أيّ حديثٍ عن العدالة المناخية في ظلّ الاحتلال؟
التدهور البيئي في غزّة والضفّة الغربية كنتيجة مباشرة للاحتلال
تمارس إسرائيل منذ نشأتها، قبل 75 عاماً، عملية مُمنهجة للتطهير العرقي للشعب الفلسطيني من خلال الاستعمار الاستيطاني وتهجيرهم من أرضهم. في العام 1948، اقتلعت الدولة الصهيونية نحو 750 ألف فلسطينيناً وفلسطينية من أرضهم وقد شكّلوا في حينها أكثر من نصف سكّان فلسطين الأصليين، ودمّرت 531 قرية، وأفرغت 11 حياً حضرياً من سكّانه. أما في العام 1967، إبّان ما يعرف بالنكسة، فهجّرت أكثر من 350 ألف فلسطيني وفلسطينية إضافيين. واستمرّ مسار التهجير طوال العقود السابقة. ومنذ 7 أكتوبر 2023، نشهد على حرب إبادة جماعية في قطاع غزّة، نزح على إثرها أكثر من 85% من سكّان القطاع (2 مليون إنسان). واستشهد نحو 30 ألف آخرين من بينهم أكثر من 12 ألف طفل، وجرح أكثر من 70 ألف إنسان آخرين.
تمارس إسرائيل التدمير الشامل الذي يطال أهدافاً غير مشروعة بحسب القانون الدولي، ويصيب أحياءً بأكملها. يسعى الاحتلال إلى تغيير معالم المكان وهويته وطرق العيش والصمود فيه بهدف جعل غزة مكاناً غير قابل للحياة، وبالتالي تهجير ما تبقى من فلسطينيين وفلسطينيات.
فيما تعدّ سياسات الاستعمار الاستيطاني من الممارسات الراسخة والمستمرة منذ نشأة دولة الاحتلال، التي عملت على مصادرة الأراضي الفلسطينية الخاصّة والعامة بشكل مُمنهج. دأب الاحتلال أيضاً منذ قيامه على الإضرار بالبيئة وتدميرها من أجل استغلال موارد فلسطين الطبيعية، ملوّثاً ومدمّراً بعضها ومُمعناً في حرمان الفلسطينيين من مواردهم الطبيعية بأشكال متعددة.
البيئة تحت سندان العمليات العسكرية
بداية، لا بد من إلقاء نظرة عامة إلى تأثير العمليات العسكرية على البيئة في كل مكان في العالم.
تتهرّب معظم الدول الكبرى من الاعتراف بمسؤوليتها وحجم التلويث الناجم عن عملياتها العسكرية. ومع ذلك، تبرز محاولات دائمة لتقدير هذا التأثير على الرغم من شحّ التقارير والأرقام الدقيقة. بحسب تقرير صادر في العام 2022، تعدّ الأعمال العسكرية مسؤولة عن 5.5% من الانبعاثات العالمية للغازات الدفيئة. ولو كانت مجمل الأعمال العسكرية مصنّفة كدولة واحدة، لكانت حلّت في المرتبة الرابعة عالمياً بالتأثير الكاربوني، وتجاوزت تأثير روسيا اليوم في ظل حربها على أوكرانيا. عملياً، يعدّ القطاع العسكري مسؤولاً عن نحو 1,221 مليون طن من انبعاثات الغازات الدفيئة، وهو ما يتجاوز الانبعاثات السنوية لقطاع الشحن البحري، والانبعاثات الناتجة عن 600 مليون سيارة.
مع تنامي الحروب والصراعات في العالم، والتسابق على إنتاج الأسلحة وتجربتها، وفي ظلّ الإبادة التي تحصل اليوم في فلسطين، لا بد من الحثّ على وضع الآليّات الملزمة للدول للاعتراف بحجم الضرر الناجم عن العمليات العسكرية والسعي إلى تجنّبه بشتى الوسائل ومعالجة القائم منه.
281 ألف طن من ثاني أوكسيد الكربون انبعثت في خلال الأيام الستين الأولى من الاعتداءات على غزة. أما التكلفة المناخية لهذا الواقع فتعادل حرق 150 ألف طن من الفحم. نصف هذه الانبعاثات مسؤول عنها نقل العتاد العسكري والأسلحة عبر طائرات عسكرية ضخمة من بلدان متنوّعة، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية. عدا أن إعادة إعمار 100 ألف مبنى مدمّر بعد انتهاء الحرب سوف ينتج 30 مليون طن من الغازات الدفيئة بحسب دراسة صدرت في بداية العام 2024.
يعدّ القطاع العسكري مسؤولاً عن نحو 1,221 مليون طن من انبعاثات الغازات الدفيئة، وهو ما يتجاوز الانبعاثات السنوية لقطاع الشحن البحري، والانبعاثات الناتجة عن 600 مليون سيارة
نستنتج أن النزاعات العسكرية، التي تشمل التحضير للحروب، وخوضها، وإعادة الإعمار بعد انتهائها تترتّب عنها تكاليف مناخية ضخمة. وبالتالي، لا يمكن مناقشة العدالة المناخية في ظل الاحتلال واستمرار الصراعات والحروب وتأثيرها على الشعوب والكوكب.
من جهة أخرى، إن الإنفاق العسكري المقدّر بنحو 2,208 مليار دولار في 2022، يتخطّى الحاجات السنوية للدولة النامية من التمويل المناخي (1000 مليار دولار)، وكذلك التمويل السنوي المطلوب لتتمكّن تلك الدول من الإنفاق على التكيّف المناخي (387 مليار دولار). كما تتجاوز تعهّدات التمويل المناخي التي التزمت بها الدول بموجب اتفاقية باريس للمناخ (100 مليار دولار). في المجمل، اقترب الإنفاق العسكري في العام 2022 من حاجات التمويل المناخي المقدّرة سنوياً، والتي تشمل إجراءات التخفيف والتكيّف وتمويل الخسائر والأضرار (2,400 مليار دولار).
في مؤتمر الأطراف الأخير (COP28) في الإمارات العربية المتّحدة، تمّ تنظيم العديد من الفعاليات الجانبية والمظاهرات ضدّ الاحتلال والنزاعات العسكرية، ولكن بقيت هذه المسألة غائبة عن الأجندة الرسمية، ولم تتّخذ أي قرارات ملموسة في إطارها. وللمفارقة، عمد الوفد الإسرائيلي إلى تسويق ابتكاراته لحلول مناخية تكنولوجية في مجال احتجاز الكربون وتخزينه، من دون أن يتمّ تحميله أيّ مسؤولية عن الإبادة التي يرتكبها في فلسطين.
وفي ظل الإبادة التي يرتكبها الاحتلال الاسرائيلي حالياً في فلسطين ومحاولة تغطية انتهاكاته المختلفة في المنطقة، وخصوصاً البيئية منها عبر الغسيل الأخضر، سوف نركّز على الانتهاكات البيئية للاحتلال وتراكم هذه الانتهاكات في سياق الإبادة البيئية الحاصلة، والتي تشكل عائقاً أساسياً أمام تحقيق العدالة البيئية والمناخية لشعوب المنطقة.
تدمير النظم الإيكولوجية كأداة استعمارية
منذ نشوئه، قام الاحتلال بممارسات استعمارية توسّعية بهدف تدمير الشعب الفلسطيني وتهجيره وإبادته ومحو ثقافته وتاريخه، وأبرز تلك الممارسات تدمير النُظُم الإيكولوجية. جرى اقتلاع الأشجار الأصيلة وخلخلة المواسم الزراعية بهدف محو ما تبقى من آثار الوجود الفلسطيني التاريخي على الأراضي المحتلة. في غزة تحديداً، دمّرت الجرّافات الإسرائيلية بشكل ممنهج أشجار الزيتون والحمضيات وأقامت «مناطق عازلة» بموازاة الجدار الفاصل، ما حدّ من إمكانية وصول المزارعين الفلسطينيين إلى أراضيهم الزراعية.
تشكّل هذه الممارسات ما يعرف بـ «الإبادة البيئية»، أي التدمير الواسع والمتعمّد للبيئة، بما يؤدّي إلى ضرر طويل الأمد لا عودة عنه، يشمل تعطيل النظم البيئية، وفقدان التنوّع البيولوجي، وتلوّث الموارد الحيوية، وتعريض المجتمعات البشرية للخطر، وحتى التسبّب بإبادة ثقافية من خلال عرقلة الطرق التقليدية لحياة السكّان. تتسم «الإبادة البيئية» بقدرتها على الإخلال بالتوازن الدقيق للطبيعة، وهذا لا يعرّض البيئة للخطر فحسب، بل يهدّد أيضاً السكان الذين يعتمدون عليها من أجل معيشتهم والحفاظ على ثقافتهم.
اقترح مصطلح «الإبادة البيئية» للمرة الأولى في سبعينيات القرن الماضي في خلال حرب فيتنام، عندما استخدم الجيش الأميركي المواد الكيميائية لتدمير الغطاء النباتي والمحاصيل. ومن حينها، أيّد العديد من المنظّمات الحقوقية والمحامون تجريم «الإبادة البيئية» بموجب القانون الدولي.
كيف نفهم ما يحصل في فلسطين اليوم وفي محيطها أيضاً؟ هل يصنّف كـ«إبادة بيئية»؟ للإحابة لا بد أن نعي السياق التاريخي للاحتلال وممارساته وانتهاكاته البيئية المتراكمة.
- مصادرة مياه الشفة وتلويث المياه الجوفية
تصادر إسرائيل أكثر من 80% من مياه الضفّة الغربية المحتلة وتستخدمها في المستوطنات. وتُفرط باستخراج مصادر المياه الفلسطينية ما يؤدّي إلى انخفاض منسوب المياه الجوفية والتدفّق الطبيعي لها. في هذا السياق، دمّرت إسرائيل بحيرة طبريا، أكبر مصدر للمياه العذبة في فلسطين، من خلال إزالة 25 ألف فدان من الأراضي الرطبة المحلّية وتجفيف بحيرة الحولة لإفساح المجال أمام المستوطنات الزراعية. وهذه الممارسات تزيد الظواهر الجوية القاسية مثل الفيضانات والجفاف، التي تلحق الضرر بالمناطق الزراعية والسكنية الفلسطينية.
أيضاً تلوّث المستوطنات الاسرائيلية الأودية والأراضي الزراعية الفلسطينية بملايين الأمتار المكعبة من المياه غير المعالجة، وهي بذلك تلوّث المياه الجوفية بفعل التسرّبات وتزيد نسبة النترات والأملاح في المياه بما يجعلها غير صالحة للاستخدام. يزيد ذلك بدوره من ملوحة التربة، ويولّد تراجعاً في إنتاجها، ويتلف البيئة، ويوسّع ظاهرة التصحّر ونشر الأوبئة.
- تدمير الأشجار والأراضي الزراعية، دفن النفايات الصلبة وتلويث التربة
اقتلعت إسرائيل الأشجار المحلّية والمحاصيل الزراعية مثل الخروب والزعرور والبلوط والزيتون والتين واللوز، واستبدلتها بأكثر من 4 ملايين نوع أوروبي لإخفاء الهوية الفلسطينية. وهذا ما حدّ من التنوّع البيولوجي، وزاد حالات الجفاف، وفاقم حرائق الغابات في جميع أنحاء المنطقة. شكّل التدمير الواسع النطاق لأشجار الزيتون إحدى الاستراتيجيات الرئيسة لطرد الفلسطينيين والفلسطينيات من أراضيهم وتوسيع المستوطنات.
تلقي المستوطنات الإسرائيلية نحو 250 ألف طن سنوياً من النفايات الصلبة في الأراضي الفلسطينية. وهو ما رفع نسبة الأمراض، ولاسيما السرطان بشكل ملحوظ بين الفلسطينيين. أيضاً شكّلت سيطرة الاحتلال على الطرق الداخلية بين المدن، وعلى معظم الأراضي الفلسطينية عائقاً أمام إقامة مكبّات صحية، وشجع على انتشار مكبّات عشوائية في مناطق التجمعات السكانية وحرق النفايات. ويترتب عن ذلك تلوثاً كبيراً للتربة والهواء.
أيضاً، تدمّر القوات الإسرائيلية التربة الفلسطينية. فأعمال التجريف الواسعة وإزالة مساحات واسعة من الغابات لإقامة المستوطنات وشقّ الطرق يفكّك التربة ويجرفها ويزيد ظاهرة التصحّر.
إن استيلاء إسرائيل على الأراضي الفلسطينية، بما فيها الأراضي الزراعية الخصبة، وحرمان السكان من ممارسة حقوقهم باستعمال كامل أراضيهم، أجبر المزارعين الفلسطينيين على زراعة الأجزاء الصغيرة التي تبقّت من أراضيهم وفق نموذج الزراعة المكثّفة الذي يفرط باستخدام المخصّبات الزراعية ومبيدات الآفات الزراعية، بما يعبث بالتوازن البيئي، ويحدّ من خصوبة التربة، ويزيد من ملوحتها، فتصبح في النهاية غير قابلة للإنتاج.
- بناء المصانع الملوّثة، إنشاء مقالع الحجارة وإستخدام المواد الإشعاعية
نقلت إسرائيل مصانعها الملوّثة إلى المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة للتخلص من أضرارها البيئية وغازاتها. ووصل عدد هذه المصانع إلى نحو 200 مصنعاً لمختلف الصناعات الكيماوية والعسكرية السرية وغيرها.
تنتج هذه المصانع مواداً سامة مثل الألومنيوم والكروسيوم والرصاص والزنك والنيكل، وهي مواد ملوّثة للتربة والمياه والهواء وتزيد الأمراض الخطيرة.
أيضاً أنشأت إسرائيل 6 مقالع في الضفة الغربية لقلع الصخور وتكسيرها واستخدامها في قطاع البناء. وتغطّي هذه المقالع 80% من الاحتياجات الإسرائيلية. تتسبّب هذه المقالع بتدهور التضاريس وإلحاق الضرر بالصحة العامة نتيجة الغبار الكثيف، والتسبّب بالأمراض الصدرية. كما تقضي على التنوع الحيوي، وتهدّد بتصحر المناطق المحيطة بها.
أخيراً، تطوّر إسرائيل أسلحتها وذخائرها باستخدام مادة اليورانيوم، وتجرّبها على المواطنين والمواطنات والأراضي الفلسطينية، ما يسبّب أضراراً على الصحة العامة ويسهم بانتشار أمراض السرطان على أنواعه والتشوّهات الخلقية عند الأجنّة والأمراض المزمنة.
كيف يمارس الاحتلال الغسيل الأخضر في ظل هذه الانتهاكات؟
يغطي الاحتلال هذه الممارسات عبر الغسيل الأخضر، فيشارك في المؤتمرات والفعاليات البيئية ويعرض انجازاته وابتكاراته البيئية مدعياً أنها في خدمة البشرية، وتهدف إلى تخفيف الأزمة المناخية. لكنه في الواقع، من المسؤولين الأساسيين عن تفاقم هذه الازمة، لا سيما أن ممارساته تنتهك الحقوق البيئية لشعوب المنطقة، وتهدّد مسار تحقيق العدالة المناخية. يمكن توصيف ما يمارسه الاحتلال بالـ «غسيل الأخضر»، وهو بروباغاندا سياسية واستراتيجية دعائية وممارسة على مستوى الخطاب والتمثيل الإعلامي، تنفّذها الشركات وبعض الحكومات، بما فيها الحكومات الاستعمارية، لتحسين صورتها والترويج لسرديتها، عبر التلاعب بالقيم البيئية وخلق وهم بالمسؤولية البيئية لصرف الانتباه عن ممارساتها المؤذية وانتهاكها لحقوق الإنسان.
استخدم مصطلح الغسيل الأخضر لانتقاد الشركات والمؤسّسات والحكومات التي تطلق مزاعم بيئية بهدف التسويق لمنتجاتها من دون بذل جهود حقيقية لمعالجة تأثير تلك المنتجات على البيئة
أول من استخدم هذا المصطلح هو عالم البيئة الأميركي جاي ويسترفيلد في العام 1986. نشأت هذه الفكرة عندما ادّعى منتجع سياحي على شاطئ ساموا تحمّله مسؤوليته البيئية من خلال تقديم مناشف قابلة لإعادة الاستخدام، في حين أنه كان بذات الوقت يتوسّع داخل الأراضي العامة المحلية. بمرور الوقت، استخدم هذا المصطلح لانتقاد الشركات والمؤسّسات والحكومات، التي تطلق مزاعم بيئية بهدف التسويق لمنتجاتها، من دون بذل جهود حقيقية لمعالجة تأثير تلك المنتجات على البيئة. تؤدّي هذه الممارسة إلى تفاقم أزمة المناخ، وتؤثر على الشعوب الأصلية والجنوب العالمي والمجتمعات المضطهدة، وتخلق مظالم اجتماعية ومكانية وبيئية.
أدّت إسرائيل، على غرار حكومات ثانية لها إرث تاريخي من المساعي الاستعمارية والإمبريالية، دوراً هاماً في تفاقم أزمة المناخ المستمرّة. ولكنها في الوقت نفسه، تستخدم تكتيكات الغسيل الأخضر لإبراز وجهٍ داعم ومسؤول تجاه البيئة، بهدف صرف الانتباه عن ممارساتها المتمثلة بالاحتلال العسكري والاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري والإبادة البيئية في فلسطين وجنوب لبنان والجولان.
لا تكتفي إسرائيل بتلويث الأراضي الفلسطينية، بل تدمّر أيضاً الحياة الحيوانية والنباتية في فلسطين بشكل منهجي، وتُدخل بشكل مقصود أنواعاً من الحيوانات والنباتات والحشرات، وتنشئ «محميات بيئية» لإخفاء القرى التي تم تطهيرها عرقياً، وتصوّر بشكل خاطئ استيلائها على المياه الفلسطينية على أنه حل لندرة المياه، في حين أنها تساهم في تفاقمها.
وتُفاقم الشركات الإسرائيلية، مثل «ميكوروت» و«نتافيم»، هذه الأمور من خلال سرقة موارد الفلسطينيات والفلسطينيين لحساب المستوطنات غير القانونية، في حين تغسل أنشطتها عبر تصوير نفسها على أنها تقدّم حلولاً عالمية مستدامة. في الوقت نفسه، تساهم شركات مثل «حيفا للكيميائيات» و«أداما» في تدمير البيئة من خلال استخدام المواد الزراعية السامّة، ما يؤدّي إلى إدامة دورة الاستغلال والتدهور البيئي.
بنت إسرائيل سرديتها التاريخية على زعم أنها «تخضّر أرضاً صحراء» لا حياة فيها. أسقِط هذا الادّعاء بالوثائق التي أظهرت أن المستعمرين الأوائل تعلّموا من الفلاحين الفلسطينيين كيفية زراعة الأراضي في المناطق المختلفة من فلسطين؛ كما أسقطت بتعارض مفهوم «تخضير الصحراء» مع الاستدامة البيئية. فالصحراء ليست أرضاً ميتة، بل هي إيكولوجيا متنوّعة وقائمة بحدّ ذاتها، ولها طرق استخدام وزراعة خاصة بها.
تثبت هذه النقاط أن مقاربة إسرائيل للبيئة هي في الأساس مقاربة استعمارية، لا تعرف قيمة التنوّع الإيكولوجي للمنطقة التي تستعمرها. والتكنولوجيات المستدامة ظاهرياً، ويتم الترويج لها تحت ستار المبادرات الخضراء، تقوّض «الاستمرارية الجماعية» للسكان الأصليين، وتدمّر المعرفة المحليّة لكيفية استخدام الأرض بشكل مستدام، ما يعزّز السيطرة الإسرائيلية، ويعوق قدرة الفلسطينيات والفلسطينيين على الاستمرار. في حين يهدف الغسيل الأخضر والادعاءات الكاذبة إلى إخفاء التدمير البيئي الذي يمارسه الاحتلال، بدءاً من الانتهاكات المستمرة التي إذا أضيفت إلى النتائج الماثلة للعدوان الحالي ترتقي إلى «إبادة بيئية».
كيف يمارس الاحتلال الإبادة البيئية في غزّة ولبنان؟
إن الإبادة المكانية المفتعلة التي يمارسها الاحتلال مرتبطة بشكل وثيق بالإبادة البيئية (Ecocide)، التي حضرت دائماً في ممارسات الاحتلال، وتحمل الفلسطينيات والفلسطينيين على مغادرة أراضيهم، وتركهم عاجزات/ين عن الاستمرار والانتماء، أو حتى التفكير بالبيئة والمحافظة عليها في طريقة صمودهن/م وبقائهن/م على قيد الحياة. ما يحدث في فلسطين هو إبادة شاملة لكل معالم الحياة في غزة، والإبادة البيئية هي جزء منه، وتطال لبنان الذي يتعرّض للاعتداءات بالتوازي مع غزة.
حرقت إسرائيل نحو 7.9 مليون متر مربع من الأراضي الحرجية والزراعية، وقتلت أكثر من 40 ألف شجرة زيتون، وتعمّدت استخدام الفسفور الابيض الحارق والمحرّم دولياً
منذ بداية الحرب على غزة، لم يكن لبنان بمنأى عن الاعتداءات الإسرائيلية، سواء من خلال القصف المدفعي أو الغارات الجوّية أو غيرها. ولا تعتبر هذه الاعتداءات جديدة على العدو الإسرائيلي الذي احتلّ جنوب لبنان من عقود، واجتاح عاصمة لبنان في الثمانينات، ولا يزال يحتل جزءاً من أراضي الجنوب.
ومنذ 7 أكتوبر 2023، حرقت إسرائيل نحو 7.9 مليون متر مربع من الأراضي الحرجية والزراعية، وقتلت أكثر من 40 ألف شجرة زيتون بحسب إحصاءات المجلس الوطني للبحوث العلمية. وتعمّدت استخدام الفسفور الابيض الحارق والمحرّم دولياً، ما سبّب خللاً بتوازن الطبيعة وقضى على وسائل العيش البيئية والزراعية المحلّية. تتسبّب القنابل الفوسفورية - التي أطلقت على نحو 30 بلدة في جنوب لبنان حتى اليوم - بآثار مدمّرة وطويلة الأجل على البيئة، وتلوِّث المياه والتربة، وتجعل الأرض غير صالحة للاستخدام لفترة طويلة.
وثّق استوديو أشغال عامة تأثيرات هذه الحرب على الأراضي اللبنانية والسكان وسُبل معيشتهم. إن الرصد اليومي للمعلومات وجمع البيانات المتعلّقة بالهجمات من وسائل الإعلام المحلية ومختلف وسائط التواصل والإعلام المتاحة، ومن ثمّ التحقّق منها، أنتج قاعدة بيانات تحدّد بحسب اليوم كل منطقة يتم قصفها، ونوع القصف، والفئات المستهدفة. وتبيّن أنه حتى 31 كانون الثاني/يناير 2024، أي بعد أكثر من 117 يوماً من بداية الحرب، وصل عدد المناطق المستهدفة إلى أكثر من 100 بلدة تتوزّع غالبيتها على محافظتي الجنوب والنبطية. ويظهر الرصد أن العدو الإسرائيلي كثّف استهداف المدنيين ومنازلهم وحرق أراضيهم، وهذه عينة عما يفعله بشكل أشمل وأوسع في فلسطين كجزء من مخطط إبادة شعبها.
خنقت إسرائيل السكان بقنابل الفسفور الأبيض المحرّم دولياً الذي استهدفت به الأحراج والأراضي الزراعية في 30 بلدة، وهو ما سيؤثّر على المواسم الزراعية ومصادر عيش المزارعات والمزارعين وسكان تلك المناطق، إن من خلال تدمير المحاصيل وتلويث التربة أو من خلال منعهم من الوصول إلى أراضيهم ومحاصيلهم. بمعنى آخر تستخدم إسرائيل الفوسفور في «إبادة بيئية» متعمّدة. وبالفعل، تعذّر على أهالي بلدة رميش الحدودية أن يصلوا إلى أكثر من 15,000 شجرة زيتون في خراج البلدة، وكذلك هي حال غالبية المزارعات والمزارعين في المناطق الجنوبية الأخرى الذين تعذّر عليهم قطاف محصول الزيتون.
التوثيق في هذه المرحلة أساسي، لأنه يظهر الحقيقة للجمهور التي قد تعيقها التغطية الإعلامية المتقطّعة و/أو المنحازة. ولأنه يساعد في رسم خطط الاستجابة وتحديد المسؤوليات. وأخيراً، لأنه أداة مواجهة أساسية، ويمكن للدولة اللبنانية أن تستخدم الموارد التي يوفرها أي بحث لمحاسبة العدو في المحافل الدولية. عدا أن التوثيق أساسي يحفظ التاريخ ويدحض روايات وسرديات العدو المختلفة.
عن الإبادة البيئية في الأمم المتحدة
لا تزال «الإبادة البيئية» غير محسوبة ضمن جرائم الحرب التي يلحظها نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، على الرغم من دعوات الناشطين والناشطات المتكرّرة بإدراجها. ومن المهم الإشارة إلى ذكر «الإبادة البيئية» في سياق المراجعات الحالية لمستند التوجيه بشأن حماية البيئة من خلال القانون الجنائي للاتحاد الأوروبي لعام 2008.
وبعيداً من النقاش الدائر بشأن تعريف «الإبادة البيئية» كجريمة دولية، لا بد من الاعتراف بها كاشتقاق من المشروع الصهيوني والاستعمار الاستيطاني. وعلى حد تعبير الباحث القانوني في مؤسسة «الحق»، أحمد أبو فول، «الإبادة البيئية» الإسرائيلية في فلسطين هي سياسة أخرى من سياسات الفصل العنصري المفروضة على الشعب الفلسطيني.
لا شك أن للصراعات والحروب والاستعمار والاحتلال أثر كبير على البيئة عموماً، وهي بطبيعة الحال تعيق عملية الانتقال العادل نحو حل الأزمة المناخية والتعامل مع تداعياتها. ولكن يبقى الحديث عن التغيير المناخي مبتوراً إذا لم يترافق مع مطلب وقف الحرب والإبادة وإنهاء الاستعمار.
نُشِر هذا المقال أيضاً على موقع «استوديو أشغال عامّة».