Preview كورتيز وبيزارو وملوك الذهب

كورتيز وبيزارّو وملوك الذهب

«عندما أعطوا [الغزاة الإسبان] الهديّة، ابتسم [الإسبان] وهلّلوا بحفاوةٍ… انتشلوا الذهب كالقردة… فهم متعطِّشون بلا هوادة للذهب، يحشون أنفسهم به… ويشتهونه كالخنازير».
 برناردينو دي ساهاغون، من كتاب «غزو المكسيك».

البحر من ورائكم والعدو أمامكم. هكذا حثّ طارق بن زياد جنوده على القتال عند غزو المسلمين للأندلس في العام 711. بعد مرور ثمانية قرون، ردَّد النداء هرنان كورتيز، وهو القادم من الأندلس بعد طرد المسلمين، عند غزوه المكسيك في العام  1519. لم يكن كورتيز أوّل غازٍ تطأ قدماه أرض «الفتح» الجديد، أي اليابسة الواقعة قبالة جزر الكاريبي التي أبحر إليها كولومبوس قبل ثلاثة عقودٍ. سبقَت كورتيز حملتان أغارتا على الشواطئ الشرقية الشمالية لأميركا الوسطى، لكنّهما باءَتا بالفشل نظراً لمقاومة السكّان الأصليين. فوجد كورتيز نفسه مُضطراً لتعطيل السفن التي قادها عند الوصول إلى اليابسة، ووضْع من شارك في حملته أمام خيارين لا ثالث لهما: الموت أو النصر.

Previewمدينة تنيوتشتيتلان، عاصمة مملكة الآزتك

لوحة لدييغو ريفييرا تصوِّر مدينة تينوتشتيتلان عاصمة مملكة الآزتك، وتظهر قنوات المياه وأنظمة الريّ الفريدة في المدينة العائمة.


والنصر في حالة كورتيز وصُحبِه لم يكن سهلاً كما تُصوِّره بعض البرامج التلفزيونية والكتب التاريخية. بحسب تلك الرواية، هَزَمَ بضعُ مئاتٍ من الإسبان الأشدَّاء مئاتَ الآلاف من شعب الآزتك، وأخضعوا أعظم مملكة عرفتها أميركا الوسطى. وقد سرَّع من نصرهم اعتقاد الملك موكتيزوما أنّهم، أي الإسبان، آلهة أتوا من الشرق، فقدّم لهم الهدايا والطاعة واستقبلهم في عرينه، فتمسكنوا حتّى تمكّنوا، وساد الأمر لهم.

كانت مملكتا الآزتك والإنكا أغنى وأعتى قوّتين في «العالم الجديد»، وقد أدّى القضاء عليهما إلى انتقالٍ عنفي لا سوقي للثروة بوتيرةٍ وحجمٍ غير مسبوقينلكنّ المصادر الأوّلية المتوفّرة، بما فيها رسائل كورتيز لملك إسبانيا تشارلز الخامس، وكذلك الدراسات غير المُنحازة للرواية الإسبانية، تدحض مقولة الآلهة، وتكشف عن كرٍّ وفرٍّ بين الطرفين، تكلَّل بطرد الإسبان شرَّ طرد من العاصمة تينوتشتيتلان بعد أن دخلوها بدعوةٍ من موكتيزوما. ولم يتمكّن كورتيز من دخول المدينة مُجدّداً، إلّا بعد عودته مدعوماً بمقاتلين جُدُد، واتّباع سياسة بثّ الذعر بين أهالي البلدات المجاورة عبر ارتكاب المجازر وكيّ الوجوه وقطع الأطراف، واللجوء إلى حصار تينوتشتيتلان وتجويع سكّانها بدلاً من المواجهة المباشرة لكسر شوكة الآزتك، يعاونه في ذلك عشرات الآلاف من مقاتلي شعب التلاكسكلان المعادي للآزتك.

لقد رجَحَت كفّة الإسبان في تلك الحرب نتيجة ثلاثة عناصر أساسية. أوّلها تفوّق الإسبان التكنولوجي لا الحضاري، مُتمثِّلاً بالأسلحة الحديدية والأحصنة، دبّابة ذلك الزمان؛ وثانيها إذكاء الخلافات بين الشعوب الأصلية والاستثمار فيها، ممّا أمّن الدعم الهائل والمستمرّ من خصوم الآزتك لكورتيز؛ وثالثها العقيدة الإسبانية القتالية التي لا تعير أعراف الحرب شأناً، كنكس عهود الأمان وخطف الملوك على حين غرّة لابتزازهم ثمّ قتلهم وتنصيب سلاطين دُمى مكانهم، وقتل النبلاء مُجتمعين في خلال تأديتهم الشعائر الدينية.

بعد عشر سنوات من حملة كورتيز، حضرت كلّ تلك العناصر في غزو فرانسيسكو بيزارّو لإمبراطورية الإنكا في البيرو، حيث كان الصراع أشدّ وأمرّ، وتخلّلته انتفاضات عارمة للسكّان الأصليين بقيادة الإنكا على طول جبال الأنديز وحروب أهلية بين القادة الإسبان لم تهدأ لسنوات عدّة.

السلبُ في الحرب والنصبُ في السلم

كانت مملكتا الآزتك والإنكا اللتان حاربهما كلٌّ من كورتيز وبيزارّو أغنى وأعتى قوّتين في «العالم الجديد».  أدّى القضاء عليهما، إلى جانب القضاء على حضارتين إنسانيتيْن عريقتين، إلى انتقالٍ عنفي لا سوقي للثروة (من أرض وقوى عاملة ورأسمال) بوتيرةٍ وحجمٍ غير مسبوقين؛ فقد زاد إنتاج الذهب في العقود الثلاث التي تلت غزو الحضارتين ستة أضعاف عن ما كان عليه في العقود الثلاث الأولى بعد كولومبوس. وأدّى الغزو كذلك إلى تثبيت نظام الرأسمالية التجارية في أوروبا المُتعطِّشة للذهب والمعادن الثمينة، بالتوازي مع تشكُّل طبقة جديدة من الإقطاع البرجوازي الاستيطاني في المُستعمرات الأميركية وما قابله من تشكّل طبقة مُستعبَدة من السكّان الأصليين إلى جانب طبقة الرقيق الأفارقة.

Previewمدينة تنيوتشتيتلان، عاصمة مملكة الآزتك

جدارية للفنان دييغو ريفيرا تصوِّر النشاط التجاري في سوق مدينة تينوتشتيتلان ويظهر في الخلفية مجمع المعبد الكبير في المدينة.


جسّدت سيرتا كورتيز وبيزارّو الذاتيّة هذه التحوّلات. فرّقتهما الخلفية الطبقية، لكن جمعهما الطمع في اكتشاف الذهب والطموح في حيازة المناصب، فقادا أكبر عمليّتيْ سلبٍ ونهبٍ شهدها عصرهما؛ بدأت في زمن الحرب بمصادرة كمّيات كبيرة من الذهب الذي راكمه ملوك هاتين الحضارتين عبر عقودٍ من الزمن، وتكرَّست في زمن السلم عبر نظام الإنكومياندا، وهو شكل من أشكال الإقطاع أشبه بالعزبة المصرية، بحيث يخضع جميع السكّان في بلدة أو منطقة مُحدّدة لإمرة صاحب الإنكومياندا، ويتوجّب عليهم العمل في أراضيه أو مناجمه أو مكان إقامته، وتقديم خدمات أخرى مقابل حماية أمنية مُفترضة وتعليم ديني، وفي بعض الأحيان أجرٍ زهيد.

أدّى الغزو إلى تثبيت نظام الرأسمالية التجارية في أوروبا المُتعطِّشة للذهب والمعادن الثمينة، بالتوازي مع تشكُّل طبقة جديدة من الإقطاع البرجوازي الاستيطاني في المُستعمرات الأميركيةكانت حصص الإنكومياندا توزّع على الغزاة الإسبان بحسب مكانتهم الاجتماعية ودورهم في الغزو. وفي العقود الأولى من استيطان المكسيك والبيرو، خضعت الحصص لأهواء الحاكم والبلاط الإسباني، بحيث يُعاد تلزيمها عند قدوم حاكمٍ جديدٍ مثلاً أو مبعوث ملكي لمن لديهم حظوةً لديه أو من خلال عقد الزيجات مع الورثة. سمح نظام الإنكومياندا لكورتيز وبيزارّو، ومن رافقهما في الغزوات (حوالي ألف شخص)، بتكديس أموالٍ طائلة، واستملاك أراضٍ شاسعة، واستعباد مئات الآلاف من السكّان الأصليين لبناء المناجم والمرافئ وطرق المواصلات، واستخراج المعادن الثمينة من ذهب وفضّة ونقلها، إلى جانب امتلاك السلع الحرفية وإنتاج المحاصيل الزراعية وتجارتها عبر آلاف الأميال في البرّ والبحر بعد أن كانت حدود حركة الغُزاة من جيل كولومبوس محصورة في الكاريبي.

إلى جانب عوامل الطقس والجغرافيا، واجه الجيل الثاني من الغُزاة الإسبان بعد كولومبوس، مثل كورتيز وبيزارّو، مجموعة من التحدّيات المالية واللوجستية والقانونية. كان على قائد أي حملة تأمين التمويل الخاص والحصول على رضى الحاكم المحلّي إلى جانب الموافقة الملكية، وإيجاد حلفاء له، وتهميش طامعين آخرين. وفي الغالب، كان قائد الحملة يسعى، بعد تحقيقه نجاحاً ملموساً، إلى شرعنة مكتسباته من خلال الاستحصال على امتيازٍ ملكي بشكلٍ مباشر لا يمرّ عبر الحاكم الذي أرسله، ومن ثمّ مكافأة نفسه أولاً، وأقربائه ثانياً، ومناصريه ثالثاً، عبر توزيع الغنائم بعد خصم حصّة التاج الإسباني – أي الخُمس، وتحييد منافسيه عبر إقصائهم من الحملة، أو إلهائهم في حملات عبثية، أو تصفيتهم في حال لزم الأمر. فكيف تعامل كلٌّ من كورتيز وبيزارّو مع هذه التحدّيات؟

أساطير إلدورادو وذهب الآزتك

أدّى الاستنفاد السريع لمنابع الذهب والتناقص المطّرد لأعداد السكّان الأصليين في جزر الكاريبي إلى البحث عن مصادر وموارد جديدة على طول السواحل الشرقية والشمالية لكلّ من أميركا الوسطى وأميركا الجنوبية. وقد اتّبع الغُزاة الإسبان تكتيكهم المعهود في الإبحار بمحاذاة الشواطئ، واستكشاف الداخل بحذرٍ، وبناء المستوطنات المُحصّنة عند الحاجة. وقد أحرزوا نقلة نوعية في العام 1513 عند اكتشاف برزخ باناما والوصول إلى المحيط الهادئ، ممّا مكّنهم من استكشاف الشطر الغربي لأميركا الجنوبية (بوليفيا والبيرو وتشيلي). غَذَّت هذه الاكتشافات أساطير إلدورادو (أي الرجل المُذهَّب) التي تحدّثت عن وجود ممالك من الذهب في الداخل الأميركي، فكانت، بغضّ النظر عن صحّتها، حافزاً إضافياً للتوسّع الاستعماري. وقد أطلق الإسبان أسماء جديدة مثل كاستييو دي أورو (قشتالة الذهبية) وكوستا ريكا (الساحل الغني) على مستوطناتهم في برزخ باناما وجواره لتثبيت تلك الأساطير. لكن النتائج أتت مُخيِّبة فيما يخصّ الذهب المُكتشف. فتمّ التحضير لحملات أخرى، أبرزها حملة كورتيز في العام 1519 عبر خليج المكسيك، وحملة بيزارّو في العام 1530 بمحاذاة سواحل البيرو.

Previewمدينة تنيوتشتيتلان، عاصمة مملكة الآزتك

خريطة قديمة لمدينة تينوتشتيتلان التي تأسّست في أوائل القرن الرابع عشر، وبنيت عبر سلسلة من الجزر الطبيعية والاصطناعية المتصلة بجسور تعبر مستنقعات بحيرة تيكسكوكو. تغطي المدينة أكثر من 5 أميال مربعة، وقدِّر عدد سكانها بنحو 200 ألف نسمة، وكان يرجح أن تصبح من أكبر مدن العالم. تعدُ تينوتشتيتيلان من أغنى المدن القديمة وأكثرها فخامة من الناحية المعمارية، قبل أن يغزوها الإسبان في بداية القرن السادس عشر ويدمّروها، وتنشأ فوقها مدينة مكسيكو.


أقام كورتيز في الكاريبي لخمسة عشر عاماً قبل إطلاق حملته التوسّعية في المكسيك (أو إسبانيا الجديدة كما سُمّيت آنذاك). في خلال تلك الفترة، تبوّأ كورتيز مناصب بلدية وقضائية وإدارية عدّة، وشارك في غزو كوبا مع دييغو فيلازكيز الذي أصبح حاكم الجزيرة. وعمل كورتيز كذلك في التجارة وأُعطِي – كغيره من القادمين إلى «العالم الجديد» من طبقة النبلاء – أرضاً وعدداً من السكّان الأصليين للعمل لصالحه، فدرَّت عليه أعماله ربحاً وفيراً. وسمحت له علاقاته التجارية والسياسية بتوفير التمويل اللازم لتجهير أسطولٍ من 11 سفينة و500 عنصرٍ للمشاركة في حملته. أثار هذا النجاح حفيظة الحاكم، فتراجع عن تفويض كورتيز، لكن الأخير، وبدعمٍ من النخبة التجارية في كوبا، تجاهل الأمر ومضى نحو شواطئ المكسيك.

كانت حصص الإنكومياندا توزّع على الغزاة الإسبان بحسب مكانتهم الاجتماعية ودورهم في الغزو. وفي العقود الأولى من استيطان المكسيك والبيرو، خضعت الحصص لأهواء الحاكم والبلاط الإسبانيكغيره من الغُزاة، جهد كورتيز في التحرّي عن مصادر الذهب عند وصوله إلى اليابسة وتأسيس مستوطنة فيرا كروز. زادت الهدايا المُزدانة بالذهب التي أرسلها موكتيزوما إلى كورتيز من شهيّة الأخير، فقرّر المسير نحو العاصمة تينوتشتيتلان ودخلها بدعوةٍ من موكتيزوما. لكن ما لبث أن انقلب كورتيز على موكتيزوما، فوضعه تحت الإقامة الجبرية، وحثَّه على إرشاد الإسبان إلى كلّ ما تحويه الخزانة الملكية من ذهبٍ، ودفعه إلى الطلب من جميع أعوانه وكبار القوم لديه إحضار كلّ ما يملكون من كنوزٍ. أظهر البعض تردّداً أو تمنّعاً، فقام الإسبان بتعذيبهم. وعندما تكدّست الكنوز المجلوبة، كما يروي برناردينو دي ساهاغون، «نُزِع الذهب من الدروع وجميع المقتنيات. وبعد فصله، أُحرِقت كلّ الأشياء الثمينة. وقام الإسبان بتسييل الذهب وتحويله إلى سبائك».

لم تكتمل فرحة كورتيز، فسرعان ما وصلته أنباء عن قدوم حملة إسبانية تأديبية عديدها 1400 عنصرٍ بقيادة بانفيلو دي نارفاييز لاعتقاله بسبب عصيانه حاكم كوبا. وبحسب المؤرِّخ روبرت همريك إي فالنسيا، كان كورتيز، بالتواطؤ مع حاكم كوبا، قد أدرج أملاك نارفاييز في كوبا أثناء غياب الأخير ضمن رأس المال الذي موّل كورتيز به حملته. عند سماع كورتيز أخبار قدوم دي نارفاييز، عاد إلى مستوطنة فيرا كروز مع مجموعةٍ من رجاله. وسرعان ما اشترى ولاء العديد من رجال نارفاييز بالمال، ووعدهم بالمزيد في حال انضمّوا إلى حملته، ثمّ قتل نارفاييز. عاد كورتيز على وجه السرعة إلى تينوتشتيتلان، ووجد رجاله في مأزقٍ حرجٍ. لقد ارتكبوا بقيادة نائبه دييغو ألفارادو مجزرة بحقّ عشرات النبلاء الآزتك أثناء حفلٍ ديني، فثارت ثائرة القيادات الباقية وعموم الناس وقتلوا موكتيزوما لمسايرته الإسبان (أو قام الإسبان بتصفيته واتهام رعاياه). وقتلوا كذلك عشرات الغُزاة الإسبان، فيما فرّ الباقون خارج المدينة. إزاء هذه التطوّرات، حشد كورتيز رجاله وآلاف الحلفاء من السكّان الأصليين وضرب حصاراً حول المدينة حتّى دانت له. ثمّ أبرق لملك إسبانيا يُعلِمه بالانتصار والاستحواذ على غنائم هائلة، على رأسها كمّيات كبيرة من الذهب.

فدية الإنكا ومحرقة الذهب

كان بيزارّو، مثل كورتيز، من رجالات الغزو المُخضرمين عند إطلاقه حملة استكشاف البيرو. فقد سبق أن شارك في حملة باناما في العام 1513، حيث استقرّ واغتنى وشغل منصباً بلدياً. لكنّه لم يصل إلى مرتبة كورتيز من حيث الثروة والجاه. أسّس كورتيز شراكة ثلاثية مع دييغو دي  ألماغرو والقسّ هرناندو دي لوكوي (والأخير كان واجهة للمموّل الرئيسي للحملة القاضي غسبار دي إسبينوزا) من أجل استكشاف السواحل الغربية لأميركا الجنوبية بحثاً عن الذهب والقرفة وغيرها من الكنوز. بعد فشل الرحلتين الأولى والثانية (في العامين 1524 و1526 على التوالي) واستفحال المرض بين أعضاء الحملة، تخلّى حاكم باناما والعديد من الذين انضمّوا إلى بيزارّو عن المغامرة.

Previewمدينة ماتشو بيتشو التي أسّسها شعب الإنكا

صورة لمدينة ماتشو بيتشو أو القلعة الضائعة في البيرو التي تعد مثالاً عن الهندسة المعمارية المندمجة ضمن السمات والمناظر الطبيعية - تصوير: ألارد شميدت
بنىيت المدينة من قبل شعب الإنكا الذي أسّس إمبراطورية ضخمة، امتدّت على مساحة 2,500 ميل وبلغ عدد سكّانها حوالي 12 مليون نسمة. تميّزت الإمبراطورية بمدنها الحجرية الكبيرة والمعابد والقلاع ونظام معقّد من الطرق والجسور المعدّة لربط المناطق بالإمبراطورية. أديرت الإمبراطورية عبر حكومة مركزية أنشأت سجلاً لعدّ السكان وتنظيمهم وتخصيص المهن بما يخدم توسّعها وتأمين حاجات شعبها، كما أنشأت نظاماً للبريد يقوم على إرسال عدّائين لإيصال الأوامر والتعليمات إلى مختلف المقاطعات ومعالجة المشاكل فيها، وكذلك فرضت ضريبة على العمل وأدارت فوائض المواد الغذائية وخزّنتها لإتاحتها في أوقات الحاجة، وابتكرت الزراعة على المدرّجات وأنظمة للري.


لكن بيزارّو وألماغرو - وكلاهما من أصول اجتماعية متواضعة وأبناء غير شرعيين - لم ييأسا في ظلّ تواتر الأخبار على طول الساحل حول وجود حضارة عريقة وغنيّة في جبال الأنديز. فغادر بيزارّو إلى إسبانيا في العام 1528 للحصول على تفويضٍ مباشرٍ من الملك تشارلز الخامس لاستكمال الحملة. وتزامن وصول بيزارّو إلى إشبيلية مع زيارة كورتيز لها، وانتشار أنباء عن حضارة الآزتك وثرواتها. فتشجّع البلاط وأعطى بيزارّو امتياز غزو البيرو وتنصيبه حاكماً عليها، مقابل أداء الطاعة للملك، ودَفْع الخُمس المعهود للبلاط. عاد بيزارّو إلى أميركا ومعه العديد من المُنتسِبين الجُدُد إلى الحملة، والطامعين في تكرار ما أنجزه كورتيز في المكسيك. لكن ما وجدوه في البيرو فاق كلّ التوقّعات.

قدّرت قيمة الذهب المنهوب من الإنكا بحوالي 6 ملايين دولار في العام 1970، أي ما يساوي 47 مليون دولار بأرقام اليومصادف وصول بيزارّو إلى البيرو في العام 1531 اندلاع حربٍ أهلية بين ورثة إمبراطور الإنكا، مالت الكفّة فيها لصالح الوريث أتاهوالبا. لعب بيزارّو وإخوته الذين انضمّوا إليه على هذه التناقضات، وساروا على خُطى كورتيز. فأوقعوا بأتاهوالبا عن طريق الخديعة، واحتُجِزوه رهينةً في معسكره في موقعة كاخاماركا، وقبِلوا بإطلاق سراحه مقابل تسليم كلّ كنوز الإنكا من الذهب. وَعَد أتاهوالبا الإخوة بيزارّو بملأ غرفة سعتها 88 متراً مكعّباً (عُرفت لاحقاً بغرفة الفدية) بكلّ ما يوجد في خزائن البلاط ومعابد البلاد من ذهب.

وهكذا كان. مكث بيزارّو في كاخاماركا لاستقبال وفود الإنكا القادمة والمُحمّلة بالذهب، على شكل أجرانٍ وأوانٍ ومقتنيات أخرى، والتي وصلت في بعض الأيام إلى 600 باوند من الذهب. وُضِعت هذه الكمّيات تحت حراسة مُشدّدة. ولمّا لم يأتِ مبعوثي الإنكا بالمزيد، وخصوصاً كنوز معبد الشمس كوريكانشا، أرسل بيزارّو فرقة من العناصر الإسبان للإشراف على النهب، فقاموا بأنفسهم - بعض أن رفض سكّان المدينة الدخول إلى المعبد - بنزع حوالي 700 صفيحة من الذهب (تزنُ كلّ منها حوالي 4,5 باوند) كانت تُزيّن حيطان المعبد، ونهبوا أيضاً القبور، وحمّلوا غنائمهم من الذهب والفضّة في قافلة مؤلّفة من 225 لاما، واتجهوا بها نحو كاخاماركا.

بعد وصولهم، وكان ذلك في ربيع العام 1533، أُشعِلت الأفران لأشهر عدّة، وتمّ إذكاؤها بحوالي 11 طنّاً من المقتنيات الذهبية، التي كانت تُمثّل أبهى إنجازات حضارة الإنكا الفنّية من تحفٍ وأوانٍ ومجسّمات وتماثيل. قدّر المؤرِّخ جون هامينغ القيمة الإجمالية للذهب المنهوب من الإنكا بحوالي 6 ملايين دولار في العام 1970 (أي ما يساوي نحو 47 مليون دولار بأرقام اليوم)، فيما قدّرها الباحث بيار فيلار بحوالي 600 ألف مارافيدس (أي نحو 1,3 مليون قطعة ذهب بيزنطية). بعد تسييل الذهب ومهره بالختم الملكي، خُصِّص الخُمس للبلاط الإسباني وقُسِّم الباقي بحسب كوتا هرمية على  كورتيز وضبّاطه والخيّالة والمشاة (أنظر البيان). وبعد الانتهاء من توزيع الذهب، غادر هرناندو كورتيز، الأخ الأصغر لبيزارّو، إلى إسبانيا ومعه حصّة الملك، فيما توجّه الباقون، وقد تحوّلوا إلى كبار الأغنياء، لاحتلال كوسكو بعد أن نكسوا وعدهم بالإفراج عن أتاهوالبا، وأعدموه  لاحقاً بحجّة خيانته لهم، ومحاولة تأليب رعاياه عليهم.

Previewكورتيز وبيزارو وملوك الذهب

موت بيزارّو وميراث كورتيز

اتّخذ بيزارّو من ليما، العاصمة الإسبانية المُستحدثة على الشاطئ، مقرّاً رئيسياً لقوّاته، وخاض معارك عدّة مع جنرالات أتاهوالبا الثلاثة الكبار في شتّى أنحاء الأنديز حتّى تمكّن من إحكام السيطرة على العاصمة كوسكو. لكنّه سرعان ما واجه خطر التمرّد من شريكه القديم دييغو ألماغرو. منذ البدء، لم يستسغ ألماغرو صفقة بيزارّو مع ملك إسبانيا، التي حاز بموجبها على لقب حاكم البيرو جمعاء، مقابل إعطاء ألماغرو حاكميّة مدينة تومبيز الساحلية. حاول بيزارّو التخفيف من أهمّية الصفقة ووعد ألماغرو – الذي لم ينضمّ إليه مباشرة في رحلته الثالثة - بحصّة أكبر في حال نجاح الحملة. قُبيل قتل أتاهوالبا، أتى ألماغرو بتعزيزاتٍ جديدة إلى البيرو لنصرة شريكه، وأطلق رحلات استكشافية في التشيلي علّه يعثر على كنوزٍ مُماثلة. لكنّ حظّه كان عاثراً وعاد خالي الوفاض. ولمّا أعطاه بيزارّو إمارة كوسكو كترضية، تململ من سطوة الإخوة بيزارّو على المدينة. حينها، تمرّد ألماغرو لمرّة أخيرة فهُزم وأعدِم في العام 1537.

ظنّ فرانشيسكو بيزارّو أنه تخلّص من ألماغرو إلى الأبد. لكن تمكّن بعضٌ من أنصار الأخير من اقتحام منزله واغتياله بعد 4 سنوات وهو في الرابعة والستين من عمره. برز غونزالو بيزارّو، الأخ غير الشقيق لفرانشيسكو، بعد موت أخيه. لكنّه لاقى حتفه أيضاً على يد القوّات الملكية الإسبانية بعد أن أعلن التمرّد ضدّ قوانين العام 1542، التي قلّصت من صلاحيّات أصحاب الإنكومياندا وأعطت العمّال والسكّان الأصليين بعضَ الحقوق البسيطة. قُتل غونزالو، لكن التمرّد الذي قاده والمدعوم من طبقة المستوطنين النبلاء، دفع التاج الإسباني إلى التراجع عن تلك الإصلاحات. بالنتيجة، تبدّل الأشخاص وبقيت البنية الاستغلالية قائمة.

تملّك كورتيز عشرات الإنكومياندا في كافة أنحاء إسبانيا الجديدة، ومُنِح نحو 40 هبة من الأراضي في العام 1524، وقدِّر دخله السنوي بنحو 175,6 كيلوغراماً من الذهببعكس الإخوة بيزارّو، لم يواجه كورتيز معارضةً شرسةً في المكسيك. وما برح عند تولّيه الحكم أن خصَّص لنفسه أفضل الأراضي، وأكبر عدد من الرعايا وصل إلى حوالي مليون شخص بُعيْد الغزو، وبعد تدخّلٍ من ملك إسبانيا انخفض العدد إلى 23 ألف رعية رسمياً وحوالي 60 ألف عملياً. تملّك كورتيز عشرات الإنكومياندا في كافة أنحاء إسبانيا الجديدة (في حوالي خمسين موقعاً)، ومُنِح نحو 40 هبة من الأرض في العام 1524، وقدِّر دخله السنوي بنحو 42 ألف بيسو ذهبي (حوالي 175,6 كيلوغراماً من الذهب). جَهِد كورتيز، كغيره من الغُزاة، في توظيف وتمليك 11 من أقربائه، وأبقى على حاشية كبيرة لا تقل عن أربعين شخصاً من ضمنهم فرقة من المحامين انهمكوا في صراعات قانونية مع محامي البلاط، الذين جهدوا بدورهم للتأكّد من أن كورتيز لم يتعدَّ حدود ما مُنح من امتيازات.

عند عودته إلى إسبانيا في العام 1528، حصل كورتيز على لقب الماركيز، وتزوّج للمرة الثانية من عائلة أرستقراطية، فضَمِن بذلك ارتقائه الاجتماعي. ومن خلال وصيّته، ضمن أن يرثه بعضٌ من أولاده غير الشرعيين، وعلى رأسهم ابنه دون مارتن الذي أنجبه من دونا مارينا، واسمها الأصلي مالينشي، وهي من سكّان أميركا الوسطى الأصليين. أدّت مالينشي دوراً مهماً كمترجمة في خلال غزوات كورتيز قبل أن ترتبط به. لكن سيرتها بقيت طي النسيان مثل سيرة غيرها من نساء من ذهب. للقصّة بقية.