مدخل إلى الغروندريسة
- مراجعة لكتاب «مدخل إلى الغروندريسة»، تأليف ديڤيد هارڤي. يسعى الكاتب إلى جعل «الغروندريسة»، التي بدأ ماركس العمل عليها في العام 1857، تتحدّث عن التطوّرات المعاصرة والمشكلات في المجتمع الرأسمالي، ومن ثمّ تأطير الأنماط والأشكال التي أحدثها رأس المال، وتبيان أكتافها الضارّة في كثير من الأحيان على البشر.
حينما يتعلّق الأمر بنقد المجتمع الرأسمالي على مدار الخمسين سنة الماضية، فإنَّ قلةً من المفكرين قد تضاهي ديڤيد هارڤي في تأثيره وأصالته. فهارڤي ما انفك يندفع إلى مناطق جديدة مُضمِّناً مسائل الحيّز والمكان في محاولاته التنظير لديناميّات التراكم الرأسمالي المتناقضة، بفضل تبنيه إطاراً ماركسياً واسعاً واستفادته من خلفيّته الجغرافية.
في الآونة الأخيرة، حوَّل هارڤي انتباهه إلى التعامل مباشرة مع نقد الاقتصاد السياسي ليبيّن لجمهور أوسع راهنية أعمال ماركس. وفي هذا الصدد، أتى كتابه الأخير مدخل إلى الغروندريسة (A Companion to Marx’s Grundrisse) - وهو يبدو «بالنظر إلى الخلف» بمثابة «مشروع ماركس» الخاص به - ليكون أحدث إضافة إلى هذه السلسلة. والهدف منه «فتحُ بابٍ في فكر ماركس وتشجيع أكبر عدد ممكن من الناس على عبوره وإلقاء نظرة فاحصة على النصوص، وليفعلوا بها بعد ذلك ما يشاؤون»(viii). ولمّا كنا في أمَسِّ الحاجة إلى نظرية اجتماعية نقدية مبنية على قراءة سليمة لنقد ماركس للاقتصاد السياسي لمواجهة المشكلات الاجتماعية والبيئية المُتعدّدة الناجمة عن التطور الحابل بالأزمات لرأس المال، فإن هدف هارڤي هنا جدير بالثناء. علاوة على ذلك، فإن تحوّل انتباهه إلى الغروندريسة مرحَّب به أشدّ الترحيب نظراً لأنه عَدَّها منذ فترة طويلة نصّاً رئيساً استلهم منه العديد من ابتكاراته النظرية.
يحتوي «المدخل إلى الغروندريسة» على العديد من المسارات التي طوّرها هارڤي، وصاحبتها أمثلة منتقاة بعناية من الرأسمالية المعاصرة، تُظهر إلى أي مدى «الغروندريسة نص متبصر ووثيق الصلة بعالمنا اليوم»ومهما تحدثنا فإننا لا نبالغ في أهمية الغروندريسة لإحياء تقليدٍ ماركسي نقدي أزهر مع بداية فترة تصفية الستالينية. فقد كان لها أهمّية خاصّة في تطوير النظرية العمّالية الإيطالية على سبيل المثال. وبعدما كانت شبه مجهولة وغير مقروءة حتى أواخر ستينيات القرن العشرين - حينما تلقفها رومان روسدولسكي من براثن النسيان ونشر كتابه إنشاء رأس المال (The Making of Marx’s Capital) - صارت اليوم نصّاً بالغ الأهمّية لبحث تطوّر ماركس الفكري. وهذا ينطبق بالضبط على مشكلة المنهج في نقد الاقتصاد السياسي. بدأ ماركس العمل على الغروندريسة - مخطوطة طويلة شائكة وغير منشورة - في العام 1857 في محاولة لاستيعاب الأزمة المالية آنذاك، ومنها بدأ يحرز تقدّماً يتجاوز الحدود المفاهيمية للاقتصاد السياسي الكلاسيكي والاشتراكية الطوباوية القائمة عليه. ومن هذا المنطلق، يمكن عَدّها نوعاً من منضدة عمل نظري مفتوحة، أو مكاناً شكَّل فيه ماركس وصقل جهازه النظري.
إن الفكرة القائلة بأن الغروندريسة تمنح امتياز الوصول إلى جوهر منهج ماركس تعني وجود أدبيات مساعدة متعدّدة ومتنوّعة تتعامل مع هذا الجانب منها. بيد أن «المدخل» التزام بأسلوب الحوار المباشر مع ماركس ما جعله بالضرورة يتجاهل معظم تلك الأدبيات. وهذه مثلبة لأن تقدير هارڤي للفروق الدقيقة في منهج ماركس يشكِّل أحد أضعف أجزاء الكتاب، وكان من الممكن أن يستفيد من الاطلاع على بعض التفسيرات المتاحة لمنهج الغروندريسة - وبالتحديد تلك التي تناولت التراث الهيغلي في إطار مدخل شكل القيمة. وتزداد أهمّية هذه النقطة بالنظر إلى أن هارڤي نفسه يُقبِل على الاعتراف بأنه «غير مجهّز، بالذهنية أو المزاج، للتصارع مع تعقيدات التأثير الهيغلي والتعمّق في الدراسة الفلسفية للغة ماركس ومنهجه» (xi).
ولمَّا كان الغرض من المدخل أن يساعد ويشجّع المرء على قراءة الغروندريسة، فقد تبنّى أسلوباً خطّياً في التعامل مع النص. يبدأ هارڤي من النظر في «مقدّمة» ماركس والنقاط المفتاحية بشأن الغرض من نقده لرأسمال ومنهجه في هذا النقد. وبعد النظر بإيجاز، يرى هارڤي أن الشغل الشاغل في الغروندريسة «استيعاب طبيعة رأس المال ككلية»، وقراءة هارڤي لمنهج ماركس ترتكز بشدّة على فهمه لهذه الكلّية بأنها تجميع: «يبدأ منهج ماركس بالتجريدات الملموسة البسيطة، ويضيف إلى تحليله تجريدات منطقية تنشأ ضمن نمط إنتاج معيّن (كنظرية القيمة)، ثم يَصِل فيما بينها بالتدريج ليشكّل صورة الكلية في حالة من الحركة والتشكٌّل»(9). بيد أن هذا المنهج العام، حيث تتشكّل الكلية من لَحمِ أجزائها معاً، ليس - للأسف الشديد - دقيقاً بما يكفي لفهم منهج ماركس في نقده للمجتمع الرأسمالي. ويرجع ذلك إلى أن هارڤي وإنْ كان يُدرِك أن «فكرة الكلية آتية - لا ريب - من هيغل»، إلّا أن تعليقه يعجز عن استيعاب أن ماركس وإنْ «أعاد صياغتها وثوَّرها» (xvi)، فقد فعل هذا بتمَلُّكِه منهج اشتقاق المقولات الديالكتي الوارد في منطق هيغل.
لا يحظى رأس المال الثابت ببحث شامل إلّا في الغروندريسة. وقد مدَّت هذه المقاطع هارڤي بالعديد من أفكاره عن أوجه قصور الاقتصاد الرأسمالي، وهو هنا يربطها بأنماط الدَيْن وخفض قيمة العملة وتشكّل الأزماتلقد أدرك ماركس في أثناء العمل على الغروندريسة، كما تبيّن مراسلاته مع إنغلز، أن المنهج الوارد في منطق هيغل يلائم غرضه من عرض القيمة والنقد ورأس المال بصفتها أشكالاً صنمية للعلاقات الاجتماعية. ويتضح منهج العمل هذا في عملَيْ ماركس عن نقد الاقتصاد السياسي اللذين اشتغل عليهما ونشرهما في حياته، مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي (1859) ورأس المال المجلد الأول (1867). فبدلاً من بناء صورة للكلية من خلال لَحمِ أجزائها المكوّنة، حسبما قال هارفي، فإن منهج ماركس، شأنه شأن منهج هيغل، يكشف عن الكلية المفاهيمية من خلال أكثر عناصرها تجريداً في عمليةٍ من الاشتقاق المقولاتي. يوضح العرض الديالكتيكي لماركس أن أشكال الوجود الاقتصادي التي تكشف فيها العلاقة الاجتماعية بين رأس المال والعمل عن نفسها - السلعة والقيمة والنقد ورأس المال - تستلزم بالضرورة بعضها البعض، فهي مترابطة معاً. وعلى هذا النحو، فإن إلغاء رأس المال يتطلّب إلغاء النقد والقيمة والأهم من ذلك العمل، جوهرها المكوّن. يمكن ملاحظة عجز هارڤي عن تقدير هذه النقطة من واقع ادعائه بأن ماركس «لا يأخذ مسألة النقود الاشتراكية بجدية كافية» (48). ولعدم التقدير هذا تبعات بالغة الأهمية. يتابع هارڤي ليصل إلى الفكرة الماركسية التقليدية بأن «العامل المتحرّر» (430) يمثِّل منطلق نظريةٍ نقدية عن رأس المال. إلّا أن ما يشكِّل رأس المال - الطبقة العاملة وعملها - لا يمكن أن يكون منطلقاً يمكن منه تجاوز تلك العلاقة. الحال أن اشتراكية هارڤي تؤنسن اقتصاد العمل وأشكاله الاجتماعية لما فيه مصلحة مَن يعمل، لكنّها لا تلغي ضرورة العمل.
بغض النظر عن هذه القضية الأساسية، فإن التنزّه في الغروندريسة بصحبة هارڤي ماتع، وهارڤي قادر بالعموم على إبراز تبصّرات ماركس العديدة والمتنوّعة وتوجيه انتباهنا إليها. وهذه التبصّرات في الغالب جوانب من تفكير ماركس لم يَعُد، كما يقول هارڤي، لتطويرها منهجياً، لذا تتركُ أمام الفكر المعاصر مسارات مفتوحة ليطرقها. وبهذا المعنى، كانت الغروندريسة مصدر إلهام لهارڤي، وبالتبعية، يحتوي «المدخل» على العديد من تلك المسارات التي طوّرها هارڤي بنفسه في نطاق يتجاوز بكثير النص الأصلي. وهذه المسارات صاحبتها في الغالب أمثلة منتقاة بعناية من الرأسمالية المعاصرة تُظهر إلى أي مدى «الغروندريسة... نص متبصر... وثيق الصلة بعالمنا اليوم» (413).
نكتفي هنا بثلاثة من أفضل الأمثلة: أولاً، يستفيد هارڤي من عرض ماركس لدورتَي رأس المال الثابت والمتغير المتباينتَيْن. وكما يلاحظ هارڤي، «من بين جميع كتابات ماركس، لا يحظى رأس المال الثابت ببحث شامل إلّا في الغروندريسة» (340). مدَّت هذه المقاطع هارڤي بالعديد من أفكاره الرئيسة عن أوجه قصور الاقتصاد الرأسمالي، وهو هنا (كما في أي مكان آخر) يربطها بأنماط الدَيْن وخفض قيمة العملة وتشكّل الأزمات، فضلاً عن إظهار كيف أصبحت «مصدر إلهام» في عمله «على دور التطوير العمراني في التراكم رأس المال» (297). والنقطة الثانية المثيرة للاهتمام تركز على «الدورة الصغرى للقدرة على العمل» (284-94) ويستخدمها هارڤي «للمغامرة بما يتجاوز نصّ ماركس وإطلاق العنان لعملية التكهّن بالنتائج الذاتية والسياسية لهذه الدورة» (286). يطرح هارڤي خمس مراحل منفصلة لتدفّق قوة العمل في أثناء حركتها داخل الإنتاج وخارجه من دون أن يُغفل الإشارة إلى تأثيرات النسوية الماركسية ونظرية إعادة الإنتاج الاجتماعي. فمرّة تكون بائع سلعة، ومرّة عاملاً تحت إشراف رأس المال، وأخرى متلقي أجر نقدي، ومرّة مشتري سلع، وأخيراً جزءاً لا يتجزّأ من العلاقات المجتمعية والعائلية. وعلى هذا النحو يؤدّي العمّال أدواراً متناقضة عدّة في أثناء المراحل المختلفة من علاقة رأس المال، وبالتالي «يجب، بحكم الضرورة، أن يرتبطوا بهذه العوالم التجريبية المختلفة وما تعبّر عنه من تشعبات» (291). وهذا برأي هارڤي يطرح تعقيدات على التركيز الماركسي التقليدي على ذاتية الطبقة العاملة عند نقطة الإنتاج بوصفها منطلقاً مميّزاً يمكن منه تطوير معارضة طبقية واعية للرأسمالية. كما يعطيه فرصة أخرى ليشير إلى أهمّية استيعاب رأس المال ككلية، لكن هذه المرّة بصفتها وسيلة بيد العمّال «لشحذ وعيهم الطبقي بفهم تلك الكلية» (294).
يتيسر فهم القانون ميل معدل الربح إلى الانخفاض إذا نُظِر إليه على أنه «قانون انخفاض معدّل الربح وازدياد مقدار الربح»، لأن «معدل الربح وإن انخفض، يمكن لمقداره أن يزداد».والمثال الثالث يأتينا من النظر في ميل معدّل الربح إلى الانخفاض الذي خصّص له هارڤي قرابة فصل كامل (363 - 84). يؤكّد هارڤي أن فهم ماركس لميل معدّل الربح إلى الانخفاض أعقد من طريقة عرض البعض له، سيما في نظريات الانهيار التلقائي. يعالج هارڤي بعناية تعليق ماركس بأن «هذا أهم قانون في الاقتصاد السياسي الحديث على الإطلاق» عبر الإشارة إلى أن «ماركس مهتم في عبارته السابقة بإجمالي (أو مقدار) الربح بقدر اهتمامه بمعدّل الانخفاض» (368). لذا، يتيسر فهم القانون، كما يقول هارڤي، إذا نُظِر إليه على أنه «قانون انخفاض معدّل الربح وازدياد مقدار الربح»، لأن «معدل الربح وإن انخفض، يمكن لمقداره أن يزداد» (369). في الواقع، تأخذ إعادة صياغة هارڤي في حسبانها الاتجاهات المضادة المختلفة التي أوضحها ماركس على نحو أكبر في رأس المال. وبالنظر إلى القانون بهذه الطريقة، لا يغدو أداةً تبسيطية لتبيان الأفول الحتمي لرأس المال، بل وسيلةً لإدراك دينامياته المتناقضة والتوسّعية على الدوام. يشير هارڤي إلى عدد من السمات المعاصرة قد يزداد فهمنا لها إذا نظرنا إليها من زاوية قراءته لهذا القانون مقارنة بالقراءة الأبسط: «على سبيل المثال، مشكلات التدهور البيئي وتغيّر المناخ، وإنتاج السوق العالمية (العولمة)، وتقصير أوقات التداول، وتزايد الأمولة، واتساع التفاوتات الاجتماعية، والزيادة الهائلة في عدد البروليتاريا العالمية منذ العام 1980» (370).
يتعلّق «المدخل» إذاً بهارفي وموضوعاته، الموسَّط فيها ماركس، بقدر ما يتعلّق بما كتبه ماركس نفسه. وهذا الأمر بالتحديد ما يمنح الكتاب قيمته وجاذبيته. إذ إن أحد أهداف هارڤي الواضحة جعلُ الغروندريسة تتحدّث عن التطوّرات المعاصرة والمشكلات في المجتمع الرأسمالي، وما من طريقة أفضل لتحقيق هذا الهدف من التركيز على تلك الموضوعات التي أبقت مساهماته الخاصة بارزة طوال هذه السنين. فمن يبحث عن المصدر الأصلي ومصدر الإلهام للعديد من موضوعات هارڤي الرئيسة، سوف يبيّن له «المدخل» مدى تأثير الغروندريسة في تفكيره. فقد انهمك هارڤي، منذ بدايته وحتى أواخر أعماله، في ثراء الغروندريسة ونهل منها ليتجاوز ماركس ويؤطّر الأنماط والأشكال التي أحدثها رأس المال - المبدأ الحاكم للمجتمع الحديث - ويبيّن الأكلاف الضارّة في كثير من الأحيان على مضيفيها من البشر. ولا أدل على ذلك من الطرائق العديدة التي استطاع فيها المدخل ربط موضوعات الغروندريسة بالقضايا المعاصرة. وفي هذا النطاق سيُقرأ الكتاب كثيراً ويكون موضع تقدير كبير.
أما فيما يتعلّق بما إذا كان هذا الكتاب أفضل دليل للغروندريسة، فالحال أن أعمالاً أخرى يمكن ويجب الاستعانة بها إلى جانبه. أحد أسباب ذلك ادعاء هارڤي بأن «[الغروندريسة] تمثّل بلا جدال العرض الأكثر تطوّراً وتعمّقاً لاقتصاد ماركس السياسي النقدي المتاح حتى يومنا هذا» (413)، وهذا الادعاء في الواقع محل خلاف كبير. يبيّن هذا الادعاء أن ما يغيب في العموم عن نصّ هارڤي لا يقتصر على الأدبيات الثانوية عن الغروندريسة، ولكن الأهم من ذلك غياب «رأس المال» (مثلما تغيب مسودّات المخطوطات المكتوبة أوائل ستينيات القرن التاسع عشر التي تفصل بين العملين). وكما أوضح روسدولسكي منذ زمنٍ طويلٍ، يجب على أي قراءة للغروندريسة أن تأخذ في حسبانها العرض الأكثر تعقيداً وصقلاً من الناحية المفاهيمية لنقد ماركس للاقتصاد السياسي الوارد في صفحات «رأس المال». إلا أن مدخل هارڤي لا يفعل الكثير لوضع الغروندريسة في سياق التطوّر الجاري لنقد ماركس. والملاحظة الأخيرة، إن «المدخل» سيحقّق بلا شك هدفه في اجتذاب جمهور جديد إلى نصّ ماركس، وهذا مهمّ لأنه - كما سيتفق معي هارڤي نفسه - ما من تعقيب أو شرح على الغروندريسة من شأنه التعويض عن قراءتها نفسها.
نُشِر هذا المقال في Marx and Philosophy بموجب رخصة المشاع الإبداعي في أيار/ مايو 2023.