Preview مهدي عامل

استئناف حوار مع فكر مهدي عامل (1)
في النظريَّة والممارسة النظريَّة

تقديم

مهدي عامل ظاهرة مميَّزة في الفكر الماركسي العربي وفي الحركة الشيوعية العربية. جاء من خارج المدارس الحزبية السوفييتية، تفارقت، حتى لا أقول تناقضت، منطلقاته النظرية ومفاهيمه مع السائد من منطلقات ومقولات الحزب الشيوعي اللبناني والحركة الشيوعية عموماً، وكانت لا تزال تروِّج للتحالف مع الرأسمالية الوطنية، أو تتحدَّث عن مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، وتعيد النظر بمواقفها السلبية من «النظم التقدَّمية»، ومن الموقف من تقسيم فلسطين  في العام 1947، ومن الوحدة العربية، وتتبنَّى المقولات السوفييتية الرسمية الموجَّهة إلى «البلدان النامية»، ومنها «طريق الانتقال السلمي إلى الاشتراكية»، والمقولة التي أعقبتها أي «الطريق اللارأسمالي إلى الاشتراكية». حتى أن مهدي في تعيينه الأزمة في حركة التحرُّر الوطني العربية لا يعفي البديل الشيوعي من الأزمة. واللافت أن عضو اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي اللبناني، وأحد أبرز مفكِّريه ومثقَّفيه، لا يبدي في كتاباته أي اهتمام بثورة أكتوبر 1917 الروسية ولا بالتجربة السوفييتية، حتى أنه نادراً ما تلقى لديه ذكر للاتحاد السوفييتي و«إنجازاته». وهي علامة استقلال غير مسبوقة في الشيوعية العربية. وإن تكن ثغرة فاغرة في نظامه الفكري.

على أن الوجه الآخر لهذه التمايز عن السائد الشيوعي، بل التمرّد، هو صرامة التزام مهدي عامل بحزبه وانضباطه الصوفي بتفسير سياسات الحزب والحركة الوطنية اللبنانية وتبريرها، ما أوقعه في ورطات نظرية وسياسية سوف نتعرَّض لبعض منها في مجرى هذا البحث.

أول ميزة لمهدي عامل هو انطلاقه من الإنتاج والبلورة النظريين، بما هما الشرط الذي لا غنى عنه لتوجيه الممارسة السياسية. بل أكثر، رأى النظرية على أنها ممارسة، والممارسة على أنها مصدر أساسي للإنتاج النظري. على أن فهمه لهذه وتلك كان شديد الإشكال. قرأ على الماركسيين الأوروبيين: لوي ألتوسّير ومدرسته، ونيكوس بولانتزاس، وفرانتس فانون، ونظريات التبعية وسمير أمين، إلخ. وهم الماركسيون ذاتهم الذين قرأ عليهم اليسار اللبناني والعربي الجديد - وليس يصعب ملاحظة التقارب بين قسم من مفاهيمه عن السلطة والمجتمع في لبنان والمنطقة ومفاهيم «لبنان الاشتراكي» و«منظَّمة العمل الشيوعي». أعني الأولوية المُعطاة لدور النظرية في الممارسة السياسية، والاهتمام بتمييز الاستقلال النسبي للنصاب السياسي، وأهمِّية الهيمنة ونقد الأيديولوجيا، والعناية الخاصَّة بتفسير المسألة الطائفية، والموقف النقدي من «أنظمة البرجوازية الصغيرة» (الناصرية والبعث)، والدعوة إلى قيادة الطبقة العاملة لحركة التحرُّر الوطني العربية، وغيرها. على الرغم من أننا ومهدي «قرأنا على شيخٍ واحدٍ» فهذا لم يمنع من نشوب خلافات عديدة حول هذه المسائل وسواها.

جمعتني زمالة رفاقية مع حسن حمدان (مهدي عامل) لسنوات قليلة في خلال الحرب الأهلية، مع توثّق العلاقة بين الحزب الشيوعي ومنظَّمة العمل الشيوعي. جمعَنا كريم مروِّة وتبادلنا زيارات وسهرات عائلية في منزلي ومنزل مهدي، شارك فيها إلى كريم، حسين حمدان (أبو فادي) وزوجاتنا وآخرون. زارني مهدي عدداً من المرّات ليطلب مني مراجع خصوصاً لبحثه عن ميشال شيحا والمسألة الطائفية وفلسطين. كانت مناسبات لتبادل الرأي والنقاش. 

الوجه الآخر لهذه التمايز عن السائد الشيوعي، بل التمرّد، هو صرامة التزام مهدي عامل بحزبه وانضباطه الصوفي بتفسير سياسات الحزب والحركة الوطنية اللبنانية وتبريرها، ما أوقعه في ورطات نظرية وسياسية

التقينا في مقابلتين متقابلتين، على صفحات مجلَّة الحرِّية في خريف 1976، واحدة أجراها معه محمد العبدالله، والثانية أجراها معي جوزيف سماحة. وقد كتب مهدي نقداً مطوَّلاً لتلك المقابلة، دار مدار الماركسية، كونيَّتها وتميُّزها؛ طبيعة الرأسمالية في لبنان وأنماط وعلاقات الإنتاج قبل الرأسمالية، موقعها وفاعليتها؛ التبعية الكولونيالية بين خارج وداخل؛ المسألة الطائفية وعلاقة الطوائف بالدين والاقتصاد والدولة والتكوُّن الطبقي؛ دور «الإقطاع السياسي» بما هو الفريق الحاكم باسم البرجوازية؛ الطغمة المالية والرأسمالية المصرفية-التجارية؛ إلخ. (أنظر «النظرية في الممارسة السياسية. بحث في أسباب الحرب الأهلية في لبنان»، 1979، ص. 219-243.) يجب أن أضيف أن مهدي، من قبيل الحرص على «التحالف» بين الحزب والمنظَّمة، كان يرسل لي صفحات من مخطوطاته التي يتعرَّض لي فيها للنقد قبل أن يدفعها للنشر. لم أرد على نقد مهدي لأسباب تتعلَّق بظروف الحرب أكثر منها أي شيء آخر. لكني مازحته ذات مرَّة عن تهمة «البرجوازية القومية» التي كان يكيلها لي، وللعديدين غيري:

- رفيق مهدي، عندما نتسلَّم السلطة عليك أن تعدمني! 

- ؟

- هكذا فعلوا بأمثالي من البرجوازيين القوميين، بوخارين وجماعته.

- فكان الردّ وصلة من القهقهة.

كنت في باريس أتابع دراستي عندما اغتيل مهدي في بيروت. مع أن الجهة القاتلة معروفة، ظللنا نتهّم «القوى الظلامية»، والغصَّة في الحلق. شاركت الصديق المستعرب الشيوعي جاك كولان في تنظيم ندوة تكريمية عن فكر مهدي عامل بالفرنسية ما لبثت أن صدرت في كرّاس عن جامعة باريس السابعة، في العام 1989، وكانت مساهمتي فيها عن المسألة الطائفية. 

ولم أعد إلى أعمال مهدي إلَّا في السنوات القليلة الماضية عندما بدأت العمل على اليسار الجديد في لبنان (لبنان الاشتراكي ومنظَّمة العمل الشيوعي)، وجدَّدت العمل على التركيب الطبقي والمسألة الطائفية. فيما يلي مجموعة ملاحظات نقدية تتناول عدداً من المسائل التي أثارها مهدي وليس كلَّها. أسمِّي هذه المساهمة «استئناف حوار مع مهدي عامل»، على الرغم من ما تنطوي عليه من مفارقة. مهدي غائب والحوار مع فكره، من جهة، ونحن، من جهة أخرى، على مبعدة أكثر من ثلاثة عقود ونصف العقد منذ أن تجرَّأت اليد الهمجية على إسكات صوت مهدي. لكن المواضيع التي أثارها مهدي لا يزال بعضها راهناً أو أعيد الاعتبار له، والآخر قيد التساؤل عن فاعليته في زمن مُتغيِّر. وهي خير مُحفِّز على التفكير والتأمّل والمراجعة والنقاش. 

ملاحظات منهجية 

  1. يشتغل مهدي في كتاباته على ثلاثة مناهج: السببية البنيوية، والتناقض، والتاريخ. لكنه في النهاية يُخضِع الاثنين الأخيرين للمنهج الأوَّل. وقد حاول التوفيق بين مفهومي البنية والتناقض فوقع في مطبَّات عدَّة غالباً ما يقع فيها البنيويون الماركسيون. غلبت عليه البنيوية وأورثته قدراً من الجمود والقطعية. على أنه ما لبث أن انتقد بنيوية ألتوسّير في كتاباته الأخيرة وكتب عن تمرحل التاريخ، وقد قطع الاغتيال هذه المراجعة النقدية فلا يمكننا أن نتنبَّأ بما كانت ستسفر عنه. 

  2. عالج مهدي على طريقته الخاصَّة الإشكال الناجم عن تعريف المادية التاريخية على أنها تقول بـ«التحتيم الاقتصادي في نهاية المطاف»، بأن يميل إلى ما يمكن تسميته «التحتيم السياسي في نهاية المطاف»، يولي فيه الأولوية للصراع الطبقي والممارسة السياسية للبروليتاريا، مع أن مهدي ذاته مارس الصراع الطبقي في الحقل الفلسفي والثقافي والأيديولوجي أكثر منه في أي حقلٍ آخر. 

الممارسة النظرية والممارسة السياسية

يقدِّم مهدي عامل نفسه بما هو فيلسوف يعرِّف فلسفته على أنها «ممارسة الصراع الطبقي في حقل النظرية». لكن الترجمة العملية لذلك الصراع هي نقد مفاهيم لمفاهيم واستيلاد مفاهيم من مفاهيم أو إعادة إنتاج مفاهيم. يشكِّل مفهوم «الممارسة النظرية» حجر الزاوية في منظومته الفكرية، لكن مهدي يذهب به مذاهب تشطُّ حتّى عن دلالات واستخدامات المفهوم الأصلي عند ألتوسّير. يعرِّف موضوع ممارسته النظرية على أنه «ممارسة الحزب الشيوعي بالذات، التي هي الممارسة السياسية للبروليتاريا» (النظرية في الممارسة السياسية 1979، ص. 26). والاختزالية هنا مثلَّثة الأضلع: يختزل الصراع الطبقي بالصراع السياسي؛ ويختزل الصراع الطبقي بالصراع الطبقي البروليتاري؛ ويختزل الطبقة العاملة (اللبنانية) بالحزب الشيوعي اللبناني. 

هذه العلاقة الدائرية بين النظرية والممارسة لا تترك مجالاً للخطأ في الممارسة، فتغيب الممارسة بما هي حقل اختبار للنظرية، ويغيَّب معها تعلّم النظرية من الممارس، و«التعلّم من الممارسة» هو من أساسيات النظرية الماركسية

ومن الشطط في استخدام مفهوم «الممارسة النظرية» أن المجهود النظري يدور فيه في دائرة مُفرغة، إذ يقول مهدي: «إن الممارسة النظرية البروليتارية، هي ممارسة إنتاج نظرية الممارسة السياسية البروليتارية، وإن إنتاج هذه النظرية هو، في الواقع الفعلي، إعادة إنتاج النظرية الماركسية-اللينينية» (النظرية في الممارسة، ص. 28). 

فما الحاجة إلى النظرية أصلاً طالما أن الممارسة مُتطابقة مع النظرية - بل إن النظرية كامنة في الممارسة - والنظرية مُتطابقة مع الممارسة؟ وهذا هو السؤال الذي يطرحه فيصل دراج على مهدي عامل: «إذا كانت الممارسة هي النظرية فما ضرورة إنتاج النظرية؟». ويخلُص دراج إلى أن هذا التقديس للممارسة السياسية قد «جعلها مستوى عالياً مُتعالياً لا يحقّ للنظرية العلمية أن تمسَّه» (فيصل دراج، «الأوهام النظرية في الأوهام السياسية» السفير، 9/3/1980). ولا يكذِّب مهدي خبراً من حيث تسامي الممارسة على النظرية. وهذا التسامي هو عنوان مقابلة له في مجلَّة «الحرِّية»: «المهمة الأساسية للنظرية الآن أن ترقى إلى مستوى الممارسة!» (29 آب/ أغسطس 1977) 

ويمكن الاسترسال في الأسئلة الضرورية: ألا تنطوي «إعادة إنتاج النظرية الماركسية-اللينينية» على أية زيادة، أو زيادات، تغنيها وتزيد «رأس المال المعرفي» التي قد تحتاجه الممارسة السياسية؟ وعملية الإنتاج هذه، ألا تُسهِم بشيء في تطوير أدوات الإنتاج النظرية ذاتها؟ والأدهى أن هذا التطابق المُجرَّد بين النظرية والممارسة، يغيِّب التفاوت بينهما: يطيح بدور النظرية في الاستكشاف والاستباق؛ ودورها بما هي دليل عمل طالما أنها - عند مهدي - تنظِّر لممارسة سابقة على الفعل النظري، ما يحوِّل التنظير إلى تبريرٍ لاحقٍ لممارسات لم يكن للنظرية دور في إنتاجها. هو ما سوف نلقى أمثلة عديدة عنه في محاولات مهدي تبرير هذه الممارسة أو تلك للحزب الشيوعي اللبناني أو اليسار والحركة الوطنية في خلال الحرب الأهلية في لبنان (1975-1990). 

ثمّ أن هذه العلاقة الدائرية بين النظرية والممارسة لا تترك مجالاً للخطأ في الممارسة، فتغيب الممارسة بما هي حقل اختبار للنظرية، ويغيَّب معها تعلّم النظرية من الممارس، و«التعلّم من الممارسة» هو من أساسيات النظرية الماركسية. فمن «ممارسة» الجماهير الشعبية في «عامِّية باريس» في العام 1871، مثلاً، «تعلَّم» ماركس دكتاتورية البروليتاريا؛ ومن مجالس السوفييت التي أنشأتها المبادرات الشعبية في ثورتي 1905 وشباط 1917 في روسيا، «تعلَّم» لينين ازدواجية السلطة والديمقراطية المباشرة واكتشف الجديد الذي يستوجب طرح مسألة السلطة في 1917! إلخ

دور المثقَّف

لمهدي مفهومه المميَّز عن المثقَّف الثوري ودوره. حرصاً منه على حصانة المفكِّر الثوري من تغلغل آثار الأيديولوجية البرجوازية، يعيّن للمفكِّر الثوري خوض صراع سوف ينقله إلى الموقع البروليتاري. وهذا الصراع أشبه بـ«عملية جراحية» يتم خلالها «تغيير الجلد الطبقي» للمثقَّف الثوري وزرع جلد بروليتاري يؤمِّن له حسّاً بروليتارياً ليس عنده بالغريزة. ذلك أن «الغريزة الطبقية الواعية» عند البروليتاري أصدق وأسلم من فكر المفكِّر الثوري، الذي يتوهَّم أنه وحده يملك الفكر الثوري. والحزب هو الأداة التي بها يبلغ المثقَّف وعي «الغريزة الطبقية البروليتارية الواعية». 

هذا الرأي عميق الدلالة على مناقبية مهدي وشغفه وإخلاصه الصوفي لقضيته وسعيه للاتحاد بحاضنة الخلاص المنشود - البروليتاريا، وحاضنتها وقوَّتها الضاربة - الحزب الشيوعي. وهذا ما يستدعي كلّ الاحترام والإكبار خصوصاً أن مهدي عامل قدَّم التضحية الأكبر في هذا الصراع عندما دفع حياته ثمناً لفكره وإخلاصه لقضيَّته وحزبه. 

تبدو الآية معكوسة عند مهدي. يمجِّد العامل، حامل «الغريزة الطبقية الواعية» (غريزة وواعية؟!)، ويدعو المثقَّف إلى أن يتماهى مع تلك الغريزة. ها نحن في حومة تقديس الممارسة مجدَّداً! ما يثير السؤال عن جدوى وجود مثقَّفين في حركة الطبقة العاملة أصلاً

مهما يكن، ثمَّة قدر من المازوشية في هذه العملية الجراحية، قدر ما فيها من تمجيد للعفوية، وقد لبست لبوس الغريزة. وهذا ما يتناقض مع ما نعرفه عن دور المثقَّفين ووظيفتهم، وخصوصاً المثقَّفين الذين ارتبط فكرهم وسلوكهم ومصيرهم بحركات الطبقات العاملة أو حركات التحرُّر الوطني والاجتماعي في بلدان مختلفة، أكانوا منتجين في الحقل الفكري أم لا. تدخَّلت في ذلك الالتزام عوامل عديدة أولها: جاذبية دور تلك الأحزاب في المعارك الوطنية ضدَّ النازية والفاشية في أوروبا، أو ضدَّ الاحتلال أو الاستعمار في القارات الثلاث. وقد ينتسب المثقَّف إلى الماركسية من خلال صراعه في الحقل الفكري والثقافي ضدَّ الأفكار التقليدية السائدة في مجتمعه، أكان لكونها فلسفة شاملة تمنح المثقَّف «كرامة فكرية»، حسب تعبير غرامشي، أو توفِّر له عتاداً نظرياً لتفسير الحياة في مجابهة مع الأفكار القديمة المسيطرة.

ثم أن كلّ طبقة تنتج مثقَّفيها أو تكسبهم إلى صفوفها من طبقات أخرى. أنتجت الطبقة العاملة مثقَّفين ثوريين من صفوفها أمثال أنطونيو غرامشي، الذي بدأ العمل في سنّ الثانية عشرة؛ وعامل الحديد والنقابي ألكسندر شليابنيكوف، أول وزير عمل بعد ثورة أكتوبر الروسية وقائد المعارضة العمَّالية فيها؛ أو عامل المنجم موريس توريز، الأمين العام للحزب الشيوعي الفرنسي 1930-1947 وغيرهم. واستقبلت حركة الطبقة العاملة مثقَّفين وفدوا إليها من خارج صفوفها بدءاً بالجامعي وابن المحامي كارل ماركس والصناعي فريدريك أنغلز وفلاديمير إيليتس لينين، ابن المحامي/المدرِّس والمفتِّش التربوي، وتكرُّ المسبحة لتصل إلى سليل أسرة أرستقراطية مثل أنريكو برلينغوير، أو ابن صاحب مصرف مثل هنري كورييل في مصر. وقد أسهم هؤلاء في بلورة وعي الطبقة العاملة لذاتها، وعملوا على إضفاء التناسق في تعبيرها عن ذاتها، وتحويل وعيها الطبقي الفطري أو النقابي إلى وعي سياسي، حسب تعبير لينين، أو ناضلوا في أواسط الشعب ضدَّ أفكار الطبقات المُسيطرة، أو اشتغلوا على التناقض الفكري لدى العامل بين فكره وعمله (العمل يغيِّر العالم/الفكر يحافظ على الأمر الواقع) كما عند غرامشي، لكي يتساوق وعيه مع عمله التغييري، إلخ. 

تبدو الآية معكوسة عند مهدي. يمجِّد العامل، حامل «الغريزة الطبقية الواعية» (غريزة وواعية؟!)، ويدعو المثقَّف إلى أن يتماهى مع تلك الغريزة. ها نحن في حومة تقديس الممارسة مجدَّداً! ما يثير السؤال عن جدوى وجود مثقَّفين في حركة الطبقة العاملة أصلاً. لكن البروليتاري هنا كائن ذهني جوهري وكوني. والأغرب أن مهدي - الشغوف بأنماط الإنتاج وعلاقات الإنتاج - لا يقارب المثقَّف الشيوعي أو الثوري بما هو منتِجٌ فكري، ولا يقيِّمه بناءً على علاقته بوسائل الإنتاج الفكرية التي بين يديه ومدى النجاح أو الفشل في استخدامه لها، وكيفية ذاك الاستخدام، وما إذا كان يغني ويراكم أم يفقر ويبدِّد، إلخ.

ولهذه النظرة إلى المثقَّف وجهها الآخر، هو الطابع الاستئثاري والنخبوي الذي يضفيه مهدي في قوله إن المثقَّف يكون ثورياً أو لا يكون. يكون ثورياً أو لا شيء. 

النقض والقطع

يمارس مهدي النقد بما هو أقرب إلى «القطع»، واسمه الأثير «النقض». وفي معظم الحالات، تلقى أن المنقوض هو نقيض الناقض الذي لا يشبهه بشيء، في صراعٍ هو أشبه بصراعٍ بين هويَّات عقيدية مُتعادية بل مُتنابذة. في كثير من الأحوال، لا سعي لديه لاستيعاب المنتقَد وتجاوزه، لا تمييز بين ما يمكن الاتفاق مع الخصم وما يستوجب الاختلاف؛ لا نقد من داخل، لا اشتباك في علاقة أخذ وردّ، إلخ. كثيراً ما يكون النقض إعلاناً عن عدم التماثل أو التماهي. وليس يخلو الأمر من التعيير بتهمة أو نقيصة أو انحراف، والتهمة الأثيرة عنده هي «البرجوازية القومية» المار ذكرها والتي سنلقاها في غير موقع عنده.

لا أثر في الكتاب لمفهوم مهدي المركزي: نمط الإنتاج الكولونيالي، ومدى انطباقه أو عدم انطباقه على الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لفلسطين. وهو عيِّنة مميِّزة عن المسألة القومية في الكولونيالية لا يمكن الاكتفاء في تفسيرها والتأريخ لها بالتناقض البنيوي ولا بأنماط الإنتاج أو الصراع الطبقي

وبالاتجاه نفسه، قد يجري النقض مجرى تبيان نواقص أفكار المنقوض بالقياس إلى أفكار الناقض. والأمثلة وفيرة عن ذلك في «أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية؟» (1974) في نقض مهدي لميشال شيحا، مثلاً، يكاد معظم «النقض» يكون إعلانًا عن نقائص شيحا قياساً إلى نقائض مهدي: شيحا ليس مادياً ولا ماركسياً؛ شيحا ينكر مقولتيْ أنماط الإنتاج وعلاقات الإنتاج (القضية الفلسطينية، ص. 47)؛ شيحا يغفل دور النظرية في إنتاج المعرفة (ص. 48)؛ شيحا يرفض الطابع الكوني للنظرية الماركسية؛ شيحا ينكر الصراع الطبقي (ص. 49)، كلمة «رأسمالية» غائبة من قاموس شيحا؛ شيحا يريد سحب لبنان من دائرة التحليل الطبقي (ص. 51)، شيحا لا ينتمي إلى العقل المادي ويغيِّب التفسير العلمي للأمور (ص. 55)، إلى أن يذكّر مهدي المصرفي والمفكِّر الاقتصادي والصحافي ومهندس نظام الاقتصاد الحرّ بأهمِّية... الاقتصاد! ويكمل بأن يتَّهم بطريرك «الانعزالية» اللبنانية، وداعية ارتباط لبنان بالأحلاف الغربية المعادية للشيوعية وحركة التحرُّر العربية، بإنكار ارتباط لبنان عضوياً وتاريخياً بالعالم العربي وبحركة التحرُّر العربية المناهضة للكولونيالية (ص. 61)، ويكمل مهدي على ميشال شيحا أنه لا يستخدم مصطلح «القضية الفلسطينية» بسبب الخوف البرجوازي ممّا سوف تستثيره القضية من نهوضٍ عامٍّ في حركة التحرُّر الوطني العربية للشعوب العربية ضدَّ الإمبريالية. ويكاد أن يكون هذا التعريف هو تعريف مهدي الأساسي للقضية الفلسطينية (181).

وما دمنا في معرض كتاب مهدي عامل عن القضية الفلسطينية، «القضية الفلسطينية في أيديولوجية البورجوازية اللبنانية – مدخل إلى نقض الفكر «الطائفي»، 1980»، فهي مناسبة لهذه الملاحظات:  

  • لا أثر في الكتاب لمفهوم مهدي المركزي: نمط الإنتاج الكولونيالي، ومدى انطباقه أو عدم انطباقه على الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لفلسطين. وهو عيِّنة مميِّزة عن المسألة القومية في الكولونيالية لا يمكن الاكتفاء في تفسيرها والتأريخ لها بالتناقض البنيوي ولا بأنماط الإنتاج أو الصراع الطبقي.
  • ينفي مهدي إمكان وجود تناقض بين الأنظمة العربية ودولة إسرائيل. علماً أن شيحا لا يخفي العوامل التي تدعوه لمعارضة الصهيونية. تبدأ من استيراده فكرة «المؤامرة البلشفية اليهودية» للسيطرة على العالم من خلال سيطرة اليهود «على المال والثورة معاً»، وهي ابنة نزعة العداء لليهود (اللاسامية) لدى الأرستقراطية والبرجوازية الغربيتين. وعلى صعيد محلّي أكثر، يعيّن شيحا خطر المشروع الصهيوني، ولاحقاً دولة إسرائيل، بما هو مشروع ذو قدرات مالية وصناعية وعلاقات اقتصادية دولية تهدِّد بتدمير اقتصاد لبناني قائم على التجارة والمال والخدمات. 
    وإنكار وجود تناقض بين الأنظمة العربية ودولة إسرائيل مستغرب لدى مهدي، الذي لا يميِّز هنا بين التناقضات وتراتبها، خصوصاً أنه من ألّف في التناقض، واستلهم فيه فكر ماوتسي تونغ. بل يصل الأمر بمهدي إلى الانسياق مع الإدغام القومي السائد الذي يضع كل الدول والأنظمة العربية، على تناقضها واختلافها، تحت عنوان «النظام العربي الواحد». والأنظمة الصادرة عن حركة التحرُّر الوطني العربية، الناصرية والبعث، ألا تناقض بينها وبين الصهيونية وإسرائيل؟ هذا التغاضي ليس غريباً عمن يعطي الأولوية للصراع الطبقي داخل حركة التحرُّر الوطني العربية!
  • المنظور الجزئي إلى قضية فلسطين، حيث يركِّز مهدي على أن النضال ضدَّ إسرائيل «يسهم في تجذير حركة التحرُّر الوطني العربية». فتراه يأخذ على شيحا أنه لا يستخدم مصطلح «القضية الفلسطينية» بسبب الخوف البرجوازي مما سوف تستثيره من نهوضٍ عامٍّ في حركة التحرُّر الوطني للشعوب العربية ضدَّ الإمبريالية (القضية الفلسطينية، 181)!
  • المسألة القومية مُختزلة عند مهدي عامل بالقضية الفلسطينية، مع أنه يحجم عن استخدام مصطلح «قومية» لاعتباره القومية، أو الفكر القومي خصوصاً، من خواص الفكر البرجوازي، أو لعدم تمييزه بين الانتماء القومي والمسألة القومية والأيديولوجية. لكن اللافت إغفاله مسألة الوحدة العربية مع أنها أحد أبرز مسائل وأهداف حركة التحرُّر الوطني العربية.