العقوبات الاقتصادية: سلاح الحروب الحديثة
- مراجعة كتاب «السلاح الاقتصادي» لنيكولاس مولدر الذي يقدّم تأريخاً تفصيلياً للعقوبات الاقتصادية، ويناقش عواقبها وتأثيراتها على السلام، ويوضح أن العقوبات ليس بديلاً عن الحرب بل أداة من أدوات الحرب، وغالباً ما تقع تكاليفها على عاتق الأبرياء سواء في البلد المستهدف أو في بلدان أخرى.
مثّلت العقوبات الدولية، ولا تزال، جزءاً أساسياً من ردّ الولايات المتحدة وكندا وحكومات الاتحاد الأوروبي على الحرب الروسية الأوكرانية التي بدأت في العام 2014. وتحمّل الروس تكاليف العقوبات - نخباً ومواطنين عاديين - وأيضاً ملايين آخرين خارج الحدود الروسية نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة في أرجاء أوروبا. يرى كثيرون أنّ العقوبات جزء طبيعي من العلاقات الدولية، وأنّها بديل للحرب للتأثير في سلوك الحكومات الأخرى. يقدّم كتاب نيكولاس مولدر «السلاح الاقتصادي» أفكاراً مهمّة في تاريخ العقوبات، يوضح أن العقوبات الاقتصادية لطالما استخدمت سلاحاً من أسلحة الحرب لا بديلاً لها. فضلاً عن ذلك، يطرح تحليله بعضاً من الآثار المغفلة للعقوبات ويثير أسئلة مهمّة للتأمل فيها اليوم.
تتمثّل المساهمة الأساسية للكتاب في تأريخه المفصّل لظهور العقوبات الاقتصادية الحديثة. يشير مولدر إلى تأسيس عصبة الأمم باعتباره مفصلاً حاسماً في مأسسة العقوبات كأداة من أدوات السياسة الخارجية. تأسّست عصبة الأمم في العام 1920 كجزء من مؤتمر باريس للسلام الذي أنهى الحرب العالمية الأولى، وتشكّلت كمنظمة عالمية لتعزيز السلام العالمي. وعلى الرغم من أن كثيرين يرون أن عصبة الأمم فشلت في تحقيق هدفها الرئيس المتمثل في الحفاظ على السلام العالمي، فإن أحد آثارها الدائمة كان تطبيع العقوبات الاقتصادية كأداة للحرب.
أدرك المشاركون في وضع إطار العقوبات أن العقوبات الاقتصادية سلاح للحرب وليست وسيلة لتجنّبها، بل كانوا على قناعة بأنّ العقوبات الاقتصادية سلاح أكثر فتكاً من أدوات الحرب التقليدية
للحصار الاقتصادي تاريخ طويل، لكنّ عصبة الأمم سعت إلى مأسسة العقوبات كأداة سياسية استباقية. وكان المنطق الأساس وراء ذلك أن العقوبات يمكن استخدامها وقت السلم، لا في أوقات الحرب فحسب كما كان الحال في الماضي، وذلك في وجه البلدان المعادية لتفادي الحروب في المستقبل. واعتُبِرت العقوبات أداةً واعدةً نظراً إلى ترابط الاقتصادات العالمية. واستناداً إلى هذا المنطق، مهّدت المادة 16 من ميثاق عصبة الأمم (عهد عصبة الأمم) لفرض عقوبات على البلدان التي تلجأ إلى الحرب بتوجيه الأعضاء إلى التعهّد «بقطع جميع العلاقات التجارية أو المالية، وحظر أي اتصال بين مواطنيها ومواطني الدولة التي تنتهك العهد، ومنع جميع الاتصالات المالية أو التجارية أو الشخصية بين مواطني الدولة المخالفة للعهد ورعايا أي دولة أخرى سواء كانت عضواً في الرابطة أم لا» (عهد عصبة الأمم، المادة 16). يقدّم مولدر تاريخاً مفصّلاً لظهور هذا الإجراء والمناقشات المكثفة - الأيديولوجية والعملية - التي دارت بين أصحاب المصلحة الرئيسيين، والبنية القانونية البيروقراطية التي أُنشئت لتنفيذ العقوبات وفرضها.
كما يشير عنوان الكتاب، أدرك المشاركون في وضع إطار العقوبات أن العقوبات الاقتصادية سلاح للحرب وليست وسيلة لتجنّبها، بل كانوا على قناعة بأنّ العقوبات الاقتصادية سلاح أكثر فتكاً من أدوات الحرب التقليدية. ويستشهد مولدر بتصريحات وودرو ويلسون الذي قال في العام 1919 إن العقوبات «شيئ أكثر هولاً من الحرب» و«علاج قاتل» من شأنه أن يلغي «الحاجة إلى القوة» في الردّ على تهديدات وتجاوزات (ص. 2). وكان يُشار إلى العقوبات، بين أعضاء عصبة الأمم، باسم «السلاح الاقتصادي»، دلالة على أن أفكار ويلسون كانت تحظى بقبول واسع بين الأعضاء.
يوثّق مولدر كيف غيّرت مأسسة العقوبات الإطار الذي وضعت فيه الحكومات فهمها للحرب والاقتصاد والعلاقات الدولية. ويرى أنّ «السياسات القسرية لم تكن ممكنة في الماضي إلا في أوقات الحرب - عزل جماعات بشرية عن التبادل مع العالم الأوسع - ولكنها أصبحت الآن مُمكنة في حالات واسعة» (ص. 3). وإذ خلقت عصبة الأمم المعايير والجهاز المؤسسي دعماً للعقوبات، فقد تركت أثراً باقياً لا يزال ملحوظاً إلى اليوم.
أدّى التحوّل إلى الاكتفاء الذاتي والقومية الاقتصادية إلى تقويض قدرة عصبة الأمم على فرض عقوبات، وأدى إلى تكثيف التوترات بين الدول القومية الكبيرة، وجعل العنف أكثر احتمالاً
في البداية، أشار الكثير من أنصار العقوبات أن تأثيرها سوف يقتصر على هدفها المقصود. ويستشهد مولدر مرة أخرى بوودرو ويلسون الذي قال إن العقوبات «لا يذهب ضحيتها نَسَمَةٌ واحدة خارج البلد المُقاطَع، لكنها تمارس على هذا الأخير ضغطاً لا يسع أي بلد حديث أن يقاومه، في تقديري» (ص 2). ويشير التاريخ إلى أنّ للعقوبات عواقب عكسية متتالية. ويناقش مولدر، على سبيل المثال، فرض العقوبات على إيطاليا في أعقاب غزو موسوليني لإثيوبيا في العام 1935، وهي عقوبات لم تُثبت فعاليتها في وقف الغزو والاحتلال.
على نطاق أوسع، أدّى التهديد المُحتمل بالعقوبات وتنفيذها الفعلي إلى تغيير سلوك الحكومات في دول المحور التي تحوّلت نحو الاكتفاء الذاتي الاقتصادي كاستراتيجية استباقية تحوطية. ولكي تعمل العقوبات الاقتصادية عملها، فإنها تتطلّب تكاملاً اقتصادياً. لقد أدّى التحوّل إلى الاكتفاء الذاتي والقومية الاقتصادية إلى تقويض قدرة عصبة الأمم على فرض عقوبات، وأدى إلى تكثيف التوترات بين الدول القومية الكبيرة، وجعل العنف أكثر احتمالاً. وكانت النتيجة العامة، وفقاً لمولدر، أن «العقوبات استغلت الشبكات الاقتصادية للعولمة بين الحربين لكنها قوضت في النهاية أسسها السياسية» (ص. 13). وفي حين فشلت العقوبات ضد حكومات سلطوية أكثر قوة، يرى مولدر أنها كانت فعّالة ضدّ بلدان أصغر. والمفارقة أنّ هذه البلدان الأصغر لم تشكل سوى تهديداً طفيفاً نسبياً للصراع العالمي. والواقع، لم تعمل العقوبات على النحو الأمثل إلا حيث لم تكن الحاجة إليها كبيرة للحدّ من فرص الحرب.
في حين تتمثّل المساهمة الرئيسة لكتاب «السلاح الاقتصادي» في التاريخ التفصيلي للعقوبات الاقتصادية في خلال سنوات ما بين الحربين، فإنه يطرح على المهتمين بالحرب والسلام ورفاهية الإنسان كثيراً من الأسئلة اللافتة. وعلى الرغم من الطريقة التي تؤطّر بها العقوبات اليوم كبديل للحرب، يوضح مولدر أن العقوبات أداة من أدوات الحرب، وغالباً ما تقع تكاليفها على عاتق الأبرياء سواء في البلد المستهدف أو في بلدان أخرى. ومن هذا المنظور، غالباً ما تكون العقوبات أشبه بطلق بندقية رشّاشة: قد تصيب الهدف، لكنها ستصيب أيضاً غير المستهدفين. وفي بعض الحالات، يمكن لمن تستهدفهم العقوبات أن يتجنّبوا هذه التكاليف تاركين الأكثر ضعفاً يتحمّلون العبء الأكبر. وهذا يطرح أسئلة عملية وأخلاقية بخصوص العقوبات.
إلى أي مدى تكون العقوبات فعّالة، عملياً، في تحقيق غاياتها المعلنة؟ وما التكاليف في ما يتعلّق بتراجع رفاه الإنسان لدى تبنّي العقوبات كوسيلة لتحقيق تلك الغايات؟ هذان سؤالان مهمان ويصعب تقييمهما بسبب مجموعة متنوعة من الاحتكاكات السياسية. على سبيل المثال، من غير المرجح أن يلاحظ الناخبون في البلد الذي يفرض العقوبات أو يفهموا التكاليف الكاملة للعقوبات على الناس العاديين في الخارج (داخل البلد المستهدف وخارجه). وهذا يعني أن قدرتهم على إبداء ردّ فعل على سلوك مسؤوليهم المنتخبين بشأن هذه السياسات محدودة. فضلاً عن ذلك، ليس للناس العاديين خارج البلد الذي يفرض العقوبات صوت سياسي يُذكر، ولا سبيل أمامهم لمحاسبة المسؤولين المنتخبين في البلد الذي يفرض العقوبات على التكاليف التي تفرضها سياساتهم. وتعمل هذه العوامل مجتمعة على تحفيز الاستخدام المبالغ فيه للعقوبات واستمرارها حتى عندما لا يكون لها التأثير المطلوب، والتسبّب بضرر كبير لغير المستهدفين: بسبب الافتقار إلى ردود الفعل والمساءلة المباشرة للنخبة السياسية التي تنفذ هذه السياسة وتساندها.
غالباً ما تكون العقوبات أشبه بطلق بندقية رشّاشة: قد تصيب الهدف، لكنها ستصيب أيضاً غير المستهدفين. وفي بعض الحالات، يمكن لمن تستهدفهم العقوبات أن يتجنّبوا هذه التكاليف تاركين الأكثر ضعفاً يتحمّلون العبء الأكبر
تُفضي هذه الديناميات إلى سؤال أخلاقي مهم: إذا كانت العقوبات أداة حرب، فما هي الالتزامات الأخلاقية التي تقع على عاتق الدول في استخدام هذا السلاح، إذ ثمّة احتمال كبير لإلحاق الأذى بأشخاص أبرياء غير مستهدفين؟ في تقييم الإجابة عن هذا السؤال، من الأهمية أن ندرك أن الأضرار الناجمة عن العقوبات لا تتجلى في المدى القريب فحسب، على الرغم من أن هذه التكاليف قد تكون كبيرة في حد ذاتها.
تقوّض العقوبات التجارة - حركة السلع والخدمات - بقصد الإضرار بالنخبة السياسية. وبذلك، فإنّها تقوّض حقوق الملكية وحرّيات الأبرياء عبر الزمان والمكان. تشمل هذه الانتهاكات الحق في إقامة الروابط الاجتماعية وتطويرها، والحق في المشاركة في التجارة ذات المنفعة المتبادلة، والحق في الانخراط في تقرير المصير، والحق في تجربة طرائق مختلفة للعيش. وما إن تتضرر هذه الحقوق والحريات أو تُدمّر، حتى لا يعود من اليسير استردادها إذا ما كان هذا الاسترداد مُمكناً أصلاً. وفي حالة حدوث هذا، فإن العقوبات الاقتصادية التي اعتُمدت لمنع الضرر ودعم قيم ليبرالية قد يكون لها التأثير المعاكس. ونظراً إلى التكاليف المباشرة وغير المباشرة، وكثير منها طويل الأمد ومتغيّر، يبدو أن الحدّ الذي تُفرض عنده العقوبات لا بد أن يكون مرتفعاً جداً، إذ يُنظر إلى العقوبات باعتبارها استثناءً نادراً لا جزءاً طبيعياً من العلاقات الدولية.
يُعدّ كتاب «السلاح الاقتصادي» مساهمة قيّمة سواء بسبب السياق التاريخي الذي يقدّمه أو لأنه يوفر للقارئ الفرصة للنظر في وقائع العقوبات الاقتصادية وعواقبها الفعلية. ونظراً إلى انتشار العقوبات الاقتصادية اليوم، واحتمال استمرار استخدامها في المستقبل، فإن التفكير النقدي في هذه القضايا يبقى مهماً للغاية لأي شخص مهتم بالسلام ورفاه الإنسان.
نُشِرت هذه المراجعة في The Independent Review في عدد ربيع 2023، وتُرجِمت إلى العربية ونُشِرت في موقع «صفر» بموافقة مُسبقة من الجهة الناشرة.