معاينة stock market

صنم سوق الأسهم

أثار الاضطراب الأخير في سوق الأسهم، الناجم عن سياسة دونالد ترَمب غير المحسوبة لفرض التعريفات الجمركية على العالم بأسره، تساؤلاً مشروعاً: ما الموقف الصحيح تجاه انخفاضات السوق وانهياراتها؟ هذا التساؤل يُطرح بغض النظر عن سلسلة القرارات والأحداث وراء تراجع السوق مؤخراً.

من السهل للغاية أن أفهم أن رد فعل الطبقة الرأسمالية والنخبة اليمينية سيكون الاستياء البالغ من هذه الانخفاضات. ويتضح هذا الأمر جلياً من مراكز التفكير ومن الصحافة السائدة، إذ تراها أحداث كارثية. تسترشد آراؤهما بمبدأين وحيدين: خفض معدلات ضرائبهما، وزيادة ثرواتهما من خلال ارتفاع قيمة رأس مالهما. لذا، فمن المنطقي أن تكونا غاضبتَيْن من انخفاضات السوق المالية.

بيد أنّ السؤال لمَ على اليسار أن يقف ضد هذه الانخفاضات؟ بل يبدو أنّ جميع الحجج تقول للوهلة الأولى بوجوب تأييد اليسار لها.

أولاً، تقلِّص انخفاضات سوق الأسهم من التفاوت الصارخ في الثروة. هذا صحيح من الناحية التجريبية، ويتضح أيضاً عند المقارنة بالحركة المعاكسة، كما حدث حين شهدت الأسواق المالية في الآونة الأخيرة ارتفاعاً هائلاً في رأس المال، تسببت بتحقيق مكاسب فاحشة للكثير من الأثرياء، بمن فيهم إيلون ماسك الذي قفزت ثروته من حوالي 200 مليار إلى 400 مليار دولار. دفعت هذه المرحلة الكثير من الاقتصاديين اليساريين ومنظمة أوكسفام إلى تقديم رسومات توضيحية تظهر مدى تركز الثروة العالمية، مع الإشارة إلى أن حفنة من المليارديرات بالكاد تشغل حافلة صغيرة تمتلك ما يعادل ثروة بقية المليارات الثمانية من سكان العالم. أما الآن، فما يحدث هو العكس. بالمقارنة ذاتها، يمكن توقع أن الانخفاضات الحالية في سوق الأسهم، التي أثرت بنسبة أكبر في الأغنياء، ستلقى ترحيباً لأنها تخفّف من التفاوت في الثروة. وبحسب تصوّر منظمة أوكسفام، سنحتاج الآن إلى حافلة مليارديرات أكبر.

ثانياً، تدعو الكثير من السياسات اليسارية الأخيرة إلى فرض ضرائب على الأفراد أصحاب الثروات العالية، بل وقد طُرحت فكرة مفادها أنّ كل شخص تزيد ثروته عن مليار دولار يجب أن يخضع للضريبة على كل ما يتجاوز هذا الحد (أي مصادرة كل الثروات بعد المليار دولار). يعزز هذا الرأيَ القائل بأن انهيارات سوق الأسهم أمر جيد. فعوضاً عن قيام الدولة بفرض الضرائب على الرأسماليين فاحشي الثراء، فإنّهم أنفسهم، من خلال عمل السوق الخاص بهم، يفرضون على أنفسهم مثل هذا الألم.

يوجد سبب ثالث يدعم هذا الرأي. فقرابة 60% من الأميركيين، وكذلك من سكان الدول المتقدمة الأخرى، لا يحصلون على أي دخل من الممتلكات (أنظر.ي الشكل أدناه؛ البيانات من دراسات استقصائية ممثلة على المستوى الوطني الأسري). وبالتالي، يحصل 40% فحسب من الأميركيين على دخل من الممتلكات، بينما تبلغ هذه النسبة في معظم الدول النامية حوالي 3% إلى 7% (على سبيل المثال، البيرو 4%، كولومبيا 7%، وهكذا). وعلى الصعيد العالمي، إذا جمعنا كل الناس، فمن غير المرجح أن نجد أكثر من 10%، وربما لا يتجاوز العدد 5%، ممن لديهم دخل إيجابي من الأصول المالية. لذلك، ألا تبدو الأمور التي لا تؤثر في 90% إلى 95% من سكان العالم ربما مبالغاً فيها قليلاً من قبل وسائل الإعلام السائدة المملوكة من الأثرياء وكبار زبائنها منهم؟ ربما تكون كذلك.

نسبة الأسر بدخل رأسمالي أقل من 100 دولار للفرد سنوياً

يمكننا الذهاب أبعد من ذلك. الدخل من الأصول المالية، حتى بين هؤلاء الـ 5-10% من سكان العالم و40% من الأميركيين الذين يحصلون عليه، يتركز بشكل كبير لدى الأغنياء. والتفاوت في الدخل المالي لا يشبه التفاوت في دخل العمل، فهو أعلى بكثير. على سبيل المثال، عادةً ما يكون معامل جيني لدخل العمل (قبل الضرائب) في الولايات المتحدة حوالي 0.55، بينما معامل جيني للدخل الرأسمالي يتجاوز 0.9. الأمر نفسه ينطبق على جميع دول العالم تقريباً. فالدخل من الأصول المالية يشبه الثروة: يتركز في القمة. في الولايات المتحدة، حوالي 90% من جميع الأدوات والأصول المالية المختلفة محصورة بيد أغنى 10% من الأميركيين (see Ed Wolff, “A century of wealth in America”, Kuhn, Schularick and Steins, “Income and Wealth Inequality in America, 1949-2016”). لذا، القول بأن 40% من الأميركيين يحصلون على بعض الدخل من الأصول المالية قول مضلل بعض الشيء، لأن معظمهم لا يحصل إلا على الفتات منه، بينما تستحوذ قلة قليلة على الحصة الأكبر. يعني هذا أنّه ليس علينا أن نقلق إذا انخفض سوق الأسهم.

وخلاصة القول: توجد أسباب عدة تدعو إلى الترحيب بانخفاض سوق الأسهم؛ إذ إنه يقلّص التفاوت في الثروة من خلال محو جزء من الثروات المتكدسة في القمة، ولا يؤثر في مداخيل الغالبية العظمى من الناس (60% من الأميركيين و90 إلى 95% من سكان العالم)، وحتى بين من يتأثرون فعلاً، تقع الخسارة الكبرى على كاهل الصفوة المالية، أي النخبة الأغنى، وبالتالي تدفيعها عملياً ضريبة على ثرواتها، وهي سياسة يصعب تطبيقها بوسائل تقليدية.

لكن ليس هذا ما نراه على أرض الواقع. فعلى الرغم من أنّ اليسار لا يندب انخفاضات السوق مثلما يفعل اليمين، فإنّه يبدو، بوضوح، غير مرتاح لها. ويوجد سببان يُستشهد بهما عادةً لتبرير الامتناع عن الابتهاج بهذه الانخفاضات.

الحجة الأولى تقول إنّه على الرغم من صحة عدم تلقي 60% من الأميركيين دخلاً من رأس المال، فإن بعضهم يمتلك أصولاً مثل صناديق التقاعد المموّلة. وهذه الأدوات لا يمكن سحبها إلا بشروط معينة (مثل بلوغ سن معينة أو في حالات الطوارئ)، وفي خلال مرحلة التراكم لا تُسحب، ولهذا لا تظهر ضمن الدخل السنوي للناس. لكنها ستكون ذات شأن في المستقبل. ومالك هذه الأدوات وليس من أصحاب الملايين سيتأثر بانخفاض ثروته حين تنخفض السوق. لا يلحظ هؤلاء انخفاضاً في الدخل حالياً، ببساطة لأنّهم لا يحصلون على أي دخل منها الآن، كما أشرنا. لكنّهم قد يتلقّون دخلاً أقل مما كانوا يتوقعونه حين يبدؤون في سحب تلك الأموال، سواء بعد 3 سنوات أو 5 أو 30 سنة. وإذا ظلّت قيمة هذه الأصول منخفضة، سيكون دخلهم المستقبلي أقل.  لكنّ الدخل المستقبلي يظل دوماً خاضعاً لاحتمالات عديدة، من بينها أداء سوق الأسهم؛ تماماً كما لا يستطيع الذين يعتمدون على معاشات قائمة على نظام «الدفع حسب الجيل» أن يتيقنوا من حصولهم على كامل مستحقاتهم عند التقاعد، لأن ذلك يتوقف بدرجة كبيرة على وضع سوق العمل ووجود مداخيل حالية كافية لتمويل تلك المعاشات. وبالتالي، نعم: إذا استمر انخفاض سوق الأسهم، فإن أصحاب صناديق التقاعد الخاصة سيحصلون على دخل أقل في المستقبل. وبالمناسبة، حين ندرج في أي سنة من السنوات الدخل من المعاشات الخاصة ضمن الدخل من الأصول المالية، فإن إدراج صناديق التقاعد لا يغيّر من التقديرات الكلية، لأن المستفيدين منها هم أصلاً ضمن الـ40% من أصحاب الدخل المالي غير الصفري.

الحجة الثانية تقول إنّ انخفاض سوق الأسهم يُنذر عادةً بانكماش لاحق في استثمارات المستثمرين، لأنّ توقّعاتهم بشأن الأرباح المستقبلية تنخفض، ومن ثمّ تقلّ الاستثمارات، ويتراجع بالتبعية التوظيف. أي دخول الرأسماليين في ما يشبه «إضراباً استثمارياً». لكن إن كان صحيحاً أن أي تراجع في ثروات الأثرياء سيقود حتماً إلى ركود اقتصادي وتراجع في فرص العمل، فعلى أي أساس نطالب بفرض ضرائب على أصحاب الثروات الضخمة؟ ألن يخفضوا استثماراتهم إذا فُرضت عليهم ضرائب، تماماً كما يفعلون حين تتدهور السوق المالية؟ وبالتالي، إذا أردنا أن نكون منسجمين مع أنفسنا، فعلينا أن نتوقّف عن الدعوة إلى زيادة الضرائب على الأغنياء، لأنها - بهذا المنطق - تؤثر سلباً في فرص العمل المستقبلية وأجور العمال. وهذه بالضبط حجة اليمين التي يبدو أنّ اليسار قد قَبِل بها ضمناً - لكنّه لا يراها صحيحة إلا حين يتعلق الأمر بانخفاض سوق الأسهم، لا حين يتعلق الأمر بالضرائب.

الدفاع الثالث ربما يكون الأكثر إثارة للاهتمام، فهو يتضمن عنصراً أيديولوجياً. إنّ حقيقة أنّ سوق الأسهم أصبح يتمتع بأهمية متضخمة (بالمقارنة مع دوره الفعلي في الواقع) ومُقدّساً ليس من قبل اليمين والوسط وحدهما، بل حتى من قبل اليسار، يكشف عن تناقض أعمق بين الإيمان الذي يدّعيه البعض بتجاوز الرأسمالية وبين العجز عن التفكير فيما يتجاوز سوق الأسهم. كيف يمكن تجاوز الرأسمالية إذا لم يكن بإمكاننا تجاوز بورصة؟ إذا لم نتمكن حتى من تصور أنظمة أخرى للرأسمالية (فضلاً عن أنظمة غير رأسمالية) لا تعتمد على سوق الأسهم لتخصيص الأموال القابلة للاستثمار؟ يوجد نموذج رأسمالي يعتمد على الإقراض من البنوك التجارية إلى عملائها، وفيه دور سوق الأسهم أقل بكثير. ونموذج آخر يقوم على التمويل الذاتي، حيث لا تقوم الشركات بتوزيع أرباحها، بل تستخدم غالبية أرباحها لإعادة الاستثمار، وهو ما قامت به الشركات المملوكة للدولة في الصين على مدار 40 عاماً ماضية. وأيضاً نموذج ثالث تتولى في ظله الدولة نفسها دوراً كبيراً في الاستثمار. وقد أظهرت ماريانا مازوكاتو أنّ الكثير من حالات التقدم التكنولوجي الكبير (لا سيما في مجال تكنولوجيا المعلومات) يعود الفضل فيها للاستثمارات الحكومية، حتى في الولايات المتحدة. لذا، ليس من الصحيح أنّ النظام الرأسمالي يجب أن يعني دوراً مهيمناً لسوق الأسهم. والأغرب هو الاعتقاد بأنّ الرأسمالية ليست نظاماً «طبيعياً»، بل تاريخياً يجب تجاوزه، ثم التعثر في الخطوة الأولى حين يُطرح السؤال عن السبب في وجوب قلق اليسار من أسعار أسهم الأغنياء.

ملاحظة: هذا هو شكل توزيع الدخل من الأصول المالية (بما في ذلك المعاشات التقاعدية الخاصة) في الولايات المتحدة للعام 2022.

59% من الأسر تحصل على أقل من 100 دولار للفرد سنوياً.

المتوسط 22 دولاراً سنوياً (أي أقل من 2 دولار شهرياً). يحصل أعلى 1% على متوسط قدره 122 ألف دولار للفرد سنوياً.

إذاً، حين تقلق بشأن سوق الأسهم، فأنت تقلق بشأن هذا التوزيع بالتحديد. (الأرقام من دراسة لوكسمبورغ للدخل بناءً على مسح السكان الحالي للولايات المتحدة للعام 2022).

توزيع الدخل من الأصول المالية (بما فيها معاشات التقاعدية الخاصة) في الولايات المتحدة للعام 2022

ملاحظة إضافية: ربما كان يجدر بي أن أشير إلى الفرق الواضح والمعروف بين الأصول المالية (الوهمية) والأصول الحقيقية. إنّ «خسارة» الثروة نتيجة انخفاض سوق الأسهم ليست سوى نتيجة لإعادة تقييمنا للتوقعات المستقبلية. لم يتغير أي شيء فعلي؛ إنما تغيرت توقعاتنا وحدها. الآن قارن، مثلاً، خسارة وهمية بقيمة مليار دولار بخسارة حقيقية بقيمة مليار دولار من الأصول المادية: كأن يتسبب زلزال في تدمير منازل. في هذه الحالة الأخيرة، من الواضح وجود تأثيرات ملموسة في الرفاهية: يغدو آلاف الناس بلا مأوى. وهذا فارق كبير.

نُشِر هذا المقال في 14 نيسان/أبريل 2025 على مدوّنة برانكو ميلانوفيتش، وترجِم إلى العربية ونُشِر في موقع «صفر» بموافقة مسبقة منه.

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.