بحث في جذور سياسة «الكيل بمكيالين»
قانون الأقوياء الدولي
ماذا لو تولّت دول في أميركا اللاتينية أو أفريقيا أو القوقاز أو آسيا صياغة العلاقات الدولية لتفرضها على سائر العالم؟ مستحيل! فالقانون الدولي، ومنذ نشأته، لم يخدم إلّا مصالح القوى العظمى. وربّما كان بالأحرى علينا أن نسأل عمّا إذا كان هناك «قانون» أصلاً؟
يرى الحقوقي كارل شميت (1888-1985) أن القانون الدولي بالشكل الذي تطوّر إليه في العام 1918، ولا زلنا نعيش لليوم بموجبه، اتسم بطبيعة تمييزية عميقة.1 فمن جهة، نظر هذا القانون إلى الحروب التي شنّها سادة النظام العالمي على أنها تدخّلات مُجرّدة من المصالح، هدفها الحفاظ على القانون الدولي، في حين كانت بنظره الحروب التي يشنّها أي طرف آخر أعمالاً إجرامية وانتهاكاً لهذا القانون. ومنذ ذلك الحين، ترسّخت هذه السمة على مستويين. فمن ناحية، هناك قانون ينفي أن لديه أي قوّة تنفيذية على أرض الواقع، ما يحوّله إلى طموح مُفرّغ من أي مضمون، أي بعبارة أخرى، محض رأي بسيط ومُسطّح. ومن ناحية أخرى، تتصرّف القوى المهيمنة على هواها أكثر من أي وقت مضى، سواء باسم القانون الدولي، أو في تحدٍّ سافر له. والجدير بالذكر هنا أن العدوان ليس حكراً على القوى المهيمنة. فقد شهدنا حروب غزو شُنَّت من جانب واحد، متجاهلةً، أو حتى منتهكةً بشكل صارخ القوانين والأحكام، منها عدوان بريطانيا وفرنسا على مصر، وحرب الصين على فيتنام، وروسيا على أوكرانيا، وحروباً أخرى خاضها من جانب واحد لاعبون أصغر، كغزو تركيا لقبرص، وحرب العراق ضدّ إيران، أو عدوان إسرائيل على لبنان.
الأمم المتّحدة كانت «منذ البداية مشروعاً للولايات المتّحدة، تصوّرته وزارة الخارجية الأميركية، وقاده بمهارة وبشكل مباشر رئيسان أميركيان، وحرّكته أذرُع القوة الأميركية»
وفي لحظة تشكيل الأمم المتّحدة التي جسّدت الجهة الممثّلة للقانون الدولي والتي نصّ ميثاقها على سيادة الدول الأعضاء فيها وسلامتها، كانت الولايات المتّحدة مُنهمكة بانتهاك مبادئ هذا الميثاق. وعلى بُعد بضعة كيلومترات من سان فرانسيسكو، حيث انعقد المؤتمر الافتتاحي للأمم المتّحدة، اعترض فريق استخبارات عسكري متمركز في بريزيديو، وهو حصن إسباني قديم تحوّل إلى قاعدة عسكرية، معظم البرقيات المتبادلة بين الوفود وبلادها، لتستقرّ في صباح اليوم التالي، بعد فكّ شفرتها، على طاولة وزير الخارجية إدوارد ر. ستيتينيوس، الذي اطلع عليها وهو يتناول إفطاره. يستذكر المؤرِّخ ستيفن شليزنجر عملية التجسّس المُمنهجة تلك بحبور، قائلاً إن الأمم المتّحدة كانت «منذ البداية مشروعاً للولايات المتّحدة، تصوّرته وزارة الخارجية الأميركية، وقاده بمهارة وبشكل مباشر رئيسان أميركيان، وحرّكته أذرُع القوة الأميركية».2
الانتهاك الوقح للقانون الدولي
لم يتغيّر شيء منذ ذلك الحين. فبعد 60 عاماً، وفيما نصّت اتفاقية «امتيازات الأمم المتّحدة وحصاناتها»، التي وافقت عليها الدول الأعضاء في العام 1946 على أنه «لا يجوز انتهاك حرمة مباني المنظّمة. ولا تخضع ممتلكات المنظّمة وأصولها أينما كانت وأياً كان الحائز لها للتفتيش أو الاستيلاء أو الحجز أو نزع الملكية أو أي نوع من أنواع الإكراه سواء بإجراء تنفيذي أو إداري أو قضائي أو تشريعي»، تبيّن في العام 2010 أن السيدة هيلاري كلينتون، التي كانت آنذاك وزيرةً للخارجية الأميركية، ضربت بهذا المبدأ عرض الحائط. ففي برقية أرسلتها في تموز/يوليو 2009، أمرت كلينتون وكالة الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي وأجهزة المخابرات بالحصول على كلمات المرور ومفاتيح التشفير للأمين العام وسفراء الدول الأربع الأخرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وأعطت تعليماتها أيضاً بجمع المعلومات الشخصية (البيانات البيومترية وعناوين البريد الإلكتروني وأرقام بطاقات الائتمان وغيرها) لمجموعة من كبار الموظّفين الذين يشغلون مناصب رئيسة ولمسؤولين مشاركين ميدانياً في عمليات حفظ السلام أو في البعثات ذات المنحى السياسي. ولا داعي للقول إن السيدة كلينتون وحكومة الولايات المتّحدة لم تُسَآلا عن هذا الانتهاك الصارخ للقانون الدولي المفترض منه حماية ملاذه الآمن، أي الأمم المتّحدة نفسها. وبالمثل لم يشعر قط أي صانع قرار أميركي بالقلق إزاء الفظائع المرتكبة في خلال الحربين الكورية والفيتنامية.
أما بالنسبة إلى مجلس الأمن، الضامن للقانون الدولي (على الورق)، فسجله يتحدّث عن نفسه. وفي حين أدّى احتلال العراق للكويت في العام 1990 إلى فرض عقوبات فورية على بغداد، وإلى ردّ عسكري شارك فيه قرابة المليون شخص، استمرّ الاحتلال الإسرائيلي للضفّة الغربية لأكثر من نصف قرن من دون أن يحرّك المجلس ساكناً. وفي عامي 1998 و1999، وبعد فشل الولايات المّتحدة وحلفائها في الحصول على موافقة على قرارٍ يخوّلهم ضرب يوغوسلافيا، لجأ هؤلاء إلى منظّمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في انتهاك صارخ لميثاق الأمم المتّحدة الذي يحظر شنّ الحروب العدوانية. وقد أوضح الأمين العام للأمم المتّحدة آنذاك السيد كوفي عنان بهدوء أن تحرّك حلف شمال الأطلسي قد لا يكون قانونياً، ولكنه مع ذلك مشروع. لاحقاً وبعد أربع سنوات، وبعد التفاف الولايات المتّحدة وبريطانيا على مجلس الأمن ومهاجمتهما العراق على الرغم من تهديد فرنسا باستخدام حق النقض (الفيتو)، عمل السيد عنان بدأب على استخراج الموافقة على الحرب بعد بدئها. لقد تدخّل القانون الدولي في الوقت المناسب حين تعلّق الأمر بإضفاء الشرعية على حربٍ بعد وقوعها من خلال اعتماد القرار 1483 بالإجماع، والذي اعترف بالدولتين كـ«قوى احتلال» وأمّن لهما دعم الأمم المتّحدة، أي أنه يمكن التغافل عن القانون الدولي عند شنّ حرب، وتطبيقه لاحقاً لإضفاء الشرعية عليها بعد وقوعها.
إذا ما نظرنا إليه من منظور واقعي، لا يستحق في الحقيقة أن يطلق عليه اسم «قانون» ولا صفة «دولي». وعلى الرغم من أنه قوّة لا يمكن الاستهانة بها إلا أنها قوّة أيديولوجية في خدمة القوّة المُهيمنة
تظهر الطبيعة التمييزية للنظام العالمي الذي نشأ عن الحرب الباردة بشكلٍ سافر في معاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة النووية (1968)، التي منحت الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن حقّ امتلاك القنابل الهيدروجينية ونشرها. ولكن خرقت إسرائيل هذا الاتفاق وطوّرت منذ فترة طويلة ترسانة نووية هائلة، ولا أحد يجرؤ على ذكر ذلك. وفيما تفرض القوى الكبرى عقوبات على كوريا الشمالية وإيران، فإنها تنكر وجود ترسانة إسرائيل النووية، وفي ذلك مثال كافٍ على تناقضات القانون الدولي. فهل يعني ذلك أن هذا القانون فقد صفته الدولية في الممارسة العملية؟ كلا، فهو دولي على الأقل من ناحية واحدة، حين تتمسّك به كل دول العالم لضمان الحصانة الدبلوماسية لموظّفيها في الخارج، وهو مبدأ يُحترم من دون قيد أو شرط، حتى عندما تعلن الدولة المضيفة للدبلوماسيين الحرب على الدولة التي يمثلّونها. وغني عن القول إن سفارات الدول الكبرى (وأغلب الدول الأخرى) تعجُّ بعملاء لها يعملون حصراً في مهام تجسّس في غياب أي أساس قانوني. إن هذه التناقضات تضرّ بصورة القانون الدولي وبإمكانية استعادته لسمعته الذي، إذا ما نظرنا إليه من منظور واقعي، لا يستحق في الحقيقة أن يطلق عليه اسم «قانون» ولا صفة «دولي». وعلى الرغم من أنه قوّة لا يمكن الاستهانة بها إلا أنها قوّة أيديولوجية في خدمة القوّة المُهيمنة وحلفائها، وهو ما أسماه توماس هوبز «رأيًا» معتبراً إياه عنصراً هاماً في الاستقرار السياسي لأي مملكة: «إن قوة الأقوياء لا تقوم إلا على رأي الناس وإيمانهم»3 على حد تعبيره. صحيح أن القانون الدولي قد يبدو وهماً، ومع ذلك لا يمكن الاستخفاف به.
الإكراه والقبول
تنجح الهيمنة بحسب أنطونيو غرامشي عندما تتمكّن من تصوير مصلحة معيّنة على أنها قيمة عالمية، تماماً كما يوحي مصطلح «المجتمع الدولي». تفترض الهيمنة دائماً، بحكم تعريفها، خليطاً من الإكراه والقبول. وغالباً ما نشهد على الساحة الدولية إفلات الإكراه من قبضة القانون، في حين يكون القبول حكماً، إن أمكن الحصول عليه، أضعف ولكن أكثر خطورة. ويستخدَم القانون الدولي لإخفاء هذا التناقض، إما من خلال منح الدول ذرائع ملائمة لتبرير أي عمل يحلو لها القيام به، أو من خلال التجمّل بفضيلة الأخلاق المنفصلة تماماً عن الواقع. وقد يصار أيضاً إلى دمج الموقفين معاً، ولا نعني هنا اليوتوبيا والعذر، بل اليوتوبيا نفسها كعذر، أي ادعاء مسؤولية الحماية لتبرير تدمير ليبيا أو مزاعم البحث عن التهدئة لتبرير خنق إيران، وهكذا.
تفترض الهيمنة دائماً، بحكم تعريفها، خليطاً من الإكراه والقبول. وغالباً ما نشهد على الساحة الدولية إفلات الإكراه من قبضة القانون، في حين يكون القبول حكماً، إن أمكن الحصول عليه، أضعف ولكن أكثر خطورة
يسارع المدافعون عن وجهة النظر هذه إلى القول بأنه من الأفضل أن يكون لدينا قانون تسيء الدول استخدامه بدلاً من عدم وجود أي قانون على الإطلاق، مستشهدين بمبدأ لاروشفوكو الشهير «النفاق ضرب من الاحترام الذي تقدّمه الرذيلة للفضيلة». ولكن يمكننا بسهولة عكس هذه المقولة وتعريف النفاق على أنه تجميل الرذيلة من أجل إخفاء النوايا الخبيثة. أليس هذا ما أثبتته الممارسة التعسفية للسلطة من جانب الأقوياء على الضعفاء، أو الحروب الوحشية التي تُشنّ أو يُشعل فتيلها بحجّة حفظ السلام؟
نُشِر هذا المقال في Le monde Diplomatique في عدد شباط/فبراير 2024، وهو بالأساس مقال مختصر عن المقال الأساسي الذي نُشِر في New Left Review في عدد أيلول/سبتمبر-تشرين الأول/أكتوبر 2023.
- 1كارل شميت، Die Wendung zum diskriminieren den Kriegsbegriff، برلين، 1988؛ مترجم إلى الفرنسية في Deux Textes de Carl Schmitt. La question clé de la Société des nations, Le passage au concept de guerre discriminatoire، بيدون، باريس، 2009.
- 2ستيفن شليزنجر، Act of Creation: The Founding of the United Nations، مطبعة وست فيو، بولدر (كولورادو)، 2003.
- 3توماس هوبز، Béhémoth ou le Long Parlement، الحوار الأول.