Preview العمل عن بعد

العمل عن بُعد وعولمة العمل

  • عمدت الرأسمالية إلى استغلال الطبقة العاملة في الأطراف بطريقتين: الأولى، تشغيلهم بأجور زهيدة في دولهم، والثانية، استقطابهم كعمالة مهاجرة في المراكز، وبذاك يكون العمل، كما السلع ورأس المال، في جزءٍ منه مدوَّلاً، إلا أنه ليس معروضاً في الأسواق الدولية كسلعة مُسعَّرة كما باقي السلع.
  • أصبح لدى الشركات في المراكز الرأسمالية والدول الغنية إمكانية استغلال العمالة في الدول الطرفية من دون نقلها إلى دولها، أي من دون أن تكون حتّى مضطرة لمراعاة شروط الحد الأدنى للأجور، أو تلبية أياً من المتطلبات القانونية لبيئة العمل.

 

بخطاب التحرّر من التزامات مكان العمل وساعاته الطويلة وعدم وجود مدير، رُوِّج للعمل عن بُعد بوصفه فرصةً للتخلّص من البطالة ورفع الأجر وبأنه «مستقبل العمل». لا شك أن ظاهرة العمل عن بُعد هي حقيقية وآخذة بالازدياد بوتيرة مرتفعة منذ انتشار فيروس كوفيد-19، إلّا أنها تخفي خلفها ما تمثِّله في الرأسمالية المعولمة، وانعكاسها على الطبقة العاملة واقتصاديات عالم الجنوب.

من الاقتصاد الوطني إلى العولمة الرأسمالية

اقتصرت التبادلات الاقتصادية الدولية بأقانيمها الثلاثة: التجارة، والاستثمار، والعمل، في عالم ما قبل النظام الرأسمالي، على التبادلات التجارية السلعية التي كانت تجري في حدودٍ ضيِّقة يكاد ينعدم تأثيرها في اقتصاد ومعاش الأمم-الدول، فهي كانت قائمة على الموارد الطبيعية، وما يمكن إنتاجه محلّياً. وبهذا الشرط الاقتصادي كان كلّ منها، أي الدول، يسير في صيرورة تطوّره التاريخي الخاص، إلى أن بزغت الرأسمالية في غرب أوروبا ولاحقاً الولايات المتّحدة واليابان، وتمكّنت، بحكم تطور قوى إنتاجها، وتفوّقها العسكري، من إجبار عالم ما قبل الرأسمالية على الخضوع لمقتضيات نمو رأس المال في دولها عبر اتفاقات الإذعان التجارية والنهب المباشر وتجارة الرقيق، لتقطع بذلك مسار تطوّر تلك الدول، وتصنع ما سوف يصبح لاحقاً عالم الجنوب أو الأطراف، الذي كانت وظيفته تلبية الاحتياجات الصناعية في المراكز الرأسمالية من مواد أولية زراعية وخامات معدنية. 

تزامنت موجة انتقال رؤوس الأموال من الشمال إلى الجنوب، مع موجة أخرى؛ هي استقطاب العمالة المهاجرة من دول الأطراف، والتي كانت البداية للتدويل الجزئي للعمالة

استمرّ التخصّص والتقسيم الدولي للعمل على هذا النحو - جنوب يُصدِّر الخامات وشمال يصنِّعُ - حتى منتصف القرن العشرين. أي حتى نهاية «ربع القرن المجيد للرأسمالية» (1950- 1975) الذي انتهى بأزمة اقتصادية، دفعت رؤوس الأموال في المراكز الرأسمالية إلى نقل جزءٍ كبيرٍ من الصناعات التحويلية والثقيلة إلى عدد من الدول الطرفية التي تعرف اليوم بالدول الناشئة، عبر الاستثمار المباشر أو التمويل والإقراض، الذي يضمن التحكّم في سلاسل التوريد وتدفّق فائض القيمة من الجنوب إلى الشمال القائم على الفارق في تطوّر قوى الإنتاج، وآلية التحكّم الإمبريالية في أسعار السلع المُصدَّرة من الجنوب إلى الشمال، واستغلال انخفاض أجور العاملين ومعدّلات الضريبة والإعفاءات الجمركية في الدول الطرفية. وبذلك يكون عنصر الاستثمار (توظيفات رأس المال)، إلى جانب التجارة السلعية، قد انتقل من حيّز الدول إلى العولمة الرأسمالية. مع ذلك فإن العولمة الرأسمالية للسلع والاستثمارات ظلت في إطار إمكانية التفاوض والصراع السياسي والطبقي داخل الدولة الطرفية ذاتها، ومن خلال حكوماتها أو عبر الضغط عليها.

بداية التدويل الجزئي للعمالة

تزامنت موجة انتقال رؤوس الأموال من الشمال إلى الجنوب، مع موجة أخرى؛ هي استقطاب العمالة المهاجرة من دول الأطراف، والتي كانت البداية للتدويل الجزئي للعمالة، إذ وصل عدد المهاجرين في خلال ثلاث عقود 1960- 1990 إلى أكثر من 35 مليون مهاجر، يعمل نحو 94% منهم في مهن منخفضة المهارات، ويتقاضون أجوراً منخفضة، وعلى الرغم من انخفاض نسبة العاملين المهاجرين من العاملين بمهارات مرتفعة (6% منهم فقط) إلّا أن هذه النسبة تشكّل حصّة وازنة في دول الجنوب لأن نسبة الكفاءات من إجمالي القوة العاملة منخفضة، فأفريقيا وحدها فقدت نحو ثلث أفرادها من أصحاب المهارات العالية (أطباء ومهندسين وأساتذة جامعات من خلال الهجرة إلى أوروبا) في نهاية الثمانينيات. 

إذاً، في سبعينيات القرن الماضي عمدت الرأسمالية إلى استغلال الطبقة العاملة في الأطراف بطريقتين: الأولى: تشغيلهم بأجور زهيدة في دولهم عبر التوظيفات الرأسمالية، والثانية: استقطابهم كعمالة مهاجرة في المراكز، وبذاك يكون العمل، كما السلع ورأس المال، في جزءٍ منه مدوَّلاً، إلّا أنه ليس معروضاً في الأسواق الدولية كسلعة مُسعَّرة كما باقي السلع، فالعمالة المهاجرة إلى المراكز الرأسمالية تعمل في ظل القوانين ذاتها التي تخضع لها الطبقة العاملة في المراكز، وبالتالي هي منفصلة عن ظروف العمالة في الأطراف، في حين أن عمل القوى العاملة لصالح استثمارات الشركات الأجنبية في الدول الطرفية، بقي في نطاق إمكانية التأثير عبر العمل السياسي والنضالات العمالية لجهة ممارسة الضغط على نوعية الاستثمار الأجنبي وشروطه، وكذا التأثير في ظروف العمل لجهة الأجور وبيئة العمل.

استغلال العمالة الرقمية المهاجرة 

شهد العقدان الأخيران تصاعداً غير مسبوق في حصّة القطاع الخدمي من إجمالي الناتج الاقتصادي العالمي، لاسيّما في المراكز الرأسمالية، حيث تشكّل مساهمة القطاع الخدمي من إجمالي الناتج المحلّي الأميركي نحو 80%. ترافق ازدياد حصّة القطاع الخدمي مع التطوّر التقني الهائل في وسائل التواصل والاتصال، الأمر الذي سمح بإنتاج الخدمات وتقديمها عبر مصادر خارج الحدود، إذ أدَّت التحوّلات الاقتصادية والإمكانيات التقنية الجديدة إلى توليد شكل جديد لتدويل العمالة أكثر اندماجاً في المنظومة الرأسمالية، تتوفّر فيه خصائص التدويل السلعي والمالي، وحيث يكون عرض العمل والطلب عليه غير خاضعين لآليات السوق الوطنية وقوانين العمل (المنصوص عليها والمطبقة بحكم القانون أو المعمول بها عرفاً)، بل يخضع لعلاقات القوة بين الشركات الطالبة للعمالة في المراكز الرأسمالية والدول الغنية، وبين الطبقة العاملة العارضة لقوة عملها في الأطراف والدول الفقيرة. 

ترافق ازدياد حصّة القطاع الخدمي مع التطوّر التقني الهائل في وسائل التواصل والاتصال، الأمر الذي سمح بإنتاج الخدمات وتقديمها عبر مصادر خارج الحدود

تتيح الأدوات التقنية الجديدة إمكانية العمل في المهن التسويقية والمحاسبية والمالية والتعليمية والاستشارية إلى جانب العشرات من المهن الأخرى من دون الحاجة للوجود الفعلي للموظف/ة داخل مكاتب الشركة، بل يمكن القيام بذات المهام عبر الإنترنت، أي إمكانية توظيف عمالة من أي مكان في العالم. وبالتالي أصبح لدى الشركات في المراكز الرأسمالية والدول الغنية إمكانية استغلال العمالة في الدول الطرفية من دون نقلها إلى دولها، أي من دون أن تكون حتى مضطرة لمراعاة شروط الحد الأدنى للأجور أو تلبية أياً من المتطلبات القانونية لبيئة العمل، بل تقف الشركات أمام جيش احتياطي هائل من العمّال في الدول الطرفية، جيش من المستبعدين من سوق العمل المحلية (عاطلين عن العمل) أو الباحثين عن عمل إضافي أو أجر أعلى ممّا هو معروض في السوق المحلية. حيث يواجه العاملين عن بُعد في الدول الطرفية عروضاً للعمل من دون عقود عمل حقيقية، ولا تتضمّن مزايا الرعاية الاجتماعية أو الصحية، ولا توفر الحدّ الأدنى من الأمن الوظيفي، وغير خاضعة لأيَّة سلطة قانونية، ولا توفر أيَّة آلية للمساءلة في حال الإخلال باتفاقها لجهة ساعات العمل أو طبيعته أو حتى في حال عدم دفعها للتعويضات المتفق عليها! ناهيك عن الانتهاكات التي يتعرّض لها العاملون عن بُعد، فعلى سبيل المثال يضطر عشرات الآلاف من العاملين في مراكز التواصل بين الشركة والعملاء (Call Center) وغيرها من المهن، في الهند والفلبين وغيرهما للعمل في أوقات متأخرة من الليل بسبب فرق التوقيت بين تلك الدول والمراكز الرأسمالية غربي أوروبا وأميركا الشمالية حيث تقدم الخدمات، ويجبرون على البقاء على اتصال بالشركة لتلبية الطلبات الطارئة والقيام بأعمال خارج أوقات العمل المتفق عليها. يحدث كل ذلك بالتواطؤ بين الشركات في المراكز ووسطائها أو الشركات المخدِّمة لها والحكومات في دول الأطراف. 

تشويه سوق العمّال في الأطراف

لا تقف حدود استغلال العمالة الرقمية المهاجرة عند هذا الحدّ، بل تمتد إلى مستقبل تلك العمالة وتشويه هيكلية القوى العاملة في الدول الطرفية، والتي تحدث عبر نوعية المهام والوظائف نفسها التي تقع غالبيتها بين أعمال رقمية بسيطة: مثل ملء الاستبيانات والتفاعل مع الإعلانات وغيرها من المهام التي ليس لها أي مستقبل وظيفي أو إمكانية للتطوّر المهني، والتي تجعل بنتيجتها العاملين فيها حبيسين في مهام لا غرض منها سوى كسب العيش من دون أدنى شروط الأمان الوظيفي أو إمكانية تحسين مستوى الدخل.

حرمان اقتصاديات الدول الطرفية من الاستفادة من أصحاب المهارات والكفاءات، بحيث تصبح العمالة الماهرة مرتبطة رأسياً بدول المراكز والدول الغنية، وتنفصل عن السوق المحلية

النوع الثاني من الأعمال هو الأعمال الرقمية التي تتطلّب توفر الخبرة والمهارات العالية، وتكمن المشكلة في هذا النوع من الأعمال، إلى جانب الاستغلال عبر الأجور المتدنية وبيئة العمل غير الملائمة، في حرمان اقتصاديات الدول الطرفية من الاستفادة من أصحاب المهارات والكفاءات، إذ تصبح العمالة الماهرة مرتبطة رأسياً بدول المراكز والدول الغنية، وتنفصل عن السوق المحلية. مع العلم أن نحو 60% من العمالة الرقمية المهاجرة في الدول الطرفية هي من الحاصلين على تعليم عالي. 

تشكّل التطوّرات الأخيرة في المنظومة الرأسمالية لجهة تدويل العمالة وإدخالها في حيز العولمة الرأسمالية استكمالاً لحلقة عولمة السلع والاستثمارات (التوظيفات الرأسمالية)، ومؤخراً العمل، والأخير يمثل مصدراً مباشراً للتبادل اللامتكافئ، وبخلاف حالة التبادلات السلعية والاستثمارية فإنه من الناحية النظرية لا يمكن إحداث تفاوض على شروط عمل العمالة الرقمية المهاجرة، حتى الآن على الأقل، إذ لم تتشكّل مؤسسات ولم تتحرّك حكومات لمناقشة هذه الظاهرة، ومن الناحية العملية، فإن الاقتصاد السياسي الدولي يشهد على فشل مشروع الدول الوطنية، أو لنقل حركة التحرر الوطني الأولى، التي صنعت الاستقلال في دول الأطراف مع بداية القرن العشرين، وبالنتيجة فإن المتوقّع هو ارتفاع معدَّلات العمالة الرقمية المهاجرة، بوضعها المُستغل القائم.