Preview تفكيك الاستعمار في فلسطين

تفكيك البنى الاستعماريّة: تخيّلات مستقبليّة من خلال فلسطين

نظّم المجلس العربي للعلوم الاجتماعية حلقة نقاشية بعنوان «تفكيك البنى الاستعماريّة: تخيّلات مستقبليّة من خلال فلسطين» ضمن سلسلة  نقاشات «التفكير النقدي مع فلسطين»، تحدّث فيها الأستاذ المشارك للدراسات العربية المعاصرة في جامعة ديوك فادي بردويل، وأستاذة الأدب الإنكليزي والمقارن في جامعة القاهرة هدى الصدّة، وأدار النقاش أستاذ علم الاجتماع في جامعة بيتسبرغ محمد بامية. 

هدى الصدّة

أستاذة الأدب الإنكليزي والمقارن في جامعة القاهرة

يعدّ مشروع تفكيك البنى الاستعمارية مشروعاً قديماً وجديداً ومُتجدّداً، إنه نتاج تراكم معرفي قيّم بدأ مع بداية العقود الأخيرة من القرن العشرين، وساهمت فيه أسماء لامعة مثل إدوارد سعيد، وفرانز فانون، وسمير أمين، وغيرهم، ما يجعل من الصعب رصد تطور هذا المشروع تفصيلياً بإرهاصاته  وتمثلاته كافة. مع ذلك، يمكن القول أنه في الحدّ الأدنى مشروع تحرّري في الأساس على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي والمعرفي، فهو يسائل مراكز القوى المعرفية، ويسعى إلى تفكيك الهيمنة الغربية على مجالات إنتاج المعرفة، ويبحث عن المعارف المهمّشة والتجارب المسكوت عنها باحترامه التنوّع والاختلاف بين سكّان العالم.

يفسح هذا المشروع المجال لذوات وجماعات وثقافات أخرى لتشارك في التنظير وإنتاج المفاهيم، ويتقاطع بهذه العملية مع مشاريع أخرى، أسوة بالمشروع النسوي على سبيل المثال، ويسعى إلى تفكيك الأبوية وتجلّياتها المتعدّدة، مثل الأبوية السياسية والأنظمة السياسية المُستبدة التي تدعم الممارسات والأفكار والقوانين التمييزية ضد النساء والأقليات والمهاجرين والفئات المُهمّشة.

بعض المفاهيم التي يُدّعى أنها نسوية، توظّف في خدمة الاستعمار، عبر خلق تصوّرات مغلوطة عن الشعوب المستعمرة بالتماهي مع المقاربات التي ما بات يطلق عليها النسوية الإمبريالية

في عالمنا العربي، أعادت الثورات في العقد الماضي الروح إلى مشروع تفكيك البنى الاستعمارية، وضخّت زخماً وإنتاجاً فكرياً ثرياً للغاية يمكن المراكمة عليه، واشتبكت بالتالي مع مفاهيم وخطابات غربية تسيّدت وأصبحت مُهيمنة  في وسائل الإعلام والدوريات والمجلّات الدولية المتخصّصة في العلوم الاجتماعية والإنسانية.

من هنا، يطرح السؤال التالي: ما تأثير الحرب الجارية على غزّة على مستقبل هذا المشروع؟

تجدر الإشارة، بداية، إلى شعور عارم بالصدمة لدى الجميع من تبرير المجازر والجرائم التي ترتكب من بعض الدول والمؤسّسات الغربية الداعية إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان، متجاوزة القوانين الدولية وكيلها بمكيالين فيما يتعلق بجرائم الحرب وممارستها الانتقائية في تطبيق مبادئها. ويجبرنا هذا الواقع على مراجعة أرضيات ومواقف كثيرة، ويجعل مشروع تفكيك البنى الاستعمارية أكثر إلحاحاً على المستوى المعرفي. ويمكن مناقشة مسألتين:

أولاً، من المهم إجراء مراجعة نقدية لمفاهيم عدّة وإعادة النظر في بعض الفرضيات. يشار هنا، على سبيل المثال، إلى مقال منشور في العام 2023 تحدّثت فيه ريتا جاكمان، عن الاحتلال المركّب الذي يعاني منه الفلسطينيون أي الاحتلال الإسرائيلي، واحتلال آخر تمارسه سيادة المفاهيم النيوليبرالية. 

وفي هذا السياق، يمكن التطرّق إلى مفهوم نيوليبرالي بامتياز، وهو الـ «resilience» بالإنكليزية. دخل هذا المفهوم إلي القاموس التنموي، واستقرّ، وأصبح من أهداف التنمية ومن مؤشرات نجاح المشروعات التنموية. يحتوي هذا المفهوم على دلالات واستخدامات متعدّدة في مجالات مختلفة، مثل العلوم السياسية والتخطيط العمراني وعلم الاجتماع البيئة والدراسات التنموية. وهو يعني قدرة الفرد على التأقلم مع أوضاع صعبة أو قاسية أو غير عادلة، سواء كانت أوضاعاً سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، بمعنى أنه يضع مسؤولية التعامل مع الصعاب على كاهل الفرد، بحيث تصبح قدرته  على الاستمرار وتجاوز الأزمات أو الكوارث مؤشّراً للنجاح، ما يجعله منافٍ للعمل الجماعي، بل ومناقضاً للمقاومة بنزعه الشقّ السياسي عن فعل التغيير، على اعتبار أنه غير معني بتغيير البيئة المناوئة. 

إذا استخدمنا محرّك غوغل لترجمة «resilience» إلى العربية، فأول ما يظهر لنا هو مصطلح «الصمود». وهذه الترجمة أصبحت شائعة، ويستخدمها كثيرون، خصوصاً في الأوساط التنموية، في حين أن الكلمة الانكليزية تعني عكس «الصمود» بحسب الترجمة العربية. المصطلح العربي يحتوي على معنى سياسي، ويفيد فعلاً جماعياً مقاوماً، ويرتبط في المخيلة العربية بالقضية الفلسطينية، أما كلمة resilience فهي كلمة نيوليبرالية بامتياز تدّعي الفعل السياسي.

ثانياً، يجب الخوض في مراجعات مفاهمية متعلّقة بالحقل النسوي، ويجدر الفحص عن ما إن كانت بعض المفاهيم التي يُدّعى أنها نسوية، توظّف في خدمة الاستعمار، عبر خلق تصوّرات مغلوطة عن الشعوب المستعمرة بالتماهي مع المقاربات التي ما بات يطلق عليها النسوية الإمبريالية. يذكر هنا الحديث الإذاعي الشهير الذي أدلت به نورا بوش، زوجة الرئيس الأميركي جورج بوش الثاني، حين برّرت غزو أفغانستان بإنقاذ النساء الأفغانيات، أو مثالاً آخر حديث هو تهجّم مذيعة بريطانية على الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية مصطفى البرغوثي، واتهامه بمقاطعتها وإسكاتها كفعل ذكوري في حين أنها هي التي كانت تقاطعه وتسكته، مضيفة أن البرغوثي غير مُعتاد على الاستماع إلى نساء، ملمّحة إلى فرضية كولونيالية عن رجال المجتمعات العربية، تجعل نساء هذه المجتمعات ضحايا كل الرجال المتسمين بالعنف. أيضاً، ينعكس هذا في السياق السياسي والإعلامي في ما يتعلّق بالحرب على غزة، حيث يكرّس بروباغندا صهيونية تروِّج إلى أن كل الرجال في فلسطين هم إمّا أرهابيين أو مشاريع إرهابية محتملة. من هنا، لا يمكن لنا كنسويات أن نتحدّث عن العنف ضد النساء في المجتمعات العربية في سياق يتغاضى عن بشاعة العنف الذي يمارسه الاحتلال، ولا يميز بين النساء والرجال.

في النهاية، لا بد من السؤال من أين تأتي الأفكار الجديدة والمفاهيم النابعة من أسئلة الواقع المعاش؟ الحرب على غزة تدفعنا إلى مراجعة بعض الفرضيات عن عملنا كباحثين وباحثات، أسوة بالفرضية التي تقول إن الجامعات هي الحصن الأول والأخير لحرية الفكر، والمكان الذي يصون الحريات الأكاديمية، ويوفّر الحماية للباحثين والباحثات. فقد شاهدنا مؤخراً المواقف المخزية لجامعات عريقة في قمع حرّية تعبير المجموعات المتضامنة مع فلسطين والتمييز ضدهم. وربّما يصحّ هنا البدء من مسألة التمييز المبني على مفاضلة بين البحث الأكاديمي والبحث الناشطي، وهو التمييز الذي يثمن البحث الأكاديمي ويضعه في مرتبة أعلى من من حيث القيمة والأهمية. 

 

فادي بردويل

أستاذ مشارك للدراسات العربيّة المعاصرة في جامعة ديوك

الآن وأكثر من أي وقت مضى، تعدُ فلسطين عالمية، ليس لأن فلسطين قضية إنسانية تمسّ عدالتها أشخاصاً لا تجمعهم بها أي رابطة قومية أو دينية، وإنّما لأننا نشهد اليوم مع اشتداد العنف الإسرائيلي الشامل، تبلور أشكال مختلفة من التضامن دولياً، بالتزامن مع محاولات مركّزة لإسكاتها وتجريمها، فضلاً عن دعوات لإقصاء فلسطين عن كلّ ما يتعلّق بأجندات نزع الاستعمار التي صعد نجمها في السنوات الاخيرة. وكلّما ضعفت الهيمنة الثقافية للرواية الصهيونية وبانت الشكوك في دعايتها ستزداد محاولات القمع وتشويه السمعة وتجريم التضامن مع فلسطين كمحاولة للتعويض عن خسارة الهيمنة.

لابد من وضع ملاحظات أولية بشأن التحوّلات الطارئة على الأطر المعرفية التي عُقلت من خلالها فلسطين، مع انتقالنا من زمن ثورات التحرّر الوطني ضدّ الاستعمار، وحركة التحرّر الفلسطينية كانت جزءاً منها في ستينيات القرن الماضي، إلى يومنا هذا، بعد أكثر من عقدٍ على الموجة الأولى من الثورات العربية على أنظمة ما بعد الاستعمار. ومن خلالها يمكن تسليط الضوء على عالمية قضية فلسطين وتحوّلاتها.

كتب الصحافي اللبناني الراحل جوزيف سماحة منذ ما يقارب الثلاثة عقود بعيد «اتفاقات أوسلو» في كتابه «سلام عابر نحو حل عربي: المسألة اليهودية 1994» أنه «بعد كلّ هزيمة كان تراجع المطلب الفلسطيني يؤشّر إلى تراجع المطلب القومي العام». والمطلب القومي في لغة سماحة المقتضبة هو مشروع النهضة العربية بما هو محاولة الأمة الخروج من آثار التبعية والتخلّف. فالموقف من فلسطين يشكّل، وفق سماحة، «ميزان حرارة» التقدّم الحضاري أو الانحطاط العربي.

نشهد مع إحياء المسألة الأصلانية في دول مختلفة تحوّلاً في فهم القضية الفلسطينية وبلورتها ضمن هذا السياق. وما يظهره ذلك هو أن الاستعمار الاستطياني وماضي العبودية لم يمضيا فعلاً، فالماضي القديم له استمراريته في الحاضر

وقبل ذلك، بُعيد هزيمة العام 1967، تكلّم غسّان كنفاني في مداخلة بعنوان «أفكار عن التغيير واللغة العمياء» في دار الندوة في بيروت في آذار/مارس 1968، عن «الجسد العربي والإنسان العربي»، أمّا «القارة العربية»، مثلما سمّاها، فحقّقت «في خلال ربع القرن الذي سارت خلاله إلى العصر الحديث واحدة من معجزات التطوّر في التاريخ، فوق أرضٍ من وحول التخلّف المظلم امتدّت في حياتها أكثر من 500 سنة».

تنتمي تلك النصوص إلى منظومة معرفية ـ سياسية تضع فلسطين في قلب مشروع تحرّري عربي يسعى إلى تصفية آثار ماضٍ من التجزئة والتبعية للاستعمار. وهناك أسباب عدة لأفول تلك المنظومة المعرفية - السياسية التي وضعت فلسطين في قلبها. إلّا أن ما انهار أيضاً هو عالم معرفي كامل مبني على نظرة تقدّمية للتاريخ قامت مشاريع النهضة  على أسسها. فالانتقال من الظلام إلى النور، ومن الخرافة إلى العلم، ومن البنى المُفوّتة إلى الحداثة بتعبيرات ياسين الحافظ أساسه الاقتناع أن العمل السياسي في الحاضر يمحو ماضياً بغيضاً ويؤسّس لمستقبل زاهر.

إن بؤس المعسكر الاشتراكي، وانهيار الأنظمة الاستبدادية، والحروب الأهلية التي مزّقت المجتمعات المتحرّرة من الاستعمار، وصعود الشعبويات اليمينية في العالم والارتداد على مكتسبات دولة الرعاية الاجتماعية مع صعود النيوليبرالية، وربّما الكوارث البيئية المحدقة المترافقة مع خطابات أخروية، ساهمت كلّها بطي الإيمان بحتمية تقدّم البشرية نحو مستقبل أفضل، ومن ارتدادات ذلك الانهيار الكبير يأتي طي مفاهيم أساسية في العمل السياسي وأسس التضامن العالمي، مثل الطليعة المتقدّمة والمراحل التاريخية وحرقها، والنموذج الثوري، إلخ…

وعلى نحو أوسع بإمكاننا الاتكاء على المؤرّخ الإيطالي إنزو ترافرسو لفهم الثورة عالمياً. ففي الستينيات والسبعينيات، نُظِر إليها على أنها ضدّ الاستعمار والإمبريالية في العالم الثالث، وضدّ البيروقراطية في العالم الثاني، وضدّ الاستغلال الرأسمالي في العالم الأول، وكانت حركة التحرّر الفلسطينية بطبيعة الحال جزء من كوكبة ثورات العالم الثالث مثل فيتنام والجزائر. وهنا، يمكن استحضار ملاحظة للمخرج الياباني ماساو أداتشي، الذي انضم إلى الجيش الأحمر الياباني، عندما سُئِل في فيلم إريك بودلير عن سبب التحاقه بالثورة الفلسطينية، فقال: «في زمني كان هناك فيتنام وفلسطين، وأنا اخترت فلسطين». وكذلك استحضار الكلمات الافتتاحية لياسر عرفات في «المعرض الفني العالمي من أجل فلسطين» الذي نظّمته «منظّمة التحرير» في آذار/ مارس 1978 في بيروت، عن كون هذه الثورة ليست نضال فلسطين والأمة العربية فقط، بل هي نضال كلّ أحرار العالم».

نشهد في السنوات الأخيرة، في آنٍ واحدٍ، عودة إلى جذر مسألة الاستعمار الاستطياني وإعادة صياغة تلك المسألة مع توسّعها زمنياً ومكانياً بعد زوال الإطار التاريخاني، والذي على أساسه حُكم الاختلاف ما بين المجتمعات. فبعض التطوّرات الاقتصادية العالمية التي طرأت، حافظت على الفرق بين الشمال والجنوب، إلّا أنها أنشأت جيوباً للمركز في الأطراف ومناطق مهمّشة أشبه بالأطراف في المراكز. ومن إشارات العودة إلى جذر المسألة وبلورة مخيال مختلف هو التخلّي عن مصطلحات ثنائية البعد كمصطلح صراع وأزمة وسلام وحل وتسوية ومسار سلمي وصفقة، ومن ثمّ العودة إلى المصدر، ولا يحصر هذا في الأدبيات الأكاديمية التي تتحدّث عن الاستعمار الاستيطاني والأبرتهايد، والتطهير العرقي. 

تتجلّى ديمومة فلسطين كجرحٍ نازفٍ يرفض تطبيع الاستعمار، ونقلها من كونها مسألة الأكثريات في البلدان المستعمرة في الستينيات في الجزائر وفيتنام على سبيل المثال إلى مسألة الأقليات في البلدان التي استعمرت. فانطلق ثالوث الاستخراج الرأسمالي، والعنصرية، والاستعمار هذه المرّة إلى  قلب المركز وأقلياته العرقية والأصلانية وإلى دول الاستعمار.

حالياً، نشهد مع إحياء المسألة الأصلانية في دول مختلفة مثل أميركا اللاتينية والولايات المتحدة وأستراليا تحوّلاً في فهم القضية الفلسطينية وبلورتها ضمن هذا السياق. وما يظهره ذلك هو أن الاستعمار الاستطياني وماضي العبودية لم يمضيا فعلاً. فالماضي القديم له استمراريته في الحاضر. وينبهنا هذا الانتقال إلى مسألتين وهما: الذات السياسية أو الوكيل السياسي؛ من هم هؤلاء؟ هل هم الأكثريات أو المنبوذون أو الأقليات؟ والمسألة الثانية أنه وإن كان عالمنا لا يزال يقوم على قسمة بين المراكز والأطراف، فإن هناك مراكز في الأطراف وأطراف في المراكز، أي أننا لسنا في عالم شبكي بين عالم حداثة وعالم متخلّف يريد اللحاق بالحداثة، إنّما في عالم عقدي تتحلّل فيه الحداثة في بعض المراكز وتنمو مراكز  في بعض الأطراف. 

من هنا، إن فلسطين كونية اليوم، أيضاً، ليس لأنها قضية عادلة فحسب، بل لأن ماضيها القديم القريب جداً في آخر مئة سنة وحاضرها الآن، يشكّلان أكثر فأكثر شهادة حيّة على عنف التراكم الأولي والاستعمار والعنصرية ومقاومته، والذي ولد منهم عالمنا الحديث في لحظة وصل فيها الكوكب إلى لحظة الحلول الكونية، لأن لا جائحات ولا تغيير مناخي ولا رساميل تقف عند حدود الدولة الأمة وسيادتها على أراضيها، فالمأزق الكوكبي الذي يحتم علينا إعادة التفكير بمصير الإنسانية المشترك وإعادة النظر في مفاهيم أساسية كسيطرة الحداثة، بشقّيها اليمين وبعض اليسار، على مفاهيم مثل الإنتاجوية والسيطرة على الطبيعة والنظر إليها كمادة أولى للاستخراج فقط وتراكم رأس المال، يعيدنا إلى بدايات الحداثة وإلى إحياء المسألة الأصلانية في زمن أزمة المستقبل. قد يبدو هذا الكلام مجرّداً وبعيداً من الواقع اليومي، وهو كذلك بعض الشيء، ولكنّه يدلنا على أهمّية إعادة طرح مسألة علاقة الماضي بالمستقبل بعد انهيار الإطار التاريخاني للتقدّم، ويدلنا أيضاً على صعيد مفهومي على لحظة العنف المؤسّس من دون قفّازات للاستعمار العنصرية والتراكم الرأسمالي.

يمكن قراءة هذه اللحظة من العنف المؤسّس في بعض الأعمال الثقافية المعاصرة التي تربط ماضي النكبة بالحاضر، في رواية عدنية شبلي أو أفلام كمال الجعفري مثلاً، وذلك للاستدلال على هذه العلاقة بين الماضي والحاضر التي تؤسّس، وهنا تحضرنا أيضاً ملاحظة للدكتور غسّان أبو ستة الذي أشار إلى أن الإسرائيليين يستخرجون قيمة التراكم الرأسمالي من أجساد وأرواح الفلسطينيين بدل أن يستغلوا قوة عملها في المناجم كما حصل في جنوب افريقيا، فيطوّرون أسلحتهم وآلات قتلهم من خلال جعل أجساد الفلسطينيين أهدافاً ومختبراً تجريبياً قبل أن يسوّقوها على أنها مُجرّبة ميدانياً في سوق السلاح العالمي. 

ختاماً، إن فلسطين ليست فقط شاهدة حيّة ومقاومة للعنف الأولي ولكنها أيضاً في أحيان كثيرة في علاقة ضدية مع النظريات النقدية للحداثة المتأخرة التي تلتقط مزاجاً معيناً، كالنظريات التي تدعي أننا نعيش في حاضر أبدي أو آنية أبدية بعد انهيار علاقة الماضي بالحاضر وبالمستقبل، أو أننا نعيش في زمن عدمي. فمن منظور فلسطين نستطع أن نسأل من يعيش في حاضر أبدي، ومن يعش في زمن عدمي، وما قيمة النظر إلى العالم والنظريات النقدية من زاوية التجربة الفلسطينية.