Preview الأسر الأكثر فقراً

برامج البنك الدولي لدعم الأُسر الأكثر فقراً
علمويّة من دون عِلم

لا يزال الناس يعانون من تداعيات جائحة كوفيد-19 على الاقتصادات العالمية، وما سبقته من سياسات التيسير الكمّي منذ الأزمة العالمية المالية لعام 2007-2008. تتردّى الأوضاع المعيشية لغالبية سكّان الأرض، وتتضاعف معدّلات اللامساواة في توزيع الدخل والثروة، إذ أن الـ10% الأغنى يستحوذون على 52% من مجمل الدخل العالمي، في حين أن ثلثي سكان الأرض يعيشون يوماً بيومٍ ويتعرّضون لمخاطر كبيرة في حال فقدان الدخل. تضمحل واردات الدول وتتفكّك شبكاتها للرعاية الاجتماعية نتيجة اعتماد سياسات تقشفيّة منذ عقود. في مواجهة كلّ ذلك، لجأ البنك الدولي إلى الترويج لنظام مساعدات نقدية يستهدف الشرائح الأكثر فقراً. يؤكِّد البنك الدولي مراراً على جودة وعلمية هذه الأنظمة، ولكن يكفي لأي فرد أن ينظر حوله ليستنتج أن ليس لبرامج الدعم هذه أي تأثير إيجابي على مؤشّرات الفقر. فما هي هذه البرامج وكيف سُخِّر العِلم ليرخي غطاءً على الأيديولوجيا السائدة؟

خطيئة الاستهداف

ترتكز برامج الدعم المالي برعاية البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على مشروطية أساسية، وهي استهداف الشرائح الأكثر فقراً. قد يبدو هذا الشرط نبيلاً، فلا بدّ من تخصيص الدعم لمن هم في أمسّ الحاجة إليه. ولكن من هنا تنطلق المشكلة. ينبع الحرص على استهداف الشرائح الأكثر فقراً من منطلق ترشيد الإنفاق، فتخصيص برنامج لفئة معيّنة أقل كلفة، مالياً وسياسياً، من إنشاء برامج حماية اجتماعية شاملة ومعمّمة، مثل التغطية الصحية الشاملة وصندوق التقاعد والأمومة وغيرها، تُثبّت حقّ الناس في الوصول إلى خدمات الرعاية الاجتماعية مهما اختلفت مداخيلهم وهويّاتهم وجنسيّاتهم. وغالباً ما تترافق برامج التكيّف الهيكلي لصندوق النقد الدولي، التي تفرض تدمير شبكات الرعاية الاجتماعية الشاملة، مع مُخطّطات لدعم الأسر الأكثر فقراً لتحسين الصورة الإعلامية لبرنامج الصندوق من دون تخفيف وطأته على المجتمعات. من هنا، ينطلق استهداف الفقراء من مبدأ إنفاق أقلّ مبلغ ممكن على أصغر شريحة مُمكنة لأقل وقتٍ ممكن. لذلك، يُعرف أن برامج التحويلات المالية هي الأقل كلفة من ناحية التخطيط والتنفيذ ويفضِّلها البنك الدولي على غيرها، وإن كانت فعاليتها شبه مُعدومة.

وضع خطّ فقر واعتبار كلّ من تحته فقير وكلّ من فوقه ميسور هو عمل تعسّفي بحت، قد يصلح في الأدبيّات العلمية كتمرين فكري، لكن تصبح نتائجه الإقصائية كارثية عندما يُنقل إلى صياغة السياسات العامّة

خطيئة التعريف

ينبثق عن خطيئة الاستهداف الأصلية خطيئة أخرى أكثر تعقيداً وهي تعريف الشريحة «الأكثر فقراً». تعتمد برامج الدعم المالي في تكوينها الضمني على فرضية تعسّفية تناقض كلّ ما يرد في الأدبيّات العلمية عن الفقر. فهي تعتبر أن الفقر حالة أحادية الأبعاد وذات طابع ثابت غير قابل للتحوّل، فيما نعلم أن هناك أبعاداً عديدة للفقر، أي أن الإنسان قد يعاني من صعوبة في الوصول إلى المسكن، أو الغذاء، أو التعليم، أو الصحة، أو مزيجاً من هذه الصعوبات التي تتداخل وتتفاعل مع بعضها البعض. كما أن الفقر حالة متغيّرة تتبدّل حدّتها على الأبعاد التي سبق ذكرها مع الوقت. لذلك، وضع خطّ فقر واعتبار كلّ من تحته فقير وكلّ من فوقه ميسور هو عمل تعسّفي بحت، قد يصلح في الأدبيّات العلمية كتمرين فكري، لكن تصبح نتائجه الإقصائية كارثية عندما يُنقل إلى صياغة السياسات العامّة.

فقر البيانات

لا تنحصر برامج التحويلات النقدية بالدول الفقيرة فحسب، بل تنظِّمها الدول ذات الدخل المرتفع أيضاً، مثل برنامج التحفيز الاقتصادي التي اعتمدته الولايات المتّحدة الأميركية في خلال جائحة كوفيد-19 وعُرف باسم «الشيكات التحفيزية». تكمن المفارقة بين الدول الغنيّة والفقيرة في كيفية إحصاء المستفيدين من برامج الدعم المالي. تعتمد الدول الغنيّة على توافر بيانات مُحدثّة تستخرجها من التعدادات والمسوحات التي تنظِّمها بشكلٍ دوري، وعلى بيانات عائدات الضرائب التي تقيِّم من خلالها دخل الأفراد وأهليّتهم للمساعدة المالية. في المقابل، تعاني الدول الفقيرة من فقرٍ في البيانات، فغالباً ما تمتنع عن تنظيم إحصاءات وان نُظِّمت تكون غير دورية وذات جودة منخفضة. فبحسب بحث نُشر في مجلّة «ناتور» يرجّح أن تظهر عائلة أفريقية مُعيّنة في مسحٍ لمستويات المعيشة أقل من مرّة واحدة كل ألف عام. كما ورد في تقرير للبنك الدولي عن توفّر البيانات في العالم أن أنظمة التسجيل المدني والإحصاءات الحيوية (أي الوفيات والمواليد) ليست كاملة في أي من الدول ذات الدخل المنخفض، فيما هي مُكتملة في 95% من الدول ذات الدخل المرتفع، ويرجّح أن حوالي مليار فرد لا يملكون أي أوراق ثبوتية.

تتضاعف صعوبة إنتاج بيانات دقيقة لاستهداف الفقراء في الدول ذات الدخل المنخفض بفعل قصور بنيوي، مثل ارتفاع نسب العمالة غير النظامية إلى 60% من القوى العاملة عالمياً (أي حوالي  ملياريْ عامل)، وتتركّز 93% منها في الدول ذات الدخل المنخفض بحسب منظّمة العمل الدولية. بفعل ارتفاع العمالة غير النظامية، يرتفع أيضاً اعتماد الدول الفقيرة على إيرادات الضرائب غير المباشرة (أي على الاستهلاك وليس الدخل) ما يحجب عن هذه الدول معرفة دخل المقيمين.

الأيديولوجيا المبطّنة في العِلم

يعتمد البنك الدولي على الاختبار بالوسائل غير المباشرة لقياس مستوى الدخل (Proxy Means Testing) وبالتالي استهداف الفقراء في الدول ذات الدخل المنخفض، وذلك للتحايل على غياب البيانات. يزعم البنك الدولي أن هذه التقنية علمية وفائقة الدقّة، فيما تظهر الأبحاث هشاشة هذه التقنية التي تخبّئ فرضيات أيديولوجية وراء صيغ رياضية معقّدة.

أنظمة التسجيل المدني والإحصاءات الحيوية (أي الوفيات والمواليد) ليست كاملة في أي من الدول ذات الدخل المنخفض، فيما هي مُكتملة في 95% من الدول ذات الدخل المرتفع، ويرجّح أن حوالي مليار فرد لا يملكون أي أوراق ثبوتية

من المهم الإشارة أولاً أن هدف هذا الاختبار هو «تنبؤ» حظوظ الفرد أن يكون فقيراً، وليس تحديد مستوى دخله. قد تبدو المفارقة المعجمية طفيفة إنّما توضح هدف الاختبار، وعدم قدرته بنيوياً على تشخيص الفقر.

يعتمد هذا الاختبار على مؤشّرات «غير مباشرة» تتعلّق بالنمط الاستهلاكي مثل عدد الأفراد في الأسرة، وحالاتهم الصحّية، وملكية العقارات والسيّارات، وعدد الغرف في المنزل، وحجم الودائع المصرفية والديون. يُصرّح المتقدّمون للحصول على المساعدة المالية عن هذه البيانات عبر ملء استمارة طويلة إمّا خطّياً أو على منصّة إلكترونية (حديثاً)، وتستند بعض هذه البيانات على مستندات رسمية. تجدر الاشارة هنا أن استبعاد الفقراء يبدأ منذ هذه المرحلة الأولية بحيث يصعب عليهم أوّلًا المعرفة بإطلاق مرحلة ملئ الاستمارات، وكذلك يحصل الاستبعاد ربطاً بمهارات القراءة والكتابة المحدودة، وصعوبة جمع البيانات الرسمية وملئ استمارات خطّية طويلة، ويجري استبعاد الفقراء أيضاً، الذين غالباً لا يستطيعون الوصول إلى معدّات تكنولوجية، ويفتقدون المهارات الرقميّة لملء الاستمارات على المنصّات الرقمية، التي يجاهر البنك الدولي بشفافيّتها وديمقراطيّتها.

بعد انتهاء مرحلة جمع الاستمارات يُرسل اختصاصيين اجتماعيين للتحقّق من صدقيّة المعلومات المُصرّح عنها في زيارات لبعض الأُسر. تتجلّى هنا أيضاً غرابة هذا التقييم المبني على أحكام مُسبقة عن «مظهر الأسرة الفقيرة». فغالباً ما يتسرّع بعض الاختصاصيين الاجتماعيين في الحكم على الأُسرة، كون مظهر مكان الإقامة في يوم معيّن لا يعبِّر بأي شكل عن مستوى دخل الأفراد.

سحر الصيغ الرياضية

عندما تكتمل مرحلة جمع البيانات والتحقّق من صحّتها، يبدأ سحر الصيغ الرياضية للتنبؤ بفقر المتقدّمين على المساعدة. يرتكز الاختبار بالوسائل غير المباشرة لقياس مستوى الدخل على صيغة رياضية سرّية لمنع المتقدّمين على المساعدات أن يتلاعبوا بمؤشّرات فقرهم (وكأن إخفاء تلفاز أو برّاد عند زيارة الاختصاصيين للأسرة سوف يقلب كلّ المقاييس). ينبثق تصميم هذه الصيغة الرياضية عن مسحٍ للأوضاع المعيشية للأسر، بحيث توضع نقاط فصل لكل فئة بيانية لتحديد ما هي الأرقام التي تفرّق بين الفقر واليسر. غالباً ما يكون المسح المستخدم قديماً في حالة الدول الفقيرة، ولا يمثّل مستوى معيشة الأسر الحالي. ففي لبنان مثلًا، يستند برنامج الدعم النقدي (البرنامج الوطني لاستهداف الفقر وبرنامج شبكة الأمان الاجتماعي في حالات الطوارئ) على مسح أُجري في عامي 2011-2012. فلا يمكننا الافتراض أن الوضع المعيشي للأسر لم يتغيّر منذ 11 سنة لليوم، خصوصاً بعد الانهيار الاقتصادي لعام 2019 (الذي كان هو سبب توسيع أوّل برنامج دعم مالي وإنشاء الثاني) وما رافقه من ارتفاع في البطالة من 11% إلى 29%، وفي المقياس المتعدّد الأبعاد للفقر من 42% إلى 82% بين عامي 2019 و2022.

من هنا، نستغرب عندما يُعلن البنك الدولي أن هذه البرامج قادرة على استهداف الشرائح الأكثر فقراً بدقّة عالية، فيما يرى الخبراء أن الاختبار بالوسائل غير المباشرة لقياس مستوى الدخل يؤدّي إلى إقصاء 50% إلى 93% من الفقراء.

وهم الإنعاش الاقتصادي

يوزّع المتقدِّمون على المساعدة المالية بحسب فقرهم المُستنتج وفق الصيغة الرياضية، ويوزّع على الأكثر فقراً منهم مبلغاً مالياً زهيداً شهرياً. يعتبر البنك الدولي أن هذه البرامج مفيدة من جهتين: أولًا تسمح للشرائح الأكثر فقراً أن تؤمّن حاجاتها اليومية، وثانياً تحفِّز النمو الاقتصادي بفعل ارتفاع الطلب على الاستهلاك من الفقراء. تجدر الاشارة هنا أن غالباً لا يتعدّى مجموع الأموال الموزّعة في أكبر برامج الدعم المالي 0.5% من الناتج المحلّي أي أنها تعجز عن تأمين حاجات الشرائح الفقيرة وعن إعادة إنعاش الاقتصادات. إضافة إلى ذلك، تموّل هذه البرامج في الدول الفقيرة عبر ديون من البنك الدولي للدولة المعنية. فيوزّع المال الزهيد على شريحة فقيرة ثمّ يُعاد امتصاصه عبر الأنظمة الضريبية الرجعية على الاستهلاك، التي تعتمد عليها الدول الفقيرة بشكل غير متناسب، عندما تشتري الأُسر الفقيرة حاجاتها. ومع ارتفاع مديونية الدولة، ترتفع حدّة السياسات التقشّفية وترتفع نسب الفقر واللامساواة بدل معالجتها.

استبعاد الفقراء يبدأ منذ هذه المرحلة الأولية بحيث يصعب عليهم أوّلًا المعرفة بإطلاق مرحلة ملئ الاستمارات، وكذلك يحصل الاستبعاد ربطاً بمهارات القراءة والكتابة المحدودة، وصعوبة جمع البيانات الرسمية وملئ استمارات خطّية طويلة

الشمولية بدل الاستهداف، التوزيع الضريبي بدل الدَّيْن

تندرج مخطّطات الدعم المالي التي يروِّجها وينظِّمها ويموِّلها البنك الدولي ضمن الأيديولوجيا النيوليبرالية السائدة. وهي ترتكز أولاً على تجزئة المجتمع إلى أفراد وأسر، وثانياً على اعتبار كلّ فرد مسؤول عن نفسه، وثالثاً أن الحلّ للتشوّهات الاجتماعيّة التي تنتجها هذه المرحلة من الرأسمالية المتوحّشة يمكن مداواتها بما كانت هي الداء، أي عبر زيادة المديونية والتقشّف وتوزيع فتات المال على شريحة عبثية سُمِّيت «الأكثر فقراً» من دون معالجة المشاكل البنيوية التي أنتجت هذه الشريحة أساساً.

تختبئ هذه المعايير العبثية والمنهجيات الهشّة خلف جدارٍ من المصطلحات العلمية والمعادلات الرياضية المُعقّدة، لإضفاء شرعية علمية عليها، وتحويلها من قناعات أيديولوجية مُبتذلة إلى حقائق مُمكن المجاهرة فيها وإسكات المعارضين لها.

بعد مرور نصف قرن على هذا النهج من الإدارة المجتمعية والاقتصادية أصبح بإمكاننا، ومن دون أي شكّ، استنتاج ما هي السياسات التي تضفي الرفاه والحماية على المجتمعات. فشلت برامج الدعم المُستهدفة لشرائح معيّنة بتخفيف وطأة السياسات التقشّفية والأنظمة الضريبية غير العادلة، كما فشلت باستهداف هذه الشرائح أساساً.

يجب أن تكون أنظمة الحماية الاجتماعية شاملة، أي متوافرة للجميع، ومواكِبة لدورة حياة الإنسان منذ ولادته حتّى وفاته. عليها أن تؤمّن كلّ حاجات المجتمع من صحّة وتعليم ومسكن وغذاء وتقاعد. في هذا النظام، يأتي الاستهداف لمراعاة حالات استثنائية تتطلّب حماية إضافية، ولا يجب أن يكون القاعدة. كما أن تمويل هذه الأنظمة يجب أن يكون مُستداماً ومُساهماً في إعادة إرساء العدالة والمساواة في المجتمعات عبر نظام ضريبي عادل يستهدف بشكل مباشر الدخل والثروات بدل الاستهلاك.

أصبحت الحلول لمآسي مجتمعاتنا واضحة، وإن تبرّجت السياسات المسبّبة لها بمعاجم علمية. يبقى كسر الهالة العلموية الخطوة الأولى لانطلاق المواجهة السياسية.