العمالة غير النظامية في لبنان قاعدة وليست استثناءً
62.4% من القوى العاملة في لبنان في العام 2022، كانت منخرطة في عمالة غير نظامية تفتقر إلى أي حماية قانونية وتسلب العامل حقوقه. صحيح أن نسبة العمالة غير النظامية ارتفعت بعد الأزمة الاقتصادية لعام 2019، لكنها لم تكن يوماً ظاهرة شاذة عن طبيعة الاقتصاد اللبناني، ولم تأتِ نتيجة فترات انحطاطه الأكثر حدّة، بل هي سمة بنيوية فيه، وقد بلغت 55% قبل الأزمة.
تنتشر العمالة غير النظامية بكثافة في قطاعات اقتصادية شتى، أهمها قطاع البناء والزراعة والصناعات، وتعتاش منها أكثر الفئات الاجتماعية تهميشاً ولا سيما اللاجئين والأجانب ونساء الطبقة العاملة والكادين من كبار السن، فضلاً عن باقي الأيدي العاملة الرخيصة.
صورة قطاعية عن اللانظامية في لبنان
تنتشر العمالة غير النظامية في قطاع الزراعة تحديداً، الذي يعمل فيه ما بين 287 ألفاً إلى 312 ألف فرد وفق أرقام العام 2022، 85% منهم بشكل غير نظامي. وأحد أسباب ذلك أن العمالة الزراعية مستثناة من حماية قانون العمل اللبناني، كما أن كثيراً من العمل الزراعي هو عمل عائلي، يعتمد على توزيع الأدوار المتعارف عليها بين أفراد الأسرة بدل العقود الرسمية، أما خارج العائلة فالاعتماد في المقام الأول هو على العمّال الموسميين، الذين يجيئون ويذهبون بمجيء وذهاب مواسم الزراعة والحصاد، خصوصاً أن 12% من الحيازات الزراعية فقط في لبنان تحتاج إلى عمالة غير عائلية بدوام كامل.
لا تقتصر اللانظامية على الزراعة فحسب، بل تشكّل جزءاً وازناً من قطاع الصناعات الغذائية. في العام 2018، تم تسجيل 15% فقط من المؤسسات الصناعات الغذائية بشكل رسمي، ويشمل هذا القطاع أنشطة مثل التخزين والتجميع ومناولة ما بعد الحصاد والنقل والمعالجة والتوزيع والتسويق واستهلاك جميع المنتجات الغذائية. وفي العام 2020، استحوذ قطاع الصناعات الغذائية على 25% من القوى العاملة في القطاع الصناعي، علماً أن حوالي 40% من الشركات في القطاع تقوم بتصنيع السلع المخبوزة والحلويات، وغالباً ما يستغل أصحاب المخابز غياب عمليات التفتيش لإبقاء العمّال غير مسجلين. على سبيل المثال، أصدرت وزارة العمل في 1 تشرين الثاني/نوفمبر 2022 قراراً بفرض قانون العمل على جميع عمّال المخابز، لكن أصحاب العمل استمروا في تجنّب تسجيل عمالهم، مستغلين الموارد المحدودة للوزارة، التي عرقلت عمليات التفتيش الصارمة.
يبرز قطاع اقتصادي آخر يشتمل العمل فيه على درجة أعلى من الخطورة هو قطاع البناء، حيث 90.5% من العاملين فيه يعملون بشكل غير نظامي. وفقاً لمسح القوى العاملة الذي أجرته منظمة العمل الدولية، يُقيّد هؤلاء بأعمال تخلو من تاريخ انتهاء محدّد أو اتفاقات طويلة المدى يمكن لصاحب العمل إنهائها في أي وقت، وبحسب مسح سبق الأزمة الاقتصادية بسنتين، تبيّن أن 21% من عمال البناء يعملون بأجر شهري، في حين أن 49.2% منهم يعملون بأجر يومي. ويوظف قطاع البناء حوالي 460,600 شخص، من بينهم 110,600 لبناني و350,000 سوري بحسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العام 2016. وعلى الرغم من قدم هذه الأرقام وسبقها للأزمة، لكنها تدل بوضوح على اعتماد هذا القطاع بشكل أساسي على العمالة السورية أكثر من اللبنانية. في العام 2017، تبيّن في مسح أجرته «ليدرز كونسورتيوم» أن 13.2% فقط من العمال في قطاع البناء لديهم عقود مكتوبة، في حين أن 23.3% لديهم اتفاقات شفهية، و63.5% لم يكن لديهم أي اتصال على الإطلاق. ويرجح ارتفاع النسبة الأخيرة مع تفاقم إجمالي العمالة غير النظامية بعد الأزمة.
استغلال مضاعف للاجئين
سواء في الزراعة أو الصناعة أو البناء، العمل غير النظامي هو عمل من دون ضمانات يخلو من امتيازات يوفّرها القانون. وفي لعبة المحاججة بشأن الأجر وشروط العمل، بين العامل وصاحب العمل، يفضّل الأخير التفاوض مع الفئات الاجتماعية الأكثر هشاشة والمقيمين في البلاد من دون أي حماية. وبذلك، يحقّق صاحب العمل موقعاً أفضل في عملية التفاوض، يخوّله أن يعطي رواتب أقل ويستلب عملاً أكثر.
«السوريون على استعداد لتولي وظائف لا يرغب العديد من اللبنانيين في القيام بها»، هذا ليس كلام العامة من الناس، هذا اقتباس من دراسة لمنظّمة العمل الدولية، فالسوريون «يظهرون استعداداً أكبر للقيام بمهام تتطلّب جهداً بدنياً وشديدة الخطورة وتتطلب عمالة كثيفة في القطاع الزراعي بأجور أقل». وإن كان العمل غير النظامي بالنسبة إلى اللبناني هو العمل من دون عقد، فهو يحمل معنى مختلفاً بالنسبة إلى السوري، هو عمل من دون عقد ومن دون تصريح عمل ويحمل تبعات أعقد وأقسى إن تم اكتشافه من أجهزة الدولة الرقابية والأمنية.
وفقًا لمسح أجرته منظمة العمل الدولية في العام 2021، والذي سعى إلى تقييم مدى العمالة غير الرسمية والضعف بين المواطنين اللبنانيين الأكثر حرماناً، واللاجئين السوريين والفلسطينيين، كان السوريون هم المجموعة الأكثر احتمالاً للعمل في قطاع البناء، حيث يمثلون 23.9% من العينة، بينما أفاد 4.5% فقط من اللبنانيين المشاركين و10.4% من الفلسطينيين أنهم يعملون في قطاع البناء.
في الصناعات الغذائية، أفاد نقيب عمال المخابز في جبل لبنان وبيروت، أن 85% من العاملين في المخابز هم من الجنسية السورية. لكن، الأقسى من ذلك في قطاع الزراعة، تشير دراسة منظّمة العمل الدولية إلى أرقام مأخوذة من تقييم هشاشة اللاجئين السوريين الذي أجرته المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في العام 2017، أن 17% من اللاجئين السوريين يعيشون في مخيمات غير رسمية، حيث يدفعون الإيجار مقابل الخدمات والمرافق الأساسية.
في هذه المخيمات، هناك شخصية تعرف باسم الشاويش، يعمل هذا كوسيط وحارس بوابة، يسهل فرص الحصول على عمل ووسائل النقل إلى الحقول، ويتفاوض الشاويش على الأجر اليومي للعمال السوريين بناء على عوامل مثل الجنس والعمر والمهام، ويقوم بتكليف الأفراد بأعمال محددة، وتحصيل الأموال من المزارع وتوزيع الأجور بشكل فردي بعد خصم العمولة.
للنساء والأطفال وكبار السن حصّة
على كل، ليس اللاجئون السوريون الفئة المهمشة الوحيدة التي تعمل بشكل غير نظامي، بل يشمل الأمر الأولاد والنساء وكبار السن، فوفقاً لدراسة أجرتها منظمة العمل الدولية كجزء من برنامج تنمية القطاع الإنتاجي، فإن المزارعين الذين تبلغ أعمارهم 65 عاماً وما فوق يمثلون 23% من إجمالي عدد المزارعين ويعملون على 24% من الأراضي الزراعية!
وفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة، تمثل النساء حوالي 43% من القوى العاملة الزراعية، غير أن عمل المرأة في الزراعة غالباً ما يكون غير مرئي ويصعب قياسه كمياً، في العادة يتم الاعتماد على النساء في إزالة الأعشاب الضارة والحصاد والفرز، بينما يقوم الرجال بتشغيل الآلات، واستعمال المبيدات الحشرية، ورفع الأشياء الثقيلة، ونقل المنتجات.
من جهة أخرى، تشير التقديرات إلى أن حوالي 60 % من الأطفال العاملين يعملون في الزراعة، هذا على الرغم من محدودية البيانات المتعلقة بعمل الأطفال في هذا القطاع. في دراسة أجرتها منظمة العمل الدولية في العام 2021 وردت تقارير عن أطفال يعملون في 14 مزرعة من أصل 19 مشمولة بالدراسة.
الأجور المتدنية تلازم اللانظامية
فضلاً عن ذلك، تتلازم العمالة غير النظامية مع الأجور المتدنية، وهي ملجأ أساسي للأيدي العاملة الرخيصة غير المدربة أو المتخصّصة، والتي يمكن استبدالها بسهولة. مثلاً: تراوحت الأجور اليومية في الصناعة الغذائية من 600 ألف ليرة لبنانية إلى 700 ألف ليرة لبنانية من الساعة 7 صباحاً حتى 1 ظهراً، هذا عندما كان الدولار الأميركي الواحد يتداول عند 82,000 ليرة لبنانية.
قبل الأزمة وارتفاع كلفة المعيشة وانخفاض القدرة الشرائية للسكان، كانت الأجور في قطاع البناء أقل من الحد الأدنى للأجور (675 ألف ليرة لبنانية)، حيث أظهرت أحد الدراسات أن 16.7% من العاملين في قطاع البناء حصلوا على 400 ألف ليرة لبنانية أو أقل؛ و29.2% حصلوا على ما بين 400 ألف و500 ألف ليرة لبنانية؛ 17.5% حصلوا على ما بين 500 ألف ليرة لبنانية و600 ألف ليرة لبنانية، يشكل هؤلاء نحو ثلثي القوى العاملة تقريباً!
أثناء فترات الركود الاقتصادي، غالباً ما يكون العمال غير النظاميين أول من يفقد وظائفهم بسبب سهولة إنهاء عملهم، حيث يفتقرون إلى امتيازات العمال والحماية الاجتماعية. وفي ظل أوضاع اقتصادية سيئة ومعقدة، يصعب التنبؤ بتلقباتها الفجائية، لا يدري العامل غير النظامي هل سيحافظ على عمله في المستقبل القريب أم لا؟