Preview الصراع الطبقي في إسرائيل

الصراع الطبقي في إسرائيل: فرصة لإنتاج نضال ثوري ضد الصهيونية؟

نشر هذا المقال في International Socialist Review في أيار/مايو - حزيران/يونيو 2002. وهو جزء من سلسلة مقالات جمعها وحرّرها آري بوبر في كتاب «الوجه الآخر لإسرائيل: الحجة القاطعة ضدّ الصهيونية» الذي صدر في العام 1972. 

 

  • معظم الإسرائيليين يحدّدون مركزهم الاجتماعي على أساس أصولهم العرقية والجغرافية، وهذا النوع من الوعي الاجتماعي يقف عائقاً أمام الطبقة العاملة في مسعاها إلى لعب دور مستقل، ناهيك عن أي دور ثوري يرمي إلى إحداث تحوّل كامل في المجتمع.

  • على الرغم من وجود صراعات طبقية في المجتمع الإسرائيلي، إلا أنها تظل خاضعةً لحقيقة أن المجتمع ككلّ مدعوم من الخارج. ويرتبط هذا الوضع الفريد بدور إسرائيل في المنطقة، وطالما استمر هذا الدور، فإن احتمال اكتساب الصراعات الاجتماعية الداخلية طابعاً ثورياً سيبقى ضئيلاً.

يضمّ المجتمع الإسرائيلي كغيره من المجتمعات الطبقية مصالح اجتماعية-طبقية متضاربة تولّد صراعاً طبقياً داخلياً. غير أن هذا المجتمع ككلّ غارق منذ 50 عاماً في صراع خارجي بين الصهيونية والعالم العربي، وخصوصاً فلسطين. فأيّ من هذين الصراعين يُهيمن على الآخر؟ وما طبيعة التبعية بينهما وما ديناميّاتها؟ هذه أسئلة مهمّة يجب على كلّ المعنيين بالشأنين الاجتماعي والسياسي في إسرائيل الإجابة عنها.

هذه الأسئلة ليست أسئلة أكاديمية بالنسبة للحركات الثورية داخل إسرائيل، فأجوبتها ترسم معالم الاستراتيجية التي يتبنّاها النضال الثوري. إنّ الذين يعتبرون الصراع الطبقي الداخلي هو المهيمن يركّزون على الطبقة العاملة الإسرائيلية، ويولون أهمية ثانوية للصراع مع الدولة الصهيونية بطبيعتها الاستعمارية والقومية والعنصرية. ويفترض هذا الموقف أنّ الصراع الخارجي امتداد للصراع الداخلي، وأنّ الديناميات الداخلية للمجتمع الإسرائيلي ستنتهي بثورة داخل إسرائيل من دون أن تكون مرهونة بثورة اجتماعية في العالم العربي.

لا يزال المجتمع الإسرائيلي مجتمع مُهاجرين تنطبق عليه سمات هذا النوع المجتمعات، حيث لا تزال الطبقات، وحتى الوعي الطبقي، في مرحلة تكوينية

تبيّن لنا تجارب البلدان الرأسمالية الكلاسيكية أنّ الصراعات والمصالح الطبقية الداخلية غالباً ما تطغى على الخارجية منها. لكنّ هذه النظرية لا تنطبق على بعض الحالات. فعلى سبيل المثال، وفي بلد مُستعمَر تحكمه قوّة أجنبية حكماً مباشراً، لا يمكن استنباط ديناميات المجتمع المُستَعمَر من صراعاته الداخلية، بما أنّ الصراع مع القوّة المُستَعمِرة هو المهيمن. وإسرائيل لا هي دولة رأسمالية ولا مُستَعمرة بالمعنى الكلاسيكي، حيث أنّها تتفرّد بخصائص اقتصادية واجتماعية وسياسية تجعل أي محاولة لتحليلها من منطلق نظريات أو تشبيهات تنطبق على مجتمعات أخرى محاولةً هزلية. فالتحليل ينبغي له أن يراعي خصوصية المجتمع الإسرائيلي لناحية تاريخه وسماته الفريدة. 

السمة الأولى للمجتمع الإسرائيلي هي أنّ الشريحة العُظمى من السكان تتألف من مهاجرين أو أبناء مهاجرين. في عام 1968، وصل عدد السكان اليهود البالغين (أي في سنّ الـ 15 فما فوق) إلى 1,689,286، بينهم 24% وُلدوا في إسرائيل و4% فقط وُلِدَ آباؤهم فيها.1  وحتى يومنا هذا، لا يزال المجتمع الإسرائيلي مجتمع مُهاجرين تنطبق عليه سمات هذا النوع المجتمعات، حيث لا تزال الطبقات، وحتى الوعي الطبقي، في مرحلة تكوينية. تولّد الهجرة لدى المهاجر انطباعاً بأنّه «بدأ فصلاً جديداً من حياته». وفي العادة، يغيّر المُهاجر مهنته ودوره الاجتماعي وطبقته. وفي حالة إسرائيل، فإنّ معظم المُهاجرين ينتمون إلى طبقة البرجوازية الصغيرة الوافدة من حواضر أوروبا الوسطى والشرقية أو من مدن وبلدات في العالم العربي. ويسعى المهاجر الجديد بالتالي إلى تغيير مركزه الاجتماعي، معتبراً أنّ كلّ المراكز الجيّدة في المجتمع الجديد يشغلها مُهاجرون أتوا قبله، الأمر الذي يزيده طموحاً لتسلق السلّم الاجتماعي متّكئاً على عمله الشاق والطويل. كما يرى المهاجر أنّ دوره الاجتماعي الفعلي لا يعدو كونه انتقالياً، فوالده لم يُضطرّ إلى الكدح إلّا نادراً، فنراه يعيش على أمل أن يصبح مستقلاً يوماً ما، أو أن يتمكن ابنه من ذلك في الأقل. والوعي والاعتزاز الطبقيان المنتشران بين طبقات البروليتاريا البريطانية والفرنسية غير موجودين في إسرائيل، وقد يبدوان غريبين على كثير من العمّال الإسرائيليين. فالعامل الإنكليزي إن سئِل عن أصله سيجيب تلقائياً بمصطلحات طبقية («أنا من الطبقة العاملة!») وسيتبنّى إزاء الغير مواقف مستمدّة من المفاهيم السائدة بين أبناء طبقته. والأمر يختلف تماماً بالنسبة للعامل الإسرائيلي الذي سيُقرِن أصله بانتماءات عرقية، فينظر إلى نفسه وإلى غيره باعتبارهم «بولنديين» أو «شرقيين» وما إلى ذلك. بالتالي، فإنّ معظم الإسرائيليين يحدّدون مركزهم الاجتماعي على أساس أصولهم العرقية والجغرافية، وهذا النوع من الوعي الاجتماعي يقف عائقاً أمام الطبقة العاملة في مسعاها إلى لعب دور مستقل، ناهيك عن أي دور ثوري يرمي إلى إحداث تحوّل كامل في المجتمع.

لا يمكن لأي طبقة عاملة أن تؤسّس حراكاً ثورياً في المجتمع بينما يطمح أفرادها بغالبيتهم إلى تحسين أوضاعهم بمعزل عن الغير من خلال التخلّي عن طبقتهم. ويترسّخ هذا الواقع طالما أنّ البروليتاريا لا تعترف بأنّها طبقة اجتماعية مستقرّة لها مصالحها الجماعية ونظام قيمها الخاص الذي يتعارض مع النظام الاجتماعي القائم. إنّ الدافع نحو التحوّل الكامل للمجتمع لا يتبلور بسهولة في مجتمعات المهاجرين الذين ما لبثوا أنّ غيّروا وضعهم الاجتماعي والسياسي وما زالوا يعيشون في ظلّ حراك اجتماعي نشِط. وهذا لا يعني أن الطبقة العاملة الإسرائيلية لا تستطيع أن تصبح قوة ثورية في المستقبل؛ بل إنّ النشاط السياسي الحالي الذي تشهده هذه الطبقة لا يمكن أن ينطلق من الافتراضات والتوقعات نفسها التي تنطبق على بلد رأسمالي كلاسيكي.

يرى المهاجر أنّ دوره الاجتماعي الفعلي لا يعدو كونه انتقالياً، فوالده لم يُضطرّ إلى الكدح إلّا نادراً، فنراه يعيش على أمل أن يصبح مستقلاً يوماً ما، أو أن يتمكن ابنه من ذلك في الأقل

إذا كانت السمة الفريدة الوحيدة للطبقة العاملة الإسرائيلية تكمن في أنّها تتكوّن من مُهاجرين، فمن المفترض أنّها مع مرور الزمن والبروباغندا الاشتراكية المدروسة ستبدأ بلعب دور مستقل، لا بل ثوري أيضاً. وفي هذه الحالة، لن يختلف العمل التوعوي المنظّم كثيراً عن سواه في أماكن أخرى من العالم. غير أنّ المجتمع الإسرائيلي ليس مجرّد مجتمع مُهاجرين وحسب، بل مُجتمع مستوطنين في حقيقة الأمر، وهو بطبقته العاملة نتاج عملية استعمارية بدأت منذ 80 عاماً ولا تزال مستمرة حتى اليوم. هذه العملية لم تحدث في فراغ، بل في بلدٍ مأهول. وفي ظلّ الصراع الدائم بين المجتمع الاستيطاني وأهل الأرض، لم يتوقف تهجير الفلسطينيين، وقد رسم هذا الصراع ملامح التركيبة الاجتماعية لإسرائيل وسياستها واقتصادها. وتجدر الإشارة إلى أنّ الجيل الثاني من القادة الصهاينة يدركون ذلك، ففي خطابه الشهير في أثناء دفن روي روتبرغ، وهو أحد المستوطنين الذين قُتِلوا على يد المقاومة الفلسطينية عام 1956، قال موشيه دايان: 

«نحن جيل مستوطنين، ومن دون الخوذة الحديدية وفوهة المدفع لن نستطيع أن نغرس شجرة أو نبني بيتاً، فدعونا لا نغفل الكراهية التى تشتعل في صدور مئات الآلاف من العرب حولنا. فلنبقَ متيقظين كي لا ترتجف أيدينا على الزناد. هذا مصير جيلنا، وبديل حياتنا، أن نكون مستعدّين ومسلّحين، أقوياء وأشداء، كي لا يسقط السيف من أيدينا وتنتهي حياتنا».2

يُشكّل هذا الخطاب نقيضاً صارخاً للخرافة الصهيونية التي تدّعي أنّها «ستجعل الصحراء تُزهِر»، ودايان فضح هذا التناقض حين قال «تُزرَع حقولهم على أيدينا أمام أعينهم»، مُثبّتاً بذلك الحجةّ القوية التي يملكها الفلسطينيون.

في مقولته الشهيرة «إنّ شعباً يضطهد غيره لا يمكن أن يكون حراً»، لم تكن نيّة ماركس إطلاق حكم أخلاقي، فما قصده بالتحديد هو أنّ الطبقة المُستغَلّة في مجتمع يضطهد حكّامه شعباً آخر عليها أن تتصدى لهذا الاضطهاد بشكل فاعل، وإلّا أصبحت حتماً شريكة فيه. وحتى إن لم تحقّق هذه الطبقة أي مكسب مباشر من الاضطهاد، فقد يُخيّل لها أنّها وحكّامها تجمعهم مصلحة مشتركة في إدامته. وغالباً ما نرى هذه الطبقة تسير في ركب حكّامها بدلاً من الاعتراض على حكمهم. وهذه الحالة تظهر جليّةً عندما يقع هذا الاضطهاد «في الداخل» لا في بلدٍ بعيد، وحين يُشكّل القمع والسلب الظروف التي ينشأ فيها المجتمع الضالع في الاضطهاد. 

لا يمكن لأي طبقة عاملة أن تؤسّس حراكاً ثورياً في المجتمع بينما يطمح أفرادها بغالبيتهم إلى تحسين أوضاعهم بمعزل عن الغير من خلال التخلّي عن طبقتهم

تنشط المنظّمات الثورية داخل المجتمع اليهودي في فلسطين منذ عشرينيات القرن الماضي، وقد راكمت مع الوقت خبرات عن طريق نشاطها العملي. وتُقدّم هذه الخبرات دليلاً واضحاً على صوابية مقولة ماركس بأنّ الشعب الذي يضطهد غيره لا يمكن أن يكون حراً. ففي سياق المجتمع الإسرائيلي، تعني هذه المقولة أنّه ما دامت الصهيونية مهيمنة إيديولوجياً وسياسياً في أوساط هذا المجتمع، وما دامت تُشكّل الإطار السياسي السائد، فإنّ الطبقة العاملة الإسرائيلية ستظلّ عاجزة عن أن تتحوّل إلى طبقة ثورية. ولم تشهد الخمسون سنة الماضية تحرّكاً واحداً للعمّال الإسرائيليين ضدّ النظام الصهيوني على خلفية مادية أو نقابية. ويبدو من المستحيل تحريك ولو أقلية منهم في هذا الاتجاه، بل على العكس تماماً، يُغلّب العمّال الإسرائيليون دوماً ولاءاتهم القومية على ولاءاتهم الطبقية. وعلى الرغم من أنّ هذا الواقع عرضة للتغيير مستقبلاً، فهذا لا ينفي حاجتنا إلى تحليل أسباب بقائه على حاله لأكثر من خمسين سنة.

أمّا السمة الفريدة الثالثة فهي السمة العرقية للبروليتاريا الإسرائيلية، فمعظم فئاتها المُستغلّة تضمّ مُهاجرين من أصول آسيوية وأفريقية.3  للوهلة الأولى، قد يبدو أنّ إعادة إنتاج الانقسامات الطبقية من خلال الانقسامات العرقية ستزيد من حدّة الصراعات الطبقية الداخلية، وهذا بالفعل ما حصل في مناسبات نادرة، إلّا أنّ عامل الهوية العرقية ظلّ يدفع في الاتجاه المعاكس على مدى السنوات العشرين الماضية.

استطاع عدد كبير من المهاجرين القادمين من آسيا وأفريقيا تحسين أوضاعهم المعيشية عبر الانخراط في صفوف البروليتاريا في ظلّ مجتمع رأسمالي حديث. ولكنّ امتعاضهم لم يكن يوماً موجّهاً إلى وضعهم البروليتاري بل إلى كونهم «شرقيين»، أي أنّه يُقلّل من شأنهم ويتعرضون أحياناً للتمييز من جانب ذوي الأصول الأوروبية. وقد اتخذ الحكام الصهاينة تدابير للدمج بين الفئتين. غير أنّ محاولاتهم باءت بالفشل وظلّت الفروق واضحة وتنامت مع مرور الوقت.4  وفي منتصف الستينيات، شكّل اليهود الشرقيون حوالى ثُلثي العمالة غير الماهرة، وكان 38% منهم يعيشون في غرف تأوي ثلاثة منهم أو أكثر، مقابل 7% للمهاجرين من أوروبا. وقبل عام 1965، بلغت حصّة الشرقيين من التمثيل في الكنيست 16 من أصل 120 عضواً، وارتفع هذا العدد إلى 21 فقط بعد هذا العام.

في مقولته الشهيرة «إنّ شعباً يضطهد غيره لا يمكن أن يكون حراً»، قصد ماركس أنّ الطبقة المُستغَلّة في مجتمع يضطهد حكّامه شعباً آخر عليها أن تتصدى لهذا الاضطهاد بشكل فاعل، وإلّا أصبحت حتماً شريكة فيه

ومن هنا نسأل: لماذا فشلت إسرائيل في «إدماج» مجتمعها اليهودي وتطوير مهارات اليهود الشرقيين؟ تكمن الإجابة في طبيعة الدولة الصهيونية، فمع توسّع الاقتصاد، تنامى الطلب بشكل كبير على اليد العاملة الماهرة. ولتلبية هذا الطلب، هناك طريقتان لا ثالث لهما، إمّا إطلاق حملة واسعة النطاق لتعليم عدد كبير من اليهود الشرقيين غير المَهَرة وشبه المَهَرة، أو استقطاب العمّال اليهود المَهَرة من الخارج. وبطبيعة الحال، وقع الاختيار على الحل الثاني بحكم الديناميات التي يفرضها كلّ من الرأسمالية والصهيونية، الأمر الذي يُبقي اليهود الشرقيين في مكانة متدنية ضمن المجتمع الإسرائيلي.

تميل المجتمعات الرأسمالية عموماً إلى الحفاظ على الانقسامات الطبقية السائدة، وفي هذه الحالة، يُعدّ استقدام العمال المَهَرة من الخارج أقل كلفةً من إعدادهم وتدريبهم محلياً. وبصرف النظر عن القيمة الجوهرية التي تولّدها الهجرة اليهودية إلى إسرائيل من المنظور الصهيوني، فإنّ الصعود الكبير لليهود الشرقيين قد يخلق مشكلة للصهيونية في الوقت نفسه، وهنا نقصد أنّ الفراغ الذي سيطال الطبقة العاملة غير الماهرة وشبه الماهرة لن تملأه إلّا اليد العاملة العربية التي ستهيمن بالتالي على القطاعات الحيوية من البروليتاريا الإسرائيلية. وهذا بالطبع ما لن يطيقه القادة الصهاينة.5  لذا فما دام المجتمع الإسرائيلي مجتمعاً رأسمالياً ويهودياً بحتاً، فإنّ الانقسامات العرقية ستظلّ بلا شكّ طاغيةً على الانقسامات الطبقية.

لكنّ هذه الانقسامات والاختلافات الاجتماعية يُعبّر عنها الشرقيون بمصطلحات عرقية، فهم لا يقولون «أنا أُستغل وأتعرض للتمييز لأنني عامل» بل «أنا أُستغل وأتعرض للتمييز لأنني شرقي».

في سياق المجتمع الإسرائيلي الاستعماري الحالي، يشكّل العمّال اليهود الشرقيون فئة تشبه «البيض الفقراء» في الولايات المتحدة الأميركية أو «الأقدام السوداء» الجزائريين. وهذه الفئة تمتعض من إقرانها بالعرب والسود والسكان الأصليين أيّاً كانوا، وتعتبر أنّها أعلى شأناً منهم. لذا يكون ردّها بأن تصطفّ مع المكوّنات الأكثر شوفينية وعنصرية وتمييزية من المؤسسة السياسية، حيث أنّ معظم مؤيّدي حزب «حيروت» شبه الفاشي هم من اليهود المهاجرين من آسيا وأفريقيا. وهذه مسألة لا بدّ من أن يراعيها أيّ طرف يحمل استراتيجية ثورية للمجتمع الإسرائيلي ترتكز على تحالف مستقبلي مع الفلسطينيين واليهود الشرقيين، سواء أكان هذا التحالف قائماً على خلفية ظروفهم الاستغلالية المشتركة أو تقاربهم الثقافي، وذلك بحكم أنّ اليهود الشرقيين قدموا من بلدان عربية.

في ضوء ما ذكرناه آنفاً، تجدر الإشارة إلى أنّ المجتمع اليهودي الشرقي يشهد موجات اضطراب متقطّعة، أبرزها الاحتجاج العنيف الذي لم يدُم طويلاً في حيفا قبيل حرب السويس عام 1956، والحراك الذي بدأ قبل حرب حزيران/يونيو 1967، وأعيد إحياؤه عام 1970 مع تأسيس مجموعة «الفهود السود» الإسرائيلية. وكان ذلك مؤشراً إيجابياً على أنّ «الفهود السود» بدأوا يدركون بعضاً من أوجه العلاقة بين معاناتهم والطبيعة الصهيونية الرأسمالية لإسرائيل.

لم تشهد الخمسون سنة الماضية تحرّكاً واحداً للعمّال الإسرائيليين ضدّ النظام الصهيوني على خلفية مادية أو نقابية. ويبدو من المستحيل تحريك ولو أقلية منهم في هذا الاتجاه، بل على العكس تماماً، يُغلّب العمّال الإسرائيليون دوماً ولاءاتهم القومية على ولاءاتهم الطبقية

ليس المجتمع الإسرائيلي مجرّد مجتمع مُستوطنين نشأ بفعل عملية استعمارية طالت بلداً مأهولاً، بل هو أيضاً مجتمع يستفيد من امتيازات فريدة من نوعها، ذلك أنّه يتلقى موارد مادية كبيرة من الخارج، وهي موارد قلّ نظيرها كمّاً ونوعاً. تشير الحسابات إلى أنّ إسرائيل حصلت في 1968 على 10% من إجمالي المساعدات المقدّمة إلى البلدان في طور النموّ.6  وتُشكّل إسرائيل حالة خاصة في الشرق الأوسط، فهي مموّلة من الإمبريالية من دون أن تكون خاضعة لاستغلالها الاقتصادي. ولطالما كان الوضع على هذا النحو في السابق، فالإمبريالية توسّلت إسرائيل خدمةً لمآربها السياسية ودفعت مقابل ذلك دعماً اقتصادياً. وخير برهان على ذلك ما صرّح به مؤخراً أحد المستشارين الاقتصاديين السابقين للحكومة الصهيونية، الخبير الاقتصادي الأميركي أوسكار غاس: 

«اللافت في هذه العملية التنموية هو عامل التدفق الرأسمالي. ففي السنوات الـ 17 بين عامي 1949 و1965، تلقّت إسرائيل واردات سلعية وخدمية فاقت صادراتها بقيمة 6 مليارات دولار أميركي. وفي الفترة الممتدة بين عامي 1948 و1968، فاق فائض الواردات 7.5 مليارات دولار أميركي، ما يعادل فائضاً قيمته 2,650 دولاراً للفرد الواحد على مدى 21 عاماً لكلّ شخص عاش في إسرائيل (ضمن حدود ما قبل حزيران/يونيو 1967) في أواخر العام 1968. ومن ضمن هذه التدفقات الواردة من الخارج، 30% فقط وصلت إلى إسرائيل مشروطةً بخروج عائدات على الأسهم أو الفائدة أو رأس المال. هذا الوضع غير مألوف في أي مكان آخر ومن شأنه أن يقلّل إلى حدّ كبير من أهمية التنمية الاقتصادية لإسرائيل كنموذج للبلدان الأخرى».7

غُطّي 70% من هذا العجز البالغ 6 مليارات دولار أميركي من خلال «صافي تحويلات رأسمالية أحادية» (أي بلا عائد) لم تكن خاضعة لشروط على عائدات رأس المال أو أرباح الأسهم، فقد كانت عبارةً عن تبرّعات جمعتها منظمة «النداء اليهودي الموحد» وتعويضات من الحكومة الألمانية ومنح من حكومة الولايات المتحدة. وجاء 30% من «تحويلات رأسمالية طويلة الأجل»، من ضمنها سندات الحكومة الإسرائيلية وقروض من حكومات أجنبية واستثمارات رأسمالية. والأخيرة تستفيد من إعفاءات ضريبية وأرباح مضمونة بموجب قانون تشجيع الاستثمارات الرأسمالية الإسرائيلي؛8  غير أنّ مصدر الاستثمار شبه الرأسمالي هذا لم يكن سوى نقطةً في بحر التبرعات الأحادية وتحويلات القروض الطويلة الأجل. فطوال الفترة الممتدة بين 1949 و1965، جاءت التحويلات الرأسمالية (بشكلَيها) من المصادر التالية: 60% من اليهود المنشترين حول العالم، 28% من الحكومة الألمانية، و12% من حكومة الولايات المتحدة. أمّا تحويلات رأس المال الأحادية فجاءت من يهود العالم بنسبة 51.5%، ومن الحكومة الألمانية بنسبة 41%, و7.4% من حكومة الولايات المتحدة، فيما ورد 68.7% من التحويلات الرأسمالية الطويلة الأجل من يهود العالم، 20.5% من حكومة الولايات المتحدة، و11% من مصادر أخرى. وفي الفترة بين 1949 و1965، بلغ صافي وفورات الاقتصاد الإسرائيلي صفراً في المتوسط، مراوحاً بين +1% أحياناً و-1% في أحيان أخرى. بيد أنّ معدل الاستثمار في الفترة نفسها وصل إلى حوالى 20% من إجمالي الناتج القومي. ومن المُستبعد أن يكون هذا الاستثمار تأتّى من الداخل في ظل غياب الوفورات الداخلية، والحقيقة أنّ كلّ هذه الاستثمارات أتت من الخارج في شكل استثمارات رأسمالية أحادية واستثمارات رأسمالية طويلة الأجل. بعبارة أخرى، إنّ النمو الذي شهده الاقتصاد الإسرائيلي ما كان ليتحقق أبداً لولا تدفّق رؤوس الأموال من الخارج.9

ليس المجتمع الإسرائيلي مجرّد مجتمع مُستوطنين نشأ بفعل عملية استعمارية طالت بلداً مأهولاً، بل هو أيضاً مجتمع يستفيد من امتيازات فريدة من نوعها، ذلك أنّه يتلقى موارد مادية كبيرة من الخارج

منذ عام 1967 وهذا الاعتماد على الأموال الخارجية آخذ في الزيادة. وفي ظلّ تغيّر الأوضاع في الشرق الأوسط، فإنّ الإنفاق العسكري ارتفع. بحسب وزير الخزانة الإسرائيلي، قُدّر الإنفاق العسكري في كانون الثاني/يناير 1970 بنسبة 24% من إجمالي الناتج القومي لعام 1970، أي ما يوازي ضعف النسبة التي صرفتها الولايات المتحدة عام 1966، وأكثر من ثلاث مرّات النسبة التي صرفتها بريطانيا، وأربع مرّات النسبة المسجّلة في فرنسا.10  وقد ألقى هذا الوضع يثقله على مصادر التمويل الاستثماري الداخلية وعلى ميزان المدفوعات، وكان لا بدّ أن يترافق مع زيادة في تدفقات رأس المال. في 1967-1968، دعت إسرائيل إلى ثلاثة «مؤتمرات للمليونيريين»، ودُعي متموّلون أجانب للإسهام في زيادة تدفقات رأس المال والمشاركة الأجنبية في المشروعات الصناعية والزراعية. وفي أيلول/سبتمبر 1970، عاد وزير الخزانة الإسرائيلي بينحاس سابير من الولايات المتحدة بعد جولة لجمع الأموال دامت لثلاثة أسابيع، ولخّص الوضع العام آنذاك بالآتي:

«وضعنا لأنفسنا هدفاً بجمع مليار دولار أميركي من الجالية اليهودية في العالم للعام المقبل، وذلك من خلال النداء اليهودي الموحّد وحملة سندات التنمية الإسرائيلية برعاية الوكالة اليهودية. وهذا المبلغ يفوق بـ 400 مليون دولار المبلغ القياسي الذي جمعناه عام 1967... وإبّان الزيارة الأخيرة لفريق البحوث المالية الأميركي إلى إسرائيل، شرحنا لهم أنّنا حتى لو نجحنا في جمع كلّ ما نتوقّعه من النداء اليهودي الموحّد وحملة سندات التنمية الإسرائيلية، سنظلّ نحتاج إلى الملايين لسدّ احتياجاتنا. فبعد تجميع احتياجاتنا من الأسلحة، أبلغنا الولايات المتحدة أنّنا سنحتاج إلى 400-500 مليون دولار أميركي في السنة».11

وعليه، يبدو أنّ اعتماد إسرائيل على الولايات المتحدة تطوّر بشكل ملحوظ منذ حرب 1967. لم يعد جمع الأموال من اليهود حول العالم (باستمالة عواطفهم واللعب على مخاوفهم) كافياً لتمويل الموازنة العسكرية الضخمة، فقد تضاعف المتوسط التقريبي البالغ 500 مليون دولار أميركي من جمع الأموال، وزيادةً عليه، طُلِب إلى حكومة الولايات المتّحدة تقديم 500 مليون إضافية مباشرةً. وبدا من الواضح أنّ استعداد الإدارة الأميركية لصرف هذه المبالغ مرهون بما ستحصل عليه بالمقابل. في حالة إسرائيل الخاصة، لم يكن هذا المقابل ربحاً اقتصادياً.12

من جهته، كان رأس المال البريطاني يبني علاقاتٍ وثيقة أيضاً مع إسرائيل13 ، 20% من واردات الأخيرة مصدرها بريطانيا، أمّا التجارة فتضاعف حجمها تقريباً منذ حرب 1967، بحيث تعاونت شركة «بريتش ليلاند» مع الهستدروت (التي تملك حصة مقدارها 34% من أسهم الشركة) في إنتاج الحافلات، ومع الرساميل الإسرائيلية الخاصة في إنتاج السيارات والآليات.

لم يصبّ التدفق الهائل للأموال في أيدي البرجوازية الإسرائيلية الصغيرة، بل وصل إلى قبضة الكيان الصهيوني، الذي لطالما كان تحت سيطرة الأجهزة البيروقراطية للأحزاب العمّالية منذ عشرينيات القرن الماضي

أحدث التدفّق المتزايد للرساميل الأجنبية إلى إسرائيل تغييرات ضمن الاقتصاد نفسه، وذلك في ظلّ الضغوط المتعاظمة التي أفرزها الإنفاق العسكري. في هذا الصدد، ازدادت «كفاءة» الاقتصاد من خلال المعايير التي فرضتها الرأسمالية الأميركية، ومنها الإصلاح الضريبي، ولبرلة شروط الاستثمار، وابتعاث جنرالات الجيش الصهيوني إلى كليات الأعمال في الولايات المتحدة ومن ثمّ وضع المشاريع الصناعية تحت إدارتهم. وفي فترة 1968-1969، فُرِض تجميد إلزامي للأجور، في حين بيعَت بعض المؤسّسات العامة إلى شركات خاصة، ونذكر هنا على سبيل المثال حصة «الدولة» البالغة 26% من مصفاة نفط حيفا.    

لم يشمل تدفّق الموارد من الخارج الممتلكات التي استولت عليها الإدارة الصهيونية من الفلسطينيين اللاجئين بذريعة أنّها «ممتلكات مهجورة». وتضمّنت هذه الممتلكات أراضي، مزروعة وغير مزروعة. وجدير بالذكر أنّ 10% فقط من الأراضي التي تحتلّها الأجهزة الصهيونية ضمن حدود ما قبل 1967 تم شراؤها قبل عام 1948. كما تشمل الممتلكات منازل ومدناً مهجورة بالكامل كيافا واللد والرملة حيث صودر معظم الممتلكات بعد حرب 1948.

لم يصبّ التدفق الهائل للأموال في أيدي البرجوازية الإسرائيلية الصغيرة، بل وصل إلى قبضة الكيان الصهيوني،14  الذي لطالما كان تحت سيطرة الأجهزة البيروقراطية للأحزاب العمّالية منذ عشرينيات القرن الماضي، التي حدّدت طريقة استخدام هذه الأموال والممتلكات المسلوبة. تتحكّم الوكالة اليهودية بالأموال التي تُجمَع في الخارج، حيث تشكل الوكالة، مع الهستدروت والحكومة، أركان مثلّث مؤسسات الحكم، وتتمثل فيها الأحزاب الصهيونية كافة، من «مبام» إلى «حيروت». تموّل الوكالة قطاعات من الاقتصاد الإسرائيلي، وتحديداً المكوّنات غير الربحية من القطاع الزراعي، مثل مزارع الكيبوتسات، كما توزّع الأموال على الأحزاب الصهيونية لتستخدمها في إدارة صحفها ومؤسّساتها الاقتصادية. تقسَّم الأموال وفقاً للأصوات التي حصلت عليها هذه الأحزاب في الانتخابات السابقة، ويمكّن نظام الدعم هذا الأحزاب الصهيونية من الاستمرار طويلاً بعد رحيل القوى الاجتماعية التي أسستها.

سعى هذا النظام تاريخياً إلى دعم عملية الاستعمار، وفقاً لأفكار الأحزاب العمّالية الصهيونية، وإلى إحكام قبضة هذا الجهاز البيروقراطي على المجتمع الإسرائيلي. وقد نجح في السيطرة تنظيمياً واقتصادياً بشكل كامل على الطبقة العاملة الإسرائيلية بل وعلى البرجوازية الإسرائيلية أيضاً. كما حدّدت هذه البيروقراطية شكل معظم مؤسّسات المجتمع الإسرائيلي وقيمه وممارساته، في غياب أي معارضة ناجحة من الداخل، ولم تلجمها سوى قيود خارجية فرضتها الإمبريالية من جهة والمقاومة العربية من جهة أخرى. وقد انصبّت معظم هذه الموارد في مشاريع الهجرة والإسكان والتوظيف التي كانت ضرورية للتعامل مع موجات المهاجرين وارتفاع عدد السكّان اليهود من 0.6 مليون في عام 1948 إلى 2.4 مليون في 1968.

الصراع بين الطبقة العاملة الإسرائيلية وأصحاب العمل، البيروقراطيين منهم والرأسماليين، لا يدور فقط حول فائض القيمة التي ينتجها العامل، ولكن أيضاً حول الحصة التي تنالها كل مجموعة من الإعانات الخارجية

خلت هذه العملية تقريباً من الفساد الشخصي، ولكن شابها قدر كبير من الفساد السياسي والاجتماعي. وقد أثّر تدفق الموارد بشكل حاسم على ديناميات المجتمع الإسرائيلي، حيث كانت للطبقة العاملة الإسرائيلية حصة مباشرة وغير مباشرة في هذه الموارد التي لم ينتهِ بها الأمر في الجيوب الخاصة، كما يحصل في دول أخرى، بل استُخدمت لمساعدة المجتمع ككلّ. وإذا كان العامل اليهودي هناك لا يحصل على حصته نقداً، فقد استفاد منها على شكل مساكن جديدة وغير مكلفة نسبياً لم تكن لتُبنى برأسمال محلي؛ كما استفاد منها من خلال العمل في قطاعاتٍ مختلفة لم تكن لتوجد أو تستمرّ لولا الدعم الخارجي، ومن خلال مستوى معيشة عام أعلى مما ينتجه المجتمع الإسرائيلي. ومن الواضح أن الأمر نفسه ينطبق على أرباح البرجوازية الإسرائيلية التي تتولى الأجهزة البيروقراطية تنظيم نشاطها الاقتصادي وأرباحها من خلال ما تقدّمه لها من إعانات ورخص استيراد وإعفاءات ضريبية. ومن هنا، فإن الصراع بين الطبقة العاملة الإسرائيلية وأصحاب العمل، البيروقراطيين منهم والرأسماليين، لا يدور فقط حول فائض القيمة التي ينتجها العامل، ولكن أيضاً حول الحصة التي تنالها كل مجموعة من هذه الإعانات الخارجية.

والسؤال هنا، ما هي الظروف السياسية التي مكّنت إسرائيل من الحصول على هذا القدر من المساعدات الخارجية، وفي ظل ظروف غير مسبوقة؟ الإجابة عن هذا السؤال جاءت منذ سنوات طويلة، وتحديداً عام 1951، على لسان محرّر صحيفة هآرتس:

«لقد كٌلّفت إسرائيل بدورٍ لا يختلف عن دور كلب الحراسة. وبالتالي فهي لن تمارس سياسة عدوانية تجاه الدول العربية إذا كان ذلك يتعارض مع مصالح الولايات المتحدة وبريطانيا. ولكن في حال أراد الغرب لسبب أو لآخر أن يغضّ الطرْف، فلن تتوانى إسرائيل عن معاقبة أي دولة من الدول المجاورة تتجاوز الحدود التي يسمح بها الغرب».15

أكّدت إسرائيل هذا الدور الذي أعطيَ لها في الشرق الأوسط مراتٍ عدة. ومن الواضح أن سياساتها الخارجية والعسكرية لا تُعزى فقط إلى ديناميات الصراعات الاجتماعية الداخلية، إذ يقوم الاقتصاد الإسرائيلي برمّته على الدور السياسي والعسكري الخاص الذي تلعبه الحركة الصهيونية ومجتمع المستوطنين في الشرق الأوسط ككلّ. وإذا نظرنا إلى إسرائيل بمعزل عن سائر دول الشرق الأوسط، فلن نجد تفسيراً لحقيقة أنّ 70% من الأموال المتدفقة إليها لا تستهدف تحقيق مكاسب اقتصادية ولا تخضع لاعتبارات الربحية. لكن التفسير المباشر لهذه المعادلة يتأتّى من كون هذا الكيان جزءاً من الشرق الأوسط. ولو أن جزءاً كبيراً من هذه الأموال مصدره التبرعات التي يجمعها الصهاينة من اليهود في جميع أنحاء العالم، فإن ذلك لا يغير من كونها دعماً تقدمه لها الإمبريالية، ولعلّ الأهم هو حقيقة أن وزارة الخزانة الأميركية مستعدة عن طيب خاطر لاعتبار هذه الأموال التي جُمعت في الولايات المتحدة لتحويلها إلى بلد آخر «تبرعاتٍ خيرية» وتُعفى بذلك من ضريبة الدخل. تتكئ هذه التبرعات على حسن نية وزارة الخزانة الأميركية، ومن المنطقي الافتراض أن حسن النية هذا سيختفي في حال اتبعت إسرائيل سياسة مبدئية مناهضة للإمبريالية.

إن حدوث اختراق ثوري في العالم العربي قد يغيّر ميزان القوى، الأمر الذي قد يجعل الدور السياسي العسكري التقليدي لإسرائيل غير مجدٍ وقليل الفائدة بالنسبة إلى الأنظمة الإمبريالية

نستنتج مما سبق أنّه وعلى الرغم من وجود صراعات طبقية في المجتمع الإسرائيلي، إلا أنها تظل خاضعةً لحقيقة أن المجتمع ككلّ مدعوم من الخارج. ويرتبط هذا الوضع الفريد بدور إسرائيل في المنطقة، وطالما استمر هذا الدور، فإن احتمال اكتساب الصراعات الاجتماعية الداخلية طابعاً ثورياً سيبقى ضئيلاً. في المقابل، فإن حدوث اختراق ثوري في العالم العربي قد يغيّر هذا الوضع، وربما أدّى انطلاق حراك الجماهير في أنحاء العالم العربي إلى تغيير ميزان القوى، الأمر الذي قد يجعل الدور السياسي العسكري التقليدي لإسرائيل غير مجدٍ وقليل الفائدة بالنسبة إلى الأنظمة الإمبريالية. ومن المرجح أن تحاول هذه الأنظمة في البداية استخدام إسرائيل لسحق أي اختراق ثوري في العالم العربي. ولكن بمجرد فشل هذه المحاولة، فإن الدور السياسي العسكري الذي تلعبه إسرائيل ككلب حراسة في مواجهة العالم العربي سيكون قد انتهى، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الامتيازات المرتبطة بهذا الدور. عندها سيصبح النظام الصهيوني الذي يعتمد على هذه الامتيازات مفتوحاً على مصراعيه أمام تحدٍّ جارف من داخل إسرائيل نفسها.

ولا يعني ذلك أن ما من شيء يمكن للثوريين داخل إسرائيل أن يفعلوه سوى الجلوس بانتظار ظروف خارجية وموضوعية لا حولَ لهم فيها، بل يعني فقط أنّ عليهم تأسيس حراكهم وفق استراتيجية تقرّ بفرادة المجتمع الإسرائيلي، بدلاً من تكرار تعميمات تحليل الرأسمالية الكلاسيكية. وستتمثل المهمة الرئيسية للثوريين المقتنعين بهذا التقييم في توجيه عملهم نحو تلك الشرائح من السكان الإسرائيليين المتأثرين بشكل مباشر بالتداعيات السياسية للصهيونية، والتي يُنتظَر منهم أن يدفعوا ثمنها، وتشمل شريحة الشباب الإسرائيلي، المدعوّين دائماً لشنّ «حرب أبدية فرضها القدر»، والعرب الفلسطينيين الذين يعيشون في ظل دولة الاحتلال.16  تجمع بين هذه الشرائح نزعة معادية للصهيونية تجعلهم حلفاء محتملين في النضال الثوري داخل إسرائيل بل والنضال الثوري في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. إنّ من يتابع عن كثب النضالات الثورية داخل العالم العربي يعي العلاقة الجدلية بين النضال ضد الصهيونية داخل إسرائيل والنضال من أجل الثورة الاجتماعية داخل العالم العربي. ولا تعني هذه الاستراتيجية إهمال الحراك داخل الطبقة العاملة الإسرائيلية، ولكنها تشير إلى ضرورة أن يندرج هذا الحراك ضمن الاستراتيجية العامة للنضال ضد الصهيونية.