
معضلة الاقتصادات النامية
أولوية النمو والحماية الاجتماعية أم دفع فوائد الديون؟
في العام 2025، ستضطر حكومات البلدان النامية الى تخصيص ما لا يقل عن 9.5% من إيراداتها لسداد صافي فوائد الديون المتراكمة عليها، بالمقارنة مع 6.4% في العام 2021، وأصبحت تدفع ضعف النسبة التي كانت تدفعها قبل عقد من الزمن، وهي النسبة الأعلى منذ أكثر من عقدين، بحسب بيانات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. لذا تجد البلدان النامية نفسها في وضع حرج، فهي تضطر إلى استنزاف مواردها المالية لخدمة ديونها بدل الإنفاق لتحسين الخدمات العامة كالصحة والتعليم أو الاستثمار من أجل النمو الاقتصادي طويل الأمد، وأصبحت الأموال تصرف بشكل متزايد لصالح الدائنين وليس لصالح السكان والأجيال المقبلة.
اليوم، يوجد 56 بلداً، أو 45% من البلدان النامية، تسدد أكثر من 10% من إيراداتها على فوائد الديون، أي ضعف ما كان عليه الوضع قبل عقد من الزمن تقريباً. أما عدد البلدان التي تسدّد أكثر من 20% من إيراداتها - وهي عتبة مرتبطة بشكل كبير بمخاطر التخلف عن السداد - فيبلغ نحو 17 بلداً. وهذا العدد ضعف ما كان عليه قبل عقد من الزمن تقريباً أيضاً.
يؤدي ارتفاع مدفوعات الفائدة إلى توسيع الفجوة بين إيرادات ونفقات حكومات البلدان النامية، ويرتّب عجزاً إضافياً في الميزانية. كانت الحكومات النامية بين عامي 2000 و2009 تحصّل إيرادات توازي 25.9% من ناتجها المحلي الإجمالي، وتنفق في المقابل رقماً أكبر يشكّل 26.9% من الناتج، أي أنها كانت تتعامل مع عجز في الميزانية (الإيرادات ناقص الإنفاق) يوازي 1% من الناتج المحلي الإجمالي، تضخّم هذا الرقم إلى 2.4% من الناتج بين 2010 و2019، وواصل ارتفاعه إلى 3.5% من الناتج في السنوات الخمس الماضية بين عامي 2020 و2024، وباتت حكومات البلدان النامية تحصّل إيرادات بنحو 27.4%، بينما تنفق بنحو 30.9%.
مع ارتفاع العجز في الميزانية، باتت الدول النامية تمارس سياسات تقشفية قاسية، وتتردّد بإنفاق أي دولار إضافي، ولو كان سيساهم في تطوير الاقتصاد المحلي. لذا، يشير البنك الدولي إلى أن «توقعات النمو في الاقتصادات النامية على المدى الطويل هي الأضعف منذ بداية القرن، ويرجع ذلك جزئياً إلى أعباء الديون المرتفعة». بين عامي 2000 و2009 كانت توقعات النمو الاقتصادي على المدى الطويل (أي من 6 إلى 10 سنوات مقبلة) للدول النامية تساوي نحو 5.9% في المتوسط، لتنخفض إلى 5% بين 2010 و2019، و3.6% بين 2020 و2024.
نحن إذاً أمام مقايضة بين التنمية ودفع فوائد الديون، وتبرز هذه المقايضة بالنسبة إلى البلدان ذات الحاجة الأكبر للإنفاق الإنمائي، بحسب برنامج الامم المتحدة الانمائي، فإن أقل البلدان نمواً، تنفق الآن كمجموعة ما يقرب من 15% من إجمالي الإيرادات على مدفوعات الفائدة مقارنة بنسبة 9.5% لمجموعة الاقتصادات النامية من دون أقل البلدان نمواً.
في مجموعة البلدان الأفقر في العالم، تضاعفت مدفوعات الفائدة وحدها 4 مرات في خلال العقد الماضي، مع ما يقدّر مجموعه بنحو 36 مليار دولار أميركي في العام 2023. في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وهي أفقر منطقة في العالم، تضاعفت مدفوعات الفائدة (كنسبة مئوية من الإيرادات) 3 مرات تقريباً على مدى العقد الماضي، وقد بلغ متوسطها في العام 2025 ما يقرب من 11%. يعتبر هذا خبراً سيئاً لتوقعات النمو للبلدان الفقيرة، فمن المرجح أن تتحول 6 بلدان فقط من أصل 26 بلداً منخفض الدخل في العالم إلى بلدان متوسطة الدخل بحلول العام 2050.
مع العلم أن التخفيف الشامل للديون عن البلدان الفقيرة هو في المتناول، إذ أن إجمالي الدين العام الخارجي (الفائدة وأصل الدين) يقدر بنحو 205 مليار دولار أميركي لأفقر 31 بلداً مصنفاً إما في حالة ضائقة ديون أو معرض بشكل كبير لأن يكون كذلك، وهو رقم أقل من ثلث مخصصات حقوق السحب الخاصة (SDR) في صندوق النقد الدولي لعام 2021، والتي ذهبت في الغالب إلى البلدان الغنية التي لا تحتاج إليها.