معاينة cars

«بي واي دي» العالمية: تبعات زلزاليّة على جغرافيا الاقتصاد الدولي

تُستخدَم الرسوم الجمركية عادةً في إحدى محطتين في مسار تنمية الاقتصاد الوطني: إما في مرحلة طفولة الصناعة حين تسعى الدولة إلى رعاية شركاتها الوطنية، أو مرحلة الشيخوخة المالية حين تأمل نخبة البلد درء الانحدار الوشيك. وتشكّل حرب ترامب التجارية بطريقتها الفوضوية مثالاً واضحاً على الحالة الثانية. لكن في ظل التراجع المتسارع للهيمنة الأميركيّة، يظهر في الأفق ترتيب جيواقتصادي وجيوسياسي بديل: عولمة بخصائص صينية تحركها البطاريات. وفي إعادة الترتيب هذه، تتأهب الصين لتكون الفاعل الرئيس وتقف خلفها التكنولوجيا الخضراء. وأبرز تجليات هذه الإعادة يتمثّل في التوسّع الدوليّ الهائل لصناعتها في ميدان المركبات الكهربائية.

غدت جودة المركبات الكهربائيّة الصينيّة (لشدّ ما سخر منها أمثال إيلون ماسك حتى عهد قريب) حقيقة لا جدال فيها. بل إنّ تفوّق الصين التكنولوجي آخذٌ في التحوّل سريعاً إلى هيمنة سوقيّة، حتّى باتت تهدّد بتجاوز سائر اللاعبين الكبار، لا في سوق المركبات الكهربائيّة فحسب، بل في صناعة السيارات برمّتها. ويحمل هذا التحوّل تبعات زلزاليّة على جغرافيا الاقتصاد الدولي.

1

نجد أبرز أمثلة على هذا التوسّع الدولي في شركة «بي واي دي» الرائدة. فبعد أن فاجأت المحلّلين بارتفاع مبيعاتها العالميّة في نهاية العام 2023، اندفعت «بي واي دي» متقدّمة على «تسلا» (صاحبة الصدارة المطلقة في سوق المركبات الكهربائيّة إلى عهدٍ قريب). ومع تراجع قيمة الأسهم والمبيعات لدى شركة ماسك العام الماضي، واصلت «بي واي دي» مسيرتها من نجاح إلى نجاح. فقد سجّلت في العام 2024 رقماً قياسياً ببيعها 4.3 ملايين مركبة، بزيادة بلغت 41%. وهي اليوم تتقدّم بأريحية على «تسلا» في الفئة العامّة للمركبات ذات الطاقة الجديدة التي تشمل كلاً من المركبات الكهربائيّة العاملة بالبطاريّات والمركبات الكهربائيّة الهجينة القابلة للشحن. وبحسب أحدث التقارير، باتت مبيعات «بي واي دي» من المركبات الكهربائيّة الخالصة تقترب كثيراً من مبيعات «تسلا»: إذ بلغت أرقام تسلا 1,790,000 مركبة، في مقابل 1,764,000 لمنافستها الصينيّة، أي بزيادة 12% عن العام السابق. ومع معدّلات نموّها السنوية التي تتجاوز 50%، والفرص الواسعة غير المستغلّة بعد في سوق المركبات الكهربائيّة، يبدو من المعقول توقّع أن تتخطّى «بي واي دي» شركة «تويوتا» وتغدو الشركة الأولى عالمياً في صناعة السيارات في العقد المقبل.

تتصرّف «بي واي دي» اليوم تصرّف شركة تطمح إلى الهيمنة العالمية في قطاعها. ففي حين كان قطاع السيارات والمركبات الكهربائيّة الصيني، حتى عهد قريب، ظاهرة محليّة معظم عملائه من السوق الداخلي، باتت شركات المركبات الكهربائيّة الصينيّة توسّع إنتاجها حول العالم بوتيرة وسعة غير مسبوقتين. فقد ظهرت مصانع السيارات الكهربائيّة الصينيّة (طاقة بعضها الإنتاجيّة أكثر من 200 ألف مركبة سنوياً) في إندونيسيا وتايلاند وباكستان وتركيا وهنغاريا والبرازيل، استجابة للطلب المتزايد على المركبات الكهربائيّة الصينيّة، المتميّزة إلى جانب جودتها العالية بكونها أرخص بنحو 20% من نظيراتها الغربيّة.

أحد العوامل الأساسية في توسّع «بي واي دي» هو سعيها إلى التخفيف من أخطار الرسوم الجمركيّة وسائر الحواجز التجاريّة في مناخ عالمي يزداد حمائيّة. فمن خلال تجميع مركباتها في مصانع خارج الصين، تأمل الشركات الصينيّة في الالتفاف على الرسوم المفروضة على الواردات التي قد تجعل منتجاتها غير قادرة على المنافسة. غير أنّ إنشاء مصانع في الخارج يظلّ عمليّة دقيقة محفوفةً بالحسابات المعقّدة؛ إذ لا ترتبط بمآلات السوق وحدها، بل تتشابك كذلك مع الرهانات الجيوسياسيّة والدبلوماسيّة. ومن تتبّع مسار التوسّع الدولي لشركة مثل «بي واي دي»، يمكن أن يستخلص المرء رؤى مهمّة عن استراتيجيّة الصين في علاقاتها الدوليّة.

من شينغن إلى العالم

يقع المقر الرسمي لشركة «بي واي دي» وقلبها الصناعي النابض في مدينة شينغن الشهيرة اليوم، في دلتا نهر اللؤلؤ، بمحاذاة هونغ كونغ وكانتون، وهي رقعةٌ مرشّحة لأن تغدو بالو ألتو جديدة للعالم. شُيّدت شينغن سنة 1979 فوق قرية صيّادين موحلة، واختارها دنغ شياو بينغ لتكون أول منطقة اقتصاديّة خاصّة في الصين، في إطار سياسات «الإصلاح والانفتاح». وما لبثت المدينة أن تحوّلت إلى مركز عالمي لصناعة الإلكترونيات الاستهلاكيّة، حيث أنشأت شركات التصنيع لغير مصانعها، مثل «فوكسكون» التي تنتج لحساب علامات عالميّة منها «آبل» و«سوني» و«دِل». وأقامت الشركات الصينيّة الكبرى، كـ«هواوي» و«شاومي» و«هايسنس» و«أوبّو»، مراكز تصنيعها في المنطقة الجديدة، إلى جانب شركات الإنترنت الصاعدة، كـ«تينسنت».

افتتحت «بي واي دي» أوّل مجمّع صناعي كبير لها في مقاطعة كويتشونغ بمدينة شينغن في العام 2000. ولم تكن آنذاك شركة سيارات، بل منتجاً لبطاريّات الإلكترونيّات الاستهلاكيّة لصالح «موتورولا» و«نوكيا». أسّس الشركة وانغ تشوانفو، العالِم ورائد الأعمال الحاصل على دكتوراه في كيمياء البطّاريّات، وتُقدّر ثروته اليوم بنحو 23 مليار دولار. وقد أتاح الاستحواذ على شركة «تيانجين تشينتشوان» لتصنيع السيارات (المملوكة في السابق للدولة) التحوّل اللافت لـ«بي واي دي» من شركة بطاريّات إلى شركة سيارات. وكان أوّل طراز تُنتجه هو «F3»، وهي سيّارة سيدان مدمجة تعمل بمحرك احتراق داخلي، صُنعت في مصنعها بمدينة تشانغشا في مقاطعة هونان، حيث كانت كُلفة اليد العاملة والأراضي أقلّ من شينغن، كما كانت سبل التوصيل إلى شمال البلاد أيسر وأرخص. أمّا شينغن، فقد ظلّت مركز الثقل الحقيقيّ لإنتاج المركبات الكهربائيّة، سواء في تصنيع البطاريّات أو في تجميع المركبات نفسها.

تملك «بي واي دي» اليوم 5 مصانع في مدينة شينغن، بعضها حول «شارع بي واي دي» في منطقة بينغشان. ويُجمّع في هذه المصانع أكثر من 500 ألف مركبة سنوياً من طرازات «تانغ» و«تشين» و«دولفين». وإلى جانب شينغن وتشانغشا، تمتلك الشركة مصانع كبرى في تشينتشو بمقاطعة غوانغشي (بقدرة إنتاجيّة تقارب 100 ألف مركبة سنوياً)، وفي فوشو بمقاطعة فوجيان (150 ألف مركبة)، وفي شنغهاي (ما لا يقلّ عن 150 ألف مركبة)، وفي تيانجين (200 ألف مركبة). وتنتج هذه المصانع مجتمعة معظم ما يُصنّع في الصين من المركبات الكهربائيّة، والبالغ نحو مليوني مركبة سنوياً.

ظلّت «بي واي دي» حتى أوائل العقد الثالث من الألفيّة تركز إنتاجها من المركبات الكهربائيّة على السوق الصينيّة أساساً، فيما انحصرت أنشطتها الخارجيّة في الحافلات والشاحنات، وهي المركبات الأشيع لعلامتها التجاريّة في كثير من بلدان العالم خارج الصين. وحتى العام 2024، كانت 87% من مبيعات مركبات الطاقة الجديدة التابعة لها تتم داخل الصين. ولا يُعزى نجاح «بي واي دي» إلى ضخامة السوق الصينيّة وحدها، بل أيضاً إلى استراتيجيّتها في تركيز جميع عملياتها الحيويّة داخل البلاد (من البحث والتطوير وتصنيع المكوّنات، بما فيها البطاريّات وأشباه الموصلات، إلى تجميع المركبات وإدارة سلاسل الإمداد). ومن خلال هذا التكامل الرأسي، نجحت الشركة في بناء اقتصاديات ضخمة الحجم مكّنتها من تعزيز تفوّقها التنافسيّ.

2

لقد أتاحَت السياسات الصناعيّة الموجّهة من الدولة - كتلك التي أُطلقت تحت مظلّة مبادرة «صنع في الصين 2025» - هذا القدر العالي من التنويع والتطوّر التقنيّ داخل الصين عبر آليّات الدعم الحكوميّ والاستثمار في البحث، وغيرهما من الحوافز الرامية إلى تسريع النمو التكنولوجي للبلاد. ويشكّل السوق الصيني، النابض بالحيوية والمتعطش إلى الابتكار، حيث نسبة مبيعات المركبات الكهربائيّة 50% من مبيعات المركبات الجديدة، منصّة انطلاق قويّة لشركات مثل «بي واي دي» و«شاومي» و«جيلي» الساعية إلى بسط نفوذها العالمي. وقد سجّلت مبيعات هذه الشركات الخارجيّة من مركبات الطاقة الجديدة نمواً مذهلاً بلغ 77% في العام 2023. غير أنّ هذا الحماس خفّ مع انخفاض معدّل النمو سنة 2024 إلى 6.7% مقارنة بالعام الذي سبقه. تبرز مخاوف من ركود محتمل في المبيعات مع حلول العام 2025. وإذا لم تحقّق هذه الشركات حصة معتبرة من المبيعات الخارجيّة، فإنّ خطر فقدانها لاستدامتها الاقتصاديّة يصبح ماثلاً.

السباق في ميدان المركبات الكهربائية في جنوب آسيا وجنوبها الشرقي

إلى جانب «طريق الحرير البري» ضمن مبادرة الحزام والطريق، الذي يخترق آسيا الوسطى، تعمل الصين أيضاً على تطوير ما يصفه المسؤولون الحكوميّون بـ«طريق الحرير البحري»، وهو مسار يربط موانئها (شنغهاي وفوشو وغوانغتشو وشينغن) بمرافئ وبنى تحتيّة لوجستيّة في شبه القارة الهندية. ومن هناك، تنفتح السبل نحو الشرق الأوسط والبحر المتوسّط، وصولاً إلى موانئ أوروبية مثل بيرايوس وترييستي وروتردام وهامبورغ.

لطالما اعتُبر هذا الممر الساحلي من العدّة الحيوية للقوة الجيوسياسية. أمّا للصين، فهو شريانٌ تجاريّ ازدادت أهميّته في أعقاب الحرب في أوكرانيا التي عطّلت كثيراً من طرق التجارة البريّة، وتسبّبت في تأخير بعض مشاريع «الحزام والطريق» أو تقليص نطاقها. ويمتدّ هذا المحور التجاري، الواصل بين مضيق ملقا وغرب المتوسّط، من إندونيسيا وتايلاند والهند وباكستان إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومنه إلى الاتحاد الأوروبي، وهي منطقة تضمّ زهاء نصف سكّان العالم، ويرجح أن تستحوذ قريباً على حصة وازنة من سوق المركبات الكهربائيّة. فلا عجب، إذن، أن يُبنى على امتداد هذا الممرّ عددٌ من أكبر مصانع المركبات الكهربائيّة الصينيّة في الوقت الراهن، لا سيما أنّه يضم بعض أهم الموانئ التي تديرها شركات صينيّة مثل «كوسكو».

3

توسّع «بي واي دي» حضورها على حدودها الجنوبيّة في كمبوديا، حيث تلاحق منافسيها من أمثال «فورد» و«هيونداي» و«تويوتا»، وكذلك في فيتنام، حيث تبني مصنعاً بقيمة 250 مليون دولار في منطقة «فو ها» الصناعيّة، يُتوقّع له أن ينتج 150 ألف مركبة سنوياً، مع إمكانيّة إنشاء مصنع ثانٍ لاستغلال انخفاض تكلفة اليد العاملة في البلاد. وفي تايلاند المجاورة، ثاني أكبر سوق للسيارات في جنوب شرق آسيا، تستثمر «بي واي دي» 500 مليون دولار في مصنع بمنطقة رايونغ ضمن «الممرّ الاقتصادي الشرقي»، بطاقة إنتاجية متوقعة تبلغ 150 ألف مركبة سنوياً. أمّا على الضفّة الأخرى من بحر جاوة، فقد استثمرت الشركة مليار دولار في مصنع جديد بمنطقة سوبانغ في جاوة الغربيّة، ومن المزمع أن يبدأ العمل فيه في العام 2026 بطاقة إنتاجيّة تبلغ 150 ألف مركبة سنوياً، لتلبية الطلب في السوق المحلية الضخمة التي تضم 285 مليون نسمة، ويُتوقّع أن يبلغ حجم مبيعات المركبات الكهربائيّة فيها مليوني وحدة سنوياً بحلول 2030. ولا تقتصر استثمارات «بي واي دي» وسائر شركات السيارات الصينيّة على مصانع التجميع، بل تمتدّ إلى سلاسل التوريد والخدمات اللوجستية. في الوقت نفسه، تضخّ الحكومة الصينية استثمارات في البنية التحتيّة الإقليميّة، وتعمل على تعزيز التعاون الاقتصادي، وترويج الدبلوماسية الثقافية. وتكشف هذه الأنشطة عن إدراك بكين العميق للأهمية الاستراتيجية لهذه المنطقة الواقعة على «الخاصرة الجنوبية» للصين، وتسعى إلى تحويلها إلى قاعدة موثوقة لـ«الصداقة التصنيعيّة» وشراكاتٍ طويلة الأمد.

أما الهند فقصّة مختلفة. فهي، وإنْ كانت اليوم مستورداً ضخماً للمنتجات الصينيّة، تعتزم بناء قدراتها التقنيّة الذاتيّة، بما يشمل صناعة المركبات الكهربائيّة. ولهذا الغرض، شرعت في تقييد الاستثمارات الصينيّة، ما انعكس على «بي واي دي» التي لا تملك حاليّاً سوى مصنعٍ واحدٍ في عموم البلاد، يقع في ولاية تاميل نادو، وينتج بالكاد 10 آلاف مركبة سنوياً. وبمواجهة هذا النفور الهنديّ من النفوذ الصينيّ، وجّهت «بي واي دي» وشقيقاتها أنظارها إلى باكستان التي فتحت أبوابها بحماسة للاستثمارات الصينيّة في مجال المركبات الكهربائيّة، ساعيةً إلى التحوّل إلى مركز عالمي لتصدير هذه المركبات. وتخطّط «بي واي دي» لإنشاء مصنعٍ في كراتشي بالتعاون مع شركة «ميغا موتورز» الباكستانيّة. وقد بدأ العمل على تشييد المصنع، ومن المزمع افتتاحه في 2026، مع طاقة إنتاجيّة أولية تبلغ 50 ألف مركبة سنويّاً مخصّصة للسوق الباكستانية التي يُتوقّع أن تبلغ نسبة مبيعات المركبات الكهربائيّة فيها 50% بحلول العام 2030، مع احتماليّة توسعة الطاقة الإنتاجيّة لاحقاً. وتسوّق الشركة حاليّاً في باكستان 3 طرازات: «آتو 3» و«سيل» و«سيليون». وإلى جانب ذلك، عقدت شراكة مع شركة «هبكو»، أكبر مرفق كهربائيّ خاصّ في البلاد، لبناء شبكة من محطّات الشحن السريع. وهذه الخطوات تشهد على رؤية «بي واي دي» الطويلة الأمد والبنيويّة، رؤية تختلف جذريّاً عن نظرة منافسيها الغربيّين، شركات وحكومات، الذين كثيراً ما يقيّدهم التفكير قصير الأجل، ويكلفهم ذلك كثيراً.

الهجوم الصناعي والناعم على أوروبا

لئنْ كانت شركات المركبات الكهربائية الصينية توجّه أنظارها إلى أسواق جنوب شرق آسيا وجنوبها النامية، فإنّ الأسواق الأوروبيّة الغنيّة بالسيّارات تظلّ الجائزة الكبرى. فأوروبا، أي دول الاتّحاد الأوروبي وبريطانيا، ثالث أكبر سوق للسيّارات في العالم، وثاني أكبر سوق للمركبات الكهربائيّة بعد الصين، بتسجيلها 1.5 مليون مركبة في العام 2024 (بتراجع طفيف عن العام السابق، يرجع في أحد أسبابه إلى انتهاء الدعم الحكومي الألماني). تسعى الصين إلى زيادة مبيعاتها في أوروبا، كما ترغب في تمتين علاقاتها بهذه المنطقة التي تنظر إليها كشريكٍ محتمل في بناء نظام عالميّ متعدّد الأقطاب. غير أنّ الرسوم الجمركيّة التي يفرضها الاتّحاد الأوروبي على المركبات الكهربائيّة الصينيّة تُصَعِّب هذا المسعى.

في أواخر العام 2023، رفع الاتّحاد الأوروبي الرسوم الجمركيّة على المركبات الكهربائيّة الصينيّة. وقد فرضت على «بي واي دي» تعريفة بنسبة 17%، تضاف إلى رسم الاستيراد القياسيّ البالغ 10%، فيما واجهت شركات صينيّة أخرى رسوماً أعلى: 18.8% على «جيلي» و35% على «سايك»، نتيجة لما عدته بروكسل دعماً حكوميّاً غير عادل. ولعلّ من النتائج غير المقصودة لهذه السياسات الحمائيّة أنّها حفّزت الشركات الصينيّة بقوّة على إنشاء مصانع داخل أوروبا، سعياً إلى الالتفاف على هذه الرسوم. ومن الحيل الشائعة عند شركات السيارات شحن مجموعات قطع (Knock-down Kits) إلى بلدٍ معيّن ليُصار إلى تجميعها وبيعها محلّياً؛ إذ تُصنَّف هذه المجموعات تحت بند مكوّنات، وتُفرض عليها عادةً رسوم أقلّ من تلك المفروضة على السلع الجاهزة. كما أنّ شحن المركبة مفكّكةً أسهل من حيث سلاسل الإمداد. غير أنّ السلطات المحلّيّة قد تصنف هذا التفافاً على التشريعات، وتطالب بأن يحمل المنتج قيمةً مضافةً ومكوّناً محلّيّاً حقيقيّاً ليُعدّ منتجاً محليّاً. وردّاً على هذه الإشكالات، طوّرت «بي واي دي» وسائر شركات المركبات الكهربائيّة الصينيّة استراتيجيّة تقوم على الانخراط والاستثمار الطويل الأمد، عبر إنشاء مراكز للبحث والتطوير في القارّة، وعقد شراكات دائمة مع المورّدين. وإلى جانب ذلك، تلعب «بي واي دي» ورقة القوّة الناعمة، من خلال رعاية الفعاليّات، وحملات إعلاميّة تهدف إلى استمالة الرأي العامّ الأوروبيّ.

حتى الآن، يُعدّ استثمار «بي واي دي» الأبرز في أوروبا ذاك الذي تقيمه في هنغاريا، البلد المعروف بسلسلة توريده الصناعيّة المتينة في قطاع السيارات، وبعلاقاته الوثيقة مع الصين. إذ تستحوذ هنغاريا وحدها على 44% من مجمل الاستثمارات الصينيّة المباشرة في الاتحاد الأوروبي، وتوشك «بي واي دي» على إتمام بناء مصنعها الضخم في مدينة سيغيد، قرب الحدود مع صربيا ورومانيا. وتُقدَّر قيمة الاستثمار بمليار دولار، ويُنتظر أن ينتج (لا أن يُجمّع فحسب) ما بين 150 ألفاً و200 ألف مركبة سنويّاً، على أن يبدأ الإنتاج في منتصف هذا العام. ولضمان سلاسل القيمة المحليّة، عقدت «بي واي دي» شراكة مع شركة «فورفيا» الفرنسيّة، سابع أكبر مورّد لتكنولوجيا السيارات في العالم، لتزويد مصنع سيغيد بالمكوّنات. غير أنّ المصنع بات اليوم موضع تحقيق من الاتحاد الأوروبي حول دعم حكومي غير عادل، ما قد يضطر الشركة إلى خفض طاقتها الإنتاجيّة أو بيع بعض أصولها.

في ظل التراجع المتسارع للهيمنة الأميركيّة، يظهر في الأفق ترتيب جيواقتصادي وجيوسياسي بديل: عولمة بخصائص صينية تحركها البطاريات

وإن كانت هذه التحقيقات تكشف عن قدرٍ من الهشاشة، فإنّها لا تحدّ من خطط «بي واي دي» الطموحة في التوسّع. فقد شرعت الشركة فعلاً في بناء مصنعٍ ثانٍ لتعزيز قدرتها الإنتاجيّة في أوروبا؛ ومن المرتقب افتتاح منشأة جديدة في مدينة مانيسا قرب إزمير بحلول منتصف العام 2026، بطاقة إنتاجيّة سنويّة تبلغ 150 ألف مركبة. وتبرز هنا أهميّة موقع تركيا على تخوم أوروبا؛ فعلى الرغم من أنّها ليست عضواً في السوق الموحّدة للاتحاد الأوروبي، فإنّها تنتمي إلى منطقته الجمركيّة، ما يعني أن المركبات المُجمّعة في تركيا تُعفى من الرسوم الجمركيّة الباهظة. كما تجعل «الشراكة الاستراتيجيّة» التي تجمع بين أنقرة وبكين (وأبرز مظاهرها انضمام تركيا مؤخّراً إلى مبادرة الحزام والطريق) من تركيا خياراً طبيعيّاً لتوسّع «بي واي دي» الأوروبيّ.

ثمّة مصنعٌ ثالث في أوروبا لا يزال موضع نقاش وتجاذب. وقد راجت شائعات عن احتمال إقامته في إيطاليا، نظراً إلى سعي حكومتها إلى تنويع المُصنِّعين تعويضاً عن التراجع في إنتاج شركة «ستيلانتيس» (الشركة الأمّ لـ«فيات»). غير أنّ اللقاءات الأوليّة مع «بي واي دي» لم تثمر عن نتائج تُذكر، وإنْ أشارت تقارير أخرى إلى اهتمام شركة «شيري» الصينيّة بالاستثمار في إيطاليا. وتشير تقارير أحدث إلى أنّ ألمانيا قد تكون الموقع المرجّح للمصنع الثالث، إذ إنّ مصانع «فولكسفاغن» وغيرها من المصانع الألمانيّة المقرَّر إغلاقها قد ترى فيها الشركات الصينيّة فرصاً استثماريّة مثاليّة. فالوصول إلى البنية التحتيّة الإنتاجيّة الألمانيّة، فضلاً عن الموقع المحوريّ في قلب السوق الأوروبيّة، سيكون مكسباً كبيراً لأيّ شركة صينيّة تطمح إلى التوسّع في القارّة.

لا تسعى «بي واي دي» إلى بناء مصنعَين في أوروبا فحسب، بل تطمح إلى ترسيخ موقعها كشريكٍ أوروبيّ ودود. وقد أكّد مسؤولو الشركة مراراً أنّ «بي واي دي» تريد أن «تصير أوروبيّة»، أي أن تستثمر في إنتاجٍ متكامل لا يقتصر على التجميع، وأن تؤسّس مراكز للبحث والتطوير، كذاك المزمع إنشاؤه في بريطانيا، وأن تنسج سلاسل توريد محليّة متينة في القارّة. ويشهد على هذا التوجّه اللقاء الذي جرى في وقتٍ سابق من هذا العام بين ممثّلي الشركة ونحو 300 من مصنّعي مكوّنات السيّارات في مدينة تورينو الإيطاليّة، في دليل على حرص «بي واي دي» على الانخراط مع الفاعلين الاقتصاديّين المحليّين وتقديم نفسها بوصفها شريكاً موثوقاً يستثمر على المدى الطويل.

الجبهة الأخيرة: أفريقيا وأميركا اللاتينية

قد لا تكون أفريقيا وأميركا اللاتينيّة في صميم أولويّات توسّع «بي واي دي»، إلا أنّهما تظلان منطقتين واعدتين للنموّ تستحقّان الاستهداف. فاستثمارات الصين في آسيا وأميركا اللاتينيّة آخذةٌ في التنامي، لا سيّما في الموانئ والبُنى التحتيّة اللوجستيّة والصناعات الاستخراجيّة. وتوفّر موجة المركبات الكهربائيّة فرصةً للصين للبناء على ما رسّخته من علاقات اقتصاديّة ودبلوماسيّة في هذه المناطق، ولإرساء حضور صناعيّ ولوجستيّ واسع النطاق، ما قد يخلّف تبعات جيوسياسيّة كبرى، إذ يسهم في جذب هذه المناطق أكثر فأكثر إلى الفلك الصينيّ، ويزيد ابتعادها عن واشنطن.

لا تزال الخطط في مراحلها الأولى. فحتى الآن، المصنع الكبير الوحيد الذي تدرسه «بي واي دي» في أفريقيا يقع في جنوب أفريقيا، وما زال قيد التفاوض. وقد أجرت الشركة أيضاً محادثات أولية بشأن إنشاء مصانع في كلٍّ من مصر والمغرب. غير أنّ إدخال المركبات الكهربائيّة إلى القارّة يواجه عقبات عدّة، أبرزها محدوديّة بنية الشحن والصيانة، وغياب الأطر التنظيميّة الداعمة، وشحّ الحوافز الحكوميّة المخصّصة لهذا النوع من المركبات. لكن تشهد الأمور تحوّلاً تدريجيّاً؛ إذ بدأت الطبقات الوسطى في بلدان مثل رواندا ونيجيريا تُبدي إقبالاً على المركبات الكهربائيّة، فيما أقدمت إثيوبيا على حظر استيراد السيّارات العاملة بالوقود. ومن المتوقّع أن تُفتتح مصانع جديدة للسيّارات في القارّة في خلال العقد المقبل.

أحد العوامل الأساسية في توسّع «بي واي دي» هو سعيها إلى التخفيف من أخطار الرسوم الجمركيّة وسائر الحواجز التجاريّة في مناخ عالمي يزداد حمائيّة

تبدو خطط «بي واي دي» أكثر تقدّماً في القارّات الأميركيّة. فبعد أن قرّرت تجنّب السوقَين الأميركيّة والكنديّة، حيث فرض بايدن وترودو رسوماً جمركيّة بنسبة 100%، بدأت «بي واي دي» وسائر شركات المركبات الكهربائيّة الصينيّة ترسّخ موطئ قدمٍ في أميركا الوسطى والجنوبية. ففي البرازيل، استحوذت «بي واي دي» على مصنعٍ سابقٍ لشركة «فورد» في مدينة كاماساري بولاية باهيا، واستثمرت مليار دولار لتحويله إلى منشأة متقدّمة لصناعة المركبات الكهربائيّة، إلا أنّ أعمال البناء توقّفت بعد الكشف عن ظروفٍ شبيهة بالعبوديّة عاش فيها 163 عاملاً صينيّاً داخل الموقع. وتُنشئ شركتا «غريت وول موتورز» و«شيري» أيضاً مصانع في البرازيل، أحد مراكز إنتاج وتوزيع السيّارات في أميركا الجنوبيّة. كذلك، تجري «بي واي دي» حاليّاً مفاوضات بشأن مصنع جديد في المكسيك، في خطوةٍ لم يكن مستغرباً أن تثير قلق النخب الأميركيّة التي بدأت تحذّر من أنّ المكسيك قد تصبح ضحيّة لتفوّق الصين التكنولوجيّ.

قد تتمكّن الشركات الصينيّة المصنّعة للمركبات والمعتزمة التصدير إلى الولايات المتّحدة، بإنشائها مصانع في المكسيك، من الالتفاف على الرسوم العقابيّة المفروضة على البضائع الصينيّة، والاستفادة بدلاً منها من التعرفة الأدنى البالغة 25% والمطبَّقة على السيّارات المكسيكيّة، بما يعزّز قدرتها التنافسيّة. لكنّ المخاطرة تكمن في أن يسفر وجود مصنع على مقربة من الحدود الأميركيّة عن تسرّب تكنولوجيّ إلى الخصم الاستراتيجيّ الأكبر للصين. وتُعدّ هذه المخاطرة بالغة الجديّة إلى حدّ أنّ بعض شركات المركبات الكهربائيّة الصينيّة باتت، وفق تقارير، تدرس تأجيل استثماراتها في أميركا اللاتينيّة، في تذكيرٍ بأنّ قطاع السيّارات، في هذه المنطقة كما في سواها، أضحى ساحة رئيسة في معركة الشدّ الجيوسياسيّ بين القوى العظمى في العالم.

عولمة بخصائص صينية تحركها البطاريات

تخوض «بي واي دي» وشقيقاتها واحدةً من أكبر موجات التوسّع الدوليّ في تاريخ صناعة السيارات. وإنْ قُدّر للصين أن تزيح الولايات المتّحدة عن قيادة العولمة، فالغالب أنّها ستفعل ذلك بالانسجام مع توجّهات الدولة الصينيّة. فالصين، بخلاف واشنطن في السنوات الأخيرة، تبدو أحرص على مسائل النظام والاستقرار البعيد المدى. تنتشر مصانع «بي واي دي» الكبرى في بلدان مثل باكستان وإندونيسيا وتركيا والبرازيل، وجميعها منخرطةٌ في مبادرة الحزام والطريق أو في مجموعة «بريكس». وتحت المظلّة الصينيّة، تسير الشراكات الاقتصاديّة جنباً إلى جنب مع الشراكات بين الدول، على الرغم من التباينات الأيديولوجيّة الكبرى.

تسعى الصين إلى زيادة مبيعاتها في أوروبا، كما ترغب في تمتين علاقاتها بهذه المنطقة التي تنظر إليها كشريكٍ محتمل في بناء نظام عالميّ متعدّد الأقطاب

يقود هذا النمطَ من العولمة استرجاعٌ لمبدأ «التكامل الرأسيّ»، في مواجهة نظام «الإنتاج المرن» الذي ساد أواخر القرن العشرين. ويُولى فيه اهتمامٌ أكبر بالاستقرار الطويل الأمد وببناء التوافق في البلدان المنخرطة فيه. وتُسهم ممارسات «التوطين» التي تعتمدها شركات مثل «بي واي دي» في تقديمها بوصفها فاعلاً ودوداً يركّز على خلق فرص العمل ودفع عجلة التحوّل الأخضر.

غير أنّ الواقع، بطبيعة الحال، أعقد. فالتقارير الواردة عن أوضاع العمّال في مصنع كاماساري بالبرازيل تكشف عن ممارساتٍ استغلاليّة تهدف إلى التحايل على نفوذ النقابات في العمليّة الإنتاجيّة. وعلى الرغم مما تحقّقه الصين من تقدّمٍ تقنيّ مبهر في عدّة مجالات، لا يزال قادة شركاتها، ومعهم الساسة، يتوجّسون من تصاعد الردود الحمائيّة وسط احتدام الحرب التجاريّة العالميّة، ومن مخاطر «النقل العكسيّ للتكنولوجيا» من دولٍ كالهند والمكسيك. أمّا البلدان التي تستقبل الاستثمارات الصينيّة، فيمكنها أن تستخلص من هذه المخاوف درساً ثميناً مفاده أنّ أفضل السبل لتحويل الاستثمار الأجنبيّ إلى أداةٍ للسيادة، لا إلى سببٍ للارتهان، هو فرض الشراكة مع شركاتٍ محلّيّة على كلّ من يرغب في دخول السوق.

    علاء بريك هنيدي

    مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.