
معضلة الدولار: بين اتفاق بلازا القديم والمستقبل المجهول
يبدو أنّ شبحاً من الثمانينيات يعاود التجوال في أروقة البيت الأبيض مرة أخرى. تُهمَس عبارة «اتفاق بلازا 2.0» بصوت خافت، مستحضرة ذكريات صفقة العام 1985 بين الدول المتقدمة (وخصوصاً اليابان) لتحريك أسعار الصرف لكبح الصعود غير المستدام للدولار. كان الهدف آنذاك إعادة ضبط نظام التجارة العالمي غير المتوازن. أما اليوم، فالأمر يتعلق أكثر بمحاولة إنقاذ قبضة مهزوزة على عالم تتعمّق فيه حالة تعددية الأقطاب.
بدأت الأقاويل تتبلور في 25 نيسان/أبريل خلف الأبواب المغلقة لمبنى إيزنهاور داخل مجمع البيت الأبيض. لم يكن الحضور من كبار الشخصيات الأجنبية أو المسؤولين الحكوميين رفيعي المستوى، بل من هوامير المال من أمثال بلاك روك وسيتادل وپي جي آي إم وتودور. تركّزت الأنظار جميعها على ستيفن ميران الرئيس الجديد لمجلس المستشارين الاقتصاديين المحاصر بتحديات عدة.
القليل الذي تسرب من ذلك الاجتماع يشير إلى أنّ ميران طرح فكرة تدخلات منسقة في أسواق العملات تستهدف ليس الدولار فحسب، بل الين واليورو والرنمينبي وعُملات أخرى. وسواء طرحها تحت مسمى «اتفاق مارا-لاغو» أو مسمى أقل استعراضاً، كانت النية واضحة: تخفيض مُخطط لقيمة الدولار لتستعيد الولايات المتّحدة قدرتها التنافسية.
الولايات المتحدة لكي تحافظ على دورها مصدراً للعملة الاحتياطية العالمية، عليها أن تعيش باستمرار فوق قدراتها المالية. لذا، عجزها ليس خللاً، بل هو الوقود ذاته للسيولة العالمية
ليس هذا البعث من الماضي مجرد نوستالجيا سياسية، بل هو بالأحرى ذعر. إذ يتعرض الدولار لضغوط متزايدة منذ أعلن الرئيس ترامب في أوائل نيسان/أبريل ما سُمّي بيوم التحرير. لقد أمسكَ معسكره مطرقةً ونزل بها على أركان التجارة الحرة وحوّل الرسوم الجمركية من أدوات ضبط إلى وسائل إكراه، يحدوه في ذلك تجاسر شعبوي وجهل اقتصادي. والآن تضغط واشنطن على حلفائها لزيادة ميزانيات الدفاع، وتعمل في الوقت نفسه على الترويج لخفض قيمة عملتها. ما يُقدّم على أنّه حماية للدولار ليس سوى تراجع بطيء في مصداقيته.
يبدو ميران، من جانبه، مفتوناً بـ«معضلة تريفين»، وهي فكرة صاغها الاقتصادي البلجيكي روبرت تريفين في الستينيات، مفادها ببساطة أنّ الولايات المتحدة لكي تحافظ على دورها مصدراً للعملة الاحتياطية العالمية، عليها أن تعيش باستمرار فوق قدراتها المالية. لذا، عجزها ليس خللاً، بل هو الوقود ذاته للسيولة العالمية. فكلما ازداد الطلب على الدولار عالمياً، تعزّزت قوته، وبالتالي يضعف الصادرات الأميركية ويزيد العجز التجاري. ما يجعل الدولار لازماً، وفقاً لهذه المفارقة، هو نفسه ما يجعله عرضةً لانعدام الاستقرار.
هذه المعضلة الاقتصادية ليست مجرد مسألة نظرية، بل متأصلة في صلب النظام الأميركي. على مدى عقود، لم تحافظ الولايات المتحدة بالفضيلة على هيمنة الدولار، بل بالجشع والشره. فقد أبقت على موقعها المميز بفضل مرض مزدوج: عجز مالي هائل وفجوة متزايدة في الحساب الجاري. ففي العام 1985، بلغ هذان العجزان 120 مليار دولار و210 مليارات دولار على التوالي. أما في العام 2024، فقد تضاعفا 10 مرات ليصل الأول إلى 1.2 تريليون دولار في التجارة، والثاني إلى 1.8 تريليون دولار في العجز المالي. أهلاً بكم في كازينو المال العالمي عالي المخاطر، حيث لا يزال المنزل يتظاهر بأنّه متماسك، على الرغم من أنّ جدرانه تهتز.
لكن المخاطر لم تعد اقتصادية فحسب. فكما بيّن اتفاق بلازا الأصلي، كانت إعادة تقويم العملات مسألة جيوسياسية بقدر ما كانت حسابات مالية. ففي ذلك الحين، أجبرت الولايات المتحدة اليابان على رفع قيمة الين، ما أدى إلى عقود من الركود الاقتصادي في طوكيو وحوّل بؤرة التصنيع العالمية نحو الصين. واليوم، تغيرت رقعة الشطرنج الجيوسياسية، إلا أنّ واشنطن لا تزال تعتمد الأسلوب ذاته، ولكن مع عدد أقل من الحلفاء والمراوغات.
في مؤتمر بريتون وودز في العام 1944، اقترح جون ماينارد كينز عملة فوق وطنية تُسمى «بنكور». لكنّ الولايات المتحدة عارضت هذا الاقتراح، وأصرَّت على أن يكون الدولار، المربوط بالذهب، المعيار العالمي. لقد ولّت تلك الحقبة منذ زمن بعيد، غير أنّ القصور الذاتي المؤسسي لا يزال على حاله. والآن، انقلب نجاح ذلك الترتيب نقمة. فقوة الدولار، المدعومة بالعادة أكثر منها بالأسس الاقتصادية، أصبحت عبئاً. إذ تُفرّغ الصناعة الأميركية، وتُضعِف نمو الوظائف، وتقلل من جاذبية العملة على المدى الطويل، خصوصاً حين تقترن بسياسة مالية متهورة وسقف استدانة لا يني يرتفع.
وهكذا تكتمل الدائرة: صانعو السياسات الأميركيين، إذ هم عاجزون أو عازفون عن معالجة العيوب البنيوية في الداخل (تدني مستوى الاستثمار في البنية التحتية، وتدهور التعليم، وقطاع مالي يخدم مصالحه الخاصة)، يلجأون إلى البحث عن كبش فداء خارجي. هل الدولار قوي جداً؟ لُمِ الصين. هل العجز التجاري ضخم؟ عاقب أوروبا. هل الصناعة المحلية في تراجع؟ افرض الرسوم الجمركية وابدأ حرباً تجارية. هذا الإسقاط الانعكاسي ليس مضللاً فحسب، بل هو خطر داهم.
بدأت مراكز المال حول العالم تراجع حساباتها وتتحوط من المخاطر. ففي لندن، لا يدور الحديث عن «بلازا 2.0» بل عن الانفصال الكامل عن الدولار. وتُفيد التقارير بأنّ صناديق الثروة السيادية في الخليج تنوّع استثماراتها بعيداً من العملة الأميركية، قلقاً من مخاطر انخفاض قيمتها وتقلبات المشهد السياسي في الولايات المتحدة. وفي 16 أيار/مايو، سحبت وكالة موديز التصنيف الائتماني المثالي AAA عن الولايات المتحدة، واستشهدت في قرارها بتدهور الوضع المالي وعجز النظام السياسي. من زاوية الملاذ الآمن المفترض للعالم، يُعدّ هذا ضربة غير مسبوقة تشير إلى نقطة تحوّل في التصورات العالمية إزاء استقرار الولايات المتحدة.
وفي الوقت نفسه، تضع دول البريكس أسساً لبدائل جديدة. ففي أواخر أيار/مايو، أعلن التكتل إطلاق بنية تحتية للمدفوعات تعتمد على تقنية البلوكشين، أُطلق عليها اسم «بريكس پاي»، تهدف إلى تيسير المعاملات عبر الحدود باستخدام العملات المحلية. يشكّل هذا المشروع، على الرغم من أنّه ليس مشروع عملة موحّدة واحدة، خطوة ملموسة نحو تقليل الاعتماد على الدولار في التجارة الثنائية.
على أي حال، لا يُشير أي من ذلك إلى تنحّي الدولار السريع عن عرشه. فبدائله (اليورو أو اليوان أو عملة رقمية للبريكس) لا تزال مشتّتة، تعاني من خلل سياسي أو نقص في الثقة. ولكن التآكل تراكمي، إذ يتداعى قرن من الهيمنة النقدية بالغطرسة والتهاون والاعتقاد الخاطئ بأنّ السيطرة أمر طبيعي وليست امتيازاً.
مع ميل مركز القوة الاقتصادية العالمية نحو الشرق والجنوب، تبدو فكرة أنّ واشنطن تستطيع هندسة إجماع مماثل لاتفاق بلازا فكرةً متقادمة
والافتراض الساذج لفريق ترامب بأنّ خفض قيمة الدولار سيعيد تلقائياً القاعدة الصناعية الأميركية ليس سوى وهم جديد. فالميزة النسبية تعتمد على أكثر من مجرد أسعار الصرف؛ إنّما ترتبط بالابتكار والقوة المؤسسية وتكامل سلاسل التوريد. فألمانيا تحقق فائضاً تصديرياً قوياً على الرغم من قوة اليورو. قد يُعزز خفض قيمة العملة الأرقام الظاهرة مؤقتاً، لكنه لن يعيد المصانع المفقودة أو يعيد بناء المهارات الضامرة.
في المقابل، شرع البنك المركزي الأوروبي في تخفيض أسعار الفائدة (لتصل الآن إلى 2%) في محاولة لتحفيز النمو في منطقة اليورو. بيد أنّ اليورو قد ارتفع بأكثر من 10% مقابل الدولار في خلال الأشهر الأربعة الماضية، ما يعقد جهود البنك المركزي الأوروبي. بل حتى أوروبا التي تعمل على جعل نفسها مرتكزاً نقدياً مستقراً، بدأ يستشعر المصدِّرون فيها وطأة الضغوط. وهذه علامة واضحة على أنّ تراجع الدولار ليس علاجاً شاملاً، بل مؤشر على تقلبات أعمق في النظام العالمي.
في الحقيقة، إنّ الاعتماد المفرط على التحكم بقيمة العملة والسياسة الحمائية لا يزيد إلا من تأكيد عجز واشنطن عن تقديم رؤية متماسكة وطويلة الأمد. ومع ميل مركز القوة الاقتصادية العالمية نحو الشرق والجنوب، تبدو فكرة أنّ واشنطن تستطيع هندسة إجماع مماثل لاتفاق بلازا فكرةً متقادمة. لقد تغيّر العالم، وأصبح هيكله المالي (المترابط بالتجارة وتدفقات رأس المال والبنية التحتية الرقمية) أعقد وأقل قابلية للتذلل والاستسلام.
نُشِر هذا المقال في 9 حزيران/يونيو 2025 في Foreign Policy in Focus، وترجِم إلى العربية ونشر في مجلة «صفر» بموافقة من الجهة الناشرة.