
مرعى العالم: الأعمال الزراعية والتحوّل الأخضر في البرازيل
اعترت الدهشة زائرةً وفدت منذ وقت قريب إلى غابات الأمازون بسبب الحيوان صاحب الحضور الأكبر في المنطقة، فبدلاً من أن تجد المنطقة مأهولة بالفهود النادرة، رأتها مأهولة «بأبقار من سلالة نيلوري محدودبة الظهر متهدلة الأذنين بلونها الأبيض الناصع، الفاتح الأكبر للمنطقة». مع تحول الاقتصاد البرازيلي إلى المورِّد العالمي الرئيس للحم البقري في العقدين الأخيرين، أُشعِلَت الغابات (وبها 10% من الأنواع الحيوانية في العالم) لفتح الطريق أمام ملايين الأبقار لترعى في المنطقة. تشير التقديرات الأخيرة إلى أنّ أعداد الأبقار في الجزء البرازيلي من الأمازون (قرابة 63 مليون) ضِعف عدد البشر (قرابة 28 مليون).
حين تولى الرئيس لويس إيناسيو لولا دا سيلفا منصب الرئاسة أول مرة في العام 2003، كانت صادرات البرازيل من اللحم البقري المجمد تحتل المرتبة الثالثة عالمياً بـ11% من إجمالي الصادرات العالمية. وبنهاية ولايته الثانية في 2010، احتلت البرازيل المرتبة الأولى بـ23% من إجمالي صادرات اللحم البقري المجمد. زادت الكمية المصدَّرة من 317 ألف طن إلى 781 ألف طن. وفي خلال العقد التالي، اتسعت هيمنة البرازيل في سوق اللحم البقري؛ ففي العام 2022 صدَّرَت البرازيل إلى العالم 32% من اللحم البقري المجمد، متجاوزةً الكمية المصدَّرة من الهند، ثاني أكبر مصدِّر. ارتبط صعود البرازيل بوصفها مرعى العالم ارتباطاً وثيقاً بارتقاء الصين إلى قوة اقتصادية عظمى؛ إذ ارتفعت واردات الصين من اللحم البقري المجمد من 11 ألف طن في 2002 إلى أكثر من مليوني طن في 2022 1.
بل بوسعنا سرد قصة عن فول الصويا تفوق في دراميتها قصة اللحم البقري. إذ ارتفعت حصة البرازيل من الصادرات العالمية لهذا المحصول من حوالي الربع في العام 2003 إلى حوالي النصف منذ العام 2018. يذهب جزء كبير من هذا المحصول إلى إنتاج علف الحيوانات للمزارع في دول أخرى. وعليه، ذهب عددٌ من الباحثين في هذه التحولات في العلاقات الزراعية والغذائية العالمية إلى تلقيب العلاقة الصينية البرازيلية بـ«مجمع فول الصويا واللحوم». انتشرت هاتان السلعتان – اللحم البقري وفول الصويا – عبر المناطق الداخلية في البرازيل بسرعة هائلة، وجزء كبير من إنتاجهما لا يتقيد باللوائح البيئية المحلية (انظر توسع الأنشطة الزراعية في الشكلين 1 و2 أدناه). وفي تحقيق لروني راجاو وآخرين في العام 2020، جمعوا فيه مجموعة بيانات شاملة تحتوي على معلومات حول 815 ألف ملكية ريفية في الأمازون وسيرادو (السافانا البرازيلية)، خلصوا إلى أنّ «قرابة 20% من صادرات فول الصويا وما لا يقل عن 17% من صادرات اللحم البقري من كلا المنطقتين إلى الاتحاد الأوروبي يشتبه ارتباطه بإزالة الغابات غير القانونية». (ولعل النسب أعلى في الصادرات إلى وجهات أخرى قوانينها التنظيمية أكثر تساهلاً).
بيد أنّ تحسن صادرات السلع الأولية هذه لا يأخذ بيد الدولة إلى ذرى التنمية المتلألئة. فأسعار منتجاتها شديدة التقلب، وتضع الاقتصاد المعتمد عليها في مسارٍ وعر يخلِّف أضراراً في النمو على الأجل الطويل. والأهم من ذلك أنّ إنتاج السلع الأولية قلَّما يوفر روابط أمامية وخلفية من شأنها التشجيع على زيادة الإنتاجية في الاقتصاد وما تأتي به من تغيرات تكنولوجية تراكمية. يغلب على هذا الإنتاج صفة الانغلاق، مع تأثيرات محدودة في الصناعات الأخرى وسوق العمل ومع احتمال انهيار الاقتصاد بالكامل إذا تسبب انخفاض الأسعار العالمية بانخفاض قيمة العملة وإشعال أزمة اقتصادية. الحال أنّ انهيار الاقتصاد البرازيلي بين 2014 و2016 يرجع لعدة عوامل، لكن لا يمكن إنكار ارتباطها بتراجع أسعار السلع الأساسية.
ارتبط صعود البرازيل بوصفها مرعى العالم ارتباطاً وثيقاً بارتقاء الصين إلى قوة اقتصادية عظمى؛ إذ ارتفعت واردات الصين من اللحم البقري المجمد من 11 ألف طن في 2002 إلى أكثر من مليوني طن في 2022
في زمن الطوارئ المناخية، قد تتفاقم عيوب التنمية القائمة على تصدير السلع الأولية. وكما جادل فريق من الباحثين من كلية لندن للاقتصاد وجامعة أكسفورد، فإنّ «سباقاً عالمياً نحو الاقتصاد الأخضر يجري حالياً؛ سباق سيكافأ فيه مَن يتحرك مبكراً، بينما سيخاطر مَن يتأخر عنه بفقدان قدرته على المنافسة عالمياً». إلى جانب الحواجز التي تحول دون التقدم في سلسلة القيمة في السوق العالمية، تقترن الكلفة الاقتصادية لتحول البرازيل إلى مرعى العالم بالتأثيرات البيئية لهذا التحول من زاوية الانبعاثات وفقدان التنوع البيولوجي. تحتل البرازيل المرتبة السابعة في قائمة الدول الأكثر إصداراً للغازات الدفيئة، لكن تركيب انبعاثاتها يختلف تماماً عن المعتاد عالمياً، ففي حين تمثّل الزراعة والغابات وتغيير استخدام الأراضي حوالي 18% من الانبعاثات العالمية، فإنّها تمثّل أكثر من ثلاثة أرباع انبعاثات البرازيل بين العامين 2000 و2020. وحين يتعلق الأمر بانبعاثات البرازيل، تتراجع أهمية الوقود الأحفوري، ليتصدّر اللحم البقري وفول الصويا. والحال أنّ أسواق السلع العالمية كانت في الماضي تدعم أجندة محلية تهدف إلى إعادة توزيع الثروة، بيد أنّ الاعتماد الشديد اليوم على إنتاج السلع الأساسية المعتمد على إزالة الغابات يعوق البرازيل عن توفير مستوى معيشي لائق لغالبية سكانها، ويساهم في تدهور أنظمتها البيئية واحترار الكوكب.
آمال خضراء
بدأ هذا المشهد القاتم يتحسن منذ وقت قريب بظهور آراء أكثر إيجابية بصدد آفاق البرازيل في التحول العالمي نحو الاقتصاد الأخضر. بعد أربع سنوات من حكومة يمينية متطرفة تُنكر التغير المناخي وتدعم إزالة الغابات، بثّ نجاح لولا في الوصول إلى ولاية رئاسية ثالثة بعض التفاؤل. يسعى لولا إلى تقديم نفسه على الساحة العالمية في صورة داعم قوي للتحول الأخضر. وعادت مارينا سيلفا، الزعيمة البيئية في حكومته بين العامين 2003 و2008 المستقيلة بسبب خلافات حول السياسة البيئية، لتتولى حقيبة البيئة والتغير المناخي؛ ونجحت في الحد من إزالة الغابات في الأمازون بنسبة تقارب 40% في العام 2023. وفي العام 2025، ستعزز البرازيل مكانتها في مجال العمل المناخي من خلال استضافة قمة (كوب 30) في مدينة بيليم الأمازونية. وفي مقال لوزير المالية فرناندو حداد في صحيفة فاينانشال تايمز في أيلول/سبتمبر الماضي، صاغ الوزير أجندة الحكومة الاقتصادية بلغة التحول الأخضر: «تحول شامل لاقتصادنا ومجتمعنا من خلال بنية تحتية أكثر خضرة وزراعة مستدامة وإعادة تشجير واقتصاد دائري وزيادة استخدام التكنولوجيا في العمليات الإنتاجية والتكيف مع المناخ».
لا تقتصر هذه النظرة المتفائلة على الدوائر الحكومية. فالبنك الدولي في أحدث تقاريره عن المناخ والتنمية ذكر أنّ «مصدر الطاقة النظيف والمتجدد نسبياً» في البرازيل، والمعتمد بشكل كبير على الطاقة الكهرومائية، يمنحها «ميزة مهمة لبناء قطاع صناعي منخفض الانبعاثات». من هذا المنظور، لا تكشف لنا التركيبة الفريدة لانبعاثات البرازيل عن القطاع الزراعي المدمر وذي الكثافة الانبعاثية العالية، بل عن انخفاض كثافة الكربون في قطاع الطاقة. يمكن استغلال هذا الأخير لتعزيز الصادرات الصناعية، ما يمنح البرازيل ميزة على المنافسين الذين يعتمدون على الفحم أو الغاز الطبيعي لتوليد الطاقة في قطاع التصنيع، ويجعل التحول الكامل نحو اقتصاد منخفض الكربون أيسر في البرازيل مقارنة بغيرها. وكما ذكر ريكاردو أبراموفاي، تستطيع البلاد خفض انبعاثاتها إلى النصف «من دون تغييرات هيكلية في اقتصادها»، نظراً لأنّ وقف إزالة الغابات يمكن تحقيقه «بلا أي تعديل في نظام النقل أو مصدر الطاقة أو أنماط الاستهلاك أو تدفئة المنازل وتبريدها». أو كما ذكر البعض، يمكن تحقيق هدف انبعاثات البرازيل للعام 2030 «بكلفة منخفضة نسبياً».
ترتكز استراتيجية الحكومة الحالية للاستفادة من هذه الفرصة إلى خطة التحول البيئي المعلنة في قمة المناخ (كوب 28). وبحسب وزير المالية، تمثِّل هذه الخطة «نموذجاً تنموياً جديداً، شاملاً ومستداماً». تهدف الخطة إلى «زيادة الإنتاجية من خلال الابتكار التكنولوجي وتعميمه وبناء بنية تحتية مستدامة، مع الاستفادة من الخصائص الجغرافية والبيئية الفريدة للبلاد، ومنها على سبيل المثال وفرة مصادر الطاقة المتجددة والتنوع البيولوجي الغني». في أيار/مايو 2024، أصدرت الإدارة بياناً جديداً تعلن فيه أنّ «خطة التحول البيئي قيد التنفيذ بالفعل». ويعدّد البيان سلسلة من الإجراءات الجارية تضع الأساس للنموذج التنموي الجديد: السندات الخضراء والقروض المدعومة والسندات والتعريفات الجمركية لتعزيز الاستثمار في إزالة الكربون وإعادة التشجير وإعادة حركة التصنيع، بالإضافة إلى العمل الجاري على صياغة تصنيف بيئي محلي، والتقدم في المفاوضات مع الكونغرس للموافقة على سوق الكربون – كان حدّاد قد وصفه في العام 2023 بـ«أول إجراء هام» للتحول الأخضر.
اتخذت البرازيل إجراءً آخراً في هذا المجال قوامه الاستراتيجية الصناعية الجديدة، وهي مجموعة من السياسات الصناعية الهادفة إلى البناء على القاعدة الاقتصادية الحالية للبلاد لتحفيز التنمية. ترتبط ثلاث من بين المهام الست المختارة بالاستدامة البيئية، وإحداها تؤثر في قطاع الأعمال الزراعية، وتهدف إلى تعزيز «سلسلة زراعية صناعية رقمية ومستدامة للأمن الغذائي والتغذية والطاقة». تشمل الأهداف تقوية الحلقة التصنيعية لسلسلة الأعمال الزراعية، وميكنة الزراعة الأسرية باستخدام معدات محلية الصنع، وتعزيز الاستدامة البيئية للإنتاج الزراعي الصناعي. وبحسب ماريانا مازوكاتو، التي ساعدت الحكومة في تصميم السياسة الجديدة، فإنّ «هذه المهام الجديدة قد تساعد، بناءً على كيفية تنفيذها، في تعزيز التنسيق والتعاون بين القطاعين العام والخاص وبين القطاعات الوزارية، بما يتماشى مع خطة التحول البيئي والأجندة الشاملة للنمو المستدام والشامل». وأضافت مازوكاتو أنّ «حكومة البرازيل بوضعها التحول البيئي في قلب السياسة الاقتصادية ترسم مساراً مختلفاً من شأنه تحويل التحديات الاجتماعية والبيئية إلى فرص».
بيد أنّ موقع الشركات الزراعية ضمن استراتيجية التحول البيئي لم يحظ بمعالجة تفصيلية تتجاوز أخذها مأخذ أرضية لجهود إعادة حركة التصنيع. فدراسة حديثة بهذا الشأن تناولت التغييرات القطاعية الدنيا اللازمة لتمكين الاقتصاد البرازيلي من الوفاء بتعهداته المتعلقة بخفض الكربون، تجاهلت ببساطة الانبعاثات المتعلقة بتغيير استخدام الأراضي (لا سيما إزالة الغابات)، بحجة أنّ «هذه الانبعاثات معروف أنّها ناتجة عن أنشطة غير قانونية». وهذا الافتراض الإشكالي يفرز تداعيات سلبية؛ إذ ستتطلب التغييرات القطاعية المقترحة تحويل الإنتاج بعيداً عن الأنشطة الصناعية كثيفة الكربون نحو الزراعة وتربية الماشية وإنتاج اللحوم، بالإضافة إلى صناعات الخدمات المختلفة. ومن المفارقات أنّ خفض الكربون في البرازيل قد ينتج عن توسيع نطاق قطاع الأعمال الزراعية.
في حين تمثّل الزراعة والغابات وتغيير استخدام الأراضي حوالي 18% من الانبعاثات العالمية، فإنّها تمثّل أكثر من ثلاثة أرباع انبعاثات البرازيل بين العامين 2000 و2020
في المقابل، يقدم البنك الدولي صورة أدق للعلاقة بين قطاع الأعمال الزراعية والتحول المناخي. إذ يرى أنّ تبني الحكومة مؤخراً لخطة الزراعة منخفضة الانبعاثات ABC+، والمؤلفة من «قروض ريفية منخفضة الفائدة لتمويل تنفيذ ممارسات أو تقنيات زراعية من شأنها التخفيف من تغير المناخ أو التكيف معه أو كليهما»، قد يساهم في الحد من إزالة الغابات من دون المساس بالإنتاج الزراعي، بشرط تعزيز هذه الخطة وليس تخريبها بسياسات ائتمان ريفية أخرى. إلّا أنّ البنك يرى أنّ هذا الجهد لن يقضي تماماً على الانبعاثات الناجمة عن الزراعة وتغيير استخدام الأراضي، بل قد يخفضها إلى النصف بحلول العام 2030. ويشير البنك إلى وجود عقبات سياسية كبيرة، إذ إنّ «جماعات المصالح الزراعية (بما فيها بعض مربي الماشية وأولئك المرتبطين بصناعة الثروة الحيوانية) تتمتع بنفوذ ملحوظ على المستويين المناطقي والفيدرالي». وهذا النفوذ السياسي يفسّر لماذا تقدِّم السياسات الحكومية المتعلقة بالإعانات والقروض الريفية «حوافز إضافية لإزالة الغابات».
في العام 2021، على سبيل المثال، لم تتجاوز ميزانية خطة ABC+ نسبة 2% من ميزانية خطة سافرا (Plano Safra)، وهي السياسة الريفية الأساسية التي «تدعم، من بين أمور أخرى، تربية الماشية في ولايات الأمازون الأقل تطوراً». وفي العام 2023، خصصت أول خطة سافرا أعلنتها الحكومة الحالية نسبة مماثلة من إجمالي المبلغ للزراعة منخفضة الكربون: حصل برنامج رينوف أغرو، الاسم الجديد لخطة ABC+، على 1.9% من الإجمالي 2. لكن تجادل الحكومة بأنّ جوانب أخرى من السياسة تحفز أيضاً الاستدامة في الزراعة، كربط سعر الفائدة المفروض على المزارعين بالتزامهم بالممارسات المستدامة.
نفوذ الشركات الزراعية
إنّ التخطيط للتحول الأخضر في البرازيل من دون مواجهة التحديات التي تفرضها هيمنة قطاع الأعمال الزراعية يقلل من أهمية التوترات بين الاستراتيجية المقترحة ونمط التراكم المترسخ على مدار العقدين الماضيين. في هذه الفترة، أصبح قطاع الأعمال الزراعية من أكثر القطاعات نفوذاً في الحياة السياسية والاقتصادية البرازيلية. ومع تحول صادرات الأعمال الزراعية البرازيلية إلى قطعة أساسية في أحجية الرأسمالية العالمية، تبوأ هذا القطاع موقعاً قيادياً في الاقتصاد المحلي، لا سيما من خلال تأمينه الوصول إلى العملات الأجنبية.
ارتفعت نسبة صادرات فول الصويا وحدها من إجمالي الصادرات البرازيلية من أقل من 5% إلى أكثر من 12% في خلال العقدين الماضيين. تمثِّل المنتجات الزراعية مجتمعة (فول الصويا وأنواع مختلفة من اللحوم وقصب السكر والذرة وغيرها) أكثر من ثلث إجمالي الصادرات في الوقت الحالي. وتشكِّل مع المعادن، لا سيما خام الحديد والبترول، أكثر من 70% من مجمل الصادرات. منذ العام 2000، رسخت البرازيل اندماجها من موقع التابع في تقسيم العمل الدولي بوصفها دولة مُصدِّرة للسلع الأولية. وبالرغم من أنّها كانت في التسعينيات وبداية الألفية تتفوق على جيرانها في التصنيع، ما جعلها استثناءً إقليمياً من حيث نسبة السلع المصنعة في إجمالي الصادرات بحصة تبلغ 55%، فإنّ تركيبة صادراتها أصبحت في العقدين الأخيرين مشابهة لدول أخرى في المنطقة، إذ انخفضت نسبة الصادرات المصنعة إلى حوالي ربع الإجمالي منذ العام 2020 3.
يمكن الوقوف على دور قطاع الأعمال الزراعية من واقع الإحصائيات المتعلقة بتركيبة الاقتصاد المحلي. في خلال فترة ازدهار السلع الأساسية، نما قطاع الأعمال الزراعية بوتيرة أقل من بقية الاقتصاد. فقد انخفضت نسبة سلسلة الأعمال الزراعية بأكملها (إنتاج المدخلات والزراعة والثروة الحيوانية والصناعات الزراعية والخدمات الزراعية) في الناتج المحلي الإجمالي من حوالي 30% إلى 21% بين العامين 2003 و2010 4. وفي خلال هذه الفترة، استُخدِم الفائض الناتج عن ازدهار الصادرات لتبني سياسات إعادة توزيع الدخل وزيادة الاستثمار العام، ليزداد بالتالي الاستهلاك الجماعي وتتفوق الخدمات الحضرية على الأعمال الزراعية. ولكن هذه الفترة تميزت أيضاً بترسيخ الشركات الكبرى وزيادة نفوذها السياسي. على سبيل المثال، أصبحت شركة (چي بي أس) من أكبر شركات تصنيع اللحوم في العالم، واشترت العديد من منافسيها البرازيليين بالإضافة إلى شركات كبيرة في الولايات المتحدة بدعم حاسم من بنك التنمية البرازيلي.
استفاد لولا، في خلال فترتي ولايته السابقتين، من ازدهار السلع الأساسية لتنفيذ سياسات تهدف إلى تقليل الفقر، من دون تحدي صعود قطاع الأعمال الزراعية. في السياسات الزراعية، حافظت الحكومة على ازدواجية موروثة، مع وزارة تهيمن عليها النخبة الزراعية وأخرى تركز على مطالب الحركات الاجتماعية الزراعية. وفيما يتعلق بالبيئة، ساد الغموض أيضاً. فمن جهة، أشرفت الحكومة على تحسينات كبيرة في التشريعات البيئية وتطبيقها، ما قلَّص معدل إزالة الغابات بمقدار أربعة أضعاف. ومن جهة أخرى، كانت الأولوية تُعطى في الغالب لاستثمارات من شأنها تعزيز النمو القصير الأمد على حساب التداعيات البيئية الإشكالية. مثال على ذلك بناء سد بيلو مونتي الكهرومائي في حوض الأمازون. هذا المشروع الكبير من أبرز الأمثلة على مشروعات أدت إلى تهجير جماعي للمجتمعات المحلية وتسببت في فقدان كبير للتنوع البيولوجي، لكنّها تساهم في الوقت ذاته في خريطة الطاقة المتجددة في البلاد.
تمثِّل المنتجات الزراعية مجتمعة (فول الصويا وأنواع مختلفة من اللحوم وقصب السكر والذرة وغيرها) أكثر من ثلث إجمالي الصادرات في الوقت الحالي. وتشكِّل مع المعادن، لا سيما خام الحديد والبترول، أكثر من 70% من مجمل الصادرات
انتهزت الطبقات الحاكمة الزراعية الفرص التي فتحتها طفرة السلع الأساسية لتعزيز سلطتها. فبدأت بعض الأجنحة من لوبي الأعمال الزراعية في الدفع نحو مسار سياسي مختلف وخطير بلا أي ولاء للحكومة التي أشرفت على صعودها. وكما جادل رودريغو نونيس، حين تحرك قطاع الأعمال الزراعية لمعارضة خليفة لولا، الرئيسة ديلما روسيف، في العام 2015، «بدا وكأنّه قد نضج سياسياً: لم يعد يرضى بالدفاع عن مصالحه الاقتصادية المباشرة، بل صار ينشد فرض جدول أعماله على البلاد ككل». أصبح القطاع طرفاً سياسياً قيادياً في الانقلاب البرلماني الذي أطاح بروسيف في العام 2016، والانعطافة الحادة نحو اليمين في السياسة البرازيلية، ومهّد الطريق لانتصار السياسي اليميني المتطرف خايير بولسونارو في العام 2018.
كانت النتائج فورية، فقد حُوِّلت الدولة البرازيلية فعلياً إلى «اللجنة التنفيذية» للبورجوازية الزراعية، فألغِيَت اللوائح البيئية وحقوق الشعوب الأصلية والهيكل الوزاري والمؤسسي المبني بمشقة منذ التحول الديمقراطي وإقرار الدستور البرازيلي العام 1988. أُسِّسَت كتلة سياسية رجعية تجمع بين الرأسماليين الريفيين، الفصيل المتشدد من المسيحية، وجهاز الأمن (بفروعه المختلفة من الشرطة والقوات المسلحة): الثالوث المعروف بـ«اللحوم والإنجيل والرصاص» الذي حمل بولسونارو إلى قصر الرئاسة.
ومع هذا الدعم السياسي، بات قطاع الأعمال الزراعية على موعد مع الازدهار. فشهدت سلسلته طفرةً في ظل حكومة بولسونارو حين كانت باقي القطاعات الاقتصادية تعاني من الركود. ونما القطاع بمتوسط 7.8% سنوياً بين 2019 و2022، بينما راوح الناتج المحلي الإجمالي حول 1.4% سنوياً. وتراوحت بالتبعية حصته في الناتج المحلي الإجمالي حول 25% منذ 2020 مستعيداً بعضاً مما خسره في العقد الأول من هذا القرن 5. مع انتعاش معدلات إزالة الغابات وزيادة اللامساواة، زادت حصة أغنى 1% و0.1% في الدخل بين 2017 و2022، وقد جاءت هذه الزيادة بالأساس من ولايات يهيمن فيها إنتاج اللحم البقري وفول الصويا.
من شأن هذا النموذج التنموي الجديد الذي وعدت به الحكومة أن يُحدث تحولاً في توازن القوى، عبر تقليل اعتماد الاقتصاد على قطاع الأعمال الزراعية، ما يضعف هذه الفئة من الطبقة الحاكمة
لم تكن العلاقة بين اليمين المتطرف والزراعة الكبرى علاقةً عابرة. يشير أندريه سينغر إلى تشكيل «تحالف ذي قاعدة جغرافية اقتصادية واجتماعية» يمتد من ممثليه في برازيليا إلى النخب الريفية وشرائح متزايدة من الطبقات الأفقر في المناطق الداخلية، ويلاحظ أنّ بولسونارو في الانتخابات الرئاسية للعام 2022 قد حصل على أصوات أكثر من لولا «في 265 بلدية في الولايات التسع الأمازونية». ويكتب نونيس عن الدلالة التاريخية الأوسع: «بدأ الريف يستعيد الهيمنة السياسية على المدن الكبرى (وقطاعي الصناعة والخدمات) مع غيتوليو فارغاس في ثلاثينيات القرن الماضي». وأخيراً، انكشف نموذج النمو البطيء المعتمد على صادرات الزراعة الكبرى والمشكِّل على مدى العقدين الماضيين: فهو لا يعرض التنوع البيولوجي في البرازيل وحده للخطر، بل يطال ديمقراطيتها أيضاً.
تحديات عاجلة
تمثِّل هيمنة قطاع الأعمال الزراعية التحدي الأهم أمام نموذج التنمية الجديد الذي يحاول لولا تحقيقه. فقد أكّد الرأسماليون الريفيون أنّهم لن يتخلوا عن مصالحهم بسهولة، وسيقاومون بكل قوتهم أيَّ محاولة لتحويل الاقتصاد بعيداً عن «مجمع الصويا واللحوم». أوصلت هذه الكتلة الزراعية إلى الكونغرس عديد الممثلين في الانتخابات الأخيرة، وباتت تستأثر بحصة كبيرة تصل إلى 60% من أعضاء مجلسي الكونغرس، ما يمنحها قوة كافية لعرقلة أي جهود حكومية تهدف إلى إعادة توجيه الاقتصاد 6.
في الأشهر الأولى من حكومة لولا الجديدة، بينما كان يعيد هيكلة مجلس وزرائه، نجح لوبي الأعمال الزراعية في الكونغرس في إضعاف كل من وزارتي الشعوب الأصلية والبيئة عبر نقل بعض صلاحياتهما إلى وزارات أخرى. كما تمكّن من حماية امتيازاته الضريبية العديدة، وفرض تعديلات على خطة الإصلاح الضريبي غير المباشر للحكومة التي كانت تهدف إلى مجانسة الضرائب بين القطاعات. إضافةً إلى ذلك، عدَّلَ خطة إنشاء سوق الكربون – التي كانت الحكومة تطمح لجعلها «شاملة» – واستثنى منها قطاعي الزراعة وتربية الماشية. وحين حكمت المحكمة العليا البرازيلية ضد لوبي الأعمال الزراعية في قضية ترسيم حدود أراضي السكان الأصليين، وهي سياسة تهدف إلى تحقيق العدالة التاريخية ولها تأثير كبير في الحد من إزالة الغابات، سارع الكونغرس إلى إقرار تشريع معارض يلغي عملياً قرار المحكمة.
من شأن هذا النموذج التنموي الجديد الذي وعدت به الحكومة أن يُحدث تحولاً في توازن القوى، عبر تقليل اعتماد الاقتصاد على قطاع الأعمال الزراعية، ما يضعف هذه الفئة من الطبقة الحاكمة. ويمكن أن يُستَغل التحول الأخضر كفرصة لتعبئة جهاز الدولة من أجل تحويل الاقتصاد البرازيلي، عبر تقليل اعتماده على الصادرات الأولية وخلق وظائف لائقة. لكن على الرغم من الخطاب المحيط بخطة التحول البيئي، يبدو أنّ الحكومة تعتمد إلى حد كبير على القطاع الخاص في تنفيذ الانتقال المناخي بسبب القيد المالي عليها، إذ ترزح بين التزامها الذاتي بالتقشف وتآكل القاعدة الضريبية على يد قطاع الأعمال الزراعية 7. وبلغ الأمر أنّ وزير المالية حرص على المقارنة بين خطط بلاده الخضراء والسياسات التي تطبقها الولايات المتحدة، مشيراً إلى أنّ «مزيجاً من السياسات التنظيمية والضريبية» سيوجه التحول البرازيلي مقارنة بـ«الموارد المالية الهائلة» التي حشدتها حكومة جو بايدن. فعلى سبيل المثال، ستعتمد السياسة الصناعية الجديدة على القروض المدعومة من بنك التنمية البرازيلي، بعدما استُبعِدَت فعلياً من ميزانية الحكومة 8.
هل ستنجح الاستراتيجية؟ بالرغم من التقدم المحرز في قانون خفض التضخم الأميركي، فقد تحدث النقاد مراراً وتكراراً عن أنّ تحديات التحول المناخي لا يمكن تجاوزها بالاعتماد على قوى السوق وحدها، أي بالاعتماد على الحوافز من الأسعار المدعومة المشتملة على التكاليف البيئية. يتطلب الأمر تحركاً حكومياً حازماً يفرض على رأس المال الانضباط في إطار استراتيجية طويلة الأمد للتحول الهيكلي المستدام، وهي مقاربة تسميها دانييلا غبور «الدولة الخضراء الكبرى». وهذه الحجة أوجه في اقتصاد كالاقتصاد البرازيلي الذي عانى لعقود من الركود، حيث تشير دراسة حديثة إلى أنّ إمكانيات المنافسة الخضراء في البلاد «تشهد تراجعاً». والأهم من ذلك أنّ التدخل الحكومي ضروري بالنظر إلى التأثير الطاغي لفئة من الطبقة الحاكمة تعمل على تقويض التحول الأخضر، ومسؤولة عن معظم انبعاثات الكربون في البلاد.
من الواضح أنّ إقامة «دولة خضراء كبرى» في بلد طرفي تهيمن عليه فئة جشعة من قطاع الأعمال الزراعية قد يبدو أمراً طوباوياً. لكن توجد بعض الاتجاهات تدفع نحو هذا التغيير. أولاً، على مستوى العالم، أضعف الاعتماد الواسع على السياسات الصناعية التوافق النيوليبرالي ضد هذه السياسات، ما قلل من العوائق الأيديولوجية. ثانياً، من شأن العواقب السلبية المحتملة للاحترار العالمي والسياسات المناخية في الشمال العالمي على آفاق الأعمال الزراعية أن تدفع بعض قادة هذا القطاع إلى دعم خطة تقلل من خطر تحول البرازيل إلى دولة منبوذة عالمياً وفقدانها الوصول إلى بعض الأسواق، وهو ما قد يؤدي إلى انقسام الكتلة الزراعية. أما الموقف الطوباوي الحقيقي فليس إلّا النأي عن هذا التحدي، وهو موقف يعتمد على احتمال غير مرجح للحد من إزالة الغابات وتحقيق أهداف الانبعاثات ومنع اليمين المتطرف من دون تغيير نموذج التنمية. ومن المواقف الطوباوية الأخرى الأمل بتعديل نموذج التنمية خلسة من خلال تغيير بعض الأسعار النسبية.
إقامة «دولة خضراء كبرى» في بلد طرفي تهيمن عليه فئة جشعة من قطاع الأعمال الزراعية قد يبدو أمراً طوباوياً. لكن توجد بعض الاتجاهات تدفع نحو هذا التغيير
إنّ الدعم القوي الذي تحظى به الحكومة الحالية بين نصف السكان الأفقر يوفر لها نقطة انطلاق لبناء تحالف سياسي قوي يهدف إلى ضبط رأس المال ضمن استراتيجية طويلة الأجل يمكن أن تؤسس نموذجاً جديداً للتنمية. ولتحقيق ذلك، لا بد من تنفيذ ما وصفته أليس أمسدن بـ«آليات التحكم المتبادل»، ويُقصَد بها تقديم دعم حكومي مستهدف للقطاعات المتقدمة تكنولوجياً، شريطة المداومة على الوفاء بمعايير الأداء. وهذا من شأنه أن يسمح بانخفاض نسبة السلع الأولية في الصادرات مع دفع فاعلين اقتصاديين جدد بالاقتصاد في اتجاه مختلف، ما يساهم في خلق قاعدة شعبية تدعم النموذج التنموي الجديد. وبالرغم من أنّ بعض هذه العناصر موجودة في خطط الحكومة الحالية، فإنّها لا تزال على الهامش، ما يضعف من قدرتها على إحداث تحولات جذرية في الاقتصاد.
الوقت ينفد، ومع استمرار الاقتصاد الذي يقوده قطاع الأعمال الزراعية بلا تحدٍ حقيقي، تزداد قوة الكتلة اليمينية المتطرفة، ويزداد معها نفوذ الرأسماليين الزراعيين وخيبة أمل الطبقات الشعبية. وهذا أحد الأسباب التي جعلت الأمل بعد انتخاب لولا في العام 2022 يتحول بالفعل إلى شعور سائد بالجمود السياسي. في ظل الأحداث المناخية المتطرفة التي تقتلع مدناً بأكملها وتؤجج الفوضى – كالفيضانات المأساوية في ولاية ريو غراندي دو سول مؤخراً – تغدو الحاجة لتحدي هيمنة قطاع الأعمال الزراعية أهم من أي وقت مضى. لكن التحدي لا يكمن فحسب في إبطاء الاحتباس الحراري وإعطاء الإنسانية فرصة لتجنب أسوأ آثار تغير المناخ، بل في أنّ النموذج التنموي الجديد يمثل شرطاً أساسياً لإضعاف هجمات اليمين المتطرف على المؤسسات الديمقراطية، وفتح الطريق نحو تحول اقتصادي من شأنه إعادة الأمل بتحسين مستوى المعيشة لغالبية البرازيليين الذين عانوا من عقد من الإفقار.
نُشِر هذا المقال في Phenomenal World في 21 آب/أغسطس 2024، وتُرجِم إلى العربية ونُشر في موقع «صفر» بموجب تفاهم مع الجهة الناشرة.