
مخاطر تبنّي اقتصاد السوق الحرّة في سوريا
في إطار مناقشة النموذج الاقتصادي لسوريا بعد الأسد، تبدو السلطات السورية الجديدة ملتزمة بمسار واضح: تبنّي اقتصاد السوق الحر، وإفساح المجال أمام المستثمرين من القطاع الخاص، والتخلّي عن النهج الاشتراكي الذي ساد طوال 54 عاماً من حكم نظام الأسد.
على سبيل المثال، قال الرئيس المؤقت أحمد الشرع إن سوريا عانت من السياسات الاقتصادية الاشتراكية، بينما صرّح وزير التجارة الداخلية بأن البلاد تنوي اعتماد نموذج اقتصادي قائم على «السوق الحرة»، في حين أشار وزير الخارجية خلال مشاركته في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، إلى أن سوريا سوف تتبع نماذج التنمية الاقتصادية المعتمدة في سنغافورة والسعودية. ومع ذلك، فإن هذه التصريحات بعيدة إلى حد كبير من الواقع.
اعتبار الاقتصاد السوري اشتراكياً هو وصف مضلّل. فقد كان النظام الاقتصادي في عهد بشار الأسد مثالاً على رأسمالية المحسوبيات.
لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت تصريحات السلطات المؤقتة مجرد كلام لإرضاء المستثمرين الأجانب، أو جزءاً من محاولاتهم تفكيك إرث النظام، أم أنها جزء من أجندتهم الاقتصادية الحقيقية
لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت تصريحات السلطات المؤقتة مجرد كلام لإرضاء المستثمرين الأجانب، أو جزءاً من محاولاتهم تفكيك إرث النظام، أم أنها جزء من أجندتهم الاقتصادية الحقيقية. ومن الجدير بالذكر، على سبيل المثال، أنه على الرغم من تصريحاتهم عن تبنّي اقتصاد السوق الحرة، اتخذت الحكومة المؤقتة قرارات عدة تشير إلى أنها تدرك مخاطر اعتماد نهج السوق الحرة بالكامل، بما في ذلك الإبقاء على بعض الدعم المالي وتعهّدها إعطاء الأولوية للمستشفيات العامة.
الخرافة الشائعة عن سوريا الاشتراكية
بعد التحرير الاقتصادي في العقد الأول من الألفية، سيطر المستثمرون الخاصون إلى حد كبير على الاقتصاد السوري. باستثناء قطاعي الطاقة والمالية، كانت جميع القطاعات الاقتصادية الرئيسة تحت سيطرة القطاع الخاص بشكل كبير: الزراعة، والصناعة، والبناء، والتجارة الجملة والتجزئة، والسياحة، والنقل الداخلي وغيرها.
حتى في مجال الطاقة، جرت معظم عمليات استخراج النفط والغاز من خلال مشاريع مشتركة مع شركات خاصة أجنبية. وفي العام 2010، كانت دمشق قد أفسحت المجال للاستثمار الخاص في قطاع الكهرباء.
على الرغم من استمرار دور القطاع العام في القطاع المالي، إلا أن سوق دمشق للأوراق المالية افتتح في العام 2009، حين بدأت أكثر من 30 شركة مالية ذات رأس مال أجنبي نشاطها في مجالات البنوك والتأمين والسمسرة.
خفض الدعم تدريجياً في العقدين الأخيرين. وكان لتقليص الدعم على الأسمدة وزيت الغاز في السنوات التي سبقت الانتفاضة تأثيرٌ أكبر على تراجع الإنتاج الزراعي مقارنةً بتأثير الجفاف.
وفي السنوات التي سبقت الانتفاضة، تنازلت الحكومة بشكل متزايد عن سيطرتها على البنية التحتية الأساسية لمصلحة القطاع الخاص، مثل إدارة مينائيها التجاريين، وسعت لجذب مستثمرين من القطاع الخاص لبناء طريقين سريعين استراتيجيين (لم يحصل ذلك أبداً)، يربط الأول الحدود الجنوبية بالشمالية، ويربط الثاني الحدود الغربية بالشرقية.
بلغت ميزانية الدولة في العام 2010 نحو 27% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة مماثلة لما كانت عليه في الأردن الذي لا يُعتبر اقتصاده اشتراكياً.
أدّى القطاع الخاص أيضاً دوراً في قطاع الرعاية الصحّية. في الواقع، تعايشت المستشفيات الخاصة والعامة منذ سبعينيات القرن العشرين. وفي أوائل الألفينات، سمح نظام الأسد للمستشفيات العامة بفرض رسوم منخفضة على بعض الأسرة، وفي العام الماضي، روّج النظام لفكرة خصخصة أكبر للقطاع الصحي بحجة أنه غير قابل للاستدامة. في العام 2022، بلغ عدد الأسرة في المستشفيات العامة 21,681 سريراً مقارنة بـ 11,555 سريراً في المستشفيات الخاصة.
بالطبع، ظلّت الدولة حاضرة بطرق عدّة، مثل تحديد سقف أسعار بعض المنتجات الأساسية بشكل تعسفي، مثل الأدوية، ومع ذلك، ساعدت هذه الاستراتيجية في ضمان توفر الأدوية بأسعار معقولة للسكان ولم تمنع شركات الأدوية الخاصة من الازدهار. غطّت سوريا حصة كبيرة من احتياجاتها من الأدوية بفضل عشرات الشركات الخاصة.
في العام 2022، كان نظام الأسد يناقش إعادة هيكلة نظام الدعم، وفي كانون الثاني/يناير 2023، أعلنت دمشق عن خطة للتحول نحو توزيع المساعدات النقدية المباشرة بدلاً من دعم السلع
كانت الحكومة تدعم إنتاج القمح والخبز والكهرباء والغاز وزيت الوقود وغيرها من المنتجات. وفي العام 2014، قدمت بطاقة ذكية، وهي نظام يسمح للسوريين بشراء كمية محدّدة من السلع المدعومة من تجّار معتمدين.
ومع ذلك، خفض الدعم تدريجياً في العقدين الأخيرين. وكان لتقليص الدعم على الأسمدة وزيت الغاز في السنوات التي سبقت الانتفاضة تأثيرٌ أكبر على تراجع الإنتاج الزراعي مقارنةً بتأثير الجفاف. في العام 2022، كان نظام الأسد يناقش إعادة هيكلة نظام الدعم، وفي كانون الثاني/يناير 2023، أعلنت دمشق عن خطة للتحول نحو توزيع المساعدات النقدية المباشرة بدلاً من دعم السلع.
نماذج يحتذى بها
إن اعتبار سنغافورة والسعودية نماذج اقتصادية ملهمة هو أمر مشكوك فيه أيضاً، فليس لدى سوريا أي من الموارد أو الخصائص التي مكّنت هذين البلدين من تطوير اقتصادهما، وهي ليست دولة مدينة، ولا منتجاً كبيراً للنفط.
يبدو أن المنطق وراء تصريحات المسؤولين السوريين يعكس مزيجاً من الإيديولوجية النيوليبرالية، ومحاولة جذب الاستثمارات الأجنبية التي تشتد الحاجة إليها، ورفض كامل لكل ما كان النظام السوري السابق يدعي الوقوف بجانبه، حتى وإن كان في الواقع يفعل عكس ما يصرح به.
يبدو أن أنصار النموذج الاقتصادي القائم على العرض والطلب مع تدخل حكومي ضئيل يتجاهلون الدروس المستفادة من الأزمة المالية العالمية للعام 2008، فضلاً عن الخصوصيات التي تحكم الاقتصاد السوري. كما أن الكثير من الشخصيات في السلطات السورية الجديدة أو مستشاريهم لم يكن لهم أي دور في رسم السياسات الاقتصادية أو اتخاذ القرارات قبل العام 2011.
المنطق وراء تصريحات المسؤولين السوريين يعكس مزيجاً من الإيديولوجية النيوليبرالية، ومحاولة جذب الاستثمارات الأجنبية التي تشتد الحاجة إليها، ورفض كامل لكل ما كان النظام السوري السابق يدعي الوقوف بجانبه
لا تقدّم الاقتراحات التي تدعو إلى تبنّي سوريا نموذجاً اقتصادياً يقتصر فيه دور الدولة على تقديم الخدمات الاجتماعية (التعليم والصحة بشكل أساسي) بينما تُترك بقية القطاعات للقطاع الخاص أي نفع. تطبّق الكثير من الاقتصادات المتقدّمة تدابير حماية ودعم لكل من المنتجين والمستهلكين من دون أن يثار أي اعتراض على «الطبيعة الحرة» لنموذجها الاقتصادي.
يعد قطاع الزراعة مثالاً جيداً على ذلك، فقد خصّص الاتحاد الأوروبي في ميزانية 2021-2027 مبلغ 378.5 مليار يورو لسياسة الزراعة المشتركة، لضمان دعم دخل عادل للمزارعين. في حال توقّف الدعم بشكل كامل عن المدخلات الزراعية الأساسية، فإن الإنتاج الزراعي في سوريا سوف ينهار، ما سيؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية وزيادة كبيرة في النزوح من الأرياف إلى المدن.
تُعتبر إمكانات سوريا الاقتصادية في حالة مزرية بعد 5 عقود من رأسمالية المحاباة، و13 عاماً من الصراع، وتأثير العقوبات الغربية. مع توافر 4 ساعات فقط من الكهرباء يومياً، والدمار الكبير في البنية التحتية، وافتقارها للعمالة الماهرة، وعملة محلية غير مستقرة، لا يستطيع المنتجون المحليون والمزارعون والتجار أن يتنافسوا مع الأسواق العالمية إذا تحول «تحرير» الاقتصاد إلى إيقاف كامل للتدابير الحمائية وبرامج الدعم.
مع وقوع 90% من السكان تحت خط الفقر، فإن ترك أسعار الخبز والأدوية وغاز الطهي لتتحكم بها آليات السوق سيجعل معظم السوريين غير قادرين على شرائها. وعلى الرغم من التصريحات التي تثير الانتباه عن تبني السوق الحرة ونهاية العصر الاشتراكي، تبدو الحكومة المؤقتة على الأرض مدركة لمخاطر التحرير الكامل للاقتصاد. على سبيل المثال، على الرغم من وجود خطة لإلغاء دعم الخبز، إلا أن الدعم قد خفّض حتى الآن (ما أدى إلى زيادة سعر ربطة الخبز من 400 ليرة سورية إلى 4,000 ليرة سورية)، ولكن لم يلغَ بشكل كامل.
مع وقوع 90% من السكان تحت خط الفقر، فإن ترك أسعار الخبز والأدوية وغاز الطهي لتتحكم بها آليات السوق سيجعل معظم السوريين غير قادرين على شرائها
أفاد وزير الكهرباء المؤقت بأنه لن يستطيع رفع أسعار الكهرباء حتى تتحسّن الرواتب. ومن جانبه، أوضح مسؤول في وزارة الصحة أن الخطة هي دعم المستشفيات العامة أولاً، لأن عدداً قليلاً من السوريين يستطيعون تحمل أسعار المستشفيات الخاصة المرتفعة.
ماذا الآن
يجب إعادة التفكير في الكثير من السياسات الاقتصادية الماضية لسوريا. فقد أدّى الدعم، خصوصاً في قطاع الطاقة، إلى خسائر هائلة وتهريب إلى الدول المجاورة. وكانت البيروقراطية والفساد عائقين كبيرين أمام الاستثمارات الخاصة. كما يجب التساؤل بجديّة عن ضرورة امتلاك الدولة للمصانع التي تنتج على سبيل المثال البسكويت أو الملابس على سبيل المثال.
لكن، بدلاً من إضاعة الوقت في محاولة إظهار للعالم أنهم قادرون على تبنّي أكثر السياسات ليبرالية، يجب على السلطات السورية الجديدة التركيز على أولوية واحدة طويلة الأمد: رفع مستوى الإنتاج المحلي في كافة القطاعات الاقتصادية.
لن يكون هناك إيرادات كافية لزيادة الدخل المالي إلا من خلال زيادة الإنتاج الاقتصادي، ما سيساعد في تمويل استثمارات إضافية وتحسين رفاهية المجتمع. يجب أن تكون جميع السياسات، سواء كانت مالية أو تجارية أو نقدية، موجّهة نحو هذا الهدف.
يتطلب الأمر المزيد من الاستثمارات من المستثمرين المحليين والمغتربين والأجانب، ولكن أيضاً من الدولة. وفي الواقع، في البيئة السياسية والاقتصادية الحالية، لن يكون هناك من يستطيع أن يستثمر في البنية التحتية بتكاليف معقولة أو دعم القطاعات الاستراتيجية مثل الزراعة سوى الدولة. باستثناء الحالات التي يمكن فيها للمستثمرين الأجانب أن يقدّموا قيمة مضافة حقيقية، مثل مجال الهندسة، يجب الحدّ من الاستثمار الأجنبي في البنية التحتية، وإلا سوف تكون التكاليف على المستهلكين غير محتملة.
لن يكون هناك إيرادات كافية لزيادة الدخل المالي إلا من خلال زيادة الإنتاج الاقتصادي، ما سيساعد في تمويل استثمارات إضافية وتحسين رفاهية المجتمع
سيتطلب دعم الإنتاج المحلي، على سبيل المثال، فرض بعض الرسوم الجمركية على السلع الاستهلاكية، لتوفير مستوى حماية معقول من المنافسين الأجانب وتوليد إيرادات مالية، بالإضافة إلى توفير مدخلات إنتاج تنافسية من خلال تخفيض الرسوم الجمركية على المدخلات وتكاليف الطاقة المنخفضة. كما يعني ذلك الاستمرار في استثمار الأموال في الزراعة: زيادة الإنتاج الزراعي يعني أسعاراً أقل للمستهلكين، وظروفاً اقتصادية أفضل في المناطق الريفية وبالتالي تقليل الهجرة الريفية إلى المدن.
سيسهم الاستثمار في البنية التحتية وحماية المنتجين المحليين جزئياً من المنافسة الخارجية في إعطاء فرصة تنفس للشركات المحلية.
تحتاج الحكومة إلى تحقيق توازن بين فتح البلاد للاستثمار الضروري، وحماية الموارد الطبيعية السورية التي تعد هدفاً سهلاً للمستثمرين الجشعين الذين قد يستغلون الوضع الاقتصادي المدمر.
يعتبر التخلص من الممارسات الفاسدة والبيروقراطية والمحاباة خطوة إيجابية نحو تحسين بيئة الأعمال للمستثمرين. تعمل السلطات المؤقتة على مصادرة حصص المقربين من النظام في مجموعة واسعة من الشركات، ولكن يجب أن تكون حذرة من أن يستبدل مقربي الأسد بمقربي هيئة تحرير الشام.
وأخيراً، بينما تعلن الحكومة عن مجموعة من القرارات وتعين أشخاصاً في المؤسسات بسرعة، عليها أن تتذكر أن دورها كحكومة مؤقتة هو الحفاظ على استمرارية العمل، وأنها لا تملك الشرعية لتولي الحكم كما لو كانت حكومة منتخبة.
نُشِر هذا المقال في The Syria Report في 18/02/2025، وتُرجِم إلى العربية ونُشِر في موقع «صفر» بموافقة من الناشر.