكوين كما فعلت في خلال فترة الحربين العالميتين عندما كان المعيار الذهبي سائداً، وسوف تؤدّي هذه السيولة إلى فترة إزدهار مؤقّتة قبل أن يأتي الإنهيار حتماً». باختصار لن تتمكّن العملات الرقمية من الحلول مكان النقد الحالي، فمع تخبّط ملايين الأشخاص بالديون وتقلّب أسعار هذه العملات سوف تتخلّى المصارف والحكومات عنها لعدم تقييد سياستها النقدية أو التسبّب بخسائر في رأس المال.

من هنا، نلاحظ كيف ينسج المعتقدون بالعملات الرقمية المُشفَّرة خرافات عن تاريخ المال والاقتصاد، ويرون أن اعتماد معيار الذهب أو محدودية صكّ العملة يحفظان الثروة، من دون أن يطرحوا تساؤلات عن كيفية وقدرة المجتمع على إنتاج الثروة أصلاً، أو عن ماهية آليّات الدولة للاستثمار في ما يحتاجه المجتمع ككلّ، أو كيفية تدخّل الدول في حالات الطوارىء كما في خلال جائحة كورونا. ففي النظام الرأسمالي، لا تملك الدولة وسائل الإنتاج وإنّما سلطة توجيهها، حتى في أكثر الدول ليبرالية. ففي صيف 2022 أصدرت الولايات المّتحدة قانوناً يقضي باستثمار 52 مليار دولار في قطاع الشرائح وأشباه الموصلات، لتفعيل سلاسل الإنتاج التي تعطّلت بسبب تفشّي جائحة كورونا.

Previewورقة نقدية خاصة

ورقة نقدية من فئة الدولار الواحد، صادرة عن شركة "Delaware Bridge Company" نيو جيرسي 1836-1841.

ثانياً، عن وهم الاعتماد على العملات الرقمية لنزع حصرية تحكّم المصارف المركزية للدول الكبرى بالاقتصاد العالمي. تُقدَّم فكرة العملة الخاصة على أنها فكرة جديدة تستحق التجربة، لكنها في الحقيقة فكرة مُجرَّبة سابقاً وأظهرت نتائج فاشلة.

بين العامين 1837 و1866، كان يحقّ لأي جهة في الولايات المتحدة أن تصدر عملة! على سبيل المثال، كانت المصارف الخاصة، وشركات البناء، وسكك الحديد، وحتّى المطاعم تصدر عملتها الخاصة، وهو ما يعني تحوّل هذا النقد إلى مجرّد أوراق بلا قيمة عند إفلاس الجهة المُصدِّرة له. وبالفعل أفلست الكثير من المصارف وخسر المّدخرون أموالهم ممّا خلق أزمات اقتصادية لا متناهية. وبالنتيجة، صدر القانون القومي للمصارف في الولايات المتّحدة في العام 1836 مانعاً إصدار العملات الخاصة! أمّا في إستراليا فقد استمرّ إصدار المال الخاص من العام 1788 - تاريخ وصول المستعمرين - إلى حين صدور قرار المنع في العام 1910. إذاً، العملات الخاصّة ليست فكرة جديدة وليست دونها مخاطر، ففي حال قرّر أصحاب شركة Etherium وقف العمل، فسوف تتبخَّر أموال المستثمرين بها بكلّ بساطة.

مريدو الثراء ضحايا الُمخطّطات الاحتيالية

على أرض الواقع، إن جلّ ما يطمح له حامل العملة الرقمية هو الربح من خلال المضاربة، أي أن يشتري إحدى هذه العملات بمالٍ حقيقي، الدولار مثلاً، وأن ينتظر بعض الوقت حتّى يرتفع سعرها ثمّ يبيعها لقاء مالٍ حقيقي ليحصل على ربح سهلٍ. الهدف هو السير على خطى  فتى في الخامسة عشر من عمره يحلم بالتحوّل من تلميذ فكر إلى مليونير هوليوودي. لكن عادة الحالمون هم ضحايا أي عملية بونزي. وطالما هناك حالمون بالثراء السريع، سوف يكون هناك من يهندس البونزي لهم!

باختصار لن تتمكّن العملات الرقمية من الحلول مكان النقد الحالي، فمع تخبّط ملايين الأشخاص بالديون وتقلّب أسعار هذه العملات سوف تتخلّى المصارف والحكومات عنها لعدم تقييد سياستها النقدية أو التسبّب بخسائر في رأس المالبورصة العملات الوهمية هي فقّاعة مُغلقة، والربح الذي يحقِّقه طرف ما هو في النتيجة خسارة حتّمية يتكبّدها طرف آخر. بمعنى آخر، لا تأتي الأرباح نتيجة إنتاج شيءٍ ملموس بل نتيجة توسّع البونزي الهرمية، فأي دولار يسحب من منصّة بيع البيتكوين على سبيل المثال يأتي من محفظة شخص آخر اشترى بيتكوين بدولار حقيقي، أي أن تحقيق أي ربح مالي نتيجة ارتفاع العملة سببه دخول  شخص آخر إلى الفقّاعة ليشاركك الحلم. وفي مقابل كلّ دولار حقيقي يخرج من البورصة هناك شخص أودع دولاراً حقيقياً، وعلى عكس الأرباح التي تحقّقها سندات خزينة الدولة، لا تطبع البورصة أموالاً حقيقية بل تطبع أموالاً وهمية. 

قد يطرح البعض سؤالاً: أوليس هذا ما يحصل في أي بورصة؟ الجواب هو: لا. نعم تدخل البورصات في فقّاعة، وهذا ما حصل في العام 2008 وتسبّب في انهيار الاقتصاد العالمي، ولكن الأسهم عادة تكون لشركات تنتج سلعاً وخدمات حقيقية. بمعنى إذا حصلت على سهم في شركة TSMC لتصنيع أشباه الموصلات وأنتجت جيلاً جديداً من التكنولوجيا، سوف تتحوّل هذه الأسهم إلى أرباحٍ حقيقية يرتفع فيها سعر السهم. بعد العام 2008، ونتيجة الفقّاعات اتجهت الدول إلى تقنين عمل المصارف الخاصّة أكثر، وفصلت المصارف الاستثمارية عن التجارية، وهذا عكس ما ينادي به الليبرتاريون الجُدد من المروِّجين للفوضوية المالية، بأن السلطات المالية تقيِّد حركة رأس المال وتمنع النمو نتيجةً البيروقراطية المفروضة من المؤسّسات، وبأن النموّ لا يتحقّق من دون أناركية مالية أي من دون حركة حرّة ومُطلقة لرأس المال يتحمّل مسؤوليّتها الفرد أو المؤسّسة الاستثمارية

المال وسيلة سياسية

في أي عالم يعيش هؤلاء؟ عند انتهاء الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتّحدة تحتفظ بحصريّة امتلاك السلاح النووي، وكان اقتصادها يشكِّل نصف الاقتصاد العالمي. لكن ذلك لم يكبح طموحها في السيطرة المالية على العالم، بحيث اعتمدت على ركيزتين وهما صندوق النقد الدولي واتفاقية بريتون وودز لتربط عملات حلفائها بدولارها، وتنشر أيديولوجيتها الاقتصادية، وأيضاً ربطت التجارة بمنظّمة التجارة العالمية التي تُهيمن عليها، وجعلت سعر النفط بما هو وسيلة الإنتاج الأساسية مربوطاً بالدولار. بمعنى آخر اعتمدت أميركا على فخّ الدولار المدعوم باقتصاد بحجم 23 تريليون دولار و11 أسطولاً نووياً لفرض سياستها وهيمنتها. لا شكّ أن العالم يشهد تحوّلات جيوسياسية والنظام الدولي مهتزٌ، وتواجه الرأسمالية إحدى كبرى أزماتها، لكن هل هناك من يصدق أن الولايات المتحدة بما تمثّل من مصالح لرأس المال العالمي المهيمن أو الصين أو أوروبا، قد يتنازلون عن أدواتهم المالية التي تعزّز هيمنتهم وتراكم رأس المال لديهم لصالح شركات خاصّة معظمها مجهول الهوية؟

  • 1هي عبارة عن ديون قصيرة الأجل تودع في الحساب الجاري للزبون لتسهيل عمليات دفع النفقات غير المتوقّعة. يمكن تشبيهها ببطاقات الائتمان (credit cards) أو حتى بخطوط الاعتماد التي تفتح للتجّار. وغالباً ما تكون الفوائد المترتبة عليها مرتفعة.