
الاستعمار المالي لفلسطين: 6 سرديات خاطئة
غالباً ما يتم تناول موضوع التطهير العرقي في فلسطين، والنكبة في العام 1948، من زاوية المجازر وعمليات الطرد التي تعرّض لها الفلسطينيون. على الرغم من صحّة هذا الجانب، غالباً ما يتم إغفال البعد المالي للنكبة، ولا يتم ترويجه بين الناس من قبل الإعلام والناشطين والانتلجنسيا. من هنا، ألقى هشام صفي الدين، رئيس كرسي كندا للأبحاث والأستاذ المشارك في جامعة بريتيش كولومبيا، محاضرة بعنوان «الاستعمار المالي لفلسطين» في الجامعة الأميركية في بيروت. تحاول هذه المحاضرة سدّ هذا الفراغ، ومعالجة التصوّرات والسرديات الخاطئة، التي ينشأ الكثير منها عن تجاهل البعد المالي للاستعمار الصهيوني.
تاريخياً، امتلكت الحركة الصهيونية استراتيجية اقتصادية ومالية لاستعمار فلسطين، قامت على تأسيس شركات وتكتلات اقتصادية، والاستحواذ على الأراضي الأكثر خصوبة في البلاد، واعتمدت على جماعات الضغط لاستمالة السلطات البريطانية من أجل احتكار الاستثمار والتمويل والإقراض والسيطرة التامة على عملية بناء الاقتصاد، وسعت جاهدة لحصر العمل بالعمّال اليهود من دون العرب، وانتهت بسلب الفلسطينيين حساباتهم المصرفية وسنداتهم وأسهمهم ومعاشاتهم ورواتبهم وحتى صناديق الأمانات الخاصة بهم. يضع صفي الدين تاريخ الاستعمار الصهيوني لفلسطين ضمن سياق تاريخ الاستعمار الأوروبي عموماً. لم يكن الاستعمار الأوروبي عملية عشوائية لنهب ثروات وخيرات شعوب الأرض الأصليين، بل كان استيلاءً ممنهجاً يديره رأس المال الخاص بأدواته المالية المتعدّدة، وبإدارة وتفويض من الدولة القومية الأم. ولكن تميّز الاستعمار الصهيوني عنه بأنه لم يحظَ بمركز حضري يمكن تسميته «دولة قومية» بالمعنى التقليدي، بل اعتمد على الدعم السياسي من القوى الإمبريالية بشكل أساسي.
1. لم تكن فلسطين الخيار الوحيد للأثرياء اليهود
يعتبر هرتزل الأب المؤسس للصهيونية. وقد أدرك منذ البداية أن حلمه بتحويل فكرة الدولة اليهودية إلى واقع واستعمار فلسطين الاستيطاني هو مشروع اقتصادي بقدر ما هو سياسي، لذا فقد احتاج إلى خطة اقتصادية سليمة. علّق هرتزل آمالًا كبيرة على أن يقوم الأثرياء اليهود الأوروبيون بتمويل فكرته، وحاول الاتصال بالكثير منهم، أبرزهم إدموند دي روتشيلد وموريس دي هيرش.
جمع دي هيرش، الأرستقراطي العالمي، ثروته من خلال تمويل السكك الحديدية. وفي العام 1869، حصل دي هيرش على امتياز لبناء 2000 كيلومتر من السكك الحديدية، تربط القسطنطينية وسالونيك بشبكة السكك الحديدية في وسط أوروبا. موّل دي هيرش مستعمرات يهودية، لكنه لم يكن ملتزماً بشكل خاص بالقيام بذلك في فلسطين، فقد انطلقت جهوده من أولويته في إيجاد حل لمشكلة الفقر اليهودي بطريقة خيرية، وكان مشروعه الأكثر طموحاً في الأرجنتين، لكنه باء بالفشل.
كان روتشيلد استثناءً أكثر منه قاعدة بين يهود أوروبا الأثرياء الذين أبدوا حماسة كبيرة لمشروع هرتزل، لذا سرعان ما خاب أمل الأخير في البرجوازية اليهودية العليا، وبدأ يركز على الطبقتين الوسطى والعاملة، وسعى إلى تسخير رأس المال على نطاق واسع عبر أدوات مالية مستقرة
في المقابل، كان البارون إدموند دي روتشيلد صهيونياً متحمّساً، وأيّد الاستيطان الصهيوني في فلسطين منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، وكان أحد أبرز رأسماليي أوروبا الذين رعوا حركة الكيبوتسات/موشافيم، ما يكشف زيف وصف حركة الكيبوتس بأنها اشتراكية. لاحقاً، سيصبح روتشيلد بطلاً إسرائيلياً وسيُنقش اسمه على العملة الإسرائيلية.
كان روتشيلد استثناءً أكثر منه قاعدة بين يهود أوروبا الأثرياء الذين أبدوا حماسة كبيرة لمشروع هرتزل، لذا سرعان ما خاب أمل الأخير في البرجوازية اليهودية العليا، وبدأ يركز على الطبقتين الوسطى والعاملة، وسعى إلى تسخير رأس المال على نطاق واسع عبر أدوات مالية مستقرة. تماشياً مع هذا النهج، ركّزت المنظمة الصهيونية العالمية على إنشاء مؤسسات مالية تابعة لها لإنجاز المهمة الاستعمارية.
2 - هل باع الفلسطينيون أرضهم؟
يُعد الصندوق القومي اليهودي أهم مؤسسة مالية ارتبطت بمشروع الاستيطان الاستعماري الصهيوني في فلسطين. أنشِئ الصندوق للمرة الأولى في العام 1901 من قبل المنظمة الصهيونية العالمية، ثم سُجّل لاحقاً في إنكلترا في العام 1907، وكان هدفه الرئيس شراء الأراضي في فلسطين ليتملكها اليهود ويستخدموها بشكل حصري.
في العام 1948، جرى تسليم قسم كبير من الأراضي الفلسطينية المصادرة إلى الصندوق القومي اليهودي بدلاً من الدولة الناشئة، وذلك خشية توزيعها «بشكل عادل» على المواطنين. وبعد النكبة، تحوّل الصندوق القومي اليهودي من شركة بريطانية إلى شركة إسرائيلية، ليصبح أكبر جهة غير حكومية مالكة للأراضي.
على الرغم من كل الجهود الصهيونية لشراء الأراضي، وعلى الرغم من أن ذلك تم بتواطؤ الكثير من العائلات العربية البارزة من بين البورجوازية العقارية في بلاد الشام، إلا أنه تم بيع أقل من 10% من فلسطين
على الرغم من كل الجهود الصهيونية لشراء الأراضي، وعلى الرغم من أن ذلك تم بتواطؤ الكثير من العائلات العربية البارزة من بين البورجوازية العقارية في بلاد الشام، إلا أنه تم بيع أقل من 10% من فلسطين، فيما تم الاستيلاء على غالبيتها عن طريق الحرب العنيفة، ما يخالف السردية الكاذبة التي تقول بأن الفلسطينيين لم يُطردوا من أرضهم بل باعوها بإرادتهم.
3- لم يجعلوا الصحراء تزدهر بل اشتروا الأراضي الخصبة
يتباهى الصهاينة المعاصرون بتحويلهم فلسطين من صحراء إلى جنة خضراء. وعند تصفح موقع الصندوق القومي اليهودي، يسترعي انتباه الزائر المشاريع التي قام بها، كغرس الأشجار وحماية الحدائق الوطنية. لكن ما يُغفل ذكره هو أن الكثير من هذه الحدائق والأشجار تغطّي بقايا قرى فلسطينية دُمّرت وطُهّرت عرقياً في خلال حرب 1948، وأن الهدف من هذه المشاريع هو طمس آثارها بالكامل.
في السنوات الثلاثين الأولى من وجوده، تركز معظم الأراضي التي اشتراها الصندوق القومي اليهودي في الأجزاء الوسطى والشمالية من فلسطين، وهي أكثر مناطق فلسطين خصوبة. وقد أدّت مسألة خصوبة التربة وتوفر مصادر المياه العذبة دوراً حاسماً في تحديد نمط الاستيطان وتشكيل التصوّر الاستعماري الصهيوني لحدود فلسطين وطبيعة أراضيها. ويتجلّى ذلك بوضوح في الحدود الشمالية التي اقترحها وايزمان - رئيس المنظمة الصهيونية وأول رئيس لإسرائيل لاحقاً - في خلال مؤتمر باريس في العام 1919، والتي امتدت حتى صيدا.
تركز معظم الأراضي التي اشتراها الصندوق القومي اليهودي في الأجزاء الوسطى والشمالية من فلسطين، وهي أكثر مناطق فلسطين خصوبة. وقد أدّت مسألة خصوبة التربة وتوفر مصادر المياه العذبة دوراً حاسماً في تحديد نمط الاستيطان
في الفترة التي سبقت النكبة، أنشأ رئيس قسم الاستيطان في الصندوق القومي اليهودي، يوسف فايتس، لجنة نقل السكان أو «الترانسفير» وهي كلمة ملطّفة للتطهير العرقي. وضعت اللجنة قوائم تفصيلية للقرى العربية. وأرفقت بهذه القوائم خرائط اجتماعية طوبوغرافية للقرى. أظهرت هذه الخرائط الموقع الدقيق لكل قرية وطرق الوصول إليها وينابيع المياه فيها، وبيانات عن مصادر دخل السكان، وأنواع الزراعة والثروة الحيوانية التي يمارسها القرويون، وتكوين الأراضي الزراعية، وبيانات اجتماعية واقتصادية عن القرية وسكانها، بما في ذلك الانتماء السياسي.
4 - العرب الكسالى واليهود الكادحون؟
تضمنت رواية «الصحراء التي أصبحت جنة» تصوير العرب ككسالى تم استبدالهم بيهود أكثر نشاطاً. في الحقيقة، كان لا بد أن يقترن الاستيلاء على الأرض بما أسماه الصهاينة «غزو العمل». وإذا كان الهدف النهائي للصهيونية هو إزاحة السكان الأصليين غير اليهود من أرض فلسطين واستبدالهم بمستوطنين صهاينة، كان على هؤلاء الأخيرين أن يحلّوا محل العرب كعمّال.
كان لا بد أن يقترن الاستيلاء على الأرض بما أسماه الصهاينة «غزو العمل». وإذا كان الهدف النهائي للصهيونية هو إزاحة السكان الأصليين غير اليهود من أرض فلسطين واستبدالهم بمستوطنين صهاينة، كان على هؤلاء الأخيرين أن يحلّوا محل العرب كعمّال
لم يكن هذا بالأمر السهل، حيث لم يكن معظم المستوطنين اليهود مزارعين. حاول المفكرون الصهاينة - بمن فيهم بير بوروشوف المنتمي إلى تيار ما يسمّى بـ «الصهيونية العمّالية» - التنظير حول كيفية تحويل اليهود الأوروبيين الشرقيين من بورجوازيين صغار أو بروليتاريا رثة - إلى فلاحين ومزارعين في فلسطين المحتلة..
بالتزامن مع ذلك، سعى الاتحاد العمّالي الأكبر في الصهيونية، الهستدروت، إلى استبعاد العمالة العربية الرخيصة بدلاً من استغلالها، حتى عندما كانت الأخيرة أكثر فائدة اقتصادية. وفي بعض الحالات، هدّد بالقوة المزارعين اليهود الذين كانوا يشغلون عرباً.
5- قبل اللوبي الصهيوني الأميركي كان هناك اللوبي الصهيوني البريطاني
عندما يُذكر اللوبي الصهيوني، غالباً ما يتبادر إلى أذهاننا اللوبي الصهيوني في الولايات المتّحدة، لكن لا بدّ أن نتذكّر الضغط الذي مارسه القطاع الخاص الصهيوني من أجل احتكار الاستثمار في البنية التحتية وتمويل المشاريع التجارية والصناعية في فلسطين في خلال فترة الانتداب البريطاني، ويُعد المجلس الاقتصادي الأنغلو-يهودي لفلسطين مثالاً بارزاً على ذلك.
أصبح المجلس الاقتصادي الأنغلو-يهودي أيضاً المصدر الرئيس لدعم صناعة الماس التي تشكلت حديثاً في فلسطين المحتلة وتطورت في خلال الحرب العالمية الثانية. وأصبحت هذه الصناعة ثاني أكبر قطاع تصديري بعد الحمضيات
عمل المجلس الاقتصادي الأنغلو-يهودي لفلسطين من العام 1920 حتى العام 1954. وكان يرأسه في الأصل السير ألفريد موند الذي شغل منصب المفوّض الأول للأشغال في حكومة لويد جورج البريطانية وورث تكتلاً ناجحاً للنيكل والكيماويات. وكان من بين الشخصيتين البارزتين الأخريين روبرت والي كوهين، المدير التنفيذي لشركة رويال داتش شل، بالإضافة إلى كبير المموّلين جيمس دي روتشيلد. ضمّت لجنة الادارة برنارد بارون، رئيس مجلس إدارة شركة كاريرز للتبغ، وهوغو هيرست، مؤسّس ورئيس مجلس إدارة شركة جنرال إلكتريك في بريطانيا. ويكفي أن نذكر أن هربرت صموئيل، المندوب السامي البريطاني في فلسطين، كان من بين اللجنة الاستشارية التي أنشأت المجلس الاقتصادي الأنجلو-يهودي لفلسطين.
مارس المجلس الاقتصادي الأنغلو-يهودي ضغوطاً على الحكومة البريطانية لعدم منح امتيازات لأي منظمات أو مؤسسات أو أفراد لا يندرجون تحت رعاية المنظمة الصهيونية. وقد اعترض بعض الإمبرياليين البريطانيين على ذلك بشدة، ليس لأنهم كانوا يهتمون بالفلسطينيين، بل لأنهم أرادوا حصة من الكعكة الاستعمارية.
في خلال السنوات الأولى من عمله، فضّل المجلس الاقتصادي الأنغلو-يهودي التركيز على الاستثمارات بدلًا من الائتمان، لكنه سرعان ما أدرك الحاجة الملحة للعمل في هذا المجال أيضاً. وكما تكتب ليلاك باراك، أصبح المجلس الاقتصادي الأنغلو-يهودي أيضاً المصدر الرئيس لدعم صناعة الماس التي تشكلت حديثاً في فلسطين المحتلة وتطورت في خلال الحرب العالمية الثانية. وأصبحت هذه الصناعة ثاني أكبر قطاع تصديري بعد الحمضيات. أيضاً، تعاون المجلس مع حكومة الانتداب البريطاني، وجمعية الاستعمار في فلسطين، والمجلس الاقتصادي لفلسطين لإنشاء بنك الرهونات الزراعية وتعزيز تطوير المنطقة الصناعية في خليج حيفا، بالإضافة إلى الكثير من المبادرات الأخرى.
بعد قيام دولة إسرائيل فقط، سعى الصهاينة إلى التنصل من أي صلات بالاستعمار أو الاعتراف بفلسطين وذلك بعد أن اتخذ الاستعمار دلالات سلبية في الخطاب الفكري العام
يكشف هيكل المجلس الاقتصادي الأنغلو-يهودي لفلسطين ورأسماله وشبكة المحسوبية التابعة له عن سمة بارزة في التمويل الاستعماري الصهيوني: الدور الجوهري لرأس المال الغربي والرعاية السياسية الغربية، ومن دونهما لم يكن إنشاء وصيانة دولة يهودية في فلسطين ممكناً.
6 - لم تنكر الحركة الصهيونية استعمارها لفلسطين في البداية
بعد قيام دولة إسرائيل فقط، سعى الصهاينة إلى التنصل من أي صلات بالاستعمار أو الاعتراف بفلسطين وذلك بعد أن اتخذ الاستعمار دلالات سلبية في الخطاب الفكري العام. وإذا ألقينا نظرة على قائمة الأدوات المالية الصهيونية التي ساعدتهم في تنفيذ عملياتهم الاستيطانية، نجد جمعية الاستعمار اليهودي في فلسطين، والبنك الانكليزي الفلسطيني، والشركة الإنكليزية الفلسطينية، والمجلس الاقتصادي الأنغلو-يهودي لفلسطين The، ومجلس فلسطين الاقتصادي، والمجلس الاقتصادي لفلسطين، ومؤسسة فلسطين الاقتصادية، ومجلس فلسطين التنموي. كما ترون، كانت كلمتا «استعمار» و«فلسطين» مكتوبتين بوضوح على أسماء هذه المنظمات.