Preview الصراع الطبقي في كل سلعة

القيمة الاستخدامية والقيمة التبادلية
الصراع الطبقي في كل سلعة

سنوياً، تنشر مؤسّسة بيو للأبحاث دراسة عن الأولويات السياسية لسكان الولايات المتحدة. ومثل السنوات السابقة، يظهر تقريرهم لعام 2024 أن «لا قضية تعلو على الاقتصاد»، إذ يعتبر نحو 75% من المشاركين في الاستطلاع أن الاقتصاد هو الهدف الرئيس للإدارة المقبلة، وهو معدل «أكبر بكثير» من أي تصويت على أي سياسة أخرى. ومع ذلك، عندما يتحدّث الخبراء عن «الاقتصاد» في الأخبار، فإنهم يستخدمون الطلاسم.

الاقتصاد هو فكرة مجرّدة بمعنى أنه لا يوجد «شيء» يسمّى الاقتصاد. ما نطلق عليه «الاقتصاد» هو في الواقع الطرق التي ينتج بها البشر ويوزّعون من خلالها المنتجات أو الخدمات ويتبادلونها ويستهلكونها. بهذا المعنى، فإن «للاقتصاد» تاريخ بقدم البشرية نفسها. ومع ذلك، هناك طرق مختلفة لتنظيم الاقتصاد. على عكس ما تعلّمنا إن الاقتصاد الرأسمالي هو ظاهرة حديثة نسبياً، وليس الشكل النهائي أو العادل أو الأكثر فعالية أو الممكن، لتنظيم ما ننتجه وكيفية وأسباب إنتاجه..

انتهى المقال التمهيدي لهذه السلسلة بأحد أكثر التناقضات البنيوية في الرأسمالية، وهو التناقض بين القيمة الاستخدامية والقيمة التبادلية. يساهم فهم هذا التناقض بشكل كبير في فهم التضاد بين من يعيشون من بيننا من خلال العمل وبين القلة التي تعيش من خلال جعلنا نعمل. وهذا الصراع بين القيمة الاستخدامية والقيمة التبادلية هو مظهر للصراع الطبقي.

يوضح هذا المدخل بعض جوانب التناقض بين هاتين القيمتين، ويساعدنا على فهم العالم من حولنا بشكل أفضل، وبعض الطرق لاستخدام هذا الفهم لتفسير الاستغلال الذي يعاني منه البشر وكل الكائنات الحيّة والأرض وهو أمر ضروري للقضاء على السبب الجذري لتلك المعاناة.

السلع الرأسمالية

تصف القيمة الاستخدامية المنفعة (أو الفائدة) للسلع والخدمات التي ننتجها ونستهلكها. ويبدو هذا بسيطاً في البداية، لكنه في الواقع أكثر تعقيداً. القيمة الاستخدامية هي ما يعتبره المجتمع بشكل عام مفيداً، سواء كنا كأفراد نجدها مفيدة أو حتى ندرك الفائدة التي تقدّمها لنا. قد تختلف القيمة الاستخدامية للسلعة نفسها من شخص إلى آخر؛ فقد يأكل شخص ما الخبز لمذاقه بينما يأكله آخر للحصول على الكربوهيدرات. إن القيمة الاستخدامية هي دينامية على مستوى أعلى، فما يجده مجتمع ما مفيداً الآن قد لا يجده كذلك في العام المقبل.

تعتبر السلع في ظل الرأسمالية ذات قيمة تبادلية أيضاً. في الظاهر، القيمة التبادلية هي النسبة التي يتم بها تبادل سلعة مقابل أخرى، على سبيل المثال، رغيف خبز يعادل نصف ليتر من الحليب. من أجل شراء سلعة لاستخدامها، يجب علينا أن نستبدلها بأخرى (أو بشيء يمثلها، غالبًاً المال أو الائتمان).

إن التناقض بين القيمة الاستخدامية والقيمة التبادلية هو أساس العديد من المشكلات الجوهرية في الرأسمالية، أي الأساس للكثير من المعاناة في العالم

إن التناقض بين القيمة الاستخدامية والقيمة التبادلية هو أساس العديد من المشكلات الجوهرية في الرأسمالية، أي الأساس للكثير من المعاناة في العالم. لقد أنهينا مقدّمة هذه السلسلة بالإشارة إلى أن هذا التناقض مفيد عند التحريض ضدّ مجموعة متنوّعة من القضايا للتقدّم بنضال مُحدّد ورفع الوعي الطبقي بشكل عام. ومن الأمثلة الصارخة عن هذا التناقض، الصراعات بشأن خصخصة السلع العامة. فالخصخصة هي اسم آخر للتسليع، إنها الآلية التي يتبعها رأس المال لتجريد الناس من قيمة استخدامية، فيجعلها خاصة ويحوّلها إلى سلعة يبيعها لنا مرّة أخرى. ومن الأمثلة الأخرى الأكثر فظاعة هي الصراعات على حقوق المياه. في العام 2023، أفادت صناعة المشروبات أن شركة كوكا كولا حقّقت 948,411,136 دولاراً في العام 2022، أو ما يقرب من مليار دولار.

على غرار بيبسي وشركة أكوافينا للمياه المعبّأة التابعه لها، تحقّق شركة كوكاكولا أرباحها من خلال شراء حقوق استخدام المياه العامة (مثل البحيرات) من البلديات، وتقوم بفتلرتها وتعبئتها ومن ثمّ تبيع الأسر المياه نفسها التي كانت تصلهم عبر الصنبور بأسعار مضخّمة تصل إلى حوالي 133 ضعف الكلفة الأساسية وفقاً لتقارير المستهلك. هذا هو الابتكار الرأسمالي!

في مدينة ديترويت، على سبيل المثال، واجه الناس نقصاً وانقطاعاً في المياه عندما تخلّفوا عن دفع الفواتير بأكثر من 150 دولاراً. في خلال الفترة نفسها، حقّقت شركات المياه المعبّأة مثل كوكاكولا «أرباحاً تقدّر بعشرات الآلاف من الدولارات من فواتير المياه المتأخرة التي لم تُدفع لأشهر» من دون أي تداعيات. بكلام آخر، حرمت مدينة ديترويت آلاف الأسر من المياه الطبيعية» نفسها التي سمحت للشركات بالوصول إليها وبيعها بأسعار هائلة. هذا منطقي تماماً بالنسبة إلى شركة كوكاكولا. إذا لم يكن ذلك منطقياً لزميلك، فهذا يعني أنهم يعرفون أن الرأسمالية غير منطقية. المياه هي لاستفادة عموم الناس، وليست مصدراً لأرباح الشركات.

قبل التعمق في بعض تفاصيل التناقضات الكامنة بين القيمة الاستخدامية والقيمة التبادلية، سوف نوضح باختصار ما يقصده ماركس بـ «الفائدة الاجتماعية».

«الاختيار الحر» في ظل ديكتاتورية رأس المال

لكي نعيش ونتكاثر، يحتاج جميع البشر - بغض النظر عن الزمان أو المكان - إلى خلق قيم استخدامية. تبادلت المجتمعات غير الرأسمالية أيضاً قيماً استخدامية مختلفة، وهذا ما نفعله اليوم أيضاً بشكل متكرّر. عندما أتبادل مع صديقي كتاباً قرأته في مقابل كتاب قرأه هو، فإننا نقوم بعملية تبادل. لم ينتج أي منا الكتب، ولا قيمتها التبادلية. ما قمنا به هو بكل بساطة تمرير القيمة الاستخدامية لبعضنا البعض.

أحد العوامل التي تميّز نمط الإنتاج الرأسمالي عن غيره من أنماط الإنتاج هو أنه في ظل الرأسمالية يتم إنتاج السلع من أجل قيمتها التبادلية فقط، أو قيمتها التبادلية المحتملة، ومن أجل بيعها في السوق.

في ظل الرأسمالية يتم إنتاج السلع من أجل قيمتها التبادلية فقط، أو قيمتها التبادلية المحتملة، ومن أجل بيعها في السوق

بالنتيجة، إن الإنتاج الرأسمالي - بما فيه نوع العمل المتاح والسلع المختلفة الموجودة في السوق - لا يتحدّد وفق ما يجده المجتمع مفيداً أو يرغب فيه، وإنما بالقيمة التبادلية الأكبر التي يولّدها للرأسماليين. والواقع أن المجتمعات الرأسمالية لا تنخرط في عمليات ديمقراطية لتحديد ما نريد إنتاجه، فنحن لا نصوّت على ما إذا كان ينبغي لمجتمعنا أن يخلق سفناً حربية وأسلحة أو مدارس ومنازل. نحن نعيش في دكتاتورية رأس المال. نحن لا «نختار» بحرّية شراء محوّلات أو كابلات جديدة لهواتفنا كل عام، كما أننا لا «نختار» بحرية شراء أشياء ستصبح قديمة بعد فترة وجيزة من الزمن. ومن الأدق القول إن القيم الاستخدامية هي ما يجده الرأسماليون مفيداً للمجتمع الذي يحكمونه.

نظرة أولية على التناقض: الكمّية على حساب الجودة

ترتبط القيم الاستخدامية بالخصائص أو الصفات المتأصلة في السلعة. يحب صديقك التفاح بسبب مذاقه وملمسه ورائحته، ويفضّله على البرتقال الفاكهة المفضّلة لدي.

في البداية، يبدو أن القيمة التبادلية هي أيضاً نتيجة خصائص مُحدّدة للسلعة. على سبيل المثال، قد نظن أن علامة تجارية معيّنة من الفاكهة هي أغلى من غيرها لأنها لا تحتوي على أي مبيدات حشرية. وكما كتب ماركس، «تظهر القيمة التبادلية للوهلة الأولى كعلاقة كمية»، وبما أن القيمة التبادلية (أو سعر السلعة) ترتفع أو تنخفض (عادةً ترتفع)، «يبدو أنها شيء عرضي ونسبي بحت، وبالتالي قيمة جوهرية». ولأننا لا نعرف لماذا رغيف الخبز يساوي عبوتين كبيرتين من المشروبات الغازية، نعيد السبب إلى الخصائص الفعلية للسلع أو لأن المجتمع بشكل عام يجد الأمر كذلك.

قيمة التبادلية هي في جوهرها الثمن الناتج عن بيع سلعة ما. هذه قيمة تُخصّص للسلع في سياق التجارة أو التبادل. وبالطبع، كل ما نقوم به يتطلب شكلاً من أشكال العمل البشري في حدّه الأدنى في الأقل. كلّ شيء من السكن والملابس، ورعاية شخص ما، وتربية طفل، وغسل الأطباق، وترتيب السرير، والترفيه، وغيرها… تتطلّب جميعها شخصاً للقيام بالعمل. من دون العمل، نحن ميتون! ومن ثم يمكن شرح ذلك بشكل أكبر بالنسبة إلى السلع - أي الأشياء المنتجة لتلبية استخدام ما أو حاجة ما وتُختزل في الرأسمالية بالقيمة التي قد تباع بها. إذا صنع لي صديقي بطانية محبوكة وصنع نسخة مطابقة منها للبيع، فإن تصميم البطانية الثانية سوف يأخذ قيمة تبادلية. أمّا البطانية الأولى التي أضعها على أريكتي فلا تملك أية قيمة تبادلية.

ترتبط القيمة التبادلية بما يمكن بيعه لكسب المزيد من المال مقارنة بما تم استثماره في الإنتاج. وهذا ما يهم الرأسماليون والملاك

كيف يمكن لشيئين مختلفين تماماً - مثل التفاح والجوارب، أو التفاح والبرتقال - أن يدخلا في علاقة تبادل متساوية؟ في الواقع، لديهما ما هو مشترك: يحتوي كلاهما على قيمة، أو الوقت الاجتماعي-الضروري من العمل المطلوب لإنتاجهما. إن قيمة سلعة معينة (وفي هذه المرحلة يمكننا افتراض أن القيمة التبادلية للسلع تساوي قيمتها، كما يحددها الوقت الاجتماعي-الضروري للعمل المطلوب لإنتاجها) تُحدد بواسطة المهارة، الوقت، ودرجة الكثافة، والمعرفة العامة المطلوبة لإنتاجها في المجمل.

ترتبط القيمة التبادلية بما يمكن بيعه لكسب المزيد من المال مقارنة بما تم استثماره في الإنتاج. وهذا ما يهم الرأسماليون والملاك. يحتاج الناس إلى أشياء لاستخدامها.أما الرأسماليون والملاك فيحتاجون إلى إنتاج و/أو بيع الأشياء لمراكمة رأس المال، والتفوق على بعضهم البعض. عليهم إنتاج و/أو بيع أكثر من منافسيهم وبقيمة أقل. يخلق الرأسماليون طرقاً مختلفة لإنتاج المزيد من السلع بوتيرة أسرع، تبدأ من تسريع خط الإنتاج إلى استبدال العمال بالآلات. ونظراً لأن الرأسمالية تتسم بطبيعة تنافسية، لا يملك الرأسمالي خياراً، وينتهي به الأمر بتخفيض أوقات الإنتاج. ونتيجة لذلك، نجد أنفسنا مع عدد متزايد من سلع تتناقص قيمتها. نعمل بجد لدرجة أننا نجد أنفسنا عاطلين عن العمل.

القاعدة العامة لرأس المال وبقية الناس

اذا نظرنا إلى الرأسمالية من هذه الزاوية، يتضح أن العمّال وأصحاب العمل لديهم مصالح متعارضة في أي سلعة. يوضح ماركس هذين الدافعين المتناقضين للتعامل مع السلع من خلال الصيغ التالية: C-M-C وM-C-M*. هذه الصيغ أقل تعقيداً مما قد تبدو عليه. وسأشرحهم واحدة تلو الأخرى.

العمال مهتمون بالقيم الاستخدامية يبدو التبادل بالنسبة إليهم كالآتي: لدينا سلعة (C) نحن مجبرون على بيعها (قوة عملنا)، فنتبادلها مقابل المال (M)، الذي نستخدمه بالتالي لشراء السلع والخدمات التي نحتاجها أو نريدها ©. تتحقق القيم الاستخدامية من خلال الاستخدام، وعلينا أن ندخل الدوّامة نفسهامرة تلو الأخرى.

الرأسماليون مهتمون بالقيم التبادلية. يبدو التبادل بالنسبة إلى الرأسمالي كالآتي: لديهم المال (M)، الذي يستخدمونه لشراء السلع (C) أي قوة عملنا والمواد والآلات التي نستخدمها في العمل وأشياء أخرى مثل أماكن العمل والمحاسبين. يأخذون منتجات عملنا ليس لاستخدامها وإنما لبيعها (M). وبما أن لا أحد يقوم بذلك للحصول على كمية المال نفسها التي استخدمها لبدء العمل، تباع السلع بسعر أعلى من كلفة قوة عملنا والمواد الأخرى مجتمعة، بحيث يمكنهم بيعها بمزيد من المال (M*)، حيث تمثل «*» فائض القيمة الناجم عن قوة عملنا.

يستخدم الرأسماليون المال على أمل جني المزيد منه - وهنا يستحيل المال رأس مالاً - ومصدر هذه القيمة التبادلية الإضافية هو استغلالنا

ما هي خطوتهم التالية؟على عكسنا، هم ليسوا مضطرين لبيع قوة عملهم مقابل المال للبقاء على قيد الحياة. بل لديهم المزيد من المال لإدارجه ضمن هذه الدوّامة... من الناحية النظرية، لا توجد نهاية لما أسماه ماركس بـ«الصيغة العامة للرأسمال»أو M-C-M*. هناك نهايات ملموسة نسميها الأزمات الاقتصادية.

C-M-C هو كيفية مشاركة جموع الناس في الرأسمالية. السلعة الوحيدة التي نملكها، وهي ليست طبيعية بل من منتجات الرأسمالية، هي قوة عملنا، أو القدرة على بيع قدرتنا على العمل لصاحب عمل في فترة معينة. الأجر الذي نتلقاه، «M»، نأخذه، وإذا لم ننفقه بالفعل على الضروريات، فإننا ننفقه عموماً على السلع التي نحتاجها، سواء كانت وقوداً أو ملابس أو طعاماً أو تعليماً. في النهاية، نجد أنفسنا مرة أخرى في المكان نفسه الذي بدأنا منه: نحتاج إلى بيع قوة عملنا إلى الرأسمالي مرّة أخرى من أجل البقاء، ولكي نتمكن من الاستمرار في العمل.

في الوقت نفسه، للرأسماليين علاقة مختلفة تماماً مع الإنتاج. يستخدم الرأسماليون المال على أمل جني المزيد منه - وهنا يستحيل المال رأس مالاً - ومصدر هذه القيمة التبادلية الإضافية هو استغلالنا، أو العمل الذي نقوم به في مقابل الأجر الذي نحصل عليه. ما يشتريه العامل لكي يتمكّن من صنع شيء آخر لا يهمّ الرأسماليين، سواء كان البرتقال، أو الكراسي، أو الأسلحة، ما يهمّهم هو قيمتها التبادلية التي تسمح بحصولهم على قيمة إضافية منها.

خاتمة

تنظم الرأسمالية حياتنا بالكامل حول فائض الإنتاج. نعمل لإنتاج أكبر عدد ممكن من السلع، ويحاول الرأسماليون جعلنا نستهلك أكبر عدد ممكن منها. انهم يسعون باستمرار للحصول على المزيد من القيمة التبادلية من السلع الحالية وأكثر من ذلك تسليع الخدمات العامة من المدارس والمستشفيات إلى الماء والهواء.

إنتاج السلع من أجل قيمتها التبادلية هو خيار، يتخذ على مستوى البنى السياسية والاقتصادية لنظامنا. والاشتراكية في صميمها هي نظام يركّز في جوهره على إنتاج السلع من أجل قيمتها الاستخدامية، وهو أكثر قدرة على الاستجابة للأزمات مثل تغير المناخ، لأن لا يملك حافزاً تنافسياً لزيادة الأرباح.

نُشِر هذا المقال في Liberation School في 8 تموز/يوليو 2024، وترجم وأعيد نشره في موقع «صفر» كمصدر مفتوح.