Preview نظام رأس المال

التقشّف: خطّ الدفاع الأول للرأسماليّة

  • مراجعة لكتاب «نظام رأس المال: كيف اخترع الاقتصاديون التقشّف ومهّدوا الطريق للفاشية»، تأليف كلارا ماتيي. يبحث الكتاب عن موقع التقشّف في النظام الرأسمالي، كأداة جوهرية تضمن استمرار النظام الرأسمالي حين يواجه أزمات مصيرية تهدّد ركائزه.

«تُلخّص توجيهات السياسات الوطنية بهذه الكلمات: الادخار والعمل والانضباط. المشكلة المالية حاسمة: يجب أن تكون الموازنة العامّة متوازنة بأسرع وقتٍ ممكن. نظام التقشّف: الإنفاق الذكي: مساندة قوى الأمة المُنتجة: إنهاء كلّ ضوابط الحرب التي فرضت على الاقتصاد وإنهاء تدخّل الدولة».
بنيتو موسوليني، الخطاب الأوّل في البرلمان في 16 تشرين الثاني/أكتوبر 1922.

التقشّف ليست فكرة أو سياسة جديدة، فهي تطبَّق في خلال الأزمات الاقتصادية العصيبة، وغالباً تفشل في تحقيق النموّ الاقتصادي، ولكن تصاحبها آثار مؤلمة على المجتمع. باختصار، إنّها سياسة فاشلة، ولكنها تعود دائًماً، وها هي الآن تسود من أجل التصدّي للتضخّم وأزمة الديون التي تستفحل في كثير من البلاد.

لكن، طالما أنّها تفشل في كلّ مرّة، فلماذا يعود صنّاع القرار إليها دائماً؟ الجواب الأكثر شيوعاً هو أنّ التمسّك في التقشّف أيديولوجي، ويأتي من أجل تحميل المجتمع وزر الإصلاح الاقتصادي، فيما يعفي الأثرياء من هذا العبء. هذا صحيح، ولكن موقع التقشّف في النظام الرأسمالي هو أكثر ترسّخاً من ذلك، إنّه الأداة الجوهرية التي تضمن استمرار النظام الرأسمالي حين يواجه أزمات مصيرية تهدّد ركائزه. هذه الفكرة الأساسية التي تحاول الاقتصادية كلارا ماتيي تبيانها في كتابها «نظام رأس المال: كيف اخترع الاقتصاديون التقشّف ومهّدوا الطريق للفاشية»، الصادر في العام 2022 باللغة الإنكليزية.

القيود البنيوية التي يفرضها التقشّف على الإنفاق والأجور تستهدف الغالبية في المجتمع. بحيث تصبح عبارة «إكدح في العمل، واظب على الادّخار»، أكثر من مجرّد عبارة عن الصلابة، إنّها الطريق الوحيدة للبقاء»يقدِّم الكتاب إضافة جوهرية للفكر الاقتصادي من ناحية كيفيّة فهم التقشّف ووظيفته الحقيقية في النظام الرأسمالي، ويقدّم أيضاً قراءة تاريخيّة بالغة القيمة لفترة ما بين الحربين العالميتين. وتظهر ماتيي من خلال تحليلها لسياسات التقشّف في إيطاليا وبريطانيا التلاقي والتقاطع الرهيبين بين النظامين الليبرالي والفاشي، الذي غالباً ما يتمّ التعتيم عليه أو عدم قراءته بشكلٍ كامل.

التقشّف أكثر من حزمة سياسات لإدارة الاقتصاد

تتلخّص الحجّة المركزية التي تطرحها ماتيي في كتابها بهذا المقطع: «حين نكف عن رؤية التقشّف كعدّة سياساتية صادقة لإدارة اقتصاد معيّن، وحين نأخذ بالاعتبار تاريخ التقشّف بعدسة التحليل الطبقي، يصبح جلياً أنّ التقشّف يحفظ شيئاً تأسيسياً لمجتمعنا الرأسمالي. ومن أجل أن تنجح الرأسمالية في تحقيق النمو الاقتصادي، يجب أن تكون علاقات رأس المال الاجتماعية – بيع الناس لقوّة عملهم مقابل أجر - موحّدة عبر المجتمع. بعبارة أخرى، يفترض النموّ نظاماً اجتماعياً-سياسياً مُعيّناً أو نظام رأس المال. التقشّف، باعتباره حاجز حماية مالي ونقدي وصناعي للاقتصاد، يضمن قدسية هذه العلاقات الاجتماعية. إنّ القيود البنيوية التي يفرضها التقشّف على الإنفاق والأجور تستهدف الغالبية في المجتمع. بحيث تصبح عبارة «إكدح في العمل، واظب على الادّخار»، أكثر من مجرّد عبارة عن الصلابة، إنّها الطريق الوحيدة للبقاء».

يمضي الكتاب، الذي هو مزيج من التاريخ الاجتماعي-السياسي وتاريخ الفكر الاقتصادي، بتبيان هذه الحجّة عبر دراسة فترة ما يُسمّى «السنين الحمراء» في أوروبا، أي تلك التي تلت نهاية الحرب العالمية الأولى، لإظهار كيف أنّ التقشّف كان أبعد من سياسات اقتصادية، لقد كان عدّة النجاة لإنقاذ الرأسمالية من أكبر الأخطار المحدقة بها: تمكّن المجتمع من تصوّر واقع لا تكون فيه الرأسمالية النظام المُسيطر والنضال للوصول إليه.

1918-1920: السنين الحمراء

شكّلت الحرب العالمية الأولى خضّة كبيرة لوعي المجتمع والعمّال خصوصاً، ليس من ناحية ضخامة الحرب والخسائر البشرية فحسب، بل أيضاً، والأكثر أهمّية لموضوعنا، لتبيانها أنّ الرأسمالية كنظام اقتصادي-اجتماعي ليست قدراً. أظهرت الحرب أنّ الرأسمالية وسوقها الحرّة غير مناسبتين لجهود الحرب من ناحية تموين الجيوش، وإنتاج الأسلحة، وتزويد المجتمع بالمقوّمات الضرورية من أجل الصمود في خلال الحرب العالمية. ببساطة، لم تعمل يد السوق الخفيّة. فحريّة الإنتاج لا تعني بالضرورة تصنيع السلاح، فيما أسعار السلع الغذائية الأساسية ترتفع من دون سقف يحدّها ما هدّد صمود المجتمع. اضطرت الحكومتان في إيطاليا وإنكلترا إلى توسيع التعبئة العامّة في الحرب إلى الاقتصاد وعلاقات الإنتاج فيه. فمن أجل الاستمرار في الحرب، عمدت السلطات إلى الاستيلاء على المصانع وتأميمها من أجل تحويل الإنتاج فيها لأهداف تصنيع الأسلحة، وفي هذا المسار أصبح معظم العمّال يعملون لصالح الدولة، أي القطاع العام، ونتج عن ذلك تحديد الأجور ورفعها من أجل تهدئة العمّال وتحسين قوّتهم الشرائية وتحديد ساعات العمل وضمان الإنتاج المستمر. بالاضافة إلى ذلك، وضعت سقوف على أسعار المواد الغذائية الأساسية لكبح جماح ارتفاع الأسعار والمحافظة على السلم الاجتماعي. وأرسي تنظيم جماعي للاقتصاد تقوده الدولة، وتحدّد معالمه من ناحية أسعار السلع والأجور، وليس السوق. ضربت جهود الحرب ركيزتيْ الرأسمالية بشكل مدوّي: الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وعلاقات الأجر.

شكّلت هذه الفترة أخطر سنوات على النظام الرأسمالي في أوروبا الغربية، وكانت إيطاليا وبريطانيا على أعتاب ثورة. وهنا أتى التقشّف، بوصفه الأداة الأنجع حتّى يومنا هذا، من أجل إنقاذ نظام رأس المالكان لهذا التحوّل في إدارة الاقتصاد أثرٌ جوهري أبعد من تمكين الدول في الاستمرار بجهودها الحربية. أدّى ذلك إلى تحوّل علاقات العمل والإنتاج من علاقات مُجرّدة من دون وجه، لأن ما يراه العمّال هو قوى السوق المجهولة التي تحدّد الأجر، إلى نظام تحدِّد فيه الدولة الإنتاج والأجور. وبذلك دخل الاقتصاد مضمار السياسة بعد أن رسِّخت فكرة الفصل الواضح والصارم بين الاقتصاد والسياسة. القرارات السياسية لها مساراتها الواضحة، أمّا القرارات الاقتصادية فتحدِّدها تفاعلات السوق المجهولة والغامضة. كانت هذه النقلة نحو قيادة الدولة للاقتصاد والعلاقة معه أثر الزلزال على وعي العمّال والمجتمع، الذين استنتجوا أنّ الرأسمالية ليست قدراً أو ظاهرة طبيعية لا بديل عنها: أصبح وجود نظام آخر ممكناً.

اذاً، اعتبرت الغالبية في المجتمع، وخصوصاً العمّال، نهاية الحرب العالمية الأولى فرصة أو محطّة من أجل إرساء نظام جديد وتحوّل عميق في الاقتصاد. ليس لدى العمّال فحسب، بل لدى أجهزة الدولة أيضاً ببيروقراطييها ووزرائها. كتب مجلس وزراء الحرب البريطاني في أحد تقاريره بعد انتهاء الحرب أنّ «إعادة الإعمار ليست مسألة إعادة بناء المجتمع كما كان قبل الحرب، بل تشكيل عالم أفضل منبثق عن الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تشكّلت في خلال الحرب». في هذه الفترة أرسيت بذور دولة الرعاية الاجتماعية.

النظام الجديد

ظهرت ديناميكيّات مثيرة للاهتمام. من جهة، كان هناك اعتراف شبه كامل لدى الحكومات بوجوب إدارة الاقتصاد والمجتمع بشكلٍ مختلف، فأقدموا على تطبيق سياسات اجتماعية غير مسبوقة مثل إعانة البطالة، ورفع الأجور، وسياسات الإسكان، إلخ… نبعت هذه السياسات عن قناعة بضرورة الإصلاح، كما شكّلت ردّة فعل على التنظيم العمّالي الذي كان يشهد تصاعداً غير مسبوق. استفاد العمّال من الجوّ العام المُساند لتغييرات عميقة في النظام الاجتماعي والاقتصادي، ومن قوّتهم البنيوية نتيجة تدنّي البطالة بشكلٍ كبير. كانت قوّتهم التفاوضية هائلة، فنمت التنظيمات النقابية بشكلٍ غير مسبوق، وتضاعفت عضوية النقابات بسرعة. حمل العمّال مطالب رفع الأجور، والمشاركة في إدارة المصانع، وتطبيق السياسات الاجتماعية مثل التأمين والسكن الاجتماعيين، وإعادة تنظيم علاقات الإنتاج. ومع كلّ مطلب نجحوا بتحقيقه، انتقلوا إلى التصعيد وطرحوا تغييرات أعمق. في إيطاليا وبريطانيا، البلدين اللذين يتناولهما الكتاب، وصلت التعبئة العمّالية إلى احتلال المصانع والأراضي الزراعية وتأسيس وسائل تنظيم مختلفة للإنتاج مثل التعاونيات. رافقت هذه التطوّرات حركة وعي سياسي غير مسبوقة. ففي إيطاليا أسّس المفكِّر الماركسي أنطونيو غرامشي مع رفاقه جريدة «النظام الجديد»، التي وضعت الأسس لتحرير المعرفة لدى الطبقة العاملة. وعملت الجريدة مع العمّال من أجل تحقيق ذلك عبر أربع محاور أساسية؛ أولاً، دحض الاعتقاد بأن الرأسمالية نظام طبيعي عبر تحطيم علم الاقتصاد بشكله المُهيمن، وعبر رفض فكرة وجود قوانين اقتصادية طبيعية مُنفصلة عن الناس والمجتمع ووجوب قبولها كما هي. ثانياً، إرساء فكرة قوّة العمّال وقدرتهم على اتخاذ القرار بعكس الصورة التي رسّختها الرأسمالية عن العمّال كقطعة يمكن استبدالها في آلة الرأسمالية، وليس لديهم القدرة على تقديم تصوّر مُضاد للبرجوازية الحاكمة. بل على العكس تمّ ترسيخ فكرة قوّة العمّال كطبقة. أصبح العمّال منتجين والركن الأساسي في عملية الإنتاج وبناء مجتمع ما بعد الرأسمالية.  ثالثاً، التطبيق العملي لهذه الأفكار أو البراكسيس، أي إنهاء الفصل بين النظرية والتطبيق عبر التثقيف والتعبئة. وكانت عملية احتلال المصانع والأراضي الزراعية وإرساء تنظيم بديل للإنتاج أحد تجلّيات البراكسيس. رابعاً، مناهضة الفصل بين السياسة والاقتصاد. وترجم ذلك في فكرة أنّ الديموقراطية السياسية لا تعني شيئاً من دون الديموقراطية الاقتصادية، أي اتخاذ القرارات الجماعية حول تنظيم الإنتاج، وماذا يتم إنتاجه ولأي أغراض. بالتالي، لا يجب أن تكون القرارات الاقتصادية بيد الطبقة البرجوازية محمية من إرادة العمّال.

عمد الاقتصاديون أو التكنوقراط عبر التنظير للتقشّف إلى عكس كلّ ما وصلت إليه النضالات العمّالية في السنين الحمراء، وبالتالي أعادوا فصل الاقتصاد عن السياسةنضجت ظروف الثورة بالتقاء التعبئة الاجتماعية مع تصوّر جديد للمجتمع والاقتصاد ونجاح الثورة البلشفية. شكّلت هذه الفترة أخطر سنوات على النظام الرأسمالي في أوروبا الغربية، وكانت إيطاليا وبريطانيا على أعتاب ثورة. وهنا أتى التقشّف، بوصفه الأداة الأنجع حتّى يومنا هذا، من أجل إنقاذ نظام رأس المال.

التكنوقراط لإنقاذ الرأسمالية: اختراع التقشّف

تطلّب الهجوم المُضاد التقشّفي حكومات تنفّذ السياسات التقشّفية، ولكن أيضاً اقتصاديين ينظّرون لهذه السياسات ويمدّونها بالسلطة النظرية كحقيقة اقتصادية مُطلقة. تتناول ماتيي في كتابها مؤتمرين دوليين لـ«خبراء الاقتصاد والمال»، أي التكنوقراط، شكّلا حجر الأساس للسياسات التقشّفية، وهما المؤتمر الاقتصادي والمالي الأوّل في العالم الذي نظِّم في بروكسل في العام 1920، وتبعه مؤتمر آخر في مدينة جينوا الإيطالية في العام 1922. اجتمع هؤلاء الخبراء، ومن ضمنهم أكاديميين واقتصاديين وخبراء في وزارات الماليّة، من أجل وضع «قواعد مالية جديدة» أو ما يمكن تسميته بقواعد التقشّف الدولية. قدِّم المشاركون في المؤتمرين كـ«خبراء في الأمراض المالية». لم يمثِّلوا حكومات ودول بل مثَّلوا مجال الاقتصاد، أي تمّ تصويرهم على أنهم فوق الانحيازات والانقسامات الوطنية والاعتبارات الطبقية. فما يناقشونه هو علم، وحقيقة طبيعية، وشروط ضرورية لبناء اقتصاد سليم. وبتقديرهم، الرأي العام مسؤول عن تردّي الأوضاع المالية في أوروبا كونه يطالب الحكومات بزيادة الإنفاق، ويطالب بعملٍ أقل وتقديمات اجتماعية أكثر، وهذا ما أضرّ بالمالية العامّة. فكان شعارهم الذي يلخّص التقشّف «إكدح في العمل، عِش بشقاء، وواظب على الادخار».

سوّق التكنوقراط كما الحكومات للسياسات التقشّفية على أنها حقيقة علمية وقواعد طبيعية على الدول اتباعها من أجل اقتصاد صحّي. والكثير من العبارات التي نسمعها الآن، كانت تردّد حينها، مثل ضرورة التضحية والمعاناة لفترة من أجل تصويب الاقتصاد، وتطبيق سياسات مؤلمة على المدى القصير وإنّما تصبّ في صالح الجميع على المدى البعيد. أو أن المشكلة هي نتيجة إنفاق الحكومة، واعتياد الناس على مستويات معيشية عالية، والإنفاق أكثر من قدرتهم الحقيقية، وغيرها من العبارات التي بقيت كما هي بعد قرن من أحداث الكتاب.

عمد الاقتصاديون أو التكنوقراط عبر التنظير للتقشّف إلى عكس كلّ ما وصلت إليه النضالات العمّالية في السنين الحمراء، وبالتالي أعادوا فصل الاقتصاد عن السياسة. أصبحوا الاقتصاديين الوحيدين المخوّلين بالتحدث في السياسات الاقتصادية باعتبار أنّهم يرون الحقائق التي لا يراها عامّة الشعب. ومن أهمّ ما ابتكروه هو ضرورة عزل السياسات الاقتصادية، وخصوصاً النقدية عن ضغط الرأي العام. ومن حينها أرسِي مبدأ استقلالية السياسة النقدية، أي المصارف المركزية، عن السلطات السياسية فيما يخص بمعدّلات الفائدة وغيرها من الإجراءات، من أجل سحب أحد أهم الأدوات الاقتصادية من متناول الرأي العام مما قوّض المسار الديموقراطي. امتدّ هذا المبدأ مع الزمن ليشمل معظم مضامير السياسات الاقتصادية عبر قوننة التقشّف من خلال رسم سياسات في هيئات «مُستقلّة»، ووضع قوانين تحدُّ من الإنفاق، وتضع سقفاً للمديونية وغيرها، حيث أصبح التقشّف السياسة الدائمة التي لا تتغيّر بغض النظر عن من في الحكم. لقد رُسِّي التقشف المالي والنقدي والصناعي طواعياً وإكراهياً.

التقشّف: التقاء الليبرالية مع الفاشية

نفّذت الحكومة البريطانية منذ العام 1920 قواعد التقشّف بحذافيرها. خُفِّض الإنفاق في بريطانيا بشكل راديكالي عبر العودة عن معظم السياسات الاجتماعية التي أقرِّت في السنين الحمراء، وتراجع الإنفاق على الصحّة والتعليم، وألغيت التأمينات الاجتماعية، وخفِّضت الضرائب المباشرة على رأس المال. وفي المقابل، أقرِّت ضرائب غير مباشرة على الاستهلاك. وترافق ذلك مع تقشّف نقدي عبر رفع معدّلات الفائدة لكبح الائتمان والمديونية العامّة. كان لهذه السياسات آثار دراماتيكية على العمّال، فمن ناحية انخفضت قدرتهم الشرائية ومستويات معيشتهم نتيجة خفض الإنفاق، ومن ناحية أخرى أدّى رفع الفائدة وخفض الطلب إلى ركود اقتصادي، ممّا زاد معدّلات البطالة، وأضعف القوّة التفاوضية للعمّال بشكل كبير، وضرب النضال العمّالي وحركة الإضرابات. وفي المقابل، اتبعت الدولة سياسات تقشّفية صناعية عبر خصخصة العديد من الشركات المملوكة من الدولة، وإقرار تشريعات لتقويض الحقّ في الإضراب وحقوق نقابية أخرى. بعبارة أخرى، تمّت تعبئة كلّ الأدوات المُتاحة لتهذيب العمّال وترسيخ النظام الرأسمالي بعيداً من التطلّعات في إحداث  تغييرات جوهرية في إعادة تنظيم الاقتصاد.

تمتّع نظام موسوليني بدعمٍ دولي، وخصوصاً من بريطانيا والولايات المتّحدة، بفضل السياسات التقشّفية التي اعتمدها. إذ لطالما كان الهدف هو ترسيخ نظام رأس المال بمعزل عن الطريقة المُعتمدة للوصول إليهفي العام 1922، وصل موسوليني إلى الحكم في إيطاليا، واتبع سياسات الإنكليز التقشّفية بحذافيرها. نفّذ موسوليني سياساته الاقتصادية بدعمٍ ومباركة من أهم الاقتصاديين الليبراليين في إيطاليا، الذين رأوا أنّ إيطاليا تحتاج إلى يد حديدية تعيد تصويب الاقتصاد بوجه المدّ العمّالي وتخيّلاته الاقتصادية. بالإضافة إلى السياسات الاقتصادية، لجأ النظام الفاشي إلى القمع المباشر من أجل إرساء التقشّف عبر منع النقابات وخفض الأجور عبر القانون، وسجن العمّال والمناضلين الشيوعيين. تمتّع نظام موسوليني بدعمٍ دولي، وخصوصاً من بريطانيا والولايات المتّحدة، بفضل السياسات التقشّفية التي اعتمدها. إذ لطالما كان الهدف هو ترسيخ نظام رأس المال بمعزل عن الطريقة المُعتمدة للوصول إليه. وكان لذلك أثر رهيب على العمّال من ناحية تراجع الإضرابات بشكل دراماتيكي، وانخفاض الأجور، وتطويع الطبقة العاملة، وتبديد المبادئ التي أرستها حركة النظام الجديد التي كان غرامشي أحد روّادها.

التقشّف دائماً في كلّ مكان

يُبيِّن كتاب كلارا ماتيي مركزية فكرة التقشّف في النظام الرأسمالي الممتدّة عبر الزمن وصولاً إلى يومنا. لا تزال العبارات نفسها التي تبرّر التقشّف تردّد حتّى الآن في لبنان والمنطقة والعالم. فكرة التقشّف خطيرة ولكن قويّة. تقنع الناس أن ما هو لصالح رأس المال هو لصالح المجتمع، والتضحية التي تؤدّيها الطبقة العاملة ومعظم الناس تسوَّق على أنها تضحية المجتمع ككلّ ومن ضمنه الأثرياء.  تحمّل هذه الفكرة الناس وإنفاقهم وطريقة عيشهم مسؤولية أزمة الاقتصاد. وهذا ما نسمعه في لبنان منذ الانهيار: «على مدى عقود، نتيجة تثبيت سعر الصرف، عاش اللبنانيون فوق إمكانيّاتهم وعليهم الآن التضحية قليلاً». وهذا ما يقوله صندوق النقد الدولي للبنان والدول بشكل عام من خلال دعوتهم لتنفيذ سياسات «مؤلمة ولكن شجاعة» من أجل تصويب المسار الاقتصادي، على الرغم من كونها مؤلمة لمعظم شرائح المجتمع باستثناء الأثرياء. وما زلنا حتّى الآن نعيش فصل الاقتصاد عن السياسة من خلال المصارف المركزية التي لا تخضع لأي مساءلة، على الرغم من أنها ترسم ملامح الاقتصاد التقشّفي عبر أسعار الفائدة والسياسة النقدية التي تؤثِّر على كلّ المجتمع. ويتجسّد هذا الفصل أيضاً في برامج صندوق النقد الدولي التي يتمّ الاتفاق عليها مع الحكومات خلف الأبواب المُغلقة من دون أي نقاش عام أو تصويت من البرلمان، وفيما تُعدُّ بمثابة سياسات «مؤلمة» على المجتمع، يسوّق لها على أنها السياسات الصحيحة، موضوعياً وعلمياً، وفق آراء تكنوقراط الصندوق والحكومة، وبالتالي لا يجب إخضاعها  لأي نقاش أو تصويت.

فكرة التقشّف خطيرة ولكن قويّة. تقنع الناس أن ما هو لصالح رأس المال هو لصالح المجتمع، والتضحية التي تؤدّيها الطبقة العاملة ومعظم الناس تسوَّق على أنها تضحية المجتمع ككلّ ومن ضمنه الأثرياءالتقشّف هو أكثر من أداة سياساتية، إنّه خطّ الدفاع الأوّل للرأسمالية من الناحيتين المادية والفكرية. التقشّف يقتل الناس، ويقتل أي فكرة أو أي تخيّل لأي تنظيم مختلف للاقتصاد وعلاقات الإنتاج فيه، ويعيد ضبط الجميع وتهذيبهم ليكونوا في خدمة مُراكمة رأس المال. التقشّف يقضي على تطلّعات المجتمع في أي بديل، وخير دليل هي الانتفاضات العربية. بعد انهيار الديكتاتوريات الحاكمة، تم تعبئة صندوق النقد الدولي ومجموعة الثماني ودول مجلس التعاون الخليجي لـ«مساعدة» دول الانتفاضات عبر تقديمات مالية مشروطة بإجراءات وسياسات تقشّفية. وكانت الرسالة واضحة: تغيير نظام الحكم مُمكن، ولكن الاقتصاد يبقى خارج التغيير، على الجميع التضحية من أجل إرساء أسس اقتصادية تخدم رأس المال.