سياديو لبنان ودبلوماسية الدولار
يفيدنا التاريخ، مع اختلاف الظروف، في فهم أسس السياسة المالية الخارجية للولايات المتّحدة ومنطقها وكيفية تطوّرها، وصولاً إلى هيمنتها على العالم بعد قرن من شنّها أولى حروبها الاستعمارية خارج حدودها في العام 1898.
تستخدم واشنطن محفّزات مالية متعدّدة الأضلع، بشكل تدرّجي، مدعومة بعصا التدخّل العسكري من أجل تحقيق مكاسب جيوسياسية واقتصادية في آنٍ معاً. تعتبر أميركا اللاتينية «المختبر»، حيث مارست الولايات المتّحدة هذه السياسة.
كشفت انتخابات رئاسة الجمهورية في لبنان هشاشة خطاب الالتزام بالدستور وسيادة القانون لدى كتلة وازنة من نواب ما يُسمّى «بالتغييرين». لكن اللافت هو التبرير الاقتصادي الذي حاول من خلاله بعض هؤلاء تبرير موقفهم من الانتخابات في الإعلام وأمام الرأي العام. عشيّة الانتخاب، حاجج هؤلاء وبكل «شفافية» أن ربط إعادة الإعمار بانتخاب رئيس للجمهورية لم يتم عبر فرض اسم بشكل واضح بل عبر وضع مواصفات يجب توفّرها من أجل تقديم هذا الدعم. وأردف أحدهم أن مطالب القوى الخارجية (أي واشنطن والرياض) هو تعبير عن سيادتها ومصالحها وليس ابتزازاً. على اعتبار أنّ الابتزاز يتم من خلال الفرض المباشر. لكن الابتزاز نفسه مفهوم غير وافٍ لشرح آليات الهيمنة والضغط التي تمارسها الولايات المتّحدة في لبنان من أجل إعادة تموضعه ضمن دائرة نفوذها بالكامل.
الابتزاز نفسه مفهوم غير وافٍ لشرح آليات الهيمنة والضغط التي تمارسها الولايات المتّحدة في لبنان من أجل إعادة تموضعه ضمن دائرة نفوذها بالكامل
قد يفيدنا التاريخ، مع اختلاف الظروف، في فهم أسس السياسة المالية الخارجية للولايات المتّحدة ومنطقها وكيفية تطوّرها، وصولاً إلى هيمنتها على العالم بعد قرن من شنّها أولى حروبها الاستعمارية خارج حدودها في العام 1898. أدّت هذه الحرب الخاطفة إلى سيطرة الولايات المتّحدة على مستعمرات إسبانية، وأبرزها الفلبين وجزيرتيْ كوبا وبورتوريكو. لم تترددّ واشنطن في استخدام قوتها العسكرية لفرض أمر واقع جديد في الكاريبي بعد هذه الحرب. لكنها اعتبرت أن الأساليب الاستعمارية القديمة التي اتبعتها دول القارة العجوز - مثل اجتياح بريطانيا لمصر في العام 1882 بحجّة تخلّف الأخيرة عن دفع ديونها، وهو ما كان يعرف بدبلوماسية مدافع السفن، لم تعد تتلاءم مع الخطاب الليبرالي الصاعد الذي عارض الاستعمار المباشر.
بناء عليه، وفي العقود الأولى من القرن العشرين، اجترحت الإدارة الأميركية أهمّ أدوات الاستعمار المالي التي تُدرّس في التاريخ وهي ما يسمّى تخفيفاً بـ «ديبلوماسية الدولار». وصف الرئيس ويليام هوارد تافت هذه السياسة بـ «استبدال الرصاص بالدولار». وبحسب هذه الإستراتيجية، تستخدم واشنطن محفّزات مالية متعدّدة الأضلع، بشكل تدرّجي، مدعومة بعصا التدخّل العسكري من أجل تحقيق مكاسب جيوسياسية واقتصادية في آنٍ معاً. تعتبر أميركا اللاتينية «المختبر» حيث مارست الولايات المتحدة هذه السياسة. وقد عبّر عن ذلك مكتب شؤون أميركا اللاتينية من دون مواربة في العام 1909:
«إن أردنا… حصّة في الاستثمارات الخارجية وفرصة لاستغلال مقدّرات البلاد الأخرى، وحصّة في ثروات باقي الأمم، علينا شراء سنداتها، وتسهيل تسويق ديونها، وبناء سككها الحديد، وتأسيس مصارف في مدنها الرئيسة… وعندما تحتاج شعوبها إلى المال، عليهم أن يأتوا إلينا».
نفّذت الولايات المتحدة هذه السياسة في الكثير من دول أميركا اللاتينية، مثل المكسيك ونيكاراغوا وجمهورية الدومينيكان وكوبا. وقد كان إغراق البارجة الأميركية «يو أس أس ماين» عند الشواطئ الكوبية شرارة الحرب مع إسبانيا وبداية حرب الاستقلال الكوبية ضدّ مدريد، والتي أيّدتها واشنطن بالدعم العسكري المباشر.
وفي دراساته عن كوبا، يفصّل روبرت فريمان سميث المراحل التدرّجية لدبلوماسية الدولار، والأدوار التخطيطية والتنفيذية المتقاطعة للجيش الأميركي ووزارة الخارجية الأميركية والكونغرس وول ستريت والنخب المحلّية الكوبية.
اجترحت الإدارة الأميركية أهمّ أدوات الاستعمار المالي التي تُدرّس في التاريخ وهي ما يسمّى تخفيفاً بـ «ديبلوماسية الدولار»
بداية، تطلّبت هذه الإستراتيجية فذلكات قانونية وخطاب سياسي يوفّق بين السيادة الظاهرة والتبعية العملية نظراً لدعم الولايات المتحدة في الأساس للقوى الكوبية ضدّ الإسبان. وقد أفرز ذلك ما عُرف بتعديل «بلات»، التي أقرّها الكونغرس في 22 أيار/مايو من العام 1903 كشرط لمنح كوبا استقلالها. بعض هذه البنود سوريالي اللغة من جهة تكريس ونقض سيادة كوبا في آنٍ. على سبيل المثال لا الحصر، نصّ التعديل أن «توافق الحكومة الكوبية على أن تمارس الولايات المتّحدة حقّ التدخّل من أجل حماية استقلال كوبا»، وأن الحكومة الكوبية «لن تُبرم أبداً أي معاهدة أو اتفاق مع أي قوة أو قوى خارجية قد تقوّض استقلال كوبا».
ومن أجل نجاح هذه السياسة، كان يجب، بحسب صانعي السياسة في واشنطن، إحلال السلام والنظام (سيادة القانون)، وسيطرة مجموعات صديقة للولايات المتّحدة على كوبا وإدخالها في دائرة النفوذ الأميركي وعزلها عن أوروبا. واعتبر حاكم كوبا العسكري، الجنرال ليونارد وود، أن العناصر الاقتصادية محورية لحل المسألة السياسة وضمان الاستقرار، فكتب لرئيس الجمهورية آنذاك ويليام ماكينلي قائلاً: «عندما يسألني الناس ماذا أعني بحكومة مستقرّة، أقول لهم قروض بفائدة 6%»، وهي فائدة تشبه ما كانت عليه الأمور حينها في الدول «المتحضّرة». والمقصود هو خلق ظروف استثمار واعدة.
قبل الشروع بفتح مجالات الاستثمار، كان على واشنطن تحييد جيش «التمرّد» الكوبي - الذي قاتل الإسبان - بطرق سلمية كي لا تظهر واشنطن بمظهر العدو للقوى الوطنية الداعمة لها في الأساس. وعليه، تمّ صرف ثلاثة ملايين دولار كتعويضات وتقديم مواشي ورأسمال عيني مقابل تسليم السلاح (بما فيها المناجل). وبعيد انتهاء الحكم العسكري الأميركي في العام 1902، حاولت الحكومة الوليدة الكوبية طلب القروض من البنوك الأميركية، فأخبرها سفير واشنطن في كوبا أنه يستحيل التفاوض بشأن القروض ما لم يتمّ حل المسائل الثلاث العالقة: تواجد قواعد بحرية أميركية، واتفاقيات تجارية، ومعاهدة سياسية مستدامة. وهكذا كان. حصلت واشنطن على «الولاية القضائية والسيطرة التامة» على خليج غوانتانامو مقابل الاعتراف بـ «سيادة» كوبا عليها، وأُبرِمت اتفاقية تجارية لصالح استيراد السلع الأميركية الاستهلاكية وتصدير مواد الزراعة الأوّلية الكوبية (وصفة التبعية المعروفة)، وأقرّ تعديل بلات كناظم للعلاقات الثنائية بين البلدين.
هم ليسوا يعاقبة بل يرون في المال الخارجي والنفوذ الأميركي حبل نجاة ويد عون. لكنهم يثبتون، عن قصد أو غير قصد، معادلة قديمة-جديدة: الحاجة أم الاستعمار
على الرغم من سطوة المال، لم يتمكّن الدولار من استبدال الرصاص بالكامل. فقد أثارت سياسة دبلوماسية الدولار القلاقل بين القوى الشعبية الكوبية، ما حدا بالرئيس الأميركي ثيودور روزفلت إلى إعلان وجوب التدخّل المباشر لإنهاء ما سمّاه بـ «العادة الثورية» في كوبا. واللافت هو حماسة رجال الأعمال الكوبيّين، أو «ممثّلي الثروة في كوبا» لهذه الخطوة و«تأييدهم الكامل» بحسب إحدى مراسلات وزارة الخارجية الأميركية، لضرورة إشراف الولايات المتّحدة على إدارة الجزيرة. اشترت الولايات المتّحدة رضا هؤلاء من خلال منحهم تلزيمات لمشاريع «تنموية» وخصوصاً في قطاع الأشغال العامة.
تمكنّت دبلوماسية الدولار من «ترويض» (pacification) كوبا لعقود. لكن «العادة الثورية» لم تنطفئ، بل انفجرت كبركان بعد الحرب العالمية الثانية على يد كاسترو وتشي ورفاقهما. تحوّلت كوبا في غضون سنوات قليلة من محمية استعمارية أميركية إلى ملهمة الثورات المعادية للإمبريالية الأميركية عبر العالم. تزامن المدّ الثوري التحرّري، آنذاك، مع تحوّلات في آليّات الاستعمار المالي واستُبدلت فجاجة سياسية دبلوماسية الدولار وأحاديتها بمشروطية صندوق النقد الدولي والمظلة الدولية الحامية له. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، عادت الأحادية الأميركية لتطل برأسها من نافذة العقوبات المالية من دون التخلّي عن المشروطية. تبدلّت المسمّيات وتعدّدت السبل والغاية واحدة: توطيد التبعية الاقتصادية وتثبيتها، ومن خلالها السيطرة السياسية بأقل كلفة عسكرية مُمكنة. لن تروق هذه المنمنمات التاريخية للسياديين التغييرين في لبنان. هم ليسوا يعاقبة بل يرون في المال الخارجي والنفوذ الأميركي حبل نجاة ويد عون. لكنهم يثبتون، عن قصد أو غير قصد، معادلة قديمة-جديدة: الحاجة أم الاستعمار.