هنري الملاّح وحصن المينا

«هنا، مع حلول العام 1480، بُني حصن «سان جورج دا مينا». هنا، كان المصدر الرئيسي للذهب البرتغالي».
بيار فيلار

«كان لصادرات الذهب والرقيق تداعيات متباينة بشدّة على النسيج الاجتماعي لغرب أفريقيا».
والتر رودني

في العام 1960، برعاية ديكتاتور البلاد أنطونيو سالازار، أزاحت البرتغال الستار عن نصبٍ عملاق في العاصمة لشبونة اسمته «نصب الاكتشافات»، وهو عبارة عن منحوتة بعلوّ 52 متراً على شكل مركب شراعي شبيه بالذي استخدمه البحّارة البرتغاليون في استعمار الهند وأفريقيا وأميركا اللاتينية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر.

Previewنصب الاكتشافات
نصب الاكتشافات في لشبونة - البرتغال

على جانبي المركب المنحوت، شُيِّدت تماثيل 32 شخصية تاريخية برتغالية ساهمت في عصر «الاكتشاف». وهم بحّارة ورحّالة وملوك ومبشِّرون وعلماء وفنّانون وخبراء خرائط. منهم من اكتسب شهرة عالمية كفاسكو دي غاما، أوّل أوروبيٍّ يصل إلى الهند في العام 1498 عن طريق رأس الرجاء الصالح في جنوب أفريقيا، ومنهم فرناندو ماجلان، الذي قاد الرحلة البحرية الأولى حول العالم في العام 1519 (ولو أن ماجلان نفسه قُتل على يد المقاوم الفلبيني لابو لابو قبل إتمام الرحلة). ومنهم من هو أقل شهرة خارج البرتغال، مثل ألفاريز كابرال، «مكتشف» البرازيل، وبيدرو كوفيلا، مبعوث البرتغال المتخفّي إلى شرق أفريقيا وجزيرة العرب من أجل رصد جغرافيا المنطقة تمهيداً لرحلة دي غاما. وقد توفّي كوفيلا في الحبشة بعد أن وضعه مَلِكُها تحت الإقامة الجبرية.

يتصدّر جميع هؤلاء تمثالٌ للأمير هنري، والذي يعدّه البرتغاليّون رائدَ عصر الاكتشاف عبر البحار، وقد أقيم النصب في الذكرى الخمسمائة لوفاته. المفارقة أن الأمير هنري، المُلقَّب بالملاّح، لم يكن بحّاراً. وبحسب الباحث آرثر دايفس، إن دور هنري في إطلاق هذه الحملات مبالغٌ فيه، ولا تتعدّى حصّته من الرحلات التي حصلت في عهده الثلث مقابل ثلثين موِّلت من رأسماليين آخرين والتاج البرتغالي. لقد صنع هذا الدور البطولي مدوِّن البلاط البرتغالي آنذاك أزورارا، من أجل إقناع بابا روما بإعطاء البرتغال الحقّ الحصري في امتلاك ما تغزوه من أراض في تلك الناحية.

لا تنفي تلك المبالغة الدورَ المحوري لهنري في إدارة توسُّع البرتغال العسكري في شمال غرب أفريقيا على حساب قوى المسلمين المغاربة. وقد امتدَّ هذا التوسُّع ليشمل جزر الأطلسي قبالة الشواطئ الأفريقية (كالآزوريس وماديرا وكابو فيردي) والتي حاز هنري على امتياز حقّ استيطانها واستثمارها. مهّدت هذه الغزوات في النصف الأول من القرن الخامس عشر لاستعمار طول الشاطئ الغربي لأفريقيا في النصف الثاني منه.

شكّل هذا الاستعمار وما تلاه من سيطرة على كمِّيات كبيرة من الذهب الأفريقي علامة فارقة في صعود الرأسمالية التجارية الأوروبية، وتكوُّن سوق شبه عالمية لسلع كالسكر والنحاس والذهب. وساهم في تثبيت الذهب كوحدة قياس نقدية، وفي نشوء نظام الإنتاج الاستعبادي في جزر الأطلسي المحاذية للساحل الأفريقي، والذي استُنسِخ لاحقاً في أميركا على يد كولومبوس ومن تبِعه. بكلامٍ آخر، كان طريق أوروبا إلى ثروات الشرق والغرب مُعبَّداً بالذهب الأفريقي. وأبرز معالم هذا الطريق حصن المينا الذي بناه البرتغاليون في العام 1480 عند شاطئ ما سُمّي بساحل الذهب (غانا اليوم) في خليج غينيا. لأكثر من نصفِ قرن، كان الحصن المحطّة الرئيسية لتصدير ذهب أفريقيا نحو أوروبا والهند في آنٍ. وقد جلب الثروة المُفرطة والرضا الملكي على التاجر اللّشبوني فيرناو غوميز ومن ورائه طبقة صاعدة من العائلات البورجوازية التجارية في البرتغال ومختلف أنحاء أوروبا.

فيرناو غوميز وحصن المينا

كما يُذكّرنا بيار فيلار، لم يكن إبحار الأوروبيين على طول ساحل أفريقيا الغربية، والذي سبق إبحارهم غرباً نحو الأميركيتين، مجرّد وسيلة للوصول إلى الهند من أجل استيراد التوابل، وإنّما أيضاً من أجل الالتفاف على طرق تجارة الذهب الأفريقي التي تمرّ عبر الصحراء الغربية والواقعة تحت سيطرة المسلمين. وقد ارتبطت وتيرة تلك الرحلات بصعود أسعار الذهب في أوروبا وهبوطها. فقد سبق الجنَوِيّون البرتغاليين في محاولة شقّ هذه الطريق قبل قرنين من الزمن عندما ارتفعت أسعار الذهب في القرن الثالث عشر إلى نحو 14 ضعفَ سعر الفضّة. كانت البندقية وجَنوة، وهما القوَّتين الرئيسيتين في شرق المتوسِّط وغربه آنذاك، تستوردان الذهب الأفريقي عبر طرابلس الغرب وتونس – الأقرب إلى جَنوة - وأحياناً بأسعار أقلّ عبر مدن المغرب كأوران وحُنين. وقد اكتسبت مدن الداخل الصحراوي مثل تمبوكتو وسجلماسة أهمّية استراتيجية كمعبر برّي لهذه التجارة.

حصن المينا
حصن المينا الذي بناه البرتغاليون في غانا في العام 1482 باسم قلعة ساو خورخي دا مينا والذي يُعد أهم محطة على طريق تجارة الرقيق في المحيط الأطلسي

حاولت المدن-الدُّول الإيطالية كسب حصّتها من تلك الثروة بشكل مباشر. في أواخر القرن الثالث عشر، حاول الأخوين فيفالدي الإبحار من جَنوة حول أفريقيا لكنّهما لم يعودا. أرسل الرأسمالي الجَنَوي تيديسيا دي أوريا، الذي موّل الأخوين فيفالدي، بعثة أخرى لتعقّبهما فلم يجد لهما أثر. لكن أعادت البعثة عن طريق الصدفة اكتشاف جزر الكناري (كانت معروفة بحسب هيرودوتس لدى القدماء مثل الفينيقيين والرومان والقرطاجيين). مع حلول منتصف القرن الرابع عشر، عاد سعر الذهب إلى مستويات أكثر اعتيادية فانكفأت تلك الرحلات. ثمّ استعادت زخمها عندما ارتفعت أسعاره مجدّداً في القرن الذي تلاه. حينها، ظهر البرتغاليون كمنافس أساسي للجنَوِيين.

احتلّ البرتغاليون مدينة سبتة المغربية (التي ما زالت لليوم تحت السيطرة الإسبانية) في العام 1415، وكانت حينها إحدى أبرز مرافئ تجارة الذهب ومراكز سكّ النقد المعدني. كرّت السبحة بعد ذلك، ليتقدّموا رويداً رويداً نحو شواطئ موريتانيا ثمّ السنغال فغامبيا فسيراليون (التي اعتُبِر ذهبها الأجود في العالم). انخرط البرتغاليون كوسطاء في تجارة الذهب مقابل الملح وغيرها من السلع مثل القماش والرقيق والحديد والرخام والعاج عبر تلك السواحل. وكانوا غالباً يبنون أسواقاً تجارية على شكل محميّات حيث تتمّ عمليات التبادل. وهي مواقع تطوّرت مع الوقت إلى حصون.

لكنّ المنعطف الأبرز كان الوصول إلى خليج غينيا وساحل الذهب على يد الرأسمالي فيرناو غوميز. في العام 1469، تعهّد غوميز باكتشاف 100 عقدة (أي نحو  كيلومتراً) سنوياً جنوب رأس ليدو (مدينة فريتاون اليوم) مقابل امتياز احتكار التجارة في المناطق التي يصل إليها. كانت نتائج حملات غوميز مُبهِرة إلى حدّ تعيينه عضواً في المجلس الملكي في العام 1478 وإعطائه لقباً نبيلاً. وقد اختار كشعار لمكانته المُستحدثة رؤوساً لثلاثة أشخاص من ذوي البشرة السوداء يرتدون قلادات من ذهب. 

كانت الجزر محطّات للتزوّد بالماء العذب والمؤن لقوافل السفن التجارية المتنقِّلة عبر الساحل الأفريقي. لكنها سرعان ما تحوَّلت إلى قواعد إنتاج زراعية وحيوانية رئيسية ومرافئ للتبادل للتجاريفي العام 1481، تُوِّجت هذه الحملات عبر بناء حصن المينا إلى جانب مستوطنة برتغالية أطلق عليها اسم سان جورج دا مينا. بحسب المرويَّات الشعبية في غانا، رفض الحاكم الأفريقي أنسا طلب القائد البرتغالي دا زاموجا بناء قاعدة دائمة للبرتغال، ونصحه بمراقبة أمواج البحر التي تصل إلى الشاطئ وتعود أدراجها، على أن تكون العلاقات التجارية بين الشعبين على ذلك المنوال. لكنه، وبعد إلحاح من دا زاموجا - والأرجح التلويح بالعنف - رضخ للطلب. بعد خمسة أعوام من تأسيسها، نالت المستوطنة وضعيّة المدينة من قبل التاج البرتغالي. وفي العام 1509 أنشِئت شركة المينا التي عُرفت أيضاً بشركة غينيا لإدارة تجارة الذهب المرتبطة بها.

في النصف الأول من القرن الخامس عشر، شُحِن ما بين خمسمائة وألف كيلوغرامٍ من الذهب سنوياً من سان جورج دا مينا. وقد كان لذلك أثراً على النظام المالي الأوروبي وعلى الصعود المُتزايد للبورجوازية التجارية الأوروبية المرتبطة بالسلطات المركزية.

الذهب واقتصاد الأطلسي والبورجوازية التجارية في أوروبا

خضع استيراد الذهب من حصن المينا وغيرها من مراكز التصدير في غرب أفريقيا والواقعة تحت سيطرة لشبونة إلى إشراف السلطات الملكية. حوَّلت تلك السلطات جزءاً كبيراً من الذهب إلى سبائك وسكّت منه العملة النقدية الكروزادو - بعد توقّف دام عقود - قبل أن تعيد ضخَّه في الأسواق عن طريق دفع الأجور لجنودها أو توزيعه مجدّداً لمستورديه وفقاً لنسب متفق عليها حول حصّة المستورد والتاج من الذهب المنهوب. عزّرت هذه الإجراءات دور الدولة في إدارة النظام المالي والوظيفة النقدية للذهب، خصوصاً في ظلّ حفاظ الكروزادو على سعر صرف مستقرّ لنحو نصف قرن من الزمن. وسهّلت تلك الإجراءات أيضاً التوسُّع المطّرد للشبكات التجارية الأوروبية خارج حدود المتوسِّط. امتدّت هذه الشبكات من جزر الأطلسي وسواحل أفريقيا غرباً، مروراً بالمرفقين التجاريين الواقعين على الأطلسي أي لشبونة وإشبيلية، وحتى الجزر البريطانية والأراضي المنخفضة والشمال الجرماني.

كميات الذهب المصدّر من حصن المينا

يصف كينيث ماكسويل عمليَّات الاستيطان والاستعمار الاقتصادي لجزر الأطلسي كالآزورس وماديرا وكابو فيردي والكناري، والتي شكّلت القاعدة المادية والإنتاجية للنظام التجاري المُستجد. في البداية، كانت الجزر محطّات للتزوّد بالماء العذب والمؤن لقوافل السفن التجارية المتنقِّلة عبر الساحل الأفريقي. لكنها سرعان ما تحوَّلت إلى قواعد إنتاج زراعية وحيوانية رئيسية ومرافئ للتبادل للتجاري. تمّ ذلك من خلال استيطانها وإبادة أو اندثار سكَّانها الأصليين (في حال كانت مأهولة كالكناري)، واستقدام المواشي للرعي في وديانها، وحرق غاباتها من أجل الاستفادة من أراضيها البركانية الخصبة لزراعة قصب السكّر الذي كان إلى حينه متركّزاً في المتوسِّط. وجدت تلك الزراعة أسواقاً جاهزة لتصريف الإنتاج في فلاندر (بلجيكا) والبندقية وجَنوة والقسطنطينية وسائر أوروبا، ممّا دفع إلى تكرار التجربة في جزر أخرى مثل سان تومي وبرينسيبي، وكليهما يتمتّعان بمناخٍ وتربةٍ استوائية نموذجية لزراعة قصب السكّر.

استفادت لشبونة وإشبيلية من نمو النظام التجاري الأطلسي وساهمت في توسُّعه. المدينتان، كما يشير ماكسويل، كانتا تتمتّعان بعلاقات تجارية قديمة مع العالم الإسلامي، وكلاهما يقعان على الساحل الأطلسي وعلى ضفاف نهرين أساسيين ممّا يسهِّل الملاحة التجارية إلى الشمال الأوروبي والغرب المتوسِّطي والداخل الأيبيري. أضف إلى ذلك قربهما من حقول ملحية (لتجفيف اللحوم والسمك)، ووديان خصبة غنيَّة بكروم الزيتون والعنب (زيت ونبيذ). ولعلّ السمة الأهمّ هي احتضانهما جاليات أوروبية أخرى، وعلى رأسها عائلات تجارية جنويّة كسبينولي وغريمالدي ولوميلّيني وسنتوريوني ومارتشيوني. لعبت هذه البيوتات المالية دور الوسيط التجاري بين موانئ التجارة في المتوسِّط وأسواق شمال غرب أوروبا، وساهمت في تعميم الأدوات المالية والائتمانية في المدينتين والاستثمار في مستودعات تخزين الشحن البحري وتموينه.

النعمة التي وفدت على البورجوازية الأوروبية كانت نقمة على الشعوب الأفريقية. فمن المعلوم أن زراعة قصب السكّر تحتاج إلى عمالة كثيفة وفي ظروف مناخية صعبة. أي ما مُتِّع به أوروبي من مذاق سُكّري إلّا وحُرِم منه أفريقي عبر عذابٍ جسدييعزو ماكسويل نجاح النظام التجاري الأطلسي إلى وجود هذه البنية التحتية المالية واللوجستية، وما يعنيه ذلك من قدرة الرساميل المُتراكمة على الاستثمار في التجارة عبر البحار المحفوفة بالمخاطر. ويشير على سبيل المثال إلى تضاعف عدد الجَنويين المقيمين في إشبيلية في خلال النصف الثاني من القرن الخامس عشر. تعاون هؤلاء مع كبار العائلات المصرفية الألمانية مثل آل ويسلر وإيمهوف وفيوغيرز من أجل تمويل تصدير الفضّة والنحاس من شمال أوروبا (عبر مرفأ أنتويرب) مقابل استيراد زيت الزيتون والنبيذ والفواكه من شبه الجزيرة الإيبيرية والسكّر والذهب والتوابل من أفريقيا وعبرها. وقد استفادت هذه البورجوازية الأوروبية من فروقات أسعار الذهب والفضّة بين شمال أوروبا وأفريقيا من جهة، وبين الأخيرة وشرق آسيا من جهة أخرى، واستثمرت مباشرة في قطاع السكّر وتجارة الرقيق المرادفة له وجنت أرباحاً طائلة مكّنتها من الاستثمار في الديون السيادية، وأضحت أنتويرب مركزاً مالياً ومقصداً رئيسياً للبلاطين البرتغالي والأسباني لتمويل حروبهما (لنا عودة لنشوء هذه الأسواق المالية وعائلة فيوغرز في حلقة مقبلة).

كميات الذهب المصدّر من حصن المينا

المعادلة الذهبية وتداعيات تجارة الرقيق

النعمة التي وفدت على البورجوازية الأوروبية كانت نقمة على الشعوب الأفريقية. فمن المعلوم أن زراعة قصب السكّر تحتاج إلى عمالة كثيفة وفي ظروف مناخية صعبة. أي ما مُتِّع به أوروبي من مذاق سُكّري إلّا وحُرِم منه أفريقي عبر عذابٍ جسدي. والإرهاصات الأولى لنظام المَزارع (البلانتايشن) الاستعبادية حدثت في جزر الأطلسي على يد البرتغاليّين والإسبان قبل أن ينتشر النموذج في أنحاء أميركا وبشكل مطّرد لاحقاً على يد الإنكليز والهولنديين والفرنسيين. وإن كانت قصّة المستعبَدين في أميركا الشمالية معروفة اليوم، إلّا أن آثارها على شعوب واقتصاديات غرب أفريقيا نفسها ما زالت محصورة بذوي الاختصاص وغير مرتبطة بتجارة الذهب في أذهان معظم الناس.

يُبيّن المفكّر والمناضل العالم ثالثي والتر رودني، والذي اغتيل في موطنه غيانا في العام 1982، إن تجارة الذهب والاتجار بالبشر كانتا في علاقة جدلية منذ البداية وشكّلتا مع نظام المزارع أركان الرأسمالية التجارية الصاعدة. قبل استعمار الأميركيتين، ارتبطت تجارة الرقيق بشكل أساسي بنظام المقايضة من أجل الحصول على الذهب. فقد كان البرتغاليون وسطاء بالدرجة الأولى بين دفتي خليج غينيا. كانوا يقايضون المستعبَدين الذين يتم أسرهم أو شراؤهم من ساحل بنين (نيجيريا حالياً) بالذهب المستورَد من حصن المينا (غانا حالياً).

وكانت جزيرة سان تومي الواقعة بين المنطقتين نقطة ترانزيت حيث يتمّ تجميع المستعبَدين، وإرسال بعضهم إلى مزارع السكّر في الجزيرة، والاحتفاظ بالقسم الآخر لمقايضتهم بالذهب في حصن المينا حيث يتمّ استغلالهم في أعمال الحفر والاستخراج في مناجم الذهب أو في نقل البضائع – غالباً مشياً على الأقدام - بين الأسواق الداخلية والمرافئ الساحلية. واللافت أن البرتغاليون حرصوا على عدم تشجيع تجارة الرقيق في مناطق استخراج الذهب والتجارة به، نظراً للحاجة إلى وجود استقرار أمني من أجل استخراج الذهب، وهو ما يتعارض مع اقتصاد الحرب المُولّد لعمليَّات أسر المستعبَدين. وقد حظر البرتغاليون، تجارة الذهب لعشرات الكيلومترات غرب حصن المينا وشرقه.

على الرغم من هذا الحظر، تحوّل حصن المينا مع مرور الزمن - وبعد استعمار الأميركيتين - إلى نقطة أساسية لتصدير الرقيق بدلاً من استيراده، وخصوصاً بعد وقوع الحصن في يد الهولنديين أولاً والإنكليز لاحقاً. فقد ازداد الطلب على الرقيق للعمل في نظام المزارع في «العالم الجديد»، ورافقه انخفاض في الطلب على الذهب الأفريقي بعد إيجاد منابع ذهب غنيَّة في البرازيل. وهكذا، بات ساحل الذهب، على حدّ قول أحد تجّار تلك الحقبة، ساحل العبيد، يُصدِّر البشر بدلاً من الذهب، ويستورد البارود والسلاح الأوروبي الخفيف ليأسر المزيد من البشر، وهكذا دواليك.

إن تجارة الذهب والاتجار بالبشر كانتا في علاقة جدلية منذ البداية وشكّلتا مع نظام المزارع أركان الرأسمالية التجارية الصاعدةيستعرض رودني الآثار التدميرية لهذه الدوَّامة لكنّه يحذّر من عدم التفرقة بين تداعياتها اللامتكافئة على المجتمعات الأفريقية بحسب مواقع تلك المجتمعات من شبكة التجارة التي ربطت الذهب بالرقيق. وأيضاً بحسب ردّة فعلها عندما اشتدّ الضغط باتجاه تشجيع تجارة الرقيق على حساب تجارة الذهب. من ناحية موقعها من شبكة التجارة، يشير رودني إلى أن المجتمعات التي كانت تسيطر على منابع الذهب وتجارته مقابل استيرادها للرقيق تمكّنت في بعض الأحيان من الاستفادة من تلك التجارة عبر تنمية اقتصاداتها والحفاظ على اللحمة الاجتماعية بين أفرادها، وهي بالأساس كانت تمتلك خصائص الدولة المركزية. أمّا تلك التي كانت مصدراً للرقيق، فقد شهدت زيادة في الاحتراب وانعدام الاستقرار الاجتماعي.

وعندما اتّسعت تجارة الرقيق لتشمل عموم الخليج الغيني، يشير رودني إلى أن نُخَب بعض الأقوام، مثل نخب الأكوامو، اعتمدت على عوام مجتمعها كمصدر للعبيد، فتحوّلوا إلى طبقة كومبرادورية للرأسمالية الأوروبية في اللحظة نفسها التي تطلّب هذا النظام الرأسمالي سلعاً من لحمٍ ودم.  بينما قرَّرت نُخُبٌ أخرى، كالأكيم، أن تحظّر أسر البشر من بني جلدتها، غزت الشعوب المجاورة من أجل أسرها واستعبادها، فحافظت على تماسك مجتمعاتها ممّا مكّنها من مناهضة العدوان الأوروبي بدرجات أعلى ولو ضمن حدود.

تُوّجت هذه المناهضة للاستعمار البرتغالي بحروب التحرُّر الوطني في منتصف القرن العشرين، والتي حاول ديكتاتور البرتغال سالازار – من دون جدوى - طمسها من خلال نصبه التذكاري الآنف الذكر. لكن المخاض التحرُّري ذاك، والمنقوص، استغرق خمسة قرون، توسَّعت فيها رقعة الاستعمار الأوروبي إلى قارة جديدة غرب الساحل الأفريقي، بعد أن رسا على شواطئها بحّارٌ جَنويٌ اختبر طرق التجارة والملاحة في شرق الأطلسي تحت الراية البرتغالية قبل أن يمخر غربه لحساب البلاط الإسباني. للقصّة بقية.