
التعافي الاقتصادي والديمقراطية والعدالة الاجتماعية في سوريا
فاجأ سقوط النظام في سوريا العالم، وأدّى إلى سقوط ديكتاتورية عائلة الأسد التي حكمت سوريا أكثر من نصف قرن. تهاوت المدن التي كانت تحت حكم النظام، الواحدة تلو الأخرى، وتحرّر آلاف السجناء السياسيين من السجون، وبات المجال مفتوحاً أمام نظام ديمقراطي مُحتمل في سوريا للمرة الأولى منذ عقود.
في هذا الواقع الجديد، يواجه مستقبل البلاد تحدّيات عدّة، لا سيما في ما يتعلق بالتعافي الاقتصادي والتنمية. للتذكير، تقدّر تكلفة إعادة إعمار سوريا ما بين 250 مليار دولار و400 مليار دولار. ويُعتقد أن الناتج المحلي الإجمالي شهد تراجعاً كبيراً منذ العام 2011. في العام 2023، قُدّر الناتج المحلي الإجمالي السوري بنحو 17,5 مليار دولار، بالمقارنة مع 60 مليار دولار قبل العام 2011، وفقاً لتقديرات حكومية سابقة. وفي أيار/مايو 2024، قدّر «البنك الدولي» في تقرير «المرصد الاقتصادي لسوريا» الناتج المحلي الإجمالي نصف السنوي للبلاد في 2023 بنحو 6,2 مليارات دولار، وفقاً لبيانات «نايت تايم لايت»، التي تعتمد طريقة تتبع النشاط الاقتصادي من خلال صور الأقمار الاصطناعية للأضواء الليلية.
في مواجهة هذا الوضع، ما هي التحديات الرئيسة على المديين القصير والمتوسط أمام توقعات التعافي الاقتصادي؟
يركز كثير من التعليقات على العقوبات بوصفها العائق الرئيس أمام التعافي الاقتصادي. ولا تزال العقوبات الأميركية تشكّل في الواقع عقبة أمام التعافي الاقتصادي وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر في المستقبل القريب. ومع أنه يمكن رفع هذه العقوبات بعد إطاحة النظام السوري، فإن استمرار الكثير من القوى، ومنها الولايات المتّحدة والدول الأوروبية وتركيا، بتصنيف «هيئة تحرير الشام» منظمة إرهابية، وهي من الجهات الرئيسة الفاعلة عسكرياً وسياسياً في سوريا اليوم، يثير تساؤلات في شأن الآثار المستمرة للعقوبات على سوريا. وكان لتصنيف هيئة تحرير الشام كمنظّمة إرهابية تأثير سلبي بشكل خاص على المساعدات والتدفقات المالية إلى المناطق التي تسيطر عليها المجموعة، بسبب العقوبات الشديدة في حالة عدم الامتثال وعدم وجود آلية ترخيص.
لا تزال العقوبات الأميركية تشكّل في الواقع عقبة أمام التعافي الاقتصادي وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر في المستقبل القريب
حاولت «هيئة تحرير الشام» إظهار نفسها بصورة أكثر اعتدالاً لكسب الاعتراف عبر الإيحاء بأنها أصبحت الآن طرفاً عقلانياً ومسؤولاً. ويعود هذا التطوّر إلى قطع علاقاتها مع تنظيم القاعدة في العام 2016 وإعادة صياغة أهدافها السياسية في الإطار الوطني السوري. كما قمعت الأفراد والمجموعات المرتبطة بتنظيم القاعدة وما يسمّى بتنظيم الدولة الإسلامية. حاول زعيم «هيئة تحرير الشام»، الجولاني، بشكل مستمر تعريف نفسه كمحاور شرعي على الساحة الإقليمية والدولية، وأكّد على دور المجموعة في مكافحة الإرهاب. وبعد سقوط النظام، التقى الجولاني في البداية مع رئيس الوزراء السابق محمد الجلالي لتنسيق انتقال السلطة، قبل تعيين محمد البشير رئيساً للحكومة الانتقالية للتعامل مع الشؤون اليومية. وكان البشير قد قاد حكومة الإنقاذ في إدلب سابقاً. وسوف يشغل منصبه حتى الأول من آذار/مارس 2025، في انتظار إطلاق العملية الدستورية. بالإضافة إلى ذلك، أصدرت «هيئة تحرير الشام» الكثير من البيانات لمحاولة تنفيذ انتقال متحكّم فيه للسلطة، ويفضّل أن يكون ذلك من خلال تعزيز سلطتها على مساحات واسعة من الأراضي من أجل تهدئة المخاوف الخارجية، وإقامة اتصالات مع القوى الإقليمية والدولية، والاعتراف بها كقوة شرعية يمكن التفاوض معها.
بدأنا نلمس تغيراً في التوجّهات في العواصم الإقليمية والدولية تجاه «هيئة تحرير الشام». ووفقاً لتقارير مختلفة، التقى مكتب الشؤون السياسية في «هيئة تحرير الشام» بالفعل بسفراء مصر والإمارات العربية المتّحدة والأردن والمملكة العربية السعودية. ومن جانبها، أعلنت قطر، التي أدّت دور الوسيط بين الولايات المتّحدة وطالبان في أفغانستان وحماس في غزة، أنها سوف تعيد فتح سفارتها في دمشق. كما أعادت دول عدة، بما في ذلك دول أوروبية وعربية، فتح سفاراتها في دمشق. وهناك بالفعل شائعات بأن الدول الغربية قد تعيد النظر في العقوبات المفروضة على سوريا و«هيئة تحرير الشام»، لكن الأمر سوف يستغرق بعض الوقت.
الحاجة لتثبيت الأمن والاستقرار أولاً
بغض النظر عما سوف تؤول إليه العقوبات، هناك مزيد من المشكلات والقيود الاقتصادية الهيكلية التي تحول دون التعافي الاقتصادي في المستقبل القريب. أولاً، يشكّل غياب الوضع الاقتصادي الآمن والمستقرّ في سوريا عائقاً كبيراً أمام تعزيز الاستثمار المحلي والأجنبي. فقد ظل الاستثمار الأجنبي المباشر محدوداً ومقتصراً في معظمه على إيران وروسيا منذ العام 2011.
هل يؤدي تغيير النظام في سوريا إلى تعزيز الاستثمار الأجنبي المباشر، لا سيما من دول الخليج؟ قد تشكل التطوّرات السياسية مع احتمال زيادة نفوذ «هيئة تحرير الشام» في البلاد، عقبة أمام ذلك. ينظر كثير من الدول الإقليمية إلى «الهيئة» نظرة سلبية. على سبيل المثل، قال الدكتور أنور قرقاش، المستشار الديبلوماسي لرئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد، عقب سقوط الأسد: «بينما نتطلّع إلى المستقبل، علينا مراقبة التطوّرات عن كثب»، وأضاف أن هناك مخاوف واضحة من تصاعد الفوضى والتطرّف.
عند النظر في التحديات الداخلية، يتبيّن أن عدم استقرار الليرة السورية وانخفاض قيمتها يمثلان مشكلة كبيرة. ففي حين تحسّنت قيمة الليرة السورية في السوق السوداء بشكل كبير بعد سقوط النظام، ووصلت إلى 15 ألف ليرة سورية مقابل الدولار الأميركي، بعد أن تجاوزت 22 ألف ليرة سورية في دمشق قبل أسبوع، لا تزال هناك تحديات فيما يتصل باستقرار الليرة السورية وتحسّنها بشكل كبير. وللتذكير، كانت قيمة الليرة السورية في العام 2011 تعادل 45 ليرة سورية مقابل دولار واحد. وأدّت الأزمة المالية اللبنانية في تشرين الأول/أكتوبر 2019 دوراً في الانخفاض الهائل في قيمة الليرة السورية، التي كانت تعادل أكثر بقليل من 500 ليرة سورية مقابل الدولار الواحد قبل ذلك، إذ اعتمد الكثير من رجال الأعمال والتجّار السوريين على لبنان المجاور ونظامه المصرفي لمواصلة أنشطتهم الاقتصادية، وخصوصاً التجارة والتهريب ولا سيما مع فرض العقوبات على سوريا بعد العام 2011. ومع ذلك، فإن جذور انخفاض قيمة الليرة السورية هي مرة أخرى أكثر هيكلية مما يعكس الوضع المدمّر للاقتصاد. فقد دُمرت قطاعاته الإنتاجية على نطاق واسع وانخفضت مصادر إيراداته الرئيسة بشكل كبير، مثل النفط والسياحة، اللتين جلبتا كميات كبيرة من العملات الأجنبية إلى البلاد قبل العام 2011.
تحديات البنية التحتية وشبكات النقل
بالتوازي، تعاني البنية التحتية وشبكات النقل من أضرار جسيمة. كما تعاني الجهات الفاعلة اقتصادياً من الارتفاع المطرد في تكاليف الإنتاج ونقص السلع الأساسية وموارد الطاقة (خصوصاً زيت الوقود والكهرباء). ومع أن موارد النفط الرئيسة تقع في الشمال الشرقي وتخضع لسيطرة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا التي يقودها الأكراد، فإن قطاع الطاقة في سوريا، أي إنتاج النفط والغاز الطبيعي، شهد تراجعاً كبيراً ومستمراً.
جذور انخفاض قيمة الليرة السورية هي مرة أخرى أكثر هيكلية مما يعكس الوضع المدمّر للاقتصاد
ووفقاً لإدارة معلومات الطاقة الأميركية، انخفض إنتاج النفط في سوريا، الذي اقترب متوسطه من 400 ألف برميل يومياً في العام 2010، إلى نحو 91 ألف برميل يومياً في العام 2023، وهو أقل بكثير من الطلب المحلّي. وتعاني البلاد أيضاً من نقص في القوى العاملة المؤهلة، ويترافق ذلك مع استمرار ارتفاع معدّلات الهجرة، لا سيما من المتخرّجين الشباب. فهل تشجّع إطاحة النظام القوى العاملة المؤهلة على العودة إلى البلاد؟ نترك الإجابة عن هذا السؤال للمستقبل.
القطاع الخاص، الذي كانت الحكومة السابقة تعدّه المحرّك الرئيس للتنمية الاقتصادية وخلق فرص العمل، يتكوّن في معظمه من مؤسّسات متناهية الصغر وصغيرة ومتوسطة الحجم ذات قدرات محدودة، ولا يزال في حاجة إلى كثير من التحديث وإعادة البناء بعد أكثر من 13 عاماً من الحرب. في الوقت نفسه، الموارد الحكومية محدودة للغاية وغير كافية لتحفيز الاستثمار في الاقتصاد، وخصوصاً في القطاعات الإنتاجية.
الفقر والرواتب الهزيلة
فيما يعيش 90% من السكّان تحت خط الفقر، يشكّل انخفاض القوة الشرائية تحدياً لتعزيز ديناميات الاستهلاك الداخلي والتجارة والإنتاج، خارج المنتجات الأساسية مثل الغذاء وموارد الطاقة والأدوية. لا يستطيع معظم السكان تغطية غالبية احتياجاتهم الشهرية برواتبهم. يتراوح الحد الأدنى الحالي لرواتب الموظفين الحكوميين بين 280,890 و336,348 ليرة سورية، وذلك غير كاف إلى حدّ كبير لإعالة أسرة.
ووفقاً لتقديرات صحيفة «قاسيون» في تشرين الأول/أكتوبر 2024، بلغ متوسط تكلفة المعيشة لأسرة سورية مكوّنة من 5 أفراد في دمشق نحو 13,6 مليون ليرة سورية (أو ما يعاد 1,077 دولاراً)، فيما الحد الأدنى للأجور لا يتجاوز 8,5 ملايين ليرة سورية (673 دولاراً أميركياً). في حين وصلت تكلفة المعيشة قياساً بسلة الإنفاق الأدنى في أحدث التقديرات في أيار/مايو 2024 إلى نحو 2,62 مليون ليرة سورية لأسرة مكوّنة من 5 أفراد. وقد تضاعف هذا المبلغ مقارنة بالفترة نفسها من العام المنصرم، بزيادة بلغت 95%، وتضاعف ثلاث مرات في عامين فحسب.
لا تعاني سوريا حالياً من نقص في فرص العمل فحسب، بل هي بلد لا يتقاضى فيه الناس أجراً كافياً لتلبية احتياجاتهم اليومية. لكن أعلن بعض المسؤولين في الحكومة الجديدة أن الرواتب والأجور سوف ترتفع قريباً.
في هذا السياق، يتزايد اعتماد السوريين على التحويلات المالية لتغطية نفقاتهم اليومية، خصوصاً مع الارتفاع المستمر في تكلفة المعيشة، بالإضافة إلى استمرار انخفاض قيمة الليرة السورية وتأثيرات الأحداث الكبرى الأخرى على سوريا مثل الأزمة المالية اللبنانية، وجائحة كوفيد-19، والغزو الروسي لأوكرانيا في شباط/فبراير 2022. ومن دون هذه التحويلات، تجد قطاعات واسعة من السكان السوريين نفسها عاجزة عن تحمّل نفقاتها اليومية، إلا بالاقتراض أو الاستدانة من التجّار. ولا تؤثّر التحويلات على استهلاك الأسر فحسب، بل على الاقتصاد بأكمله أيضاً.
الجدير بالذكر أن حجم التحويلات يزيد على الاستثمار الأجنبي المباشر في سوريا، الذي أصبح شبه معدوم أو منخفضاً للغاية منذ العام 2011، ويفوق على الأرجح المساعدات الإنسانية الموجّهة إلى سوريا نفسها، الذي بلغ متوسطها 2 إلى 2,2 مليار دولار في السنوات القليلة الماضية. وتعزّز الأهمية المتزايدة للتحويلات بوصفها مصدر دخل اعتماد الأسر السورية، وتالياً الاقتصاد السوري، على مصادر التمويل الخارجية بدلاً من المصادر الوطنية، وهو ما يجعلها أكثر هشاشة أمام الصدمات الخارجية. وربما تؤدّي العودة المحتملة لكثير من السوريين من الدول المجاورة إلى تقليص هذا المصدر من الإيرادات.
أخيراً، تواجه محاولات تأمين انتقال منظّم للسلطة تحدّيات كبيرة. ومن المتوقع أن تشهد البلاد فترة من عدم الاستقرار. على سبيل المثال، شهدت دمشق في اليوم التالي لسقوط النظام، بعض الفوضى في الشوارع، ولا يمكن إغفال أن البلاد لا تزال منقسمة بين سلطات مختلفة، وأن المواجهات العسكرية لم تنتهِ بعد، لا سيما في الشمال.
القوى الأجنبية كمصدر تهديد وعدم استقرار
يشكّل استمرار دور القوى الأجنبية في سوريا ونفوذها مصدر تهديد وعدم استقرار. وبالفعل، في الأيام التي أعقبت سقوط النظام السوري، غزا جيش الاحتلال الإسرائيلي الجزء السوري من جبل الشيخ في مرتفعات الجولان. وسعى إلى منع المتمردين من الاستيلاء على المنطقة، ونفذ أكثر من 480 غارة على بطاريات مضادة للطائرات ومطارات عسكرية ومواقع إنتاج أسلحة وطائرات مقاتلة وصواريخ وبنى تحتية عسكرية أخرى. وضربت السفن الصاروخية المنشآت البحرية السورية في ميناء البيضا وميناء اللاذقية حيث كانت ترسو 15 سفينة بحرية سورية. وتهدف هذه الغارات إلى تدمير القدرات العسكرية السورية لمنع استخدامها ضد إسرائيل. كما أنها وتبعث رسالة مفادها أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يمكن أن يتسبّب في عدم الاستقرار السياسي في أي وقت، إذا تبنّت الحكومة المستقبلية موقفاً عدائياً لا يخدم مصالح إسرائيل.
تبعث إسرائيل رسالة مفادها أن جيشها يمكن أن يتسبّب في عدم الاستقرار السياسي في أي وقت، إذا تبنّت الحكومة المستقبلية موقفاً عدائياً لا يخدم مصالحها في الوقت نفسه، فإن أحد الأهداف الرئيسة لتركيا، التي أصبح نفوذها أعظم في سوريا ومن المرجح أن تكون اللاعب الإقليمي الرئيس في البلاد الآن بعد سقوط النظام، هو إضعاف قوات سوريا الديمقراطية، التي يهيمن عليها الجناح المسلّح لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وهي منظّمة شقيقة لحزب العمّال الكردستاني الكردي في تركيا، والذي صنفته أنقرة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كمنظمة إرهابية، ما قد يخلق المزيد من عدم الاستقرار والدمار في البلاد. في السنوات القليلة الماضية، استهدفت تركيا باستمرار المؤسسات المدنية في الشمال الشرقي، ما أدى إلى تعميق الأزمة الإنسانية في هذه المناطق. في الأيام القليلة الماضية، هاجمت تركيا وجماعتها المسلّحة بالوكالة الجيش الوطني السوري، على سبيل المثال، سدّ تشرين على نهر الفرات وقصفته. تريد تركيا إنكار التطلّعات الكردية للحكم الذاتي، وبشكل أكثر تحديداً، تقويض الإدارة التي يقودها الأكراد، الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، والتي من شأنها أن تشكّل سابقة لتقرير المصير الكردي في تركيا، وهو تهديد للنظام كما هو الحال حالياً. إن تصرفات تركيا، فضلاً عن تصرفات الجيش الوطني السوري ودعم مثل هذه السياسات من قطاعات كبيرة من المعارضة الشوفينية العربية السورية، تعمل على خلق المزيد من الانقسامات داخل البلاد. ومن بين المهام الرئيسة في المستقبل معالجة الانقسام العرقي في البلاد، بين العرب والأكراد. ويتعيّن على القوى الديمقراطية والتقدّمية أن تخوض صراعاً واضحاً ضد الشوفينية العربية للتغلب على هذا الانقسام وتكوين التضامن بين هذه الشعوب. لقد كان هذا تحدياً منذ بداية الثورة السورية في العام 2011 وسوف يتعيّن مواجهته وحلّه بطريقة تقدّمية من أجل تحرير شعب البلاد حقاً وتقليل التوترات في البلاد.
الاقتصاد السياسي في سوريا وتوازن القوى المحلي
وإلى جانب انتهاء العقوبات المفروضة على سوريا و«هيئة تحرير الشام» والاعتراف بها، والمشاكل الاقتصادية البنيوية المذكورة أعلاه، تكمن المشكلة الرئيسة في البديل المتمثل في البرنامج الاقتصادي السياسي داخل أغلبية الجهات السياسية المعارضة، بما في ذلك «هيئة تحرير الشام». إلى جانب كونها منظّمة استبدادية ورجعية ذات أيديولوجية أصولية إسلامية، ليس لدى «هيئة تحرير الشام» بديل للنظام الاقتصادي النيوليبرالي، والذي من المرجح أن يجمع بين شبكات الأعمال مع شخصيات الأعمال الجديدة والقدامى والمرتبطة أيضاً بالقادة الجدد في السلطة، على غرار ديناميات وأشكال الرأسمالية المحسوبية للنظام السابق. في السنوات السابقة، فضّلت حكومة الإنقاذ، التي تعمل كإدارة مدنية لـ«هيئة تحرير الشام» وتقدم الخدمات في المناطق الخاضعة لسيطرتها، تطوير القطاع الخاص، مع ديناميات لصالح شركاء الأعمال المقربين من «هيئة تحرير الشام» والجولاني. وفي الوقت نفسه، كانت غالبية الخدمات الاجتماعية من مسؤولية المنظمات غير الحكومية والمنظمات الدولية.
وبعد سقوط النظام، أبلغت الحكومة السورية الجديدة التي عيّنتها «هيئة تحرير الشام» رجال الأعمال الذين التقوا بها أنها سوف تتبنى نموذج السوق الحرة وتدمج البلاد في الاقتصاد العالمي، بحسب باسل الحموي، رئيس غرفة تجارة دمشق. وقد «انتخب» الحموي لهذا المنصب في تشرين الثاني/نوفمبر 2024، أي قبل أسابيع قليلة من سقوط نظام الأسد. وهو أيضاً رئيس اتحاد غرف التجارة السورية. ولا يزال ممثلو مختلف الغرف الاقتصادية للنظام القديم يشغلون مناصبهم. ومن شأن هذا النظام الاقتصادي النيوليبرالي الممزوج بالاستبداد أن يؤدّي إلى تفاوتات اجتماعية واقتصادية واستمرار إفقار السكان السوريين، وهو أحد الأسباب الرئيسة وراء الانتفاضة الشعبية الأولية في 2011.
في هذا السياق، ترتبط عملية إعادة الإعمار أيضاً بالقوى الاجتماعية والسياسية التي سوف تشارك في مستقبل البلاد وتوازن القوى بينهما.
علينا أن نواجه الحقيقة المؤلمة المتمثلة في غياب صارخ لكتلة ديمقراطية وتقدّمية مستقلّة قادرة على التنظيم ومعارضة القوى الرجعية المختلفة بوضوحيفتح سقوط النظام المجال ولكن مع الكثير من التحديات والتناقضات. هناك بالفعل الكثير من الأسئلة: هل سوف يكون النضال من الأسفل والتنظيم الذاتي مُمكناً في المناطق التي طُرد منها النظام؟ هل سوف تتمكّن منظّمات المجتمع المدني (لا تُعرَّف بشكل ضيق على أنها منظمات غير حكومية ولكن بالمعنى الغرامشي للتشكيلات الجماهيرية الشعبية خارج الدولة) والهياكل السياسية البديلة ذات السياسات الديمقراطية والتقدمية من ترسيخ نفسها وتنظيمها وتشكيل بديل سياسي واجتماعي لـ«هيئة تحرير الشام» والجيش الوطني السوري؟ هل سوف يسمح تمدّد قوات «هيئة تحرير الشام» والجيش الوطني السوري بمساحة للتنظيم محلياً.
هذه هي الأسئلة الرئيسة، في رأيي، من دون إجابات واضحة. بالنظر إلى سياسات «هيئة تحرير الشام» والجيش الوطني السوري في الماضي، فهي لم تشجّع على تطوير مساحة ديمقراطية، بل على العكس تماماً. لقد كانت استبدادية. لا ينبغي منح أي ثقة لمثل هذه القوى. فقط التنظيم الذاتي للطبقات الشعبية التي تناضل من أجل المطالب الديمقراطية والتقدّمية من شأنه أن يخلق تلك المساحة ويفتح الطريق نحو التحرير الفعلي. وسوف يعتمد هذا على التغلب على الكثير من العقبات الناجمة عن إرهاق الحرب والفقر والتشرّد الاجتماعي.
علينا أن نواجه الحقيقة المؤلمة المتمثلة في غياب صارخ لكتلة ديمقراطية وتقدّمية مستقلّة قادرة على التنظيم ومعارضة القوى الرجعية المختلفة بوضوح. إن بناء هذه الكتلة سوف يستغرق وقتاً. وسوف يتعين عليها الجمع بين النضالات ضد الاستبداد والاستغلال وجميع أشكال القمع. سوف تحتاج إلى رفع المطالب بالديمقراطية والمساواة وتقرير المصير الكردي وتحرير المرأة من أجل بناء التضامن بين المستغلّين والمضطهدين في البلاد.
ولكي تتمكّن هذه الكتلة التقدّمية من تحقيق هذه المطالب، سوف يتعيّن عليها أن تبني وتعيد بناء المنظمات الشعبية، من النقابات العمالية إلى المنظّمات النسوية، والمنظّمات المجتمعية، والهياكل الوطنية لتوحيدها. وسوف يتطلّب هذا التعاون بين الجهات الديمقراطية والتقدمية في مختلف أنحاء المجتمع. وفي هذا السياق، فإن بناء منظّمات عمالية مستقلة وجماهيرية في المستقبل في سوريا سوف يكون ضرورياً لتحسين ظروف المعيشة والعمل للسكان، وبشكل عام النضال من أجل الحقوق الديمقراطية والنظام الاقتصادي القائم على العدالة الاجتماعية والمساواة.
على الرغم من هذا الواقع، تسود الآمال بمستقبل أفضل بين قطاعات واسعة من الشعب السوري بعد سقوط حكم الأسد، ومع ذلك، يبقى الشروع في عملية التعافي الاقتصادي تحدياً كبيراً لتحسين حياة السوريين. سوف تحتاج عملية إعادة الإعمار إلى مساعدات دولية كبيرة، بالإضافة إلى تغيير في الاقتصاد السياسي لمستقبل سوريا لاجتناب تكرار أخطاء الماضي، لكن فرصة تحسين الأوضاع أصبحت الآن حقيقة واقعة على الأقل بسقوط حكم عائلة الأسد.
وهذا مرتبط بقدرة الطبقات الشعبية السورية على إعادة بناء النضال من الأسفل، أو عدم قدرتها على ذلك.