الدولة اللبنانية راعية السرطان
سجّل لبنان أكثر من 33.5 ألف إصابة بالسرطان بين عامي 2017 و2022، نحو 40% منهم، أي 13,000 حالة، كانت حالات جديدة تم تشخيصها في العام 2022 وحده، فيما بلغ عدد الوفيات نحو 7,307 في العام نفسه. وبناءً على هذه التقديرات الصادرة عن الوكالة المعنية ببحوث السرطان التابعة لمنظّمة الصحة العالمية، يتبيّن أن من بين كلّ 200 شخص مُقيم في لبنان ثمة شخص مُصاب بالسرطان في الأقل، ومن بين كلّ 400 شخص يموت واحد منهم بالسرطان.
قد تبدو هذه الأرقام صادمة، ولكن لها مقدمات من سنوات سابقة، اذ سجّل لبنان في العام 2018 نحو 17,000 إصابة جديدة بالسرطان ونحو 9,000 وفاة، ما جعله يحتل المرتبة الأولى بين دول غرب آسيا في عدد الإصابات قياساً لعدد السكان، والمرتبة الثالثة في تصنيف الوفيات قياساً لعدد السكان.
مع ذلك تبقى هذه الأرقام خطيرة للغاية، ولها وقع صادم على الكثير من المُقيمين والمقيمات العاجزين عن الوصول إلى الدواء، بسبب تدهور مداخليهم، وانكفاء الدولة عن أي دور رعائي لتأمين حياة المقيمين، وفي ظل التقديرات المنتشرة عن تضاعف عدد الإصابات بالسرطان وارتفاع مخاطر الإصابة به كنتيجة مباشرة لارتفاع تلوّث الهواء الناجم عن انتشار المولّدات الكهربائية بعد تفاقم أزمة الكهرباء، فضلاً عن تردّي شروط السلامة العامّة والنظافة بسبب التقشّف في الإنفاق العام على البيئة ومعالجة النفايات والصحّة، وكلّ ما له علاقة بالشؤون الاجتماعية والتنمية البشرية للمقيمين في لبنان.
يُعدُّ تلوّث الهواء من أبرز العوامل المُساهمة في ارتفاع الإصابات بالسرطان في لبنان، ولا سيّما سرطان الرئة الذي يستحوذ على 12% من مجمل الحالات (ويحل ثانياً بعد سرطان الثدي)، كما يشكّل السبب الأول للوفيات بهذا المرض بنسبة 19.3%.
تقول نجاة صليبا، المديرة التنفيذية للأكاديمية البيئية في الجامعة الأميركية والمشرفة على دراسة أعدتها الجامعة الأميركية في بيروت (لم تنشر بعد)، إن تلوّث الهواء في بيروت الناتج من انتشار المولدات الكهربائية الخاصّة تضاعف من 23% إلى ما بين 46% و50% بين عامي 2017 و2023. تستند الدراسة في منهجيّتها إلى دراسة مقارنة بين عامي 2013 و2023 لنوعية الهواء في مدينة بيروت في ثلاث مناطق رئيسة هي وسط بيروت ومحيط الجامعة الأميركية والمقاصد في طريق الجديدة.
منذ اندلاع الأزمة الاقتصاديّة في لبنان في العام 2019، وانخفاض الإنتاج من مؤسسة كهرباء لبنان إلى بضع ساعات في اليوم، ارتفع الاعتماد على المولّدات الخاصّة العاملة على المازوت كمصدر أساسي وشبه وحيد لتأمين الكهرباء. وبحسب أرقام الجمارك اللبنانية، استورد لبنان بين عامي 2019 و2023 مولدات كهربائية بقيمة 83 مليون دولار أميركي، وقد ارتفعت قيمة استيراد المولدات من 8 ملايين دولار في العام 2020 إلى 21 مليون في العام 2023.
اللافت أنّ استيراد المولّدات التي لا تزيد قدرتها عن 75KVA ارتفع بشكلٍ كبير، من 6,772 مولداً إلى 14,548 مولداً بين عامي 2019 و2023. علماً أن الذروة سُجّلت في العام 2022، الذي شهد تحرير أسعار الطاقة وزيادة التقنين، وقد استورد لبنان في حينها نحو 18,411 مولداً بهذا الحجم. وبلغ العدد الإجمالي للمولّدات الصغيرة المستوردة نحو 59,906 مولداً بين عامي 2019 و2023، وهو دليل على اعتماد المستهلكين على المولدات الصغيرة لقضاء حاجاتهم بعيداً من تقنين كهرباء لبنان ومولّدات الأحياء.
ثمة مسار مُقلق لجهة ارتفاع حالات الإصابات في السرطان، لا في لبنان فقط بل في العالم أيضاً. ووفق تقديرات مُنظّمة الصحة العالمية، سُجّل في العام 2022 نحو 20 مليون حالة سرطان جديدة ونحو 9.7 مليون وفاة، ومن المتوقع تسجيل أكثر من 35 مليون حالة سرطان جديدة في العام 2050، أي بزيادة قدرها 77% عن العام 2022. تعكس معدلات الإصابة بالسرطان تعرّض الناس لعوامل خطر يرتبط العديد منها بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وبحسب منظّمة الصحة العالمية يمثّل تلوّث الهواء يمثّل عاملاً رئيسياً مؤثراً من عوامل الخطر البيئية.
من هنا، يتبيّن أن السعي الى السيطرة على ارتفاع معدّلات السرطان في لبنان مرتبط بالدرجة الأولى بمعالجة مصادر التلوّث والاستثمار في تحسينها وتقليل عوامل الخطر فضلاً عن الاستثمار في الصحة. يتذرّع صناع القرار في لبنان بالأزمة الاقتصادية لتفريغ الدولة من أي دور رعائي مطلوب منها، بما فيه حماية حياة الناس وحماية بيئتهم وتأمين متطلبات العيش بصحة وسلامة وكرامة. إن التقاعس تجاه الناس يعني أن التكلفة الاقتصادية المترتبة عن ارتفاع معدلات السرطان لن تكون بسيطة أبداً، ناهيك عن التكلفة البشرية الباهظة التي تحصد أرواح الآلاف سنوياً، حيث أن 75% من الوفيات بالسرطان تحصل في بلدان منخفضة أو متوسطة الدخل.
توقّفت وزارة الصحة اللبنانية عن تحديث ونشر بياناتها عن معدّلات السرطان في لبنان منذ العام 2016. ولكن تُشير مصادر من الوزارة إلي رصد نحو 19 مليون دولار في العام 2022 لاستيراد الأدوية المخصّصة لمرضى السرطان، وهو ما يشكّل معدّل 560 دولاراً للمريض الواحد (إذا افترضنا أن العدد هو نفسه الذي ترصده منظمة الصحة العالمية)، في حين تبيّن دراسة عن الأعباء المالية لعلاج السرطان في لبنان صادرة في العام 2016 أن معدّل كلفة علاج حالة واحدة من سرطان الرئة السنوية بلغت نحو 5,260 دولاراً. وهو ما يتجاوز 9 أضعاف ما تقدّمه وزارة الصحّة حالياً، ويتجاوز مرّتين الحد الأدنى للأجر السنوي الحالي في لبنان. علماً أن كلفة علاج السرطان في المجمل بلغت في حينها 6,690 دولاراً لكلّ حالة سنوياً. هذه التفاوت الكبير بين كلفة العلاج المفترضة وبين ما تقدّمه وزارة الصّحة وما يسمح دخل الفرد بتوفيره تعبّر عن فظاعة ما يعانيه مرضى السرطان في لبنان.
مع ذلك، تتخطّى الأعباء الاقتصادية المترتبة عن تزايد أعداد مرضى السرطان مسألة الفاتورة الدوائية وحتى الإستشفائية، ولو أنها تبقى الأهم والأكثر أساسية. عملياً يأخذ السرطان بعداً اقتصادياً أوسع يشمل تزايد الفقر وخسارة مصادر الدخل وتراجع الإنتاجية. والخطير في واقع السرطان في لبنان يتجلّى بارتفاع حالات إصابة فئة الشباب واليافعين ممن يشكِّلون جزءاً مهمّاً من القوى العاملة في الاقتصاد وفق شهادات الكثير من أطباء السرطان. من المعروف أن احتمالات الإصابة بالسرطان ترتفع مع التقدّم بالعمر، أمّا بالنسبة للبنان فتشير تقديرات منظّمة الصحّة العالمية إن نسبة خطر تطوّر السرطان قبل سن الـ75 عاماً بلغت 17.3% في العام 2022. وعلى الرغم من أن هذه النسبة لا تزال أقل من المعدل العالمي (20%) إلا أن نسبة خطر الموت بالسرطان قبل سن الـ75 عاماً تبلغ نحو 9.7% متجاوزة المعدّل العالمي (9.6%)، وهو إن دلّ فعلى مدى قدرة مجابهة هذا المرض والتصدّي له، والتي تتراجع تدريجياً بسبب ارتفاع كلفة العلاج وتدهور قيمة الأجور في ظل غياب شبه تام للسياسات العامة وانهيار التغطية الصحّية للضمان الاجتماعي.
في دراسة أعدت العام الماضي تناولت تكلفة السرطان بالنسبة لمعظم دول العالم، قُدّرت التكلفة الاقتصادية العالمية بين عامي 2020 إلى 2050 بنحو 25.2 تريليون دولار، أي ما يُعادل ضريبة سنوية قدرها 0.55% على الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
يقول معدو الدراسة إن السرطان يفرض خسائر ملحوظة على الاقتصاد من خلال انخفاض الإنتاجية وزيادة البطالة وخسائر العمالة وتخفيضات استثمار رأس المال، مُشيرين إلى أن «الاستثمار في فحص السرطان وتشخيصه وعلاجه يمكن أن يحقّق فوائد صحية واقتصادية كبيرة خصوصاً في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل التي لديها مستويات أقل من البقاء على قيد الحياة بسبب السرطان مقارنة بالدول ذات الدخل المرتفع». مثلاً، في العام 2018 قُدّرت التكلفة الإجمالية للسرطان في أوروبا بنحو 294 مليار دولار أميركي، 103 مليار منها كلفة خسائر الإنتاجية، و39 مليار دولار من تكاليف الرعاية غير الرسمية، فيما شمل المبلغ المتبقي (152 مليار) التكاليف المُباشرة الناتجة عن النفقات الصحية المرتبطة بالسرطان.
إلى ذلك، تقول دراسة نشرتها المكتبة الوطنية للطب في الولايات المتحدة إن تأثير تشخيص السرطان واسع النطاق ويلقي آثاراً على الدخل والتوظيف وخط الفقر، مُشيرةً إلى أن مرضى السرطان غالباً لا يتمكّنون من الحفاظ على عمل بدوام كامل ويضطرون إما إلى تقليل ساعات العمل أو التوقف عن العمل في بعض الحالات. مثلاً، أظهرت الدراسة أن مرضى السرطان أبلغوا عن خسارة نحو 21% من متوسط دخلهم خلال عام واحد من التشخيص، فيما تبين أن 57.8% من المرضى أفادوا أنهم لم يكونوا في العمل بعد عام من التشخيص. طبعاً كلّ ذلك غير منظور في لبنان، وقلّما يحظى باهتمام.
أثناء شرحها لنتائج الدراسة، تقول صليبا إن الإصابات الجديدة بالسرطان قد تكون أكثر ضمن الفئات العمرية الشابة، فيما نقلت العديد من المواقع المحلية ملاحظات أطباء السرطان في لبنان لارتفاع نسبة المُصابين «غير المُسنين». وبذلك لا يكون العبء الاقتصادي المترتب عن ارتفاع عدد المصابين بالسرطان في لبنان مقتصر على كلفة الادوية والاستشفاء فحسب، بل يشمل تزايد مخاطر الفقر والبطالة وخسارة الانتاجية عبر خسارة اليد العاملة.