Preview الاستعمار الاستيطاني

إنهاء المشروع الكولونيالي في فلسطين

  • ساي إنغلرت: انبثق قطاع غزّة كمكان لتركيز الفلسطينيين الذين طُرِدوا من الجنوب، وحُصِر بصرحين زراعي وصناعي للحيلولة دون خروج الفلسطينيين من القطاع.
  • توفيق حدّاد: شكّلت «حماس» الكيان السياسي الكفؤ والشرعي على الساحة الفلسطينية بعد «كارثة أوسلو»، وهذا ما مكّنها من الاستحواذ على فائض القوّة العاملة لجميع سكّان غزّة.

 

ضمن سلسلة ندوات «من أجل فلسطين: تحليل الاستعمار الاستيطاني وعودة الفاشية»، التي ينظّمها مركز الآداب والانسانيات، وبرنامج الدراسات النقدية الإنسانية، وبرنامج المقاربات النقدية لدراسات التنمية، في الجامعة الأميركية في بيروت. تمّت استضافة الباحث في الاستعمار الاستيطاني، ساي إنغلرت، من جامعة لايدن بهولندا، ومدير مجلس الأبحاث البريطانية فرع القدس في معهد كينيون، توفيق حدّاد، اللذين قدّما مقاربتهما لحرب الإبادة الجماعية التي تشنّها إسرائيل ضدّ الفلسطينيين في أبعادها التاريخية والسياسية والاقتصادية.

قطاع غزّة هو نتيجة استراتيجية إسرائيلية مستمرّة

ساي إنغلرت

باحث في جامعة لايدن، تركز أبحاثه على الاستعمار الاستيطاني والصهيونية والحركات العمّالية ومعاداة السامية. 

هناك ميل في الإعلام لمناقشة غزّة كبقعة جغرافية مُعتمدة على ذاتها، بل وكأنما هي دولة مستقلّة في صراع مع دولة أخرى. على عكس هذه النظرة، أرى أن بزوغ قطاع غزّة هو نتيجة استراتيجية إسرائيلية مستمرّة، تقضي بتجميع الفلسطينيين وتركيزهم في أقل حيّز مُمكن من الأرض، لجعل الاستعمار الاستيطاني والاحتلال الإسرائيلي مُمكناً. ومن المهم أن نعلم أن الجدالات الحماسية بشأن ما إذا كانت إسرائيل دولة استيطان استعماري هو حديث العهد، لم يكن موجوداً مع بدايات الحركة الصهيونية، ولم ينوجد قبل بروز الحركات المناهضة للاستعمار في عالم الجنوب، على الرغم من أن الحركة الصهيونية كانت تعرّف عن نفسها بشكل واعٍ على أنها حركة استعمار وتوصّف عملية سلب الفلسطينيين بعد العام 1948 كتقدّم للاستعمار.

هناك الكثير من الأدلة على ذلك، نبدأ مثلاً بأبحاث تيودور هرتزل في كتاب «الدولة اليهودية» الصادر في العام 1896، حيث تناول كيفية جعل الاستعمار في فلسطين مُمكناً وإقامة المؤسّسة الصهيونية وتأسيس صندوق الائتمان اليهودي للاستعمار من أجل تمويل المستعمرات في فلسطين. وقد كان الأمر جلياً في المستعمرات الأولى في فلسطين وبروز المزارع التعاونية الأولى، وقد سُمّيت «موشافيم» بالعبرية، والتي تعني «Colony» بالإنكليزية أي مستعمرة، بالإضافة إلى «يشوف» وهو المجتمع اليهودي في فلسطين قبل العام 1948 والذي يعني «Settlement» أي مستوطنة.

هذا لأقول إن الصهاينة كانوا واضحين بشأن دورهم كحركة استعمارية، وبالتالي، كان من الواضح أن التناقض الأساس للحركة الاستعمارية هو فيما يجب فعله بالشعب الموجود في الأراضي المُستعمَرة. وهذه النقاشات كانت واضحة وعنيفة جدّاً بين مختلف فرق الحركة الصهيونية المبكرة. وعلى الرغم من الشعار الصهيوني عن أن الحركة الصهيونية كانت حركة «شعب بلا أرض في أرض بلا  شعب»، لكن الحركة كانت مدركة لمسألة وجود الفلسطينيين في الأرض وضرورة التعامل معهم. فمن جهة حاجج التيار البرجوازي للحركة الصهيونية بأن مستقبل الدولة التي سيبنيها الصهاينة عليها أن تكون مُنمذجة بحسب عدد من التجارب الاستعمارية ومنها النموذج الفرنسي في الجزائر، حيث تقوم أقلية يهودية باستغلال أكثرية عمّالية فلسطينية في إنتاج بضائع تصدّر إلى الأسواق الاوروبية، وبهذه الطريقة سيكون للدولة أساس اقتصادي مُستدام تطوّر نفسها من خلاله، وفي المقابل، برزت الحركة العمّالية الصهيونية، وهي حركة مهمّة في تاريخ الصهيونية وحكمت مؤسّساتها بشكل متواصل بين عامي 1920 و1977، بعد خسارتها للمرة الأولى في الانتخابات الإسرائيلية، ويقوم منطق تأسيس هذه الحركة على معارضة نموذج الصهيونية البرجوازي، على اعتبار أن بناء دولة واقتصاد قائمين على استغلال عمل السكّان الأصليين هو حفر لقبر دولتهم القومية، ويستند هؤلاء إلى مثال جنوب أفريقيا ككارثة على الحركة الاستعمارية نتيجة تمرّد الشعوب الأفريقية الأصلية وإنهائها نظام الاستعمار. المهم في الحالتين هو وعي هؤلاء لأنفسهم كحركة استيطانية استعمارية.

الحركة الصهيونية كانت تعرّف عن نفسها بشكل واعٍ على أنها حركة استعمار وتوصّف عملية سلب الفلسطينيين بعد العام 1948 كتقدّم للاستعمار

في العموم، انتظمت الحركة العمّالية الصهيونية ضمن مؤسّسات الحركة، ولعل أشهرها المزارع التعاونية أو «كيبوتس» التي يُحتفى بها كجنّة الاشتراكية. كان اليهود من أوروبا وشمال أميركا يذهبون إلى العمل في التعاونيات الزراعية التي تخلو من المدراء والمالكين ويقرّر فيها الناس بشكل جماعي بشأن عملهم. لكن ما مُحِي من تاريخ الكيبوتس في هذا التأويل أنها كانت تحاول التخلّص من العامل الفلسطيني، بمعنى أنها شكّلت أولى أشكال اختزال العامل الفلسطيني من الاقتصاد الصهيوني في العقود الأولى من القرن العشرين. 

وتبقى الكيبوتس ماثلة في بزوغ قطاع غزّة كما يعلم كلّ من راقب أحداث الشهرين الأخيرين. لكن لو عدنا إلى التاريخ، سنرى دورها في إقامة العديد من المؤسّسات مثل أول نقابة عمّالية إسرائيلية وهي لا تزال قائمة حتى اليوم، بالإضافة إلى الميليشيات المبكرة للحركة الصهيونية، وخصوصاً الهاغانا التي أصبحت أساس الجيش الإسرائيلي. عدا عن دورها في تأسيس المزارع وإقامة المؤسّسات العسكرية، التي طوّرت الاقتصاد والنماذج السياسية القائمة على التخلّص من الفلسطينيين بالكامل وترحيلهم وتطهيرهم عرقياً. وبالتأكيد لا شيء يوضح هذا أكثر من النكبة. 

لم تنبثق النكبة من الصناعة الصهيونية للقرار في أربعينيات القرن الماضي فحسب، وإنما أيضاً من منطق الحركة العمّالية الصهيونية الذي هيمن منذ بداية القرن العشرين، وتأسّست كل البرامج السياسية وفقه على ضرورة صنع اقتصاد لا يعتمد على استغلال السكّان الأصليين. أدّت النكبة إلى طرد أكثر من 700 ألف فلسطيني، وتدمير 500 قرية ومركز حضاري، ونزع ملكية الأراضي والبضائع من مالكيها. كما وزّعت الأرض التي طُرِد منها الفلسطينيون على اليهود عبر مؤسّسات الحركة الصهيونية. واستطاعت الكيبوتزيم مضاعفة ممتلكاتها من الأرض أربع مرّات بين عامي 1947 و1952، كما صادرت ما يوازي نحو 17 مليار دولار (بعملة اليوم) من البضائع و الثروات والممتلكات المتروكة من الفلسطينيين. وهذا يُعدّ استخلاصاً ضخماً للثروة التي دُمِجت بالدولة واستُخدمت في تطوّرها المبكر.

حسناً، لماذا من المهم الحديث عن هذا؟ السبب هو غزة!

ما يُسمّى اليوم بقطاع غزة هو نتاج النكبة. قطاع غزّة اليوم هو المساحة المحيطة بمدينة غزة التي لم تُغزَى من الميليشيات الصهيونية في خلال النكبة، ودُفِع الفلسطينيين إلى هناك من أجل تركيز أكبر عدد منهم في أصغر مساحة مُمكنة من الأرض. ولا تزال هذه هي السياسة الاستعمارية الإسرائيلية لليوم. انتفخ عدد سكّان قطاع غزّة من أقل من 80 ألف قبل النكبة إلى 280 ألف بعدها، وعزلت عن محيطها الأوسع الذي يضمّ شبكة التجارة من مصر إلى الحجاز جنوباً، وشبكة التجارة مع لبنان الحديث وسوريا الحديثة شمالاً، بالإضافة إلى القرى والمدن التي كانت تشكّل الشبكة الاجتماعية الأكبر لغزّة. اليوم، زاد التركّر السكّاني في قطاع غزّة، وهناك نحو 2.3 مليون فلسطيني تم دفعهم للسكن في 365 كيلومتراً مربّعاً. هذا الواقع سيؤدّي حتماً إلى انفجار كبير في عدد السكّان اللاجئين وسينتج مصيبة داخلية لهؤلاء البشر، وسيتحوّل حكماً إلى خطر أمني للحركة الصهيونية. من هنا، أصبح السؤال المُهيمن لدى الصهاينة بعد طرد الفلسطينيين هو كيفية إبقائهم مطرودين، خصوصاً أن الفلسطينيين بعد طردهم بدؤوا بالتنظيم محاولين العودة، ممّا أدّى  بالدولة الإسرائيلية أن تطوّر باكراً مختلف التكنولوجيا وتحاول إبقاء الفلسطينيين متركزين في تلك المساحة.

أصبح السؤال المُهيمن لدى الصهاينة بعد طرد الفلسطينيين هو كيفية إبقائهم مطرودين، خصوصاً أن الفلسطينيين بعد طردهم بدؤوا بالتنظيم محاولين العودة

يذكّر السابع من تشرين الأول/أكتوبر بأمران مهمّان؛ الأمر الأول هو سلسلة المزارع التعاونية (الكيبوتزيم) على ضواحي غزّة الشرقية، التي أقيمت بعد طرد الفلسطينيين منها، وحوّلت إلى مراكز للزراعة الجماعية، علماً أن الهدف الأساسي منها هو خدمة فكرة تحصين الحدود الوهمية للدولة الصهيونية بالمستوطنين وبشكل مستمرّ. وما زلنا نرى هذا المنطق حتى اليوم.

والأمر الثاني هو «مدن التطوير» التي أقيمت في شمال غزّة مثل سديروت وعسقلان، والتي تعدُّ أساسية لفهم ما يحصل اليوم. تمّ نقل اليهود المنحدرين من شمال أفريقيا والشرق الأوسط إلى تلك المناطق ووضعوا فيما يُسمّي بـ«مخيّمات المهاجرين»، وتحوّلت هذه المستوطنات إلى مدن تطوير عدّت الموازي الصناعي للكيبوتسات الزراعية، وتوقّعت الدولة الصهيونية من اليهود الأفارقة والشرق أوسطيين أن يحموها من جهة وأن يعملوا فيها وأن يؤدوا دوراً اقتصادياً من جهة ثانية. 

هذا الواقع قائم منذ النكبة، وبالتالي انبثق قطاع غزّة كمكان لتركيز الفلسطينيين الذين طُرِدوا من الجنوب، ومحاصرته بصرحين زراعي وصناعي للحيلولة دون خروج الفلسطينيين من القطاع.

كان هذا هدف الحركة الصهيونية العمّالية في أيامها المُبكرة، لكنه واجه تعقيدات بفعل السياسات الكولونيالية الإسرائيلية في السنوات التالية. ففي منتصف العام 1960، عانت إسرائيل من نقص في العمالة في سوقها الداخلي. وقد شكّل ذلك أحد أسباب - إن لم يكن السبب الوحيد - شنّها حرب العام 1967 وتوسيع رقعة الأراضي التي تستحوذ عليها. ومنذ تلك اللحظة، تكشّف التناقض الذي حاولت الحركة الصهيونية العمّالية تجنّبه في صنع السياسات، وهو ما تعجز عن حلّه إلى اليوم إلّا بالترحيل (الترانسفير) والطرد والتطهير العرقي.

منذ العام 1967، تشهد سوق العمل الإسرائيلية تدفقاً للفلسطينيين، بالتوازي مع تحرّك متأرجح باستمرار لصنّاع السياسات الإسرائيليين تجاه هذا التدفّق وإدماج الفلسطينيين في هذه السوق. وبالفعل، وضعت الانتفاضة الأولى يدها على مخاوف الحركة الصهيونية العمّالية. فتح إدماج أهل الأرض في الاقتصاد الإسرائيلي تمرّداً في وجه الصهاينة، الذين ردّوا عليه بإقصاء العمّال الفلسطينيين مرّة أخرى. وبعد الانتفاضة الثانية، عادت إسرائيل مجدّداً إلى «سياسة الإدماج» إنما من دون غزة، التي أطبقت عليها حصاراً وفصلتها عن باقي الأراضي الفلسطينية، وتحديداً الضفة الغربية، على اعتبار أنها أرض غير مهمّة اقتصادياً واستراتيجياً. 

انفجر هذا التناقض مجدّداً في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وصنّاع السياسات في إسرائيل يدركون هذا التناقض ويستمرّون في التعبير عن رغباتهم بإلغاء غزّة. لرئيس الوزراء الإسرائيلي ليفي أشكول كلام مشهور منذ العام 1967 يقول فيه: «إذا مدّينا الفلسطينيين في غزة بكمّيات غير كافية من المياه، فلن يكون لديهم خيار» في إشارة إلى رحيلهم. وهذه الفكرة عن قطع المياه لإجبار الناس على الرحيل تتكرّر منذ العام 1967. أيضاً، في خلال فترة أوسلو وفك الارتباط، قال إسحاق رابين «أحلم أن أستيقظ يوماً ما وأجد غزّة غرقت في البحر». وفي أحداث العام 2005، أشار آرييل شارون إلى إمكانية الاستمرار باحتلال الضفّة الغربية والقدس، في مقابل إبقاء 2.3 مليون نسمة خلف الأسلاك الشائكة ورمى القنابل عليهم باستمرار في ما سُمِّي باستراتيجية «جزّ العشب»، أي تحديد كمّية الأكل والدواء ومواد البناء التي تدخل إلى غزة. تلخّص هذه التصريحات الرغبة المستمرة باختفاء غزة. وطبعاً هذا لن يوصل إلا إلى انفجار 2.3 مليون شخص موضوعين في هكذا ظروف! 

الفكرة عن قطع المياه لإجبار الناس على الرحيل تتكرّر منذ العام 1967. وفي خلال فترة أوسلو وفك الارتباط، قال إسحاق رابين أيضاً «أحلم أن أستيقظ يوماً ما وأجد غزّة غرقت في البحر»

لا يزال الوضع الحالي محكوماً بهذا التناقض، ولا تزال إسرائيل تواجه مشكلة غزة. من جهة، هناك دافع الإبادة الجماعية الذي نراه بأم أعيننا. وقدرة إسرائيل العسكرية على تنفيذها واضحة على الرغم من القيود السياسية المرتبطة بحلفاء الولايات المتّحدة الآخرين في المنطقة. 

ومن جهة ثانية، إن إعادة التحكّم بغزّة يعني عودة الساعة إلى الوراء، إلى حين ولادة قطاع غزّة أو ربّما إلى حين خروج الصهاينة منه في العام 2005. فوضع اليد على القطاع يشكّل كابوساً استراتيجياً لإسرائيل، نظراً لخطورته العسكرية عليهم بحكم تركّز 2.3 مليون شخص في بقعة صغيرة من الأرض. وهذا التناقض بين الاستحواذ على المزيد من الأراضي وحشر الفلسطينيين في أماكن أضيق، انفجر من دون أن يكون لإسرائيل أي حلّ معقول له. وأعتقد أن هذه حيثية مهمّة لحركة التضامن، لكي تضع على الطاولة حلّها الحقيقي وهو إنهاء المشروع الكولونيالي المبني على طرد الشعب الفلسطيني وسلبه وإقصائه، لا سيما أن الحل الإسرائيلي المواجه يقود إلى الإبادة الجماعية. 

دخلنا مرحلة الإقصا، ويبدو أنها خطيرة للغاية

توفيق حدّاد

مدير مجلس الأبحاث البريطانية فرع القدس في معهد كينيون، تركّز أبحاثه على الاقتصاد السياسي للتنمية والصراعات في الشرق الأوسط، ولا سيما في فلسطين.

بالعودة إلى فترة عملية السلام، برز حديث دائم عن إمكانية تحوّل قطاع غزة إلى هونغ كونغ أو سنغافورة الشرق الأوسط، طبعاً، استخدم هذا الطرح كطعم اقتصادي لما يمكن لغزّة والدولة الفلسطينية أن تكون عليه. بُنيت هذه الفكرة على كون غزّة مدينة قائمة بذاتها، وهي المدينة الأكبر بين مدن فلسطين التاريخية إذ تحتوي على 700 ألف شخص، بالإضافة إلى مليون ونصف مليون شخص موجودين في القسم الشمالي من القطاع. عدا أن القطاع بذاته هو نافذة إلى البحر على عكس الضفّة الغربية الحبيسة، ويتمركز في مكان مهمّ من الناحية الجيو-استراتيجية بين قارتي آسيا وأفريقيا، وعلى طريق تجارة تاريخي، فضلاً عن كونه أقرب ميناء خارج مصر للعابرين من قناة السويس.

من المعلوم أن قطاع غزة- وحوض البحر المتوسّط عموماً- لديه احتياطي غاز مكتشف منذ التسعينيات. ففي تلك الفترة حاول الفلسطينيون بناء دولتهم، وجرى حينها التنقيب عن النفط والغاز بالتعاون مع شركة غاز بريطانية، إلا أن إسرائيل علّقت عملية التطوير، ومن ثمّ بدأت التنقيب بنفسها عن الغاز في المياه الفلسطينية، كما استحوذت على جزء من غاز غزة. 

يوضع هذا في سياق اقتصاد سياسي أعمّ، حيث ينظر إلى الحوض المتوسطي بأكملة كمصدر محتمل للوقود الممكن تصديره إلى السوق الأوروبية، التي تعتمد بشكل أساسي على الوقود الأحفوري، في ضوء نيّتها بالتحرّر من الاعتماد على الغاز الروسي. في هذا الصدد، أحد أسباب قيام القوى الغربية الكبرى، ولاسيّما أوروبا، بالتوقيع على معاهدات اقتصادية وعسكرية مع إسرائيل هو الإبقاء على الأخيرة كأكبر قوّة عسكرية-بحرية في شرق البحر المتوسّط لموازاة تركيا، وحفظ النظام في هذه المياه، لاسيما فيما يتعلٍّق بتنقّل الغاز والتجارة في هذه المنطقة لأن القضايا الجيو-استراتيجية قد تحضر في أحداث غزّة، وقد رأينا ذلك المثال اليمني.

يمكن لغزّة إن ربطت بعمقها الفلسطيني وطرق التجارة، وإن سُمح لها بتطوير مواردها ورأسمالها البشري أن تكون مشروعاً ناجحاً. ولكنها منعت من ذلك تاريخياً

انطلاقاً من هذه العوامل، يمكن لغزّة إن ربطت بعمقها الفلسطيني وطرق التجارة، وإن سُمح لها بتطوير مواردها ورأسمالها البشري أن تكون مشروعاً ناجحاً. ولكنها منعت من ذلك تاريخياً. 

هناك أربع مراحل مرتبطة بالاقتصاد السياسي لفهم ما يحصل في غزة اليوم.

انطلقت المرحلة الأولى بعد العام 1967. تعاملت إسرائيل بشخصية المنتصر لمحو كلّ الحدود الداخلية، من سيناء إلى الجولان، بغية إنشاء وطن واحد لليهود بأراضٍ موحّدة. وقد عنى ذلك أن غزة التي يشكّل اللاجئون 80% من سكّانها، يمكنها الوصول إلى سوق العمل الإسرائيلية، وقد ترافق ذلك مع مسار من «التقارب» حكم اقتصادات إسرائيل والضفة الغربية وغزة والقدس. ساهم نفاذ سكان غزّة والضفّة الغربية إلى الاقتصاد الإسرائيلي في ارتفاع دخلهم وتعلّمهم اللغة العبرية، وبدورها سمحت هذه المداخيل في بناء المؤسسات، وفي بعض الحالات أصبح العمّال الفلسطينيون مقاولين لرأس المال الإسرائيلي، وخصوصاً في الصناعات الصغيرة مثل صناعة الملابس الإسرائيلية التي أصبحت معولمة، ودخل الفلسطينيون أيضاً إلى قطاعي البناء والزراعة، أي حيث احتاجهم الاقتصاد الإسرائيلي حقاً.

في ظل هذه الظروف، افتقر الاقتصاد الفلسطيني إلى التفاعل المتبادل والترابط الأفقي بين الجهات الاقتصادية الفاعلة والمدن الفلسطينية، إذ حاولت إسرائيل كسر إمكانات التنمية الفلسطينية وإقامة تحالفات اقتصادية تعاضدية وروابط مع العالم الخارجي، ممّا أدّى إلى جميع أشكال التبعية العمودية بين الفلسطينيين والإسرائيليين مع وجود إسرائيل في الأعلى من دون علاقة أفقية حقيقية بين الاثنين.

انطلقت المرحلة الثانية بحكم التقارب الذي حكم الاقتصاديين الفلسطيني والإسرائيلي على الصعيدين السياسي والمؤسّساتي، الذي أثار خوف الصهاينة من «الديمقراطية الإسرائيلية». واتضح ذلك أكثر بعد الانتفاضة الأولى في غزّة وانتقال الفلسطينيين من العمل إلى القتال. وهذا ما أراد الإسرائيليون الخروج منه بسرعة، من خلال الانفصال والحفاظ على «الدولة اليهودية الديمقراطية». وهنا تكشف تناقض العام 1967 ومعضلة العنصرين اليهودي والديمقراطي للدولة. بمعنى إذا أعطيت الجنسية الإسرائيلية للفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة، سيؤدي الأمر إلى تآكل الطابع اليهودي للدولة، وفي حال العكس فإنه يؤدي إلى تآكل الطابع الديمقراطي. تمثّل الحل بـ«سيناريو البانتوستان»، الذي يقضي بشطب الفلسطينيين من السجلات الإسرائيلية ووضعهم تحت إدارة أخرى غير قادرة على تطوير نفسها لعدم امتلاكها روابط مع العالم الخارجي.

هذا هو الأساس الذي قامت عليه عملية السلام في «أوسلو»، أمّا الهيكل المنفصل الذي وضع حينها، تطوّر لاحقاً إلى فصل عنصري، وإنما مموّه خلف فكرة بناء الدولة والسلام. 

تمثّل الحل بـ«سيناريو البانتوستان»، الذي يقضي بشطب الفلسطينيين من السجلات الإسرائيلية ووضعهم تحت إدارة أخرى غير قادرة على تطوير نفسها لعدم امتلاكها روابط مع العالم الخارجي

لم يكن لدى إسرائيل مصلحة في قيام دولة فلسطينية حقيقية. لكن إنشاء إدارة فلسطينية للشعب الفلسطيني الموجود في بعض الأراضي الفلسطينية سمح بتنظيم العلاقات الاقتصادية، بدلاً من حالة الفوضى التي سبقت تلك المرحلة. في الواقع، لم يكن هناك أية إحصاءات مُتاحة للجمهور عن اقتصاد الأراضي الفلسطينية، التي ضمّنت في الإحصائيات الإسرائيلية عن «يهودا والسامرة» (أي الضفة الغربية). من هنا، أوجدت «أوسلو» فكرة الاقتصاد الفلسطيني، الذي لا يمثل فعلياً 5% من مجمل الاقتصاد الإسرائيلي، ومع ذلك تستمرّ عملية تقويض تنميته واحتكار الفرص الاقتصادية والأمنية.

كانت إسرائيل بحاجة إلى شريك لإدارة الشؤون الفلسطينية بدلاً منها، بعد تأكّد عجزها عن القيام بذلك، ولو أن هذا الخيار كان مقيّداً دائماً بخطورة وجود سلطة واحدة قادرة على التنظيم وتنشيط مشروع التحرّر الوطني الفلسطيني. من هنا، ارتكز مشروع «أوسلو» على وجود سلطة فلسطينية لإدارة الجوانب الأمنية والصحية والتعليمية للفلسطينيين، إنما مع استمرار السلطة المركزية الإسرائيلية التي تتحكّم بكل مشارب حياة الفلسطينيين. 

انفجر هذا السيناريو مع الانتفاضة الثانية ودخلنا في مرحلة ثالثة حاولت إسرائيل في خلالها القضاء على الحركة المقاومة لمشروعها والقضاء على كوادر تلك الحركة والأفراد الأساسيين الذين أنتجتهم حركة التحرّر الوطني. في فترة انفجار المرحلة الثانية، جرى اغتيال القيادات والأشخاص المؤثرين ووضع قسم آخر منهم في السجون، ومن ضمنهم رئيس منظّمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، بالإضافة إلى قادة آخرين تم إقصاؤهم خدمة لحاجة إسرائيل إلى تطهير العنصر القومي الفلسطيني والقضاء على محاولاته غرس بعداً وطنياً في السلطة الفلسطينية بدل تحويلها إلى مجرّد غرض نفعي وظيفي. في ضوء هذه التطوّرات، وبحلول العام 2004 تطوّرت قدرة المقاومة العسكرية في غزّة على وجه الخصوص.

هنا أذكر بعداً مهماً يتعلّق بالتضاريس الجغرافية المختلفة للضفّة الغربية وقطاع غزة. الضفّة الغربية هي عبارة بقعة أرضية صالحة لقيام حرب عصابات ضدّ إسرائيل ومشروعها الاستيطاني، فهناك مئات المستوطنات وآلاف المستوطنين، والعديد من المدن والقرى الفلسطينية، والتضاريس الجبلية. أمّا غزّة فهي أرض مسطحة تماماً، وتنتشر على نقاط المحاور الرئيسية لتقسيماتها نحو 21 مستوطنة مختلفة. وبالمناسبة هذه النقاط هي نفسها التي يقسمون غزة إليها اليوم. تطوّرت ديناميّات المقاومة العسكرية في خلال الانتفاضة الثانية، وترافق ذلك مع قيام إسرائيل بتسوية الأرض لضمان خطّ الرؤية، ومراقبة أي حركة قد يقوم بها الفلسطينيون واحتمال اقترابهم من المستوطنات.

عملياً، اتسمت المرحلة الثالثة بإزالة البعد الوطني. اعتقدت إسرائيل أنه بمقتل عرفات يمكنها إعادة تغليف سيناريو «أوسلو»، وتنفيذ خططها فيما يتعلّق بالتخلّص من غزّة. فقد أخرجوا المستوطنين اليهود من القطاع، ودفعوا لهم ملايين الدولارات على شكل تعويضات عما بنوه في غزّة، وسمحوا للفلسطينيين بالاستيلاء على الدفيئات الزراعية في غزة، زعماً أن هذا جزءاً من اقتصادهم المستقبلي حيث ستنشأ هونغ كونغ أخرى في غزة. في الواقع، لم تكن إسرائيل مهتمة على الإطلاق بتحقيق أي تنمية في غزّة. خطّ البنك الدولي الكثير من الدراسات عن كيفية خلق اقتصاد متين في غزة. وقد عبّر ذلك عن إمكانية القيام بشيء ما ولكن ما نقص هو القرار السياسي. 

كبحت إسرائيل كلّ مقاطعة تعرّضت لها قبل عملية «أوسلو»، كما تمكّنت من عولمة رأسمالها دولياً والوصول إلى السوق الصينية وأسواق جنوب شرق آسيا

في انتخابات العام 2006، فازت حماس في غزّة، وقد لحق ذلك حربٌ أهلية صغيرة، نتج عنها انقسام سياسي للأراضي الفلسطينية، يضاف إلى التفتيت الجغرافي. وبالتالي، تحوّل هذا الواقع إلى ذريعة مريحة «للمجتمع الدولي» لتبرئة نفسه من خيار عدم المضي قدماً في أي عملية سياسية، بحجة أن الفلسطينيين ليسوا متّحدين وبسبب تولي حماس للسلطة في غزة التي نُظِر إليها دوماً كحركة متطرفة. 

من خلال هذا الترتيب، كبحت إسرائيل كلّ مقاطعة تعرّضت لها قبل عملية «أوسلو»، كما تمكّنت من عولمة رأسمالها دولياً والوصول إلى السوق الصينية وأسواق جنوب شرق آسيا. والجدير ذكره هنا، أنه قبل العام 1993، كان عدد الدول التي تعترف بمنظّمة التحرير الفلسطينية أكبر بالمقارنة مع عدد الدول التي تعترف بإسرائيل. ولتحقيق هذا التوسع الرأسمالي، استثمرت إسرائيل بذريعة الأمن وطوّرت إمكانات صناعاتها العسكرية، ولا سيما في الفترة التي لحقت أحداث 11 أيلول/سبتمبر وانطلاق الحرب الأميركية على «الإرهاب». 

باختصار، تعد المرحلة الثالثة في الأساس مرحلة «فرّق تسد». واستمرّت هذه الحالة منذ العام 2006. وفي هذا السياق، شكّلت «حماس» الكيان السياسي الكفؤ والشرعي على الساحة الفلسطينية بعد «كارثة أوسلو»، وهذا ما مكّنها من الاستحواذ على فائض القوّة العاملة لجميع سكّان غزة، سواء الذين طُرِدوا من إسرائيل أو الخرّيجين الذين ليس لديهم وظائف، ومن يعيش على المنح والهبات، ووجّهت تلك القوّة نحو بناء مشروع تنموي سياسي للبنية التحتية داخل قطاع غزة لم يكن مرئياً من القوى الغربية. وبالطبع اعتمد الجزء الأكبر من هذه التنمية على اقتصاد الأنفاق وتطوير صناعة الأسلحة المحلّية.

أثبتت 7 تشرين الأول/أكتوبر قدرة «حماس» على القيادة الفطنة، ومن حينها دخلنا في مرحلة الإقصاء، ويبدو واضحاً أنها مرحلة خطيرة للغاية.