
برافرمان، ورأس المال الاحتكاري، والذكاء الصناعي
العامل الجماعي وإعادة توحيد العمل
مع تقدم تقسيم العمل التفصيلي، كما جادل ماركس في نقده للإنتاج الرأسمالي، أمكن إدخال الآلات للاستغناء عن العمل البشري تماماً، ما أدى إلى ما يُمكن أن يُسمّى بالإنتاج الآلي، مع دفع كتل كبيرة من العمّال إلى صفوف السكان الفائضين نسبياً، أو «جيش الاحتياط الصناعي»، وهو ما خفّض تكاليف العمل على نطاق واسع. أما العامل الذي ظل حاضراً في موقع الإنتاج، فقد جرى اختزاله إلى مجرد ملحق للآلة.
يبدو أن الهدف هو تحويل الجزء الأكبر من السكان إلى ما سمّاه سي. رايت ميلز بـ«الروبوتات المبتهجة». ومع ظهور النماذج اللغوية واسعة النطاق، إلى جانب تطوّر الذكاء الصناعي التوليدي القادر على دمج كميات هائلة من البيانات وتوليف المعلومات صناعياً داخل «شبكات عصبية» وفق خوارزميات مُسبقة، يُشجَّع طلاب الجامعات بشكل متزايد على استخدام هذه التقنيات كبديل آلي للتعلّم الفعلي. وأصبح التركيز ينصب الآن لا على العامل الجماعي أو العالِم الجماعي، بل على الذكاء الصناعي بوصفه ذكاءً آلياً جماعياً.
إن الأتمتة المرتبطة بالخوارزميات المصممة لأجهزة الحاسوب، وما تثيره من احتمال قيام الآلات الذكية بإزاحة اليد العاملة البشرية، ليست بالقضية الجديدة، بل تعود جذورها إلى أكثر من قرن ونصف القرن، حيث تمتد إلى أيام محرك الفوارق الذي ابتكره تشارلز باباج، ومعالجة كارل ماركس الشهيرة لمفهوم «العقل العام» في كتاب «الأسس» (Grundrisse)، ثم مفهومه اللاحق عن «العامل الجماعي» في كتابه «رأس المال». ومع ذلك، لم تستطع الصناعة واسعة النطاق وتطبيق العلم على الصناعة أن يخضعا العمل إخضاعاً فعلياً - كنقيض «للإخضاع الشكلي» - إلا مع بروز الرأسمالية الاحتكارية أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
ففي هذه المرحلة، نُزعت المعرفة بصيرورة العمل من العمال بشكل منهجي، وتمّ تركيزها في أيدي الإدارة، ما أتاح تفكيك صيرورة العمل تدريجياً وإخضاعها لمنطق تهيمن عليه التكنولوجيا الآلية. ومع ترسخ الرأسمالية الاحتكارية بعد الحرب العالمية الثانية، وتطور علم السيبرنطيقا، والترانزستور، والتكنولوجيا الرقمية، أصبحت أتمتة الإنتاج - وخصوصاً ما نطلق عليه اليوم «الذكاء الصناعي» - تمثل تهديداً متنامياً للعمال.
وقد جُسِّد هذا التحول بشكل لافت في رواية كورت فونيجت «البيانو العازف» (Player Piano) الصادرة في العام 1952، والتي استلهمها مؤلفها من تجربته العملية في شركة جنرال إلكتريك، حيث تدور أحداث الرواية في المستقبل القريب في بلدة مُتخيَّلة تُدعى إيليوم (Ilium) في شمال ولاية نيويورك، وتصوّر مجتمعاً جرى أتمتته بالكامل، ما أدى إلى إزاحة جميع العمال تقريباً من مواقع الإنتاج.
الغاية من الأتمتة هي خفض التكاليف. وفي جميع الحالات يتم ذلك بتقليل الحاجة للعمالة. وفي بعض الحالات، يتم تقليل الحاجة لرأس المال أيضاً
البلدة يقسمها النهر. وتقع على إحدى الضفتين منطقة تُعرف باسم «هومستيد» (Homestead)، يسكنها معظم السكان، بما في ذلك أولئك الذين لم يحصلوا على درجات عالية في سلسلة من الاختبارات الوطنية، وهم في الغالب عاطلون عن العمل أو منخرطون في مشاريع إعادة البناء والاستصلاح، أو في عدد محدود من الوظائف التجارية المتبقية، أو في الجيش. ويعيش السكان عموماً على دخل أساسي شامل، محدد بمستويات تقل بكثير عن الأجور التي كان يحصل عليها العمال غير المهرة سابقاً، وإن كانوا يتمكنون من الاستمتاع بأجهزة تلفاز بحجم 28 بوصة. أما على الضفة الأخرى من النهر، فيقيم المهندسون، والمديرون، والموظفون الحكوميون الذين يخدمون آلات الإنتاج – الموجودة أيضاً على تلك الضفة – أو يديرون الشؤون العامة.
تركز الرواية على بطلها الرئيس، وهو بول بروتيوس، المهندس اللامع، الذي يقود سيارته عبر الجسر إلى جانب موقع «هومستيد» من المدينة، حيث يلتقي بأناس عاديين ويشارك في التمرد الجماهيري. وفي وقت مبكر من الرواية، يشرح لنا بروتيوس أن «الثورة الصناعية الأولى قلّلت من قيمة العمل العضلي، ثم جاءت الثورة الصناعية الثانية لتقلل من قيمة العمل الذهني الروتيني»، بينما ستعتمد الثورة الصناعية الثالثة المرتقبة على «آلات مُحوسبة» تقلل من قيمة التفكير البشري»، وتُقصي «العمل العقلي الحقيقي». فالغاية من الثورة هي استبدال الذكاء البشري بالآلات، أو بما سيُطلق عليه بعد بضع سنوات من صدور رواية فونيجت اسم «الذكاء الصناعي».
إن رواية «البيانو العازف» لكورت فونيجت هي نتاج مشاعر القلق الواسع بشأن الأتمتة في خمسينيات القرن العشرين. ففي تشرين الثاني/نوفمبر 1958، نشرت مجلة The Nation مقالاً بعنوان «كساد الأتمتة»، كرد فعل خاطئ إلى حد ما على الأزمة الاقتصادية القصيرة الممتدة من 1957 إلى 1958. كانت المخاوف التي عبرت عنها هذه المجلة وغيرها من مطبوعات فترة الخمسينيات بشأن تسبب الأتمتة في بطالة جماهيرية مبالغاً فيها. ومع ذلك، فإن الاعتراف العام بأن نمو الصناعة واسعة النطاق وترسخ الرأسمالية الاحتكارية بعد الحرب العالمية الثانية - إلى جانب ما يُعرف بالثورة العلمية-التقنية (والثورة الصناعية الثالثة أو الرقمية الناشئة) - يمثّل تغييراً جذرياً في علاقة العمال برأس المال، هو اعتراف عقلاني تماماً، آنذاك كما هو الآن. وقد أعاد هذا إلى الأذهان مسائل تعود إلى الثورة الصناعية الأولى في القرن التاسع عشر، وتعاود الظهور اليوم في مرحلة أكثر تطوراً مع انتشار الذكاء الصناعي التوليدي.
وربما جاء أعمق تحليل لحالة الأتمتة وعلاقتها بالعمل في خمسينيات القرن العشرين على يد الاقتصادي الماركسي ورئيس تحرير مجلة مانثلي ريفيو ، بول م. سويزي، في دراسة غير معروفة كتبها لصالح شركة رولاند وستون الاستثمارية في وول ستريت في العام 1957 تحت عنوان «الثورة العلمية‑الصناعية». وفي هذا التقرير، أكد سويزي أن الثورة الصناعية الأولى كانت مدفوعة بمحرّك البخار، بينما الثورة العلمية–الصناعية (أو التقنية–العلمية) كانت مدفوعة بالعلم نفسه، وهو تطور أتاحته نشأة رأسمال واسع النطاق. وقد أدى ذلك إلى ظهور ما أطلق عليه «العالم الجماعي»، وهو مفهوم اقتبسه من فكرة ماركس عن «العامل الجماعي». وفيما خص الأتمتة، أوضح سويزي أن «صيرورة العمل»، التي تزايد فيها الاستعانة بالآلة، تُمثل في واقعها «حلقة» من المعلومات تضم العمال والآلات معاً. وقال: «عندما يُستبدل الإنسان بآلة أو أكثر، تُغلق الحلقة. ويصبح النظام آلياً».
وأشار سويزي في هذا السياق إلى محاضرة للمهندس الأميركي والمخترع والإداري العلمي فانيفار بوش، تنبأ فيها بإمكانية اختراع سيارة ذاتية القيادة تتبع الخط الأبيض في الطريق حتى إذا غلب النوم سائقها. وبحسب رؤية سويزي، فإن الآثار الاقتصادية والاجتماعية لهذه الدرجة العالية من الأتمتة ودخول الآلات الذكية تنحصر أساساً في إزاحة اليد العاملة. وشرح ذلك قائلاً: «الغاية من الأتمتة هي خفض التكاليف. وفي جميع الحالات يتم ذلك بتقليل الحاجة للعمالة. وفي بعض الحالات، يتم تقليل الحاجة لرأس المال أيضاً». ومع ظهور الترانزستور، بدا أن الإمكانيات التكنولوجية للتوسع غير محدودة. وتوقع سويزي أن تصبح الحواسيب يعتمد عليها بشكل كبير وأن تكون «بحجم الجيب». كما من الممكن أن تصبح الهواتف اللاسلكية المحمولة العاملة من خلال الشبكات ممكنة وتكون أصغر حتى تُلبس على المعصم. ومع الثورة العلمية–التقنية، تعني الأتمتة ووجود الآلات الذكية والمتعددة الاستخدامات «تحولاً نحو كسب الأرباح» وابتعاداً عن صرف الأجور في الاقتصاد ككل، كما تعني إمكانية إزاحة ملايين العمال.
وفي العام 1964، أدى نمو الإنتاجية المرتبط بالأتمتة إلى نشر وثيقة بعنوان «الثورة الثلاثية» قُدمت للرئيس ليندون ب. جونسون من اللجنة المؤقتة عن الثورة الثلاثية. وكان الرد الرئيس على ما وُصف بأنه انقطاع العلاقة بين الدخل والوظائف، نتيجة لاستبدال عمال المصانع بشكل كبير، هو الدعوة إلى دخل أساسي شامل. إلا أن ليو هوبرمان وسويزي اعترضا بقوة على ذلك في مقال بمجلة مانثلي ريفيو بعنوان «الثورة الثلاثية» في تشرين الثاني/نوفمبر 1964، حيث رأيا أن الدخل الأساسي هو الشامل سياسة قصيرة النظر، كالسياسة التي صورها فونيجت في روايته، وستؤدي إلى وجود سكان متواكلين ومُنهارين معنوياً ويعيشون على نظام رعاية واسع النطاق وبه خلل مزمن. وبدلاً من ذلك، دعا كلاهما إلى حركة ثورية نحو الاشتراكية من خلال الملكية العامة لوسائل الإنتاج وتطبيق التخطيط من قبل العمال ولصالحهم.
ومع ذلك لم يتناول كتاب بول أ. باران وسويزي «رأس المال الاحتكاري» هذه القضايا، الذي أنجزاه في السنة نفسها التي ثار فيه الجدل بشأن الثورة الثلاثية (توفي باران في آذار/مارس 1964، وتجنب سويزي إدخال عناصر جديدة في الكتاب عندما نُشر في العام 1966). سلّم الكتاب بوجود معدلات استغلال عالية وإنتاجية فائقة في الصناعة الاحتكارية، كما انعكس ذلك في «ميل الفائض للارتفاع». لكنهما امتنعا عمداً عن تحليل تحول «صيرورة العمل» إلى جوار «النتائج التي أحدثتها التغيرات التكنولوجية المميزة لفترة الرأسمالية الاحتكارية»، مشيرين إلى أن تلك العناصر تتجاوز حدود دراستهما وتحتاج إلى معالجة شاملة.
وفي الواقع، لم يهتم أحد بدراسة الطبيعة الحقيقية لصيرورة العمل بشكل منهجي في الستينيات، لا من جانب اليسار ولا في العلوم الاجتماعية البرجوازية. وكان السائد آنذاك فرضية تقول بأن التكنولوجيا المتقدمة للغاية، التي كان يُنظر لها كواقع لا رجعة عنه، تعزز مهارة العامل بينما هي تهدده بالبطالة المتزايدة. وكانت النقاشات الدائرة عن قضية الاغتراب، المستوحاة من ماركس، تعتبر الميكنة والأتمتة المستمرة للإنتاج «كارثة على الجوهر الإنساني»، بحسب تعبير هربرت ماركوزه. لكن الانتقادات الدقيقة والهادفة لصيرورة العمل في ظل الرأسمالية الاحتكارية هي الغائبة.
الدخل الأساسي هو الشامل سياسة قصيرة النظر وستؤدي إلى وجود سكان متواكلين ومُنهارين معنوياً ويعيشون على نظام رعاية واسع النطاق وبه خلل مزمن
وفي مقدمته لكتاب هاري برافرمان العمل ورأس المال الاحتكاري - تدهور العمل في القرن العشرين (1974)، سلّط سويزي الضوء على هذا العيب في الرأسمالية الاحتكارية فيما يخص صيرورة العمل، ورأى أن عمل برافرمان يسد هذه الفجوة الضخمة. فكتب يقول:
أريد أن أوضح أن السبب في أننا لم نحاول نحن، باران وأنا، سد هذه الفجوة كان ليس فقط بسبب المنهج الذي اعتمدناه. وإنما أيضاً لأننا افتقرنا إلى المؤهلات اللازمة. لقد استطاع عبقري مثل ماركس أن يحلل صيرورة العمل في ظل الرأسمالية من دون أن يكون منخرطاً مباشرة فيها، بطلاقة وبصيرة لا مثيل لهما. أما بالنسبة إلى البشر العاديين، فالتجربة المباشرة ضرورية، كما يشهد السجل البائس للكثير من «الخبراء» و«السلطات» الأكاديمية في هذا المجال. لقد افتقرنا إلى هذه التجربة الحاسمة، ولو تطرقنا إلى الموضوع، لكنا على الأرجح قد وقعنا ضحية للكثير من الأساطير والمغالطات التي روّج لها منظّرو الرأسمالية بقوة. فطبيعة صيرورة العمل هي أكثر المواضيع المهمة التي تحرص الرأسمالية على إخفاء حقيقتها (يراجع كتاب رأس المال الاحتكاري، ص 267).
وفي المقابل، كان لبرافرمان خبرة واسعة في صيرورة العمل في ظل الرأسمالية الاحتكارية، وتمكّن من الجمع بين هذه الخبرة وفهمه العميق غير العادي لمعالجة ماركس ليوم العمل في كتابه رأس المال، فضلاً عن دراسته التاريخية للإدارة الحديثة وتطور الآلات الموفرة للعمالة. ومع أن كتاب برافرمان سدّ الفجوة التي تركها كتاب رأس المال الاحتكاري لباران وسويزي، إلا أنه اعتمد في الوقت نفسه على وصف الثورة العلمية-التقنية الذي وضعه سويزي في دراسته، جنباً إلى جنب مع التحليل العام لرأس المال الاحتكاري كأساس تاريخي محدد لتحليله الخاص. واليوم، وبعد 50 عاماً من نشر كتاب العمل ورأس المال الاحتكاري، يظل الكتاب نقطة انطلاق حاسمة للتحليل النقدي لصيرورة العمل في عصرنا، خصوصاً فيما يتعلق بالأتمتة المبنية على الذكاء الصناعي.
ماركس، برافرمان، والعامل الجمعي
إن الحجة الأساسية التي يطرحها برافرمان في كتابه العمل ورأس المال الاحتكاري باتت معروفة على نطاق واسع. باعتماده على نظرية الإدارة في القرن التاسع عشر، وخصوصاً أعمال باباج وماركس، استطاع أن يوسّع تحليل صيرورة العمل من خلال تسليط الضوء على دور الإدارة العلمية التي أدخلها فريدريك وينسلو تايلور وآخرون في نظام الرأسمالية الاحتكارية في القرن العشرين. كان كل من باباج، ونظيره في نظرية الإدارة في القرن التاسع عشر أندرو يور، وماركس، وتايلور، قد نظروا إلى تقسيم العمل فيما قبل الميكنة كعنصر أساسي، وأساساً لتطوّر الرأسمالية الصناعية المعتمدة على الآلة. وهكذا، فإن منطق تقسيم العمل المفرط في دقته وتخصصه، كما صوّره المثال الشهير لدبوس الخياطة لدى آدم سميث، يمكن اعتباره سابقاً من حيث التسلسل الزمني ومنطقياً على إدخال الآلة في الإنتاج.
أما في حالة باباج، فقد أعاد الرجل صياغة مثال دبوس سميث ليأخذ بالاعتبار الجوانب الاقتصادية لكل من التصنيع اليدوي (نظام التصنيع المبكر القائم على التعاون) والصناعة الحديثة (أو الصناعة الآلية). لقد مهّد منطق تقسيم العمل الرأسمالي الطريق أمام تصاميم باباج المبكرة للحواسب الحاسبة، التي كانت تهدف إلى التطوير المتقدّم لتقسيم العمل التفصيلي كوسيلة لتعزيز القيمة الفائضة. وبذلك، وُجد ارتباط مباشر في نظرية الإدارة الناشئة في خضم الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر بين تقسيم العمل التفصيلي، والأتمتة، وتطوّر الحاسوب.
وقد كان برافرمان، متّبعاً نهج ماركس، هو من أعاد ما أصبح يُعرف لاحقاً بـ«مبدأ باباج» إلى النقاش المعاصر عن صيرورة العمل في سياق الرأسمالية الاحتكارية في أواخر القرن العشرين، مُشيراً إليه بوصفه «القانون العام لتقسيم العمل الرأسمالي». ووفقاً لهذا المبدأ (الذي يُقسّم الآن في الغالب إلى جزأين)، فإن تقسيم العمل في ظلّ الظروف الرأسمالية يتمثّل في (1) تحديد الحد الأدنى من العمل اللازم لكل مهمة فردية، بعد تفكيكها إلى أصغر مكوّناتها، ومن ثم (2) بلوغ الاقتصاد في تكاليف العمل، نظراً إلى أن كل مهمة فردية يمكن إنجازها بأقل قدر من الجهد والعمل وأرخصه.
لقد شرح باباج وفسّر فوائد تقسيم العمل من خلال إسناد المهام المطلوبة بشكل أقل (كان ينظر لها وقتها كمهام تتطلب جهداً عضلياً ومهارات أقل) إلى العمالة الأرخص، من النساء أو الأطفال، بدلاً من عمال الحرف البالغين من الذكور، الأعلى تكلفة تقليدياً. فكتب يقول: «إن صاحب العمل يستطيع من خلال تقسيم العمل المطلوب إنجازه إلى عمليات مختلفة، عمليات تتطلب كلّ منها درجات مختلفة من المهارة أو القوة، يستطيع أن يشتري بدقة ما تحتاجه كل عملية من القدر المطلوب من المهارة أو القوة». ووفقاً لما قاله يور، فإن «الاتجاه العام في الصناعة، ولو لم يكن بالضرورة محكوماً عليه بأن يستبدل العمالة البشري كليًة، كان على الأقل هو «تقليل التكلفة من خلال إحلال عمالة النساء والأطفال محل الرجال، أو العمال العاديين محل الحرفيين المدرّبين».
كتب برافرمان يقول في كتابه «في أسطورة الرأسمالية»:
يُطرح مبدأ باباج كمحاولة لـ«الحفاظ على المهارات النادرة» من خلال تشغيل العمال المؤهلين في المهام التي «لا يستطيعون العمل إلا بها»، وعدم تبديد «الموارد الاجتماعية». ويُقدم هذا المبدأ كاستجابة لـ«عدم توافر» العمال المهرة أو الأشخاص المدربين تقنياً، الذين يجب استخدام وقتهم بأقصى قدر من «الكفاءة» لصالح «المجتمع». لكن، وعلى الرغم من أن هذا المبدأ قد يظهر أحياناً كاستجابة لنُدرة اليد العاملة الماهرة … فإن هذا التبرير، في مجمله، زائف. فطريقة الإنتاج الرأسمالية تدمر بصورة منهجية المهارات المتكاملة أينما وُجدت، وتُنتج مهارات ومهناً تتوافق مع احتياجاتها. ومن ثمّ، تُوزَّع القدرات التقنية وفقاً لمبدأ «الحاجة إلى المعرفة» الصارم. ويصبح تعميم المعرفة بالعملية الإنتاجية على جميع المشاركين فيها، منذ تلك اللحظة، ليس فقط أمراً «غير ضروري»، بل عائقاً فعلياً أمام تشغيل نمط الإنتاج الرأسمالي».
ومع تقدم تقسيم العمل التفصيلي، كما جادل ماركس في نقده للإنتاج الرأسمالي، أمكن إدخال الآلات للاستغناء عن العمل البشري تماماً، ما أدى إلى ما يُمكن أن يُسمّى بالإنتاج الآلي، مع دفع كتل كبيرة من العمّال إلى صفوف السكان الفائضين نسبياً، أو «جيش الاحتياط الصناعي»، وهو ما خفّض تكاليف العمل على نطاق واسع. أما العامل الذي ظل حاضراً في موقع الإنتاج، فقد جرى اختزاله إلى مجرد ملحق للآلة. وكانت هذه النزعة واضحة كما أشار ماركس، في كون الغالبية الساحقة من العمّال في صناعة النسيج – القلب الصناعي لإنكلترا إبّان الثورة الصناعية – من النساء والأطفال، الذين تعرّضوا لاستغلال مفرط، حيث كانوا يتقاضون جزءاً ضئيلاً من أجور العمال الذكور الحرفيين الذين حلّوا محلهم، يتقاضون أجوراً لم تكن كافية حتى للعيش. وكل ذلك غذّى تطور الصناعة الآلية، وزاد من استغلال العمّال، الذين - سواء كانت أجورهم مرتفعة أم منخفضة - أصبحوا في موقع ضعف متزايد في مواجهة الجهاز الإنتاجي الضخم الذي أنتجوه هم أنفسهم بعملهم الجمعي، لكنه فُرض عليهم كعبء ثقيل لتعزيز استغلالهم واستبدالهم بالآلات.
طريقة الإنتاج الرأسمالية تدمر بصورة منهجية المهارات المتكاملة أينما وُجدت، وتُنتج مهارات ومهناً تتوافق مع احتياجاتها. ومن ثمّ، تُوزَّع القدرات التقنية وفقاً لمبدأ «الحاجة إلى المعرفة» الصارم
ومع ذلك، كان لا بد من كسر مقاومة العمّال بالاستعانة بالعلم باعتباره القوة المباشرة الموجودة في عملية الإنتاج، وذلك لتطوير تقسيم العمل إلى مدى أبعد. وهو ما أتاح ما أسماه ماركس بـ«الإخضاع الحقيقي» للعامل ضمن عملية الإنتاج الرأسمالية، خلافاً للإخضاع الشكلي فقط. وكما يشير ماتيو باسكوينيللي في كتابه عين السيد: التاريخ الاجتماعي للذكاء الصناعي، فإن «ماركس كان واضحاً: إن نشأة التكنولوجيا هي عملية ناشئة يقودها تقسيم العمل»، بينما يشير تطبيق مبدأ باباج إلى الطريق نحو الأتمتة وهيمنة الآلة كوسيلة لتعزيز استغلال العمال.
وكان إدماج العلم – المتمثل فيما دعاه بول سويزي لاحقاً بـ«العالِم الجمعي» - كقوة جديدة ناشئة بذاتها داخل الإنتاج الرأسمالي، أمراً لم يكن ممكناً في الواقع إلا مع ظهور وفورات في حجم السوق وتوسعه، وفورات مرتبطة بنمو الشركات العملاقة في الرأسمالية الاحتكارية. فالإدارة البسيطة التي كان يقوم بها المالك وعدد قليل من المراقبين في رأسمالية المشاريع الصغيرة القائمة على المنافسة الحرة، لم تعد كافية لضمان الربحية في ظلّ الشروط الجديدة للشركات الكبرى متعددة الأقسام بعد موجات الاندماج الضخمة في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
وقد عبّر تايلور خير تعبير عن هذا النهج الجديد في الإدارة؛ إلى حد أن غدا مصطلحي الإدارة العلمية والتايلورية مصطلحين مترادفين. وقد لخّص برافرمان التايلورية بثلاثة مبادئ مميزة: (1) «فصل صيرورة العمل عن مهارات العامل»، (2) «فصل التخطيط عن التنفيذ»، و(3) «استغلال احتكار المعرفة للسيطرة على كل خطوة من خطوات صيرورة العمل وأسلوبها في التنفيذ». وعلى الرغم من إدعاء تايلور القائل بأن زيادة الأجور جزء أساسي داخل النظام، على الأقل في المراحل الأولى من تطبيق الإدارة العلمية في صناعة معينة، تمثل الهدف العام في تقليل تكاليف العمل للوحدة الواحدة من الإنتاج. وكتب برافرمان يقول: «لقد كان تايلور على وعي بمبدأ باباج أكثر من أي شخص في زمانه، وكان هذا المبدأ حاضراً باستمرار في حساباته … ففي كتابه المبكر إدارة الورشة (1903)، قال صراحة: «لن تتحقق الإمكانات الكاملة للنظام إلا عندما تصبح الغالبية العظمى من الآلات في الورشة يقوم على إدراتها رجال أقل كفاءة ومهارة، وبالتالي أرخص تكلفة من العمال المطلوبين في النظام القديم». وكانت مساهمة تايلور المميزة تكمن في صياغة مبدأ إداري شامل للسيطرة المتزايدة على الوظائف، يتم تنفيذه أساساً من خلال إفقاد العمّال مهاراتهم. ولهذا السبب، يرى برافرمان أن التايلورية «تتضمن نظرية ليست سوى التعبير اللفظي الصريح عن نمط الإنتاج الرأسمالي».
إن المنطق المتناقض الكامل لنمط الإنتاج الرأسمالي، وما يفتحه من إمكانيات لاستجابة اشتراكية ثورية، لم يتكشّف بالنسبة إلى برافرمان إلا مع دخول الميكنة والأتمتة، بما في ذلك إدخال الذكاء الصناعي (باعتباره شكلاً أكثر تقدماً من الأتمتة) ضمن الإنتاج الرأسمالي الاحتكاري. وقد اعتمد تحليل برافرمان في هذا السياق بشكل أساسي على مفهوم ماركس لـ «العامل الجماعي»، وهو المفهوم الذي استخدمه ماركس كفئة تشمل الوحدة الكلية للتقسيم التفصيلي للعمل، والتسلسل الهرمي فيه، ودمج المعارف العملية للعمال داخل الآلات. وحتى في سياق المستويات العليا من الميكنة المرتبطة بتجريد العمال من المهارة وإزاحتهم، فإن صيرورة العمل، وفقاً لماركس، ظلت من الناحية العضوية، ومن حيث القيمة العمالية كأساس لها، في جوهرها كما كانت.
لقد تجاوز تحليل ماركس للعامل الجماعي في كتابه رأس المال مناقشته لمفهوم «العقل العام» في مخطوطات الأسس التي كُتبت قبل نحو عقد من الزمن. ففيما عُرف لاحقاً بـ «مقطع الآلات» في كتابه الأسس، تم إدماج «العقل العام» داخل الآلات، ما أدى إلى ما بدا أنه إلغاء للعمل، بل وإلغاء لقيمة العمل نفسها، في عملية الإنتاج مع توسع الأتمتة.() وقد أشار برافرمان نفسه إلى مقولة ماركس هذه في كتابه العمل ورأس المال الاحتكاري، حيث نقل عن ماركس قوله في «مقطع الآلات»: «إن عملية الإنتاج لم تعد صيرورة عمل بالمعنى الذي يكون فيه العمال هم القوة المسيطرة عليها والمهيمنة فيها». وغالباً ما يُساء استخدام «مقطع الآلات» في النقاشات المعاصرة للإيحاء بأن ماركس رأى أن نظرية القيمة المعتمدة على العمل يتم تجاوزها تدريجياً بفعل الإنتاج الآلي والأتمتة. غير أن هذا الزعم تم دحضه عبر تحليلات تناولت كيف أن مفهوم ماركس المتأخر عن «العامل الجماعي» أزاح الغموض عن العملية كلها، موضحاً استمرار مركزية العمل ونظرية القيمة القائمة على العمل على حد سواء.
لن تتحقق الإمكانات الكاملة للنظام إلا عندما تصبح الغالبية العظمى من الآلات في الورشة يقوم على إدراتها رجال أقل كفاءة ومهارة، وبالتالي أرخص تكلفة من العمال المطلوبين في النظام القديم
وقد تمحورت مقاربة برافرمان في معالجة التناقض الظاهري المرتبط بإخضاع صيرورة العمل للآلة تحديداً حول مفهوم ماركس لـ «العامل الجماعي»، ليس فقط بوصفه إثباتاً لاستمرار مركزية العمل في الإنتاج، بل أيضاً بوصفه مؤشراً على إمكانيات ثورية جديدة. ففي إطار العامل الجماعي، يُنظر إلى العمل ككل، كما لدى ماركس، على أنه متجسّد ضمن عملية عضوية، تشمل تسلسل التراتب العمالي وعمليات الميكنة.
وقد علّق ماركس على الأتمتة والعامل الجماعي في كتاب رأس المال، في رده على أندرو يور، قائلاً:
الدكتور يور، الذي يمكن وصفه بـ «بندار المصنع الآلي»، يقدّم وصفين متباينين لهذا المصنع. فمن جهة، يصفه بأنه «تعاون جماعي منظم لمراتب متعددة من العمال، كباراً وصغاراً، يعتنون بمهارة دؤوبة بنظام من الآلات الإنتاجية التي تدفعها باستمرار قوّة مركزية» (أي المحرّك الرئيس). ومن جهة أخرى، يصفه بأنه «أتمتة ضخمة تتكوّن من أعضاء ميكانيكية وذهنية متعدّدة، تعمل في انسجام مستمر من أجل إنتاج غرض مشترك، وكلها خاضعة لقوة محرّكة ذاتية التنظيم». هذان الوصفان بعيدين كل البعد من أن يكونا متماثلين. ففي الوصف الأول، يظهر العامل الجماعي المتّحد كذات مهيمنة، بينما تظهر الأتمتة الميكانيكية كموضوع. أما في الوصف الثاني، فتصبح الأتمتة نفسها هي الذات، ويُختزل العمال إلى مجرد أعضاء واعية، منسّقة مع الأعضاء اللاواعية للأتمتة، وجميعهم خاضعون للقوة المحركة المركزية. والوصف الأول [المرتبط بالعامل الجماعي بوجه عام] يمكن أن ينطبق على كل أشكال استخدام الآلات على نطاق واسع، أما الوصف الثاني، فهو سِمةٌ مميّزة لاستخدامها في ظل الرأسمالية، وبالتالي يُعبّر عن نظام المصنع الحديث. ولهذا السبب، يُفضّل يور أن يصوّر الآلة المركزية، التي تنبع منها الحركة، ليس فقط بوصفها آلة ذاتية التشغيل، بل كحاكمٍ أوتوقراطي أيضاً. فيكتب قائلاً: «في هذه القاعات الفسيحة، يستدعي البخار، بوصفه قوة خيّرة، جموع خدّامه المطيعين حوله».
وفي هذا الطرح المتناقض الذي يقدمه يور عن دلالات الأتمتة، فإن الوصف الأول، كما أشار ماركس، يُطابق ظاهرة العامل الجماعي بوجه عام، وينسجم مع تطور الإنتاج الاشتراكي. أما الوصف الثاني، فيُجسّد أسطورة الآلة التي تُمنَح عقلاً عاماً، والتي يُمحى فيها العمل كلياً أو يُختزل إلى حالة ذليلة وخالية من الفكر. فبالنسبة إلى يور، «عندما تُجند الرأسمالية العلم في خدمتها، فإن اليد العاملة المتمردة سوف تتعلم الطاعة دائماً». أما بالنسبة إلى ماركس، فكان الرد الثوري هو تجنيد العلم لصالح العامل الجماعي، بحيث يُسهم في تعزيز التطور الاجتماعي الحر.
إن ما شكّل ذروة تحليل برافرمان نفسه، استناداً إلى تحليل ماركس في كتابه «رأس المال»، هو تطوير مقاربة ثورية لمسألة تقسيم العمل، والميكنة، والأتمتة، والذكاء الصناعي، حيث يُمكن للعامل الجماعي، على الأقل من حيث الإمكان، أن يكون الذات الفاعلة في العمل الاجتماعي. وهذه الرؤية تعارض بقوة التصورات المشبعة بعبادة الآلة - وهي التصورات التي فضّلها يور وتايلور - والتي ترى في الإنتاج مجرد «أتمتة هائلة تتكوّن من أعضاء ميكانيكية وذهنية متنوعة»، تعمل كحاكم استبدادي لا يُقهَر، ويُختزل فيها العمال إلى مجرد لواحق.
العامل الجماعي، الذكاء الصناعي، وإعادة توحيد الإنتاج
كانت التكنولوجيا الحديثة في نقد برافرمان، بما في ذلك الأتمتة والذكاء الصناعي في العصر الرقمي، تُجسّد في نهاية المطاف نزعة قوية نحو إعادة توحيد صيرورة العمل، التي تدهورت وتفككت بفعل التقسيم الرأسمالي للعمل. وممّا له دلالة عميقة، أنّ جميع المهام التي استخدمها آدم سميث في مثاله عن صناعة الدبابيس في بداية كتابه «ثروة الأمم»، أصبحت اليوم مجتمعة في آلة واحدة، الأمر الذي أتاح إمكان إعادة توحيد صيرورة العمل نفسها. ومع ذلك، فإن الرأسمالية في مرحلتها الاحتكارية، حيث ما زال استغلال العمل وعملية إنتاج القيمة يتأسسان على مبدأ باباج، قد سعت باستمرار إلى استخدام مستويات أعلى من الميكنة والأتمتة من أجل إعادة إحياء تقسيم للعمل بات يبدو أكثر فأكثر متقادماً. وكما أعلن برافرمان: «إن العملية المعاد توحيدها، التي تُدمج فيها جميع الخطوات في آلية تشغيل آلة واحدة، ستبدو الآن ملائمة لتجمّع من المنتجين المتعاونين، لا يُطلب من أي منهم أن يقضي حياته بأكملها في أداء وظيفة واحدة، بل بإمكان جميعهم المشاركة في هندسة هذه الآلات ذات الإنتاجية المرتفعة وتصميمها وتحسينها وإصلاحها وتشغيلها». ومع ذلك، فإن هذه الإمكانات التي أصبحت متاحة تقنياً أمام العامل الجماعي بفضل تطور قوى الإنتاج، تُحبَط بفعل علاقات الإنتاج الاجتماعية التي تفرضها الرأسمالية الاحتكارية. وهكذا، فإن نمط الإنتاج الرأسمالي يفرض على العمليات الجديدة التي تبتكرها التكنولوجيا تقسيماً للعمل أشد عمقاً، بغض النظر عن حجم الإمكانات التي تتيحها الآلات في الاتجاه المعاكس.
تم إدماج «العقل العام» داخل الآلات، ما أدى إلى ما بدا أنه إلغاء للعمل، بل وإلغاء لقيمة العمل نفسها، في عملية الإنتاج مع توسع الأتمتة
وكما أدرك ماركس نفسه في تصوره للعامل الجماعي، وكذلك مثلما سلّط برافرمان الضوء عليه في سياق الرأسمالية الاحتكارية، فإن الإمكانات التكنولوجية الجديدة التي كانت تُنذر بانبثاق حرية بشرية حقيقية، يكون فيها البشر ذاتاً فاعلة في الإنتاج، قد انقلبت ضدهم. إذ أصبح العامل مجرد موضوع مسلَّع في عالم تستخدم فيه الإدارة الرأسمالية تكنولوجيا الآلة الجديدة لتعزيز التقسيم التفصيلي للعمل، فتتعامل مع الآلة شديدة «الذكاء» كذات منتجة. وبلغة برافرمان، فإن العامل الجماعي كما تصوّره ماركس قد انحط حاله في ظل الرأسمالية الاحتكارية وتدهور. «وعلى الرغم من أن الإنتاج أصبح جماعياً، وأن العامل الفردي اندمج في جسد جماعي من العمال، جسد قد أجريت لدماغه عملية جراحية، أو جرى استئصاله في أسوأ الظروف، بعد أن استولت عليه الإدارة الحديثة بوصفها وسيلة السيطرة على قوة العمل وعملياته وتخفيض تكلفتها».
ولكن، إن كانت فكرة يور عن العمل الجماعي كعمل يُختزل إلى منطق الآلة قد أصبحت واقعاً واضحاً في ظل الرأسمالية الاحتكارية، فإن تصوّر ماركس للعامل الجماعي، حين يُدمج مع تصوّر سويزي للعالِم الجماعي، قد مثّل الإمكانات الثورية الجديدة التي ظهرت مع تزايد أتمتة الآلات، حيث تُدمج في بنيتها المعرفية معارف صيرورة العمل المتراكمة عبر التاريخ البشري. وبفضل توسع مدى تعليم العمال في ميادين العلوم والهندسة عبر المدارس متعددة التخصصات والذي أتاحه ارتفاع الإنتاجية، فإن هذا التعليم قد يؤدي إلى إعادة توحيد العمل البشري وتعزيز قدرته الإبداعية. ومفارقة الأمر أنّه كلما أصبحت هذه الإمكانية قابلة للتحقق، ازداد تدهور نظام التعليم الرأسمالي نفسه، فيُبقي العمال خاضعين لهيمنة مبدأ باباج، الذي يقوم على الحطّ من قيمة معرفة العامل.
لذلك، أصبح التعليم في المجتمع الرأسمالي الاحتكاري خاضعاً بشكل متزايد لمنطق التقسيم التفصيلي للعمل. وكان منطق النظام في هذا المجال واضحاً منذ البداية. فقد كتب فرانك جيلبرث، أحد مؤسسي الإدارة العلمية: «يعني تدريب العامل ببساطة تمكينه من تنفيذ التعليمات الواردة في جدول عمله. وبمجرد أن يتمكن من فعل ذلك، ينتهي تدريبه، مهما كان عمره». وهذا المبدأ، إلى جانب تدهور طبيعة العمل، يقف خلف التدهور الشديد الذي شهده التعليم في المدارس العامة في الولايات المتحدة وغيرها. إذ تحذف مواد العلوم والثقافة والتاريخ والتفكير النقدي بشكل منهجي أو يُقلل من أهميتها في مراحل التعليم من الحضانة حتى الصف الثاني عشر، والتي باتت تُكرّس بشكل متزايد، لا سيما في الصفوف الأولى، لعملية اختزالية تُفرض من خلال اختبارات موحّدة. وكأن النظام قد وجد أخيراً الوسيلة لاستثمار مقولة الاقتصادي السياسي الليبرالي الكلاسيكي آدم فيرجسون التي تقول: «الجهل هو أُمّ الصناعة»، وهي المقولة التي تُشدّد على أن العامل يكون أكثر إنتاجية من وجهة نظر رأس المال كلما كان أكثر تفاهة وبلادة».
إن رقمنة التعليم، بدلاً من توسيع آفاق المعرفة والإبداع، تقود إلى النقيض تماماً: التوحيد القياسي المتواصل بلا هوادة. ويبدو أن الهدف هو تحويل الجزء الأكبر من السكان إلى ما سمّاه سي. رايت ميلز بـ«الروبوتات المبتهجة». ومع ظهور النماذج اللغوية واسعة النطاق، إلى جانب تطوّر الذكاء الصناعي التوليدي القادر على دمج كميات هائلة من البيانات وتوليف المعلومات صناعياً داخل «شبكات عصبية» وفق خوارزميات مُسبقة، يُشجَّع طلاب الجامعات بشكل متزايد على استخدام هذه التقنيات كبديل آلي للتعلّم الفعلي. وأصبح التركيز ينصب الآن لا على العامل الجماعي أو العالِم الجماعي، بل على الذكاء الصناعي بوصفه ذكاءً آلياً جماعياً.
فإن الإمكانات التكنولوجية الجديدة التي كانت تُنذر بانبثاق حرية بشرية حقيقية، يكون فيها البشر ذاتاً فاعلة في الإنتاج، قد انقلبت ضدهم. إذ أصبح العامل مجرد موضوع مسلَّع
وراء هذا كلّه، وفي «المسكن الخفي للإنتاج»، تكمن عملية التدهور المستمر للعمل البشري. فقد استعانت شركة غوغل بنحو 100 ألف عامل مؤقت ومتعاقد لمسح الكتب ضوئياً بسرعة متزامنة مع موسيقى موقّتة الإيقاع، كجزء من خطتها لتحويل جميع كتب العالم إلى نسخ رقمية (قُدّرت وقتها بـ130 مليون مجلد فريد). وعلى الرغم من أن المشروع قد أُهمل إلى حدّ كبير، إلا أنه اعتُبر حينها آلية لتطوير الذكاء الصناعي التوليدي.
إن الارتفاع في أعداد العمال المؤقتين والمتعاقدين، الذين يُجسّدون شكلاً من أشكال العمل الهش، هو من الحقائق الخفية لعصر الرقمنة/الذكاء الصناعي، الحقائق التي تُخفى خلف الهالة الغامضة لـ«الحوسبة السحابية». وقد وظّفت الوظائف القائمة على المنصات ملايين العمال المتعاقدين. وتشير المسوح الإلكترونية لسوق العمل الوطني، التي أجرتها مجموعات أعمال مثل «معهد ماكينزي العالمي»، إلى أنّ «ما بين 25% و35% من العمال» في الولايات المتحدة «عملوا في أعمال غير نمطية أو أعمال حرة إضافية أو رئيسية في خلال الشهر السابق». واعتباراً من العام 2024، فإن هذا يعني أنّ ما لا يقل عن 41 مليون شخص في الولايات المتحدة يشاركون في عمل من الأعمال المؤقتة أو العمل عبر المنصات، وغالباً بصفتهم عمالاً غير دائمين. وعلى الرغم من أن عدداً لا يُحصى من الوظائف بات مهدّداً بفعل الذكاء الصناعي — وتختلف التقديرات حول ذلك تفاوتاً كبيراً — إلا أنّ المشكلة لا تكمن في اختفاء العمل تماماً، بل في تحوّله إلى عمل هشّ وغير مستقر على نحو متزايد.
ومع ذلك، فإن هناك نزعات مضادة لهذه الدينامية التي تبدو حتمية في تدهورها. إذ لا بدّ أن تنشأ نضالات ثورية جديدة تهدف إلى "إعادة تشكيل المجتمع بأسره"، كما لاحظ ماركس في عبارته الشهيرة، في اللحظة التي تُقيّد فيها الإمكانات الإنسانية المتوسّعة، المرتبطة بتطور قوى الإنتاج، وبعلاقات الإنتاج الاجتماعية القائمة.() إن صراعات الطبقة العاملة المعاصرة حول صيرورة العمل لا تُوجّه ضد التكنولوجيا الرقمية أو الذكاء الصناعي بذاتهما، بل ضد اختزال الإنسان إلى مجرد خوارزميات. فالعامل الجماعي، بوصفه تجسيداً للعقل الجماعي، لا يمكنه أن يسيطر على شروط الإنتاج لصالح المجتمع بأكمله إلا في ظل اشتراكية متقدّمة، أو نظام تنمية إنساني قائم على المساواة والاستدامة.
نُشِر هذا المقال في 1 كانون الأول/ديسمبر 2024 في Monthly Review، وترجم إلى العربية ونشر في موقع «مجلة صفر» بموافقة من الجهة الناشرة.