Preview بارونات المال السهل

بارونات المال السهل

  • مراجعة لكتاب «بارونات المال السهل: كيف حَطَّم الاحتياطي الفيدرالي الاقتصاد الأميركي»، تأليف كريستوفر ليونارد.  يرصد الكتاب ما حدث بعد أزمة عام 2008، وكيف انتهت النسبة الأكبر من الأموال التي ضخّها الاحتياطي في جيوب الأغنياء.

ما من شيء أفضل من الأزمة لجني المال لكن بشرط أن تكون فاحش الثراء. وكتاب كريستوفر ليونارد «بارونات المال السهل» لا يكتفي بتقديم الدليل على هذا القول المأثور، بل يشرح التدابير المنشودة لتحقيق ذلك، والتي اتخذها المتحكّمون في الاحتياطي الفيدراليّ عقب الانهيار المالي لعام 2008. بين عامي 2007 و2017، اعتمد بنك الاحتياطي الفيدرالي التَّيسير الكمّي لإغراق أسواق المال في العالم بـنحو 3.5 تريليون دولار، وهو ما تجاوز خمس مرّات ما قام بطباعته في خلال المئة عامٍ الأولى من وجوده، كما وضاعف ميزانيته العمومية خمس مرّات. أكثر من ذلك، لجأ الاحتياطي الفيدرالي حتّى العام 2015، ومرّة أخرى في العام 2020، إلى سياسة سعر الفائدة الصفري بهدف إجبار المصارف والمُقرضين الآخرين على الاستثمار في المشاريع عالية المخاطر والتأكّد من «معاقبة أي كان على ادخار المال». والنتيجة؟ حصلت الشركات الأميركية الكبرى على ثروة تقدَّر بنحو 310 مليارات دولار، في السنوات الخمس الأولى فقط من البرنامج، بين عامي 2007 و2012. وفي الوقت نفسه، خسرت الأُسَر الأميركية المُدّخِرة نحو 360 مليار دولار نتيجة انخفاض الأرباح على أسعار الفائدة، كما تكبّدت شركات التأمين وصناديق التقاعد خسائر تقدّر بنحو 270 مليار دولار.

مع ذلك، لا يقتصر كتاب ليونارد الرائع على عرض جافٍ للأرقام. فهو يصف، وبشكلٍ مثير في بعض الأحيان، المسار الذي سلكه بنك الاحتياطي الفيدرالي لاتخاذ قراراته وكيفيّة تبلورها والآثار التي تركتها، ليس على وول ستريت ومصارف الولايات المتّحدة الكبرى فحسب، وإنما أيضاً على الشركات المتوسّطة الحجم وموظّفيها. وإلى ذلك، يصف الضرر الهائل الذي ألحقته سياسات الاحتياطي الفيدرالي بالنظام المالي العالمي.

فمنذ البداية، كان بالإمكان التنبّؤ بالآثار التي ستنتج عن سياسات بنك الاحتياطي الفيدرالي. ويشير ليونارد إلى توقّعات توماس هونيغ، وهو مصرفي واقتصادي أميركي وعضو في لجنة السوق الاتحادية المفتوحة والمكوّنة من 12 شخصاً (الهيئة التي تحدّد أسعار الفائدة في الولايات المتّحدة) في وقت تنفيذ هذه السياسات. وجادل آنذاك، وما يزال، بأن هذه السياسات سوف تقود إلى تعميق اللامساواة جذرياً عبر إغناء الأثرى وإفقار الأفقر، ولن يكون إلغاؤها بالأمر اليسير، إن لم يكن مستحيلاً. ولقد تحقَّقت تلك التنبؤات بشواهدٍ مذهلة.

بين عامي 2007 و2017، اعتمد بنك الاحتياطي الفيدرالي التَّيسير الكمّي لإغراق أسواق المال في العالم بـنحو 3.5 تريليون دولار، وهو ما تجاوز خمس مرّات ما قام بطباعته في خلال المئة عامٍ الأولى من وجوده، كما وضاعف ميزانيته العمومية خمس مرّاتيسوق ليونارد جملة من التفاصيل المدهشة حول الطريقة التي يُغيِّر بها الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة، وكيف تبدّل ذلك بشكلٍ جذري خلال التيّسير الكمّي وسياسة سعر الفائدة الصفري لضمان حرمان مصارف البلاد من ملاذهم التقليدي لتخزين الاحتياطيات - سندات الخزانة قصيرة الأجل - وإرغامها على تقديم ائتمان أرخص فأرخص، والسعي إلى إقراض شركات جديدة لم تكن لتلتفت إليها من قبل. كما دَشَّن الإجراء الجديد الذي تبنّاه الاحتياطي الفيدرالي لنوعٍ من الحزام الناقل، حيث جرى تشجيع صناديق التحوّط على اقتراض الأموال من البنوك لشراء السندات وبيعها إلى الاحتياطي الفيدرالي لجَنْي الأرباح عن طريق أحد «التجّار الرئيسيين» في وول ستريت مثل غولدمن ساكس. تمخّضت كلتا الاستراتيجيتين عن شلاَّلٍ من النقود الجديدة «تبحث عن مكانٍ للعيشِ»، وخَلْق كميات أكبر فأكبر من الديون غمرت الاقتصاد برمّته.

لوصف النتيجة، يستخدم ليونارد الديون المُتزايدة لشركة Rexnord المُصنّعة للمكوّنات الهندسية متوسطة الحجم ومقرّها ويسكونس. حتى قبل انهيار العام 2008، كانت الشركة مثقلة بديون بقيمة 2 مليار دولار، برعاية شركة كارلايل العالمية لإدارة الأصول، ثم شركة الأسهم الخاصة Apollo Management LP. وقد كلّفها هذا 105 ملايين دولار في مدفوعات الفائدة وحدها، والتي كانت أكثر من أرباحها السنوية. ولكن في العام 2012، استفاد بنك Credit Suisse الاستثماري من المبالغ الضخمة التي تضخّ في الأسواق ومن رسالة بنك الاحتياطي الفيدرالي الواضحة بالإقراض من أجل مساعدة Rexnord، حيث أعاد تمويل مليار دولار من ديونه. مع ذلك، لم يكن المصرف مهتماً بالاحتفاظ بالقرض بل بتوزيعه وبيعه للمؤسّسات الاستثمارية مثل صناديق التقاعد. وبذلك، تحوّل إلى أداة مالية: التزام القروض المضمونة، وهي حزمة من القروض التي اشتهرت بدورها في العدوى التي أحدثتها عبر الأسواق العالمية في انهيار العام 2008. قبل سياسة سعر الفائدة الصفري والتيسير الكمّي، كان الوكلاء يرفضون التزامات القروض المضمونة بسبب المخاطر التي تنطوي عليها، ولكن سنوات المال السهل زادت من جاذبيّته. في العام 2014، جمع Credit Suisse قروضاً مثل Rexnord في سلسلة مؤلّفة من 11 قرضاً مضموناً بقيمة تصل إلى نحو 6.7 مليار دولار، وباعها إلى مجموعة متنوّعة من المؤسّسات، بما في ذلك العديد من صناديق التقاعد.

أمّا الآن فقد بدأ المحللون يرتابون من وجود مشكلة. فقد أدّى سخاء الاحتياطي الفيدرالي إلى خلق سوق لا قاع لها باستثناء السوق التي حدّدها. ويمكن للمستثمرين الآن تصديق استحالة الخسارة. ارتفعت قيمة الأدوات المالية مثل القروض المضمونة وغيرها ممّا يُسمّى بالقروض المُصمّمة حسب الطلب إلى أكثر من الضعف، من 300 مليار دولار في العام 2010 إلى 617 مليار دولار في العام 2018. والأكثر من ذلك، أن الشروط التي تضمّنتها وضعت قيوداً أقل فأقل على المقترضين، إلى درجة أن تجار وول ستريت أطلقوا عليها اسم قروض «cov-lite».

يقتبس ليونارد عن روبرت هيتو وكيل Credit Suisse، الذي كان يعمل في بيع هذه القروض المحفوفة بالمخاطر للمستثمرين، قوله: «إنه أمر صعب. أنت ترى ما يوافق عليه الناس فتقول: يا إلهي. هل تدركون حقاً ما توافقون عليه؟». مع ذلك، ضمنت الأموال السهلة استمرار جنون الشراء، مما جعل قروض cov-lite معياراً للصناعة. وبحلول العام 2019، بشكّلت نحو 85% من سوق القروض المدعومة مالياً.

لم يكن التأثير على شركات مثل Rexnord مفاجئاً. فقد تحوّل تركيزها العام من السلع الهندسية إلى المنتجات المالية لمالكها Apollo. وأصبح أمراً مركزياً بالنسبة لتداول المالك وتعاملاته في الأسواق المالية، ومثقلاً بالمزيد من الديون. بحلول العام 2016، أصبحت قدرتها على سداد مدفوعات الفائدة غير مستدامة؛ وفي أيار/مايو من ذلك العام، أعلنت فعلياً أنها معروضة للبيع وشرعت في خفض ديونها لجعلها جاذبة للمشترين المحتملين. كان مصنعها الأصلي في ميلووكي أولى الأصول التي اختارت بيعها.

لم يخلق عصر المال السهل قدراً أعظم من اللامساوة فحسب، بل جعل الأسواق أكثر عرضة للكوارث المُحتملةيتتبع ليونارد المسيرة المهنية لأحد موظفي Rexnord، جون فيلتنر، الذي بدأ العمل هناك في العام 2013. بدأ براتب بقيمة 60 ألف دولار، أقل بنحو 20 ألف دولار من راتب وظيفته السابقة في صناعة قطع غيار السيارات مع مزايا ورعاية صحية أسوأ. وعندما أُغلق مصنع Rexnord في العام 2017، حصل على وظيفة في مستشفى بمبلغ 40 ألف دولار، ومع مزايا ورعاية صحّية أسوأ. في الوقت نفسه، كوفئ الرئيس التنفيذي لشركة ريكسنورد، تود آدمز، بمبلغ 12 مليون دولار، مما زاد صافي ثروته إلى نحو 40 مليون جنيه إسترليني. 

لم يخلق عصر المال السهل قدراً أعظم من اللامساوة فحسب، بل جعل الأسواق أكثر عرضة للكوارث المُحتملة. يصف أحد الفصول الأكثر إثارة في كتاب ليونارد، «الإنقاذ الخفي»، الأحداث التي وقعت في وول ستريت في 17 أيلول/ سبتمبر 2019، عندما واجه النظام المالي العالمي انهياراً كان من الممكن أن يكون ضعف ما كان عليه في العام 2008. ارتبطت الظروف، التي أدّت إلى هذا الحادث، بسلوك الصناديق التحوّطية، وتركّزت على حركة اتفاقيات إعادة الشراء («repos»): أي القروض القصيرة الأجل (بين عشية وضحاها في كثير من الأحيان)، والتي برزت أيضاً في خلال الاضطرابات التي اجتاحت أسواق المال في لندن في تشرين الأول/أكتوبر 2022.

تستمرّ صناديق التحوّط لا من خلال المخاطرة فحسب، وإنّما أيضاً من خلال البحث عن ما يسمّيه ليونارد «التجاعيد» في الأسواق المالية واستغلالها. في هذه الحالة، كان الفرق البسيط في السعر بين سند الخزانة (في الأساس هو سند مالي صادر عن الحكومة) والعقد الآجل على سند الخزانة أي إعادة الشراء، بمثابة وعد بتسليم السند إلى شخص ما في تاريخ وبسعر معيّنين. كانت صناديق التحوّط في وول ستريت تستغل نظام المال السهل من أجل المقامرة على هذه الفوارق البسيطة في الأسعار، وترفع رهاناتها حتى يصبح لديها خمسين دولاراً إضافياَ مقابل كل دولار، من أجل استخدامها في التداول. وعلى حد تعبير ليونارد، «لقد كان مالاً سهلاً، يشبه جمع ملايين البنسات من الرصيف». بين العامين 2014 و2019، ارتفعت القيمة الإجمالية لهذه المقامرة من 200 مليار دولار إلى 900 مليار دولار. نجح كل شيء مع بقاء أسعار إعادة الشراء منخفضة، لأنها إذا ارتفعت فقد تدمر التجارة.

حدث هذا الارتفاع في أيلول/سبتمبر 2019، عندما طلبت مجموعة من الشركات الكبرى، التي تدفع فواتيرها الضريبية السنوية والمزاد رُبع السنوي لأذون الخزانة الفيدرالية، سحب مبالغ ضخمة من السوق. لقد أدّى استنزاف النقد الناتج عن ذلك إلى ارتفاع أسعار الفائدة، ممّا جعل صناديق التحوّط بلا خيار غير البدء في بيع الأصول، مثل سندات الخزانة، من أجل الاستمرار في العمل. وأدّى الذعر الناتج عن ذلك إلى ارتفاع هائل في المعدّلات، فيما الاحتياطي الفيدرالي ينظر إلى الهاوية. وكان خياره الوحيد هو غمر السوق بمبلغ 75 مليار دولار على شكل قروض إعادة الشراء، وإطلاق برنامج ضخّ الأموال في النظام الذي استمرّ حتى نهاية تشرين الأول/أكتوبر 2019.

كشف تفشّي وباء كوفيد -19 عن مدى ضعف الأسواق العالمية نتيجة نظام المال السهل. ولكن هذه المرة انتهى الاحتياطي الفيدرالي إلى إنقاذ النظام عبر سندات بقيمة 625 مليار دولار. كما أقنع الكونغرس باستثمار 454 مليار دولار في النظام، ممّا مكّنه من إقراض 4 تريليون جنيه إسترليني في شكل ديون جديدة. يرصد ليونارد ما حدث لكل هذه الأموال، ومن غير المستغرب أن تنتهي النسبة الأكبر منها في جيوب الأغنياء.

انهيار العام 2008 لم ينتهِ أبداً. والقضايا التي تسبّبت به لم تعالج أبداً. وإنّما جرى اخفاؤها بفعل طوفان الأموال السهلة التي شوهت أسواق المال العالميةالتوقّع الأخير الذي توصّل إليه هونيغ وغيره في بداية نظام المال السهل هو صعوبة إنهائه. وهذا ما حدث بالضبط. يتتبع ليونارد الأحداث الصادمة في وول ستريت في مدار «محور باول»، عندما أعلن رئيس الاحتياطي الفيدرالي جاي باول في كانون الثاني/يناير 2019 أنه سيتوقّف عن رفع أسعار الفائدة بعد أربع سنوات من القيام بذلك. ويصف أيضاً تقلّب السوق، الذي أطلق عليه اسم «نوبة الخفض التدريجي»، في أيار/مايو 2013، وصاحبت الإعلان عن خفض التيسير الكمي تدريجياً. في ذلك الوقت، كان المستثمرون الأجانب أكبر الخاسرين مع انخفاض قيمة عملات الدول النامية مثل تركيا والبرازيل والمكسيك وبولندا بنسبة 4% إلى 5%.

وكما يقول ليونارد، فإن انهيار العام 2008 لم ينتهِ أبداً. والقضايا التي تسبّبت به لم تعالج أبداً. وإنّما جرى اخفاؤها بفعل طوفان الأموال السهلة التي شوهت أسواق المال العالمية، وأثرت الأكثر ثراءً ومكّنت المستثمرين من المقامرة بتداولات أكثر خطورة، وهم على يقين من أن الاحتياطي الفيدرالي سوف ينقذهم دوماً. 

مع ذلك، جوبه الكتاب بانتقادات من المعلّقين اليساريين في الولايات المتّحدة، مثل تيم باركر وتيموثي بي لي، بسبب افتقاره للتحليل الاقتصادي واختياره «البطل» توماس هونيغ. تأثّرت آراء هونيغ حول السياسة النقدية بالمدرسة النمساوية للاقتصاد المرتبطة بلودفيغ فون ميزس وفريدريك هايك. وبدورهم، أثر خبراء الاقتصاد هؤلاء بقوّة على بطل مذهب النقدية ميلتون فريدمان. قد يكون مارغريت تاتشر ورونالد ريغان من أشهر المعجبين بالمفكّرين الثلاثة، ولاسيما النتائج المفترضة للسياسات التي يقال إن نظرياتهم ولدتها.

يجادل لي، في موقعه الإلكتروني Full Stack Economics، أنه بعيداً من إلحاق الضرر بموظّفين مثل جون فيلتنر، فإن الفترة التي تزيد عن عقد من المال السهل قد أفادت العمال في مجموعة من الصناعات الأخرى. فضلاً عن ذلك، يقدّم الأدلة التي توضح أن عملية إنقاذ النظام الضخمة التي قام بها الاحتياطي الفيدرالي في العام 2020 ساعدت على تحقيق أسرع انتعاش في التوظيف في تاريخ الولايات المتّحدة، والتي أعقبت فترة الإغلاق في خلال تفشّي كوفيد-19. كما يقدّم باركر أرقاماً تدحض الادعاء بأن عصر المال السهل قد عَمّقَ بشكل كبير اللامساواة في الثروة.

لا تأتي الانتقادات من المعلّقين اليساريين فحسب. في كتابه الأخير، يصف ألان س. بلايندر، نائب رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأسبق وأحد مؤيدي الاقتصاد الكينزي، هونيغ بأنه «القريب الأول» للنظرية النقدية، ويسخر من دعوته إلى «رفع أسعار الفائدة بشكل متواضع» في العام 2010، في أوج الأزمة في الأشهر التي أعقبت انهيار ليمان براذرز. كما يشير بلايندر إلى ثبوت خطأ ادعاء فريدمان بأن التضخّم «دائماً وفي كل مكان» ظاهرة نقدية ــ وهو التصريح الذي أطلق هجوماً مثيراً للجدال على الكينزية في سبعينيات القرن الماضي - في الأقل من حيث تفعيل وتطوير السياسة النقدية في العقود الأربعة منذ أطلقها. كما يزعم أن أحد أبرز مؤيّديه، وهو رئيس الاحتياطي الفيدرالي السابق بول فولكر (بايب روث المصارف المركزية، أي أشهرهم على الإطلاق)، كان يتصرّف وكأنه يتبع المبادئ النقدية عندما رفع أسعار الفائدة إلى 20% في حزيران/ يونيو 1988. ومع ذلك، أوضح من بعدها أن الأداء كان عبارة عن حيلة، وكان إبقاء المعروض النقدي تحت السيطرة «طريقة سهلة للحصول على الدعم العام» لمعدلاتِ فائدة أعلى.

أصبحت هذه السياسة النقدية الأميركية تمثل جانباً حاسماً في إدارة الولايات المتّحدة، وبالتبعية في إدارة القسم الأكبر من الاقتصاد العالمي، وفقاً لبلايندر، منذ أن بدأ تطبيق هذه السياسات في العام 1967 تحت إدارة ليندون ب. جونسون. حتّى ذلك الوقت، كان واضعو السياسات يتطلّعون إلى التدابير المالية الكينزية (الضرائب والإنفاق العام) فضلاً عن التدابير النقدية من أجل تعزيز الطلب أثناء فترات الركود. مع ذلك، عندما يتعلّق الأمر بالحدّ من الطلب في خلال الطفرة التضخّمية - عندما يكون من الضروري زيادة الضرائب وخفض الإنفاق - احتلّت السياسات النقدية مركز الصدارة «وتحمّلت العبء عن السياسيين». والواقع أن مثل هذه المناورات، بالإضافة إلى ازدياد العوائق أمام توصّل بين الديمقراطيين والجمهوريين إلى اتفاق سياسي على إدارة الاقتصاد، وضعت عبء توجيه السياسة على عاتق الاحتياطي الفيدرالي.

احتلّت السياسات النقدية مركز الصدارة «وتحمّلت العبء عن السياسيين». والواقع أن مثل هذه المناورات، بالإضافة إلى ازدياد العوائق أمام توصّل الديمقراطيين والجمهوريين إلى اتفاق سياسي على إدارة الاقتصاد، وضعت عبء توجيه السياسة على عاتق الاحتياطي الفيدراليمع ذلك، فإن بنك الاحتياطي الفيدرالي ليس البنك المركزي الوحيد الذي شهد تغييراً كبيراً نتيجة لسنوات من التيسير الكمّي والبرامج الضخمة لشراء السندات التي أثارتها أزمة كوفيد -19. وكما يقول المؤرخ اليساري الليبرالي آدم توز في كتابه «الإغلاق: كيف هزَّت جائحة كوفيد الاقتصاد العالمي»، رفضت البنوك المركزية عند حصولها على استقلاليتها في السبعينيات والثمانينيات، تنقيد الديون الحكومية ووضعت كلّ الاقتراحات حول شراء السندات الحكومية خارج النقاش. أمّا اليوم فقد أصبحت «أشبه بمستودعات» لهذه السندات، ولا أحد يستطيع أن يخمن الوقت الذي قد يستغرقها لبيعها، والأرباح أو الخسائر التي قد تنتج عن ذلك. وهذا يجعل أي تقييم لمن تربَّح وماذا جنَى من نظام المال السهل الذي غطاّه ليونارد غير معروف تقريباً.

وأخيرا، يبرز سؤالان من عصر المال السهل. أولاً، وكما أوضح ليونارد، فإن «بارونات المال السهل» وجّهوا السياسة النقدية الأميركية نحو تشجيع المستثمرين على ضخّ الأموال في مشاريع أكثر خطورة، فلماذا لم يخصّص سوى القليل منها للصناعات الإنتاجية؟ ففي نهاية المطاف، الإنتاج هو المصدر الرئيسي لفائض القيمة الذي يحافظ على استمرارية الرأسمالية. وثانياً، لماذا لم تسفر الفترة الطويلة من اتباع سياسات التيسير الكمّي عن تضخم؟ لم تسجّل معدّلات تضخّم عالية حتّى بدأ تخفيف الإغلاق الذي نفّذ في خلال فترة تفشّي جائحة كوفيد -19، قبل أن يقوّض الإقلاع الاقتصادي بسبب سلاسل التوريد المقيّدة.

تكمن الإجابة على السؤال الأول في انخفاض معدل الربح على المدى الطويل: الفائض الذي يستطيع رأس المال الإنتاجي استخراجه من استثماراته. وهذا ما يفسّر سعي الرأسماليين على مدى العقود الثلاثة الماضية إلى تحقيق مكاسب أكبر من الاستثمارات في النظام المالي العالمي عبر أدوات أكثر تعقيداً من أي وقت مضى - مثل العقود الاشتقاقية والتزامات الديون المضمونة وما إلى ذلك -حيث يمكن تحقيق أرباح أعلى.

أمّا الجواب على السؤال الثاني فينبثق من الأول. معظم النقود لم تصبح نقداً في الواقع، بل بقيت في الأسواق المالية على شكل سندات، وعمليات إعادة شراء، وسندات خزينة وما إلى ذلك، حيث جرى استثمارها في البورصة والأسهم والأصول المالية، والتي لا يستطيع أن يتحمّل كلفتها سوى الأغنياء: يبدو هذا العالم منفصلاً عن واقع عجلات الصناعة والتجارة حيث تنشأ الثروة الحقيقية.

ومع ذلك، فقد أوضح كارل ماركس أن الأسواق المالية لرأس المال - نظام الائتمان - نشأت بمجرد أن أصبحت قوة العمل، التي لديها القدرة على إنتاج قيمة أكبر ممّا تستهلكه، متاحة كسلعة: فمالك المال ومالك قوة العمل لا يدخلان إلّا في علاقة المشتري والبائع … ولكن المشتري يبدو أيضاً ومنذ البداية كمالك لوسائل الإنتاج … وبالتالي فإن العلاقة الطبقية بين الرأسمالي والعامل المأجور قائمة … إذ ليس المال هو الذي يخلق هذه العلاقة بطبيعته، بل وجود هذه العلاقة هو الذي يسمح بتحويل وظيفة النقد إلى وظيفة رأس المال.  وكما يقول ديفيد هارفي في كتابه حدود رأس المال، بعبارة أخرى، «لا يمكن تحويل المال إلى رأس مال إذا لم يكن هناك عمل مأجور».

وبمجرد أن يتحوّل المال، من خلال وجود العمل المأجور وقوة العمل، ينطلق رأس المال في حملته اليائسة للقضاء على أي عقبة تمنع المال أن يتحول إلى رأس مال، وأكثر الطرق سهولة للقيام بذلك هي من خلال إنشاء نظام الائتمان - رائد الأسواق المالية المعاصرة.

لا يسمح نظام الائتمان بتفكيك الاكتناز فحسب. إنّ خلق القيمة عن طريق استغلال قوة العمل، يتطلّب الاستمرارية والتنسيق السلس في نظام إنتاجي يعجّ بالانقطاع وعدم الاتساق. وأكثر من ذلك، لا يمكن معادلة معدّل الربح البالغ الأهمية الذي يحكم الاستثمار، إلّا إذا كان بوسع رأس المال النقدي أن ينتقل بسرعة من مجال إنتاج إلى آخر، في حين يتطلّب التراكم وإعادة الاستثمار إنفاق مبالغ ضخمة بشكل دوري، والتي كانت ستُكْتَنز لولا ذلك. وكما يقول هارفي، «لهذه الأسباب وغيرها، يظهر نظام الائتمان باعتباره الطفل المدلل لنمط الإنتاج الرأسمالي».

«الحركة المستقلّة» لرأس المال المُدرّ للفائدة، ورأس المال الوهمي الذي تخلقه، على حد تعبير ماركس، هي التي تصبح «منبع كلّ أشكال الجنون» التي يصوّرها كتاب ليونارد بيانياًيميّز ماركس بين مالكي رأس المال النقدي - المستثمرون في رأس المال المدر للفائدة، مثل مجموعة كارليل وإدارة أبولو - والرأسماليين المنتجين مثل ريكسنورد، الذين يوظفون رأس المال في تراكم فائض القيمة. وتتضح أهمية هذا التمييز في تكوين رأس المال الثابت، مثل المصانع والسكك الحديدية والموانئ وما إلى ذلك، التي تتطلّب استثمار مبالغ كبيرة من رأس المال على مدى فترات طويلة من الزمن. هنا، يستثمر مالكو رأس المال النقدي في الحصّة المتوقّعة من فائض القيمة المنتجة في المستقبل - وهو شكل من أشكال الاستثمار أطلق عليه ماركس رأس المال الوهمي لأنه لا يتحقّق إلّا بتحقّق القيمة المضافة. وتوزّع مطالبهم أو سندات ملكيتهم للقيمة المستقبلية المتداولة في السوق، والتي أشار إليها ماركس باسم «النسخ الورقية»، تماماً كما كانت استثمارات كارلايل في Rexnord، والتي جنت الأرباح من جرائها. مع ذلك، كانت هذه الأرباح وهمية، إلى أن بدأت Rexnord نفسها بمراكمة القيمة الفائضة التي يمكن تحويلها في نهاية المطاف إلى واقع. وبعبارة أخرى، يمكن أن تتقلّب مطالب مالكين رأس المال الوهمي وفقاً لتحرّكات السوق المالية بشكل مستقل تماماً عن حركة قيمة رأس المال الحقيقي التي هي سندات عليه.

هذه «الحركة المستقلّة» لرأس المال المُدرّ للفائدة، ورأس المال الوهمي الذي تخلقه، على حد تعبير ماركس، هي التي تصبح «منبع كلّ أشكال الجنون» التي يصوّرها كتاب ليونارد بيانياً. يوفّر «بارونات المال السهل» - بغض النظر عن افتقاره إلى التحليل الجادّ - سجلاً رائعاً لهذه «الأشكال المجنونة» التي تستطيع أكبر سوق مالية في العالم إنتاجها، والتي تنهار بسهولة وتتحوّل إلى أزمة بالتبعية.

ينتهي الكتاب بمقارنة تستحق الإشارة إليها: «في التسعينات، ارتفعت إنتاجية العمل في الولايات المتحدة بمعدل متوسط يبلغ حوالي 2.3%، وفي خلال عقد سياسة سعر الفائدة الصفري ارتفعت بنسبة 1.1%. وارتفع متوسّط الدخل الحقيقي للرواتب والأجور بنسبة 0.7% سنوياً في خلال التسعينات، ولكنّه ارتفع بنسبة 0.26% فقط في خلال عقد 2010. وارتفع متوسّط نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بمتوسط 3.8% سنوياً في خلال التسعينات، وبنسبة 2.3% فقط في خلال العقد الأخير. الجزء الوحيد من الاقتصاد الذي يبدو أنه يستفيد من سياسة سعر الفائدة الصفري هو سوق الأصول. تضاعفت قيمة سوق الأوراق المالية في خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وحتى بعد انهيار العام 2020 ، واصلت الأسواق نموها وعائداتها الهائلة». 

نُشِرت هذه المراجعة في International Socialism في نيسان/أبريل 2023.