Preview الحركة العمالية في الكويت

لوحة لعمّال ومهنيين وطلّاب على تمثال عبدالله السالم الصباح الذي منع من العرض في مكان عام بسبب الجدل الذي أثاره.

تاريخ العمل ومسألة الطبقة: دراسة حالة الكويت

  • هناك نحو 4.4 مليون مقيم في الكويت، من ضمنهم 3 ملايين مهاجراً من غير المواطنين، بما في ذلك نصف مليون شخص من البِدون على أقل تقدير. وفي حين يبرز تفاوت كبير بحسب الطبقة، فإن غير المواطنين – ومن ضمنهم البدون - مؤهلون بدرجة أقل للحصول على الحقوق والحماية الاجتماعية، وغالباً يشغلون وظائف غير مستقرّة في ظروف عمل ومعيشة غير آمنة.
  • شهدت أربعينيات القرن العشرين حركة عمّالية ناشطة بين المنشآت النفطية المختلفة في الخليج العربي، وتوثق سجّلات الاستعمار البريطاني المخاوف التي برزت بشأن الروابط بين تدفّقات العمّال والتنظيم العمالي والتحريض… الا ان السبعينيات شهدت تدمير الحركات القومية والعمّالية واليسارية في الكويت وأماكن أخرى في الخليج؛ وتزامن ذلك مع الارتفاع الحادّ في عائدات النفط

«أطلعهم أقطهم برا والله لو أقطهم بالبرّ». هذه هي الصرخة الحادّة التي أطلقتها حياة الفهد، إحدى أبرز ممثلات الكويت، في البرنامج التلفزيوني «أزمة متعدي» في نيسان/أبريل 2020، في خضم جائحة كوفيد- 19. وقد ردَّت الفهد على موجةٍ من النقد طالت تعليقاتها وما استثارته من نقاش على وسائل التواصل الاجتماعي، فأمعنت بالدفاع عن موقفها، وقالت إنّ ما تعنيه هو إمكانية «بناء مرفق بسرعة» لاحتجاز العمّال المهاجرين أثناء تفشّي الجائحة.

بالفعل، جرى بناء العديد من المخيّمات المسيّجة، التي زجّ فيها أكثر من 20 ألف عامل من مصر وبنغلاديش وإثيوبيا والهند وسريلانكا والسودان، كانوا قد تقدّموا بالتماساتٍ للحصول على عفوٍ من الحكومة الكويتية، بعد أن تقطّعت السبل بهم إثر انتهاء صلاحية تصاريح عملهم وإغلاق المجال الجوّي في بلدانهم الأصلية استجابةً لإجراءات التصدّي للوباء. 

بعد احتجازهم لأسابيع في انتظار العودة المنتظَرة إلى أوطانهم، نظّم العمّال المصريون احتجاجاً في المخيّم، سرعان ما قمعته شرطة مكافحة الشغب الكويتية واعتقلت عدداً من المشاركين. وبعد وفاة العديد من البنغلاديشيين الذين يعيشون في مخيّم آخر للعودة الطوعية، أطلق عمّالٌ من بنغلاديش احتجاجاً ردّاً على احتجازهم وظروفهم غير الصحّية، مطالبين سفارتهم بالمساعدة. وبينما كانت كلتا المجموعتين من العمّال عالقة بعيداّ من ممثليهم الوطنيين، أصدر نائب رئيس الوزراء الكويتي تحذيراً من عبور «الخطّ الأحمر» للأمن القومي الكويتي.

جرى بناء العديد من المخيّمات المسيّجة، التي زجّ فيها أكثر من 20 ألف عامل من مصر وبنغلاديش وإثيوبيا والهند وسريلانكا والسودانانعكست مساعي احتواء الجائحة، التي اتبعت في جميع أنحاء العالم، في إغلاق المجالات الجوية ومنافذ الدخول البرّية والبحرية، كما وضعت أنظمة جديدة لاختبار أهلية المواطنين وغير المواطنين على السفر. وبالتالي، أصبحت «الحدود» أكثر بروزاً وأكثر عنفاً في جميع أنحاء العالم. ويظهر ذلك في الخسائر غير المتكافئة التي يتعرّض لها المهاجرون واللاجئون في المنطقة الناطقة بالعربية. في الكويت، أدّى وضع حواجز من الأسلاك الشائكة حول أحياء بأكملها في جليب الشيوخ والمهبولة، التي يعدُّ جميع سكّانها تقريباً من غير المواطنين، إلى عزلهم عن بقية سكّان الكويت ومنعهم من الوصول إلى الإمدادات الأساسية.

هناك نحو 4.4 مليون مقيم في الكويت، من ضمنهم 3 ملايين مهاجراً من غير المواطنين (بما في ذلك نصف مليون شخص من البِدون على أقل تقدير). وفي حين يبرز تفاوت كبير بحسب الطبقة، فإن غير المواطنين – ومن ضمنهم البدون - مؤهلون بدرجة أقل للحصول على الحقوق والحماية الاجتماعية، وغالباً يشغلون وظائف غير مستقرّة في ظروف عمل ومعيشة غير آمنة. كما أن غير المواطنين معرضون للترحيل والإعادة إلى الوطن: فوفقاً لبيانات البنك الدولي، انخفض عدد السكّان المقيمين في الكويت بنحو 200 ألف شخص بين عامي 2019 و2021، وتقلّصت القوى العاملة في الكويت بالعدد نفسه تقريباً. وهذا يعكس على الأرجح انكماش الاقتصاد بسبب انخفاض أسعار النفط واستجابة السلطات للوباء.

في هذا المقال، ألقي نظرة على التاريخ الحديث للحركات العمّالية في الكويت، للتفكير في الكيفية التي آلت إلى إنتاج هذا الاقتصاد وهذه العلاقات الطبقية.

تاريخ العمل والتحرّر الوطني

كانت الكويت لفترة وجيزة جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، وقضاءً تابعاً لولاية البصرة، ولكن الفرع الحاكم من قبيلة آل الصباح اتخذ موقفاً موالياً لبريطانيا في مطلع القرن العشرين، وقد نتج عن ذلك عواقب لا تزال ملموسة حتى اليوم. وبحلول القرن العشرين، تشكّلت في الكويت طبقة تجارية راسخة ومتنقّلة اجتازت مناطق السلطنة العثمانية/ بلاد الشام والمحيط الهندي، وتضمّنت الأنشطة الاقتصادية التقليدية التجارة، وصيد اللؤلؤ، وبناء القوارب والأنشطة المرتبطة بطريق الحج. برزت الحركة الاعتراضية الأولى الواضحة بين الطبقة التجارية في الكويت الحديثة في العام 1909، ردّاً على الضرائب التي فرضها الحاكم مبارك الصباح. كانت حياة الأشخاص العاديين في الكويت في خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي مشحونة بصعوبات اقتصادية، بسبب تراجع صناعة اللؤلؤ والأزمة المالية العالمية في الثلاثينيات، والحصار الذي فرضته قبيلة آل سعود في منطقة نجد.

في العام 1913، أبرمت بريطانيا الإمبراطورية اتفاقاً مع حكام الكويت، ضمنت من خلاله حصولها على امتيازات النفط في البلاد، في مقابل منحه الدعم المالي والحماية العسكرية. في العام 1934، تأسّست شركة نفط الكويت من قبل شركة نفط الخليج (شيفرون) وشركة النفط الأنغلو-إيرانية (بريتش بتروليوم). وفي العام 1938، اكتشف حقل برقان، كأول حقل نفطي يحتوي على كمّيات تجارية. وبعد الحرب العالمية الثانية، في العام 1946، أصبحت الكويت «منتجاً للنفط» بصورةٍ رسمية.

ومع تزايد أهمّية قطاع النفط، تراجعت مصادر التوظيف والمعيشة التي سادت في فترة ما قبل اكتشاف النفط، وتأسّست علاقات اقتصادية محلية وإقليمية وعبر وطنية جديدة. ساهم هذا التطوّر في ظهور سجّلات جديدة للانتماء، والتسلسل الهرمي المادي، والتحالفات بين الطبقة العاملة الصناعية الناشئة. وقد تشكّل تقاطع الطبقة والمواطنة وديناميكيات الانتماء والإقصاء إلى حدّ كبير من خلال الممارسات الاستعمارية البريطانية للنظام الاجتماعي. تحدّت الحركات القومية الشعبية المناهضة للاستعمار والحركات اليسارية المناهضة للإمبريالية هذه الممارسات عمداً، وأعادت التفاوض بشأنها. لكن آليّات تشكيل الدولة الحديثة ساهمت فيها أيضاً، لا سيما مع إدخال نظام الهوية الوطنية في العام 1948، وإنشاء أول مكتب لجوازات السفر والإقامة في العام 1949.

انخفض عدد السكّان المقيمين في الكويت بنحو 200 ألف شخص بين عامي 2019 و2021، وتقلّصت القوى العاملة في الكويت بالعدد نفسه تقريباًشهدت أربعينيات القرن العشرين حركة عمّالية ناشطة بين المنشآت النفطية المختلفة في الخليج العربي، وتوثق سجّلات الاستعمار البريطاني المخاوف التي برزت بشأن الروابط بين تدفّقات العمّال والتنظيم العمالي والتحريض. في الواقع، شهد هذا العصر إضرابات عمّالية في البحرين في عامي 1938 و1943، وفي الكويت في الأعوام 1943 و1946 و1949، وفي عبادان بإيران في العام 1946، وفي الظهران بالمملكة العربية السعودية في العام 1945، وركّزت إلى حدّ كبير على ظروف العمل. شملت تدفّقات المهاجرين في الصناعات النفطية في الخليج العربي بحلول أواخر الأربعينيات عمّالا من البحرين وعمان وإمارات الساحل المتصالحة وإيران. ومن المهمّ أيضاً قراءة المنشآت النفطية في الخليج باعتبارها مواقع للاندماج في الاقتصاد الرأسمالي العالمي، حيث ترتبط شبكات العمّال بالحركات السياسية الوطنية المناهضة للإمبريالية، كما تجادل المؤرخة إلهام خوري مقدسي بشكل مقنع حول شرق البحر الأبيض المتوسط.

في الكويت، على سبيل المثال، دعم أعضاء الحركة العمّالية إنشاء المجلس التشريعي في نهاية الثلاثينيات. وشملت الأهداف الوطنية في ذلك الوقت إنهاء الاستعمار البريطاني في الكويت والمنطقة، وإنشاء مؤسّسات سياسية مع ممثّلين منتخبين. وبالتزامن مع اعتماد ميزانية الدولة على عائدات النفط جرى تشكيل المؤسسات السياسية المركزية. طالبت الحكومة أولا بجميع الأراضي العامة ثمّ أعيد توزيعها كمِنَحٍ أو بيعت بتكلفة منخفضة للغاية، ممّا أدى إلى تعزيز الطبقة الرأسمالية المكوّنة من الأسرة الحاكمة والبرجوازية التجارية.1

خمسينيات وسبعينيات الكويت: قوميون وبعثيون وشيوعيون ويساريون مناهضون للإمبريالية

تأسّست في تلك الحقبة حركة القوميين العرب في الكويت التي تمتّعت بالشعبية الأكبر. مع ذلك، برزت أيضاً حركات أخرى تضمّنت خلايا بعثية وشيوعية بين عمّال النفط، الذين تأثروا بعمّال النفط الإيرانيين والعراقيين. كان للحركات العمّالية في الكويت صلاتٍ واسعة النطاق في جميع أنحاء المنطقة. وقد أظهرت استجابة الكويت لحرب السويس في العام 1956 وحرب حزيران/يونيو 1967 التعبئة القوية التي كانت الحركات السياسية والعمّالية قادرة على بنائها.

في العام 1956 كانت الكويت، بصورةٍ عامة، ناصرية وقومية عربية مناهضة للاستعمار. نظِّم إضراب عام شمل كامل البلاد في آب/أغسطس 1956، حيث خرج الآلاف إلى الشوارع، وتركّزت مطالبهم على  المقاطعة الاقتصادية والعسكرية والنفطية لبريطانيا وفرنسا وحُلفائهما. أثارت حرب حزيران/يونيو 1967 احتجاجات حاشدة في شوارع الكويت، وطالبَ عُمال النفط بمقاطعة حلفاء الدولة الاستعمارية الصهيونية نفطياً، وأجبروا إحدى الشركات النفط على الإغلاق بالكامل، وفرضوا إغلاقاً جزئياً على شركة نفط الكويت.

ومن ناحية أخرى، كانت هناك منافسة بين العمّال المحلّيين والأجانب، لا سيّما في مجال النفط والصناعات النفطية المرتبطة ببريطانيا الاستعمارية. ويعود ذلك جزئياً إلى التركيبة السكّانية المتمايزة التي أوجدتها بريطانيا، وشملت العديد من «الرعايا» البريطانيين من الهندوستان المستعمرة. وظِّف هؤلاء العمّال في الغالب في المناصب الإدارية والتقنية في صناعة النفط، وتمتّعوا ببعض مزايا العمل والحماية. أمّا شعور المنافسة بين العمّال الآخرين فيعكس أيضاً الجغرافية السياسية للمنطقة، والقيود المفروضة على المشروع السياسي لحركة القوميين العرب في التصدّي لمسألة الطبقات في ذلك الوقت. على سبيل المثال، كانت حركة القوميين العرب في الكويت مناهضة بشدّة للشيوعية ومعادية لإيران بسبب تحالفها مع بريطانيا في المنطقة. لكن على الصعيد المحلّي، كان هدف الحركة هو عامل النفط الإيراني.

من المهمّ أيضاً قراءة المنشآت النفطية في الخليج باعتبارها مواقع للاندماج في الاقتصاد الرأسمالي العالمي، حيث ترتبط شبكات العمّال بالحركات السياسية الوطنية المناهضة للإمبرياليةازداد عدد سكّان الكويت مع توسّع صناعة النفط وتنفيذ الخطط التنموية للدولة الحديثة، وضمّت بين سكّانها عراقيين وفلسطينيين/أردنيين ولبنانيين وسوريين ومصريين وإيرانيين وهنود وباكستانيين (عُدّ الأخيرون رعايا مستعمرة الهند البريطانية). شكّل الفلسطينيون العدد الأكبر من المقيمين في الكويت في خلال تلك المرحلة، ويعود ذلك في المقام الأول إلى النكبة، ولكن أيضا بسبب الصلات الفلسطينية بقطاع التعليم في الكويت التي يرجع تاريخها إلى أواخر الثلاثينيات على الأقل. كشكل من أشكال التضامن مع الثورة الكبرى بين عامي 1936-1939، عمل القوميون الكويتيون ضدّ التوجيهات الاستعمارية البريطانية لتوظيف المعلّمين الفلسطينيين. وفي الستينيات، أصبحت الكويت مركزاً هاماً لنشوء الاتحاد العام للعمّال الفلسطينيين، الذي استوعب عشرة آلاف عامل، (العديد منهم كانوا في السابق جزءاً من الحركات السياسية الإقليمية الأخرى)، في قاعدة حركة التحرير الفلسطينية (فتح).

كانت العصبة الديمقراطية الكويتية، وهي حركة يسارية نشطة منذ العام 1954، الهيئة المركزية للنضال العمّالي المنظّم على أسس طبقية وسِرية. أيّدت الحركات العمّالية المناهضة للاستعمار في الكويت العروبة الأيديولوجية من خلال الجهود الرامية إلى توحيد العمّال العرب. وتصدّوا للتمييز بين العمّال العرب المواطنين وغير المواطنين، ودعوا إلى تطبيق سياسات العمل على جميع العمّال العرب. استمرّت هذه الجهود في مجلس الأمة بعد حصول الكويت على الاستقلال في العام 1961. وتناقش سجّلات السفارة البريطانية في الكويت في ستينيات القرن الماضي هذا الأمر بوصفه «خطر اندماج غير الكويتيين في النقابات»، ممّا يَشيِ بإحتمالية أن تمتد آثار الحركات العمّالية الخليجية المناهضة للاستعمار إلى خارج الخليج.

كانت فكرة «الأجنبي» كعامل غير عربي نتاجاً لحقائق متقاطعة في هذا الوقت: الإدارة العرقية الطائفية للقوى الاستعمارية البريطانية، والآثار الناجمة عن ممارسات بناء الدولة، والحركات القومية العربية ومشروع الوحدة الإقليمية. في الوقت نفسه، تكشَّف الفصل بين الطبقات العاملة العربية وغير العربية في الكويت بطرق جديدة كجزء من مشروع التحضّر لدولة الكويت في الخمسينيات، والذي أرسى الأساس المكاني للتمييز القانوني والسياسي اللاحق بين الكويتيين والمهاجرين. وأصبح هذا التمييز مكرساً تشريعياً في قانون العمل لعام 1959. كان العمّال العرب أو غير العرب من غير المواطنين يعملون بالفعل في ظروف هشّة وغير مستقرّة، وفي نهاية الخمسينيات رحّلت السلطات الكويتية أعداداً من العمّال إلى إيران والعراق، بعد أن اشتبهت في كونهم نشطاء شيوعيين.

في العام 1973 شهد العالم «حظر النفط العربي» ردّاً على حرب أكتوبر. ومن الجدير بالذكر أن الحكومة الكويتية - بين دول أخرى - هي التي بادرت إلى الحظر، وليس عمّال النفط كما حدث في عامي 1956 و1967). أدّى الحظر الذي قادته الدولة وخفض الإنتاج إلى انتقال مركز الثقل لصالح الطبقات الحاكمة في الدول المنتجة للنفط، وبيّن أهمّية النفط كسلعة عالمية. ونرى هنا ما وصفه آدم هنية بالتشكيل المكاني لـ «الخليج» أو دول مجلس التعاون الخليجي كمنطقةٍ تُشكلها اتجاهات تطوّر الاقتصاد العالمي وتنتجها على حدّ سواء. إنّ الاتفاقية مع شركة بريتيش بتروليوم في العام 1975، منحت الدولة الكويتية السيطرة الكاملة على موارد النفط وانتاجه. بعد ذلك بوقتٍ قصير، تمكّنت الدولة الكويتية من السيطرة الكاملة على جهاز الحكومة عندما حلَّ المجلس الوطني في العام 1976 (حتى العام 1981) وسط نزاعات مستمرّة على سياسات التوزيع النفطي والاقتصادي وكجزء من حملة قمعٍ أوسع نطاقاً.

إعادة إنتاج «الأجسام الغريبة» 

شهدت سبعينيات القرن الماضي تدمير الحركات القومية والعمّالية واليسارية في الكويت وأماكن أخرى في الخليج؛ وبالإضافة إلى الارتفاع الحادّ في عائدات النفط، شهدت هذه الفترة إعلان انتصار الدولة العمانية على ثورة ظفار في الخليج، واعتماد سياسات الانفتاح في المنطقة، واندلاع الحرب في لبنان، ونقل المركز المصرفي العالمي في المنطقة إلى البحرين، من بين تحوّلات جيوسياسية عالمية أخرى. مع مرور الوقت ونتيجة للسياسات الاقتصادية والفصل المنظّم للعمّال من خلال القانون، أصبحت غالبية الطبقة العاملة في الخليج من غير العرب ومن غير المواطنين. وجزئياً، كما يقول جون تشالكرافت «كان التحوّل إلى العمالة الآسيوية في سبعينيات القرن الماضي مثبّطاً التسريح، ليس لأنه اشتمل على الهجرة بحد ذاتها فحسب، وإنما لأن العمالة الآسيوية كانت خارجة عن إطارِ الهوية العربية والتعبئة… وهو مؤشر حاسم على  أهمية الأفكار والمنظمات والتحالفات التي مكّنت الاحتجاجات العمّالية من أن يكون لها أهمية سياسية أكبر».2 ويرتبط هذا التحول كذلك بتوسع القطاع الخاص والعلاقة بين المواطنة والطبقة، أو الحراك الطبقي. وبحلول العام 2020، تمثّل الأمر بتوظيف دولة الكويت 78% من القوى العاملة الكويتية في القطاع العام، فيما 95% من العمّال غير المواطنين يعملون في القطاع الخاص.

تناقش سجّلات السفارة البريطانية في الكويت في ستينيات القرن الماضي هذا الأمر بوصفه «خطر اندماج غير الكويتيين في النقابات»، ممّا يَشيِ بإحتمالية أن تمتد آثار الحركات العمّالية الخليجية المناهضة للاستعمار إلى خارج الخليجيكتب محمد زبيب أن وضع العمّال السوريين في لبنان «ليس ظرفياً، بل هيكلياً وتاريخياً، ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بنمط تطوّر الاقتصاد الوطني». فهل يمكننا أن نقول الشيء نفسه عن الكويت؟ أم أن علاقاتها الاقتصادية الحالية نتاج لما يسميه سمير أمين بتداعيات القومية البرجوازية والبرجوازية الصغيرة؟ أم، هل يعمل الخليج طبقاً لما وصفه مهدي عامل بـ «نمط الإنتاج الكولونيالي»، حيث يستمر الاعتماد البنيوي على القوة الاستعمارية حتى بعد الإلغاء الرسمي لسيطرة المستعمرين؟

إن القضية التي يجري التركيز عليها هنا هي الكويت، بيد أن هذه الأسئلة المتعلّقة بالطبقة الاجتماعية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اليوم، وكيف/ومتى ترتبط بالعرق وحالة المواطنة (الجندر والعمر والمكوّنات الاجتماعية الأخرى) تُمُتُّ بالصلة إلى أبعد من الكويت، وتعكس اتجاهاً أكبر نحو التهميش المتزايد للعامل، وإنبعاث الشعبوية اليمينية إقليمياً وعالمياً. مع مرور الوقت، تحوّلت حقوق العامل غير المواطن إلى حدّ كبير من الحركة النقابية العمّالية إلى مجال حقوق الإنسان، والمنظّمات غير الحكومية المعتمدة على المجتمع المدني والمتطوّعين. توفّر هذه المنظّمات في الكويت، لا سيّما أثناء تفشي كوفيد، أعمال الرعاية المنقذة للأرواح. في الوقت نفسه، تعمل هذه المنظّمات من موقف متناقض يؤكّد أن تأثيرها الأقصى قد يتلخّص في الإبقاء على أجساد العمّال من غير المواطنين على قيد الحياة، وبالكاد يجري إيواؤهم، لكي يتمكّنوا من الاستمرار في الكدح.

 يُقدِّم لنا تاريخ العمل الحديث فرصة للتأمّل في كيفية إعادة إنتاج «الأجسام الغريبة» بطرق مختلفة مع مرور الزمن في منطقتنا. وكما تذكرنا سارة أحمد، «يمكن للجسم الغريب أن يغدو مجرد شيئ مادي… من خلال النسيان الجذري لتاريخ العمل والإنتاج الذي يسمح لجسم مماثل بالظهور في الوقت الحاضر».3

  • 1 Jill Crystal, Oil and Politics in the Gulf: Rulers and Merchants in Kuwait and Qatar (Cambridge: Cambridge University Press: 1980), pp.63-77.
  • 2 John Chalcraft, “Migration and Popular Protest in the Arabian Peninsula and the Gulf in the 1950s and 1960s” in International Labor and Working-Class History No. 79, Spring 2011, pp. 42-44
  • 3Sara Ahmed, Strange Encounters Embodied Others in Post-Coloniality, pp. 53-4.